خزانة الادب وغاية الارب
الكتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
الجزء الأول
مقدمة الكاتب
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله البديع الرفيع الذي أحسن ابتداء خلقنا بصنعته وأولانا جميل الصنيع فاستهلت الأصوات ببراعة توحيده وهو البصير السميع أدب نبينا محمدا فأحسن تأديبه حتى أرشدنا جزاه الله عنا خيرا إلى سلوك الأدب وأوضح لنا بديعه وغريبه
نحمده حمدا يحسن به التخلص من غزل الشهوة إلى حسن الختام ونشكره شكر من شعر ببديع صفاته فأحسن النظم وأعوذ بالله من قوم لا يشعرون بهذا النظام ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة شاعر بأنه الواحد وأن سيدنا محمدا وعبده ورسوله المبعوث من بيت عربي فصاحته على الأعراب والإعراب أعظم شاهد وعلى آله وأصحابه الذين هم نظام هذا البيت الشريف ودوائر بحره وأنواع بديعة وديباج صدره وسلم تسليما كثيرا
وبعد فهذه البديعية التي نسجتها بمدحه على منوال طرز البردة وكان مولانا المقر الأشرف العالي المولوي القاضوي المخدومي الناصري سيدي محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة جمل الله الوجود بوجوده هو الذي ثقف لي هذه الصعدة وحلب لي ضرعها الحافل لحصول هذه الزبدة
وما ذاك إلا أنه وقف بدمشق المحروسة على قصيدة بديعية للشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله تعالى التزم فيها بتسمية النوع البديعي وورى بها من جنس الغزل ليتميز بذلك على الشيخ صفي الدين الحلي تغمده الله تعالى برحمته لأنه ما التزم في بديعيته بحمل هذا العبء الثقيل غير أن الشيخ عز الدين ما أعرب عن بناء بيوت أذن الله أن ترفع ولا طالت يده لإبهام العقادة إلى شيء من إشارات ابن أبي
(1/17)
________________________________________
الأصبع وربما رضي في الغالب بتسمية النوع ولم يعرب عن المسمى ونثر شمل الألفاظ والمعاني لشدة ما عقده نظما
( فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال )
فاستخار الله مولانا الناصري المشار إليه ورسم لي بنظم قصيدة أطرز حلتها ببديع هذا الالتزام وأجاري الحلي برقة السحر الحلال الذي ينفث في عقد الأقلام فصرت أشيد البيت فيرسم لي بهدمه
وخراب البيوت في هذا البناء صعب على الناس ويقول بيت الصفي أصفى موردا وأنور اقتباسا
فأسن كل ما حده الفكر وأراجعه ببيت له على المناظرة طاقة فيحكم لي بالسبق وينقلني إلى غيره وقد صار لي فكرة إلى الغايات سباقه
فجاءت بديعية هدمت بها ما نحته الموصلي في بيوته من الجبال وجاريت الصفي مقيدا بتسمية النوع وهو من ذلك محلول العقال وسميتها تقديم أبي بكر عالما أنه لا يسمع من الحلي والموصلي في هذا التقديم مقال
وكان المشار إليه عظم الله شأنه هو الذي مشى أمامي وأشار إلى هذا السلوك وأرشد فاقتديت برأيه وهل يقتدي أبو بكر بغير محمد
(1/18)
________________________________________
في حسن الابتداء وبراعة الاستهلال
حسن الابتداء عند المتقدمين
( لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذي سلم ... براعة تستهل الدمع في العلم )
اعلم أنه اتفق علماء البديع على أن براعة المطلع عبارة عن طلوع أهلة المعاني واضحة في استهلالها وأن لا يتجافى بجنوب الألفاظ عن مضاجع الرقة وأن يكون التشبيب بنسيبها مرقصا عند السماع وطرق السهولة متكفلة لها بالسلامة من تجشم الحزن ومطلعها مع اجتناب الحشو ليس له تعلق بما بعده
وشرطوا أن يجتهد الناظم في تناسب قسميه بحيث لا يكون شطره الأول أجنبيا من شطره الثاني
وقد سمى ابن المعتز براعة الاستهلال حسن الابتداء وفي هذه التسمية تنبيه على تحسين المطالع وإن أخل الناظم بهذه الشروط لم يأت بشيء من حسن الابتداء وأورد في هذا الباب قول النابغة
( كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب )
قال زكي الدين بن أبي الأصبع لعمري لقد أحسن ابن المعتز الاختيار فإني أظنه نظر بين هذا الابتداء وبين ابتداء امرئ القيس حيث قال
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل )
(1/19)
________________________________________
فرأى ابتداء امرئ القيس على تقدمه وكثرة معانيه متفاوت القسمين جدا لأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السبك وكثرة المعاني وليس في الشطر الثاني شيء من ذلك
وعلى هذا التقدير مطلع النابغة أفضل من جهة ملايمة ألفاظه وتناسب قسميه وإن كان مطلع امرئ القيس أكثر معاني وما عظم ابتداء امرئ القيس في النفوس إلا الاقتصار على سماع صدر البيت فإنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في شطر بيت وإذا تأمل الناقد البيت بكماله ظهر له تفاوت القسمين
وقال أعني ابن أبي الأصبع إذا وصلت إلى قول البحتري من هذا الباب وصلت إلى غاية لا تدرك وهو قوله
( بودي لو يهوى العذول ويعشق ... ليعلم أسباب الهوى كيف تعلق )
انتهى كلام زكي الدين بن أبي الأصبع
ولقد أحسن أبو الطيب المتنبي حيث قال
( أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي )
ومثله قوله أي قول حبيب
( حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا ... فلم أدر أي الظاعنين أشيع )
وما ألطف قول أبي تمام في هذا الباب
( لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتقضت الأوطار )
ومثله قول أبي العلاء المعري
( يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانا على السهر )
وقد خلب القلوب ابن المعتز في تناسب القسمين بقوله
( أخذت من شبابي الأيام ... وتولى الصبا عليه السلام )
(1/20)
________________________________________
وما أحلى ما ناسب ابن هانئ قسمي مطلعه بالاستعارات الفائقة حيث قال
( بسم الصباح لأعين الندماء ... وانشق جيب غلالة الظلماء )
وقال الشريف أبو جعفر البياضي يشير إلى الرفق بالإبل عند السرى وتلطف ما شاء في تناسب القسمين حيث قال
( رفقا بهن فما خلقن حديدا ... أو ما تراها أعظما وجلودا )
وهذه القصيدة طريقها الغريب لم يسلكها غيره فإنه نسجها جميعها على هذا المنوال ومنها
( يفلين ناصية الفلا بمناسم ... وسم الوجا بدمائهن البيدا )
( فكأنهن نثرن درا بالخطا ... ونظمن منه بسيرهن عقودا )
ومما يعذب في الذوق من هذا الباب قول ابن قاضي ميلة
( يزيد الهوى دمعي وقلبي المعنف ... ويحيي جفوني الوجد وهو المكلف )
وقد نبه مشايخ البديع على يقظة الناظم في حسن الابتداء فإنه أول شيء يقرع الأسماع ويتعين على ناظمه النظر في أحوال المخاطبين والممدوحين وتفقد ما يكرهون سماعه ويتطيرون منه ليتجنب ذكره ويختار لأوقات المدح ما يناسبها
وخطاب الملوك في حسن الابتداء هو العمدة في حسن الأدب فقد حكي أن أبا النجم الشاعر دخل على هشام بن عبد الملك في مجلسه فأنشده من نظمه
( صفراء قد كادت ولما تفعل ... كأنها في الأفق عين الأحول )
وهشام بن عبد الملك أحول فأخرجه وأمر بحبسه
وكذلك اتفق لجرير مع أبيه عبد الملك فإنه دخل عليه وقد مدحه بقصيدة حائية أولها
( أتصحو أم فؤادك غير صاح ... )
فقال له عبد الملك بل فؤادك يا ابن الفاعلة
(1/21)
________________________________________
ومن هذه الجهة بعينها عابوا على أبي الطيب المتنبي خطابه لممدوحه في مطلع قصيدة حيث قال
( كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا )
ومن مستقبحات الابتداء قول البحتري وقد أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي أولها
( لك الويل من ليل تقاصر آخره ... )
فقال بل لك الويل والخزي وأما قصة إسحاق ابن إبراهيم الموصلي في هذا الباب فإني أنفعل وأخجل عند سماعها وما ذاك إلا أنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان فشرع في إنشاء قصيدة نزل بمطلعها إلى الحضيض وكان هو وحكاية الحال في طرفي نقيض وهو
( يا دار غيرك البلا ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك )
فتطير المعتصم من قبح هذا المطلع وأمر بهدم القصر على الفور فنعوذ بالله من آفة الغفلة هذا مع يقظة إسحاق وسير الركبان بحسن محاضرته ومنادمته للخلفاء ولكنه قد يخبو الزناد وقد يكبو الجواد مع أنه قيل إن أحسن ابتداء ابتدأ به مولد قول إسحاق الموصلي حيث قال
( هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل )
فانظر إلى هذا الأديب الحاذق المتيقظ كيف استطردت به خيول السهو إلى أن خاطب المعتصم في قصر رياحين تشييده غضة بخطاب الأطلال البالية وانظر إلى حشمة أبي نواس كيف خاطب الدمن بخطاب تود القصور العالية أن تتحلى بشعاره مع بلوغه في تناسب القسمين الطرف الأقصى حيث قال
( لمن دمن تزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم )
وقصة ذي الرمة مع عبد الملك تقارب قصة إسحاق مع المعتصم فإنه دخل عليه يوما فأمره بإنشاد شيء من شعره فأنشد قوله
( ما بال عينك منها الماء ينسكب )
وكان بعين عبد الملك رمش فهي تدمع أبدا فتوهم أنه خاطبه وعرض به فقال له ما سؤالك عن هذا يا ابن الفاعلة
فمقته وأمر بإخراجه
(1/22)
________________________________________
حسن الابتداء عند المحدثين
انتهى ما أوردته في حسن الابتداء للعرب والمولدين وفحول الشعراء ونبهت على حسنه وقبيحه ولكن جذبتني يا أخا العرب نسبة المتأخرين إلى أن أثبت في هذا المحل تشبيبها ونسيبها وأظهر في شرح هذه البديعية الآهلة بديعها وغريبها ليعلم من تنزه في هذه الحدائق الزاهرة إن ما ربيع الآخر من ربيع الأول ببعيد وأن لكل زمان بديعا تمتع بلذة الجديد وهنا بحث لطيف وهو أن الاستشهاد بكلام المولدين وغيرهم من المتأخرين ليس فيه نقص لأن البديع أحد علوم الأدب الستة وذلك أنك إذا نظرت في الكلام العربي إما أن تبحث عن المعنى الذي وضع له اللفظ وهو علم اللغة وإما أن تبحث عن ذات اللفظ بحسب ما يعتريه وهو علم التصريف وإما أن تبحث عن المعنى الذي يفهم من الكلام المركب بحسب اختلاف أواخر الكلم وهو علم العربية وإما أن تبحث عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال بحسب الوضع اللغوي وهو علم المعاني وإما أن تبحث عن طرق دلالة الكلام إيضاحا وخفاء بحسب الدلالة العقلية وهو علم البيان وإما أن تبحث عن وجوه تحسين الكلام وهو علم البديع
فالعلوم الثلاثة الأول يستشهد عليها بكلام العرب نظما ونثرا لأن المعتبر فيها ضبط ألفاظهم والعلوم الثلاثة الأخيرة يستشهد عليها بكلام العرب وغيرهم لأنها راجعة إلى المعاني ولا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم إذا كان الرجوع إلى العقل
وقال أبو الفتح عثمان بن جني المولدون يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ
قال ابن رشيق في العمدة الذي ذكره أبو الفتح صحيح بين لأن المعاني اتسعت باتساع الناس في الدنيا وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض فإنهم حضروا الحواضر وتفننوا في المطاعم والملابس وعرفوا بالعيان ما دلتهم عليه بداهة عقولهم من فضل التشبيه ونحوه ومن هنا يحكى عن ابن الرومي أن لائما لامه وقال له لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه فقال له أنشدني شيئا من قوله أعجز عن مثله فأنشده في صفة الهلال
فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر )
فقال له ابن الرومي زدني فأنشده
( كأن آذريونها ... والشمس فيه كاليه )
( مداهن من ذهب ... فيها بقايا غالية )
(1/23)
________________________________________
فقال واغوثاه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ذاك إنما يصف ماعون بيته لأنه ابن الخلفاء وأنا مشغول بالتصرف في الشعر وطلب الرزق به أمدح هذا مرة وأهجو هذا كرة وأعاتب هذا تارة وأستعطف هذا طورا
انتهى كلام ابن رشيق
ورأيت الشيخ شمس الدين بن الصائغ رحمه الله تعالى قد استشهد في شرح البردة الذي سماه بالرقم بغالب أهل عصره في ما عرض له من أنواع البديع حتى أورد لهم شيئا من محاسن الزجل
رجع إلى ما كنا فيه من حسن الابتداء وتناسب القسمين وإيراد ما وعدنا به من كلام المتأخرين
قال قاضي هذه الصناعة وفاضلها والمتأخر الذي لم يتقدم عليه بغير الزمان أوائلها
( زار الصباح فكيف حالك يا دجى ... قم فاستذم بفرعه أو فالنجا )
أنظر إلى حسن هذا الابتداء كيف جمع مع اجتناب الحشو بين رقة النسيب وطرب التشبيب وتناسب القسمين وغرابة المعنى
ومثله قوله يخاطب العاذل
( أخرج حديثك من سمعي فما دخلا ... لا ترم بالقول سهما ربما قتلا )
وما ألطف ما قال بعده
( وما يخف على قلبي حديثك لي ... لا والذي خلق الإنسان والجبلا )
ومثله قوله
( سمعتك والقلب لم يسمع ... فكم ذا تقول وكم لا أعي )
وما ألطف ما قال بعده
( يقول وما عنده أنني ... بغير فؤاد ولا أضلع )
( أما مع هذا الفتى قلبه ... فقلت نعم يا فتى ما معي )
وأما مطلع قصيدة ابن النبيه فإن الأذواق السليمة تنتبه به إلى فتح هذا الباب وهو
( يا ساكني السفح كم عين بكم سفحت ... نزحتم فهي بعد الباب ما نزحت )
(1/24)
________________________________________
والقصيدة كلها تحف وطرف وعارضها ابن نباتة فما حلا معها مكرر نباته وأجرى الصفي معها ينابيع فكره فما صفا له معها مورد وجاراها الصفدي فتصفدت سوابق قوافيه عن لحاقها ومنها
( وروضة وجنات الورد قد خجلت ... فيها ضحى وعيون النرجس انفتحت )
( تشاجر الطير في أفنانها سحرا ... ومالت القضب للتعنيق فاصطلحت )
( والقطر قد رش نوب الدوح حين رأى ... مجامر الزهر في أذياله نفحت )
ومما يحسن نظامه في هذا السلك قوله
( رنا وانثنى كالسيف والصعدة السمرا ... فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى )
ومما اختاره الشيخ جمال الدين بن نباته رحمه الله من ديوان أبي الفتوح نصر الله ابن قلاقس وهو حسن في هذا الباب قوله
( كم مقلة للشقيق الغض رمداء ... إنسانها سابح في بحر أنداء )
وقوله
( قفا واسألا مني زفيرا وأدمعا ... أكانا لهم إلا مصيفا ومربعا )
وهو من الغايات التي اختارها الشيخ جمال الدين بن نباتة من شعر ابن قلاقس فإنه قال طالعت ديوان الأديب البارع أبي الفتوح نصر الله بن قلاقس فطالعت الفن الغريب وفتح علي بتأمل ألفاظه فتلوت ( نصر من الله وفتح قريب )
بيد أني وجدت له حسنات تبهر العقول فضلا وسيئات يكاد بذكرها ابن قلاقس يقلي
انتهى كلام الشيخ جمال الدين بن نباتة
ومما وقع في تناسب القسمين إلى الغاية قول الشيخ ظهير الدين بن البارزي رحمه الله وهو
(1/25)
________________________________________
( يذكرني وجدي الحمام إذا غنى ... لأنا كلانا في الهوى يعشق الغصنا )
ذكر الصلاح الكتبي في كتابه فوات الوفيات أن الشيخ أثير الدين أبا حيان قال رأيت الشيخ المذكور صوفيا بحماة المحروسة وأنشدني لنفسه هذه القصيدة وعدة مقاطيع منها
( أراك فأستحيي فأطرق هيبة ... وأخفي الذي بي من هواك وأكتم )
( وهيهات أن يخفى وأنت جعلتني ... جميعي لسانا في الهوى يتكلم )
وتوفي بعد الثمانين والستمائة وأما مطلع الشيخ شمس الدين بن العفيف في هذا الباب فظرافته لا تنكر لأنه كان ينعت بالشاب الظريف قال في شطره الأول
( أعز الله أنصار العيون ... )
وفي الثاني
( وخلد ملك هاتيك الجفون ... )
وما أظرف ما قال بعده
( وضاعف بالفتور لها اقتدارا ... وجدد نعمة الحسن المصون )
وما أحسن ابتداءات الشيخ عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة فجميعها نسجت على هذا المنوال منها قوله
( حروف غرامي كلها حرف إغراء ... على أن سقمي بعض أفعال أسماء )
وقوله
( ويلاه من نومي المشرد ... أواه من شملي المبدد )
وقوله
( أهلا بطيفكم وسهلا ... لو كنت للإغفاء أهلا )
وما أحلى ما قال بعده
( لكنه وافي وقد ... حلف السهاد علي أن لا )
وقد توارد هو وابن عنين في هذا المعنى وكل كساه ديباجة تأخذ بمجامع القلوب ومطلع ابن عنين قوله
( ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو سامحوني بالكرى )
(1/26)
________________________________________
وقوله مهيار الديلمي في هذا الباب مشهور والذي أقوله إن الشيخ جمال الدين ابن نباتة نبات هذا البستان وقلادة هذا العقيان ومن مطالعه التي هي أبهج من مطالع الشمس قوله في هذا الباب
( في الريق سكر وفي الأصداغ تجعيد ... هذا المدام وهاتيك العناقيد )
وقوله
( بدا ورنت لواحظه دلالا ... فما أبهى الغزالة والغزالا )
وقوله
( سلبت عقلي بأحداق وأقداح ... يا ساجي الطرف بل يا ساقي الراح )
وما ألطف ما قال بعده
( سكران من مقلة الساقي وقهوته ... فاترك ملامك في السكرين يا صاح )
وقوله
( إنسان عيني بتعجيل السهاد بلي ... عمري لقد خلق الإنسان من عجل )
وقوله
( قام يرنو بمقلة كحلاء ... علمتني الجنون بالسوداء )
وقوله
( نفس عن الحب ما حادث وما غفلت ... بأي ذنب وقاك الله قد قتلت )
وقد تقدم شروط لا بد من اجتنابها في حسن الابتداء منها الحشو ولكن وقاك الله حشو اللوزينج
وقوله
( لام العذار أطالت فيك تسهيدي ... كأنها لغرامي لام توكيد )
ولولا الإطالة لأفعمت الأذواق من هذا السكر النباني
ورأيت للشيخ صفي الدين الحلي في الأرتقيات قصيدة قافية مطلعها في هذا الباب غاية وهو قوله
( قفي ودعينا قبل وشك التفرق ... فما أنا من يحيا إلى حين نلتقي )
وأنشدني من لفظه الشيخ عز الدين الموصلي قصيدة نونية نظمها بحماة ومطلعها في حسن الابتداء حسن
( سمعنا حمام الدوح في روضة غنا ... فأذكرنا ربع الحبائب والمغنى )
ولقد سهوت عن مطلع الشيخ علاء الدين علي بن المظفر الكندي الشهير بالوداعي فإنه ليس له في تناسب القسمين قسيم وهو
( بدر إذا ما بدا محياه ... أقول ربي وربك الله )
(1/27)
________________________________________
وعارضه الشيخ جمال الدين ابن نباته في هذه القصيدة بعينها وترقى إلى مطلع بدره وزاحمه في حسنه فمطلع الشيخ جمال الدين
( له إذا غازلتك عيناه ... سهام لحظ أجارك الله )
ومن مطالعي التي حصل لي فيها الفتوح في هذا الباب قولي
( طلعتم بدورا في أعز المطالع ... فبشرني قلبي بسعد طوالعي )
وقولي
( إغراء لحظك ما لي منه تحذير ... ولا لتعريف وجدي فيك تنكير )
وقولي
( في عروض الجفا بحور دموعي ... ما أفادت قلبي سوى التقطيع )
وقولي
( لله قوم لنظم الوصل قد نثروا ... شعرت في حبهم يا ليتهم شعروا )
وقولي
( جردت سيف اللحظ عند تهددي ... يا قاتلي فسلبتني بمنجرد )
وقولي
( هواي بسفح القاسمية والجسر ... إذا هب ذاك الريح فهو الهوى العذري )
وكأني بمنتقد تألم قلبه على المتقدمين بكثرة النقد ومالت نفسه إلي مع المتأخرين ليستوفي الشروط الأدبية في مباشرة هذا العقد
وقولي
( قد مال غصن النقا عن صبه هيفا ... يا ليته بنسيم العتب لو عطفا )
فأقول وبالله المستعان إن جماعة من المخاديم بدمشق رسموا أن أعارض شيئا من نظم الشيخ جمال الدين بن نباته وتخيروا لي خمس قصائد منها قصيدته الكافية التي مطلعها
( تصرمت الأيام دون وصالك ... فمن شافعي في الحب يا ابنة مالك )
فلما انتهيت إلى معارضتها وجدت بين الشطر الثاني من المطلع وبين الشطر الأول مباينة كما تقدم في مطلع امرئ القيس من الكلام على أن في شطره الأول ما ليس في الثاني
وقد اتفق علماء البديع على أن عدم تناسب القسمين نقص في حسن الابتداء وقد تقدم قول زكي الدين بن أبي الأصبع إن مطلع النابغة أفضل من مطلع امرئ القيس لتناسب القسمين وإن كان مطلع امرئ القيس أكثر معاني
انتهى ولو قال الشيخ جمال الدين في مطلعه
(1/28)
________________________________________
( تمذهبت في هجري بطول مطالك ... فمن شافعي في الحب يا ابنة مالك )
لجمع بين تناسب القسمين
ومطلعي الذي عارضت به الشيخ جمال الدين
( رضيع الهوى يشكو فطام وصالك ... فداوي بني الحب يا ابنة مالك )
وكذلك من مطلع الشيخ صفي الدين الحلي في قصيدته الجيمية التي هي من جملة القصائد الأرتقيات التي امتدح بها الملك المنصور صاحب ماردين
( جاءت لتنظر ما أبقت من المهج ... فعطرت سائر الأرجاء بالأرج )
فالشطر الثاني ليس من جنس الشطر الأول فإن الشطر الأول في الطريق الغرامية ليس له مثيل ومن أنكر هذا النقد ينتظر في مطلع الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض قدس الله سره فإنه في هذا الباب طرفة وهو
( ما بين معترك الأحداق والمهج ... أنا القتيل بلا إثم ولا حرج )
وهنا نكتة لطيفة تؤيد هذا النقد
اتفق أن الشيخ نور الدين علي بن سعيد الأندلسي الأديب المشهور الذي من نظمه قوله
( وا طول شوقي إلى ثغور ... ملأى من الشهد الرحيق )
( عنها أخذت الذي تراه ... يعذب من شعري الرقيق )
لما ورد إلى هذه البلاد اجتمع بالصاحب بهاء الدين زهير وتطفل على موائد طريقته الغرامية وسأله الإرشاد إلى سلوكها فقال له طالع ديوان الحاجري والتلعفري وأكثر المطالعة فيهما وراجعني بعد ذلك فغاب عنه مدة وأكثر من مطالعة الديوانين إلى أن حفظ غالبهما ثم اجتمع به بعد ذلك وتذاكرا في الغراميات فأنشده الصاحب بهاء الدين زهير في غضون المحاضرة يا بان وادي الأجرع وقال أشتهي أن يكمل لي هذا المطلع فافتكر قليلا وقال سقيت غيث الأدمع فقال والله حسن لكن الأقرب إلى الطريق الغرامي أن تقول هل ملت من طرب معي وما ألطف مطلع الحاجري في هذا الطريق
(1/29)
________________________________________
( لك أن تشوقني إلى الأوطان ... وعلي أن أبكي بدمع قان )
والآراء على هذا النوع تستحسن هنا مطلع ناصر الدين بن النقيب فإنه أعدل شاهد مقبول والتشبيب بنفسه الطيب يغني في هذه الحضرة عن الموصول وهو
( قلدت يوم البين جيد مودعي ... دررا نظمت عقودها من أدمعي )
وبالنسبة إلى حسن الابتداءات مطلع الشيخ برهان الدين القيراطي مع حسنه وبهجته فيه نقص وهو
( قسما بروضة خدها ونباتها ... وبآسها المخضل في جنباتها )
فإنه لم يأت بجواب القسم ولا ما يحسن السكوت على مطلعه ولا تتم الفائدة إلا به
ومشايخ البديع قرروا أن لا يكون المطلع متعلقا بما بعده في حسن الابتداء
وقد آن أن أحبس عنان القلم فإن الشرح قد طال ولم أطله إلا ليزداد الطالب إيضاحا ويداوي علل فهمه بحكم المتقدمين ويتنزه في رياض الأدب على النبات الغض من نظم المتأخرين
براعة الاستهلال في النظم
انتهى ما أوردته في حسن الابتداء وقد فرع المتأخرون منه براعة الاستهلال في النظم والنثر وفيها زيادة على حسن الابتداء فإنهم شرطوا في براعة الاستهلال أن يكون مطلع القصيدة دالا على ما بنيت عليه مشعرا بغرض الناظم من غير تصريح بل بإشارة لطيفة تعذب حلاوتها في الذوق السليم ويستدل بها على قصده من عتب أو عذر أو تنصل أو تهنئة أو مدح أو هجو وكذلك في النثر فإذا جمع الناظم بين حسن الابتداء وبراعة الاستهلال كان من فرسان هذا الميدان وإن لم يحصل له براعة الاستهلال فليجتهد في سلوك ما يقوله في حسن الابتداء
وما سمي هذا النوع براعة الاستهلال إلا لأن المتكلم يفهم غرضه من كلامه عند ابتداء رفع صوته به ورفع الصوت في اللغة هو الاستهلال يقال استهل المولود صارخا إذا رفع صوته عند الولادة
وأهل الحجيج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية وسمي الهلال هلالا لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته
ومما وقع من براعات الاستهلال التي
(1/30)
________________________________________
تشعر بغرض الناظم وقصده في قصيده براعة قصيدة الفقيه نجم الدين عمارة اليمني حيث قال
( إذا لم يسالمك الزمان فحارب ... وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب )
فإشارات العتب والشكوى لا تخفى على أهل الذوق في هذه البراعة ويفهم منها أن بقية القصيدة تعرب عن ذلك فإن زكي الدين بن أبي الإصبع قال براعة الاستهلال هي ابتداء المتكلم بمعنى ما يريد تكميله وهذه القصيدة في حكمها وتحشمها وتسيير أمثالها نهاية والموجب لنظمها على هذا النمط أنه كان بينه وبين الكامل بن شارر صحبة أكيدة قبل وزارة أبيه فلما وزر استحال عليه فكتب إليه هذه القصيدة التي من جملتها
( ولا تحتقر كيدا صغيرا فربما ... تموت الأفاعي من سموم العقارب )
ومنها
( إذا كان رأس المال عمرك فاحترز ... عليه من الإنفاق في غير واجب )
( فبين اختلاف الليل والصبح معرك ... يكر علينا جيشه بالعجائب )
ومنها
( وما راعني غدر الشباب لأنني ... ألفت لهذا الخلق من كل صاحب )
ومنها
( إذا كان هذا الدر معدنه فمي ... فصونوه عن تقبيل راحة واهب )
( رأيت رجالا حالهم في مآدب ... لديكم وحالي عندكم في نوادب )
( تأخرت لما قدمتكم علاكم ... علي وتأبى الأسد سبق الثعالب )
( ترى أين كانوا في مواطني التي ... غدوت لكم فيهن أكرم خاطب )
( ليالي أتلو ذكركم في مجالس ... حديث الورى فيها بغمز الحواجب )
ومن ألطف البراعات وأحشمها براعة مهيار الديلمي فإنه بلغه أنه وشي به إلى ممدوحه فتنصل من ذلك بألطف عذر وأبرزه في معرض التغزل والنسيب فقال
( أما وهواها حلفة وتنصلا ... لقد نقل الواشي إليك فامحلا )
وما أحلى ما قال بعده
( سعى جهده لكن تجاوز حده ... وكثر فارتابت ولو شاء قللا )
(1/31)
________________________________________
واذكرني مهيار بحسن براعته ما كتبت به إلى سيدنا ومولانا قاضي القضاة صدر الدين ملك المتأدبين أبي الحسن علي بن الآدمي الحنفي الناظر في الحكم العزيز بالديار المصرية والممالك الإسلامية جمل الله الوجود بوجوده من حماة المحروسة إلى أبوابه العالية بدمشق المحروسة ورياحين الشبيبة غضة وكانت مطالعاتي قد تأخرت عن أبوابه العالية لعارض حجب الفكر عن هذا الفن وهي رسالة مشتملة على نظم ونثر فصدرت الجواب بقصيدة ترفل في حلل النسيب على طريق مهيار وكلها براعة استهلال أولها
( وصلت ولكن بعد طول تشوقي ... ودنت وقد رقت لقلبي الشيق )
وما أحلى ما قلت بعده
( فثملت من طرب برجع حديثها ... فكأنما قد نادمت بمعتق )
وجميعها على هذا الطريق البديعي ومثله
إن المقر المخدومي الأميني الحمصي لما انتقل من توقيع حمص المحروسة إلى صحابة ديوان الإنشاء بدمشق قصد نقلتي من حماة المحروسة إلى أبوابه العالية وحب حماه يفتر العزم عن ذلك وهذا يفهم من قولي في بعض قصائدي فيها
( يلذ عناق الفقر لي بفنائها ... وفي غيرها لم أرض بالملك والرهط )
ولكنه قطع أسئلته العالية بعد أن كانت كؤوس الإنشاء دائرة بيننا فكتبت إليه بقصيدة تشعر بعتب لطيف وبلابل الغزل تغرد في أفنانها على طريقة مهيار الديلمي وطريق مولانا قاضي القضاة صدر الدين عظم الله تعالى شأنه وبراعة استهلالها
( من بأسياف هجرهم كلمونا ... ما عليهم لو أنهم كلمونا )
ولم أعرب في نحو هذه القصيدة عن غير هذه الإشارات اللطيفة
ومنها
( غلقوا باب وصلهم فتح الله ... لهم بالهناء فتحا مبينا )
( وصلوا هجرنا وعيش هواهم ... لم نحل عنهم ولو قطعونا )
( ملكوا رقنا فصرنا عبيدا ... ليتهم بعد رقنا كاتبونا )
(1/32)
________________________________________
ولم أزل أغازل عيون هذه المعاني إلى المخلص فقلت
( حبكم فرضنا وسيف جفاكم ... قد غدا في بعادنا مسنونا )
( والحشا لم يخن عهود وفاكم ... فاسألوا من غدا عليها أمينا )
ومما يشعر بالتهنئة والنصر على الأعداء براعة العلامة لسان الدين بن الخطيب وهي
( الحق يعلو والأباطل تسفل ... والحق عن أحكامه لا يسأل )
فإنه قال نظمت للسلطان أسعده الله وأنا بمدينة سلا لما انفصل طالبا حقه بالأندلس قصيدة كان صنع الله مطابقا لاستهلالها ووجهت بها إلى رندة قبل الفتح ثم لما قدمت أنشدتها بين يديه بعد الفتح وفاء بنذري وسميتها الفتح الغريب في الفتح القريب منها
( فإذا استحالت حالة وتبدلت ... فالله عز و جل لا يتبدل )
( واليسر بعد العسر موعود به ... والصبر بالفرج القريب موكل )
( والمستعد بما يؤمل ظافر ... وكفاك شاهد قيدوا وتوكلوا )
ومنها
( محمد والحمد منك سجية ... بحليها بين الورى يتجمل )
( أما سعودك فهو دون منازع ... عقد بأحكام القضاء يسجل )
( ولك السجايا الغر والشيم التي ... بغريبها يتمثل المتمثل )
( ولك الوقار إذا نزلت على الربا ... وهفت من الروع الهضاب المثل )
ومنها
( عوذ كمالك ما استطعت فإنه ... قد تنقص الأشياء مما تكمل )
( تاب الزمان إليك مما قد جنى ... والله يأمر بالمتاب ويقبل )
( إن كان ماض من زمانك قد مضى ... بإساءة قد سرك المستقبل )
( هذا بذاك فشفع الثاني الذي ... أرضاك فيما قد جناه الأول )
( والله قد ولاك أمر عباده ... لما ارتضاك ولاية لا تعزل )
(1/33)
________________________________________
( وإذا تغمدك الإله بنصره ... وقضى لك الحسنى فمن ذا يخذل )
ومنها
( وظعنت عن أوطان ملكك راكبا ... متن العباب فأي صبر يجمل )
( والبحر قد خفقت عليك ضلوعه ... والريح تبتلع الزفير وترسل )
( ولك الجواري المنشآت قد اغتدت ... تختال في برد الشباب وترفل )
( خرقاء يحملها ومن حملت به ... من يعلم الأنثى وماذا تحمل )
( صبحتهم غرر الجياد كأنما ... سد الثنية عارض متهلل )
( من كل منجرد أغر محجل ... يرمي الجياد به أغر محجل )
( زجل الجناح إذا أجد لغاية ... وإذا تغنى للصهيل فبلبل )
( جيد كما التفت الظليم وفوقه ... أذن ممشقة وطرف أكحل )
ومنها
( وخليج هند راق حسن صفائه ... حتى يكاد به يقوم الصيقل )
( غرقت بصفحته النمال وأوشكت ... تبغي النجاة فأوثقتها الأرجل )
( فالصرح منه ممرد والصفح منه ... مورد والشط منه مهدل )
( وبكل أزرق إن شكت ألحاظه ... مره العيون فبالعجاجة يكحل )
( متأود أعطافه في نشوة ... مما يعل من الدماء وينهل )
( عجبا له إن النجيع بطرفه ... رمد ولا يخفى عليه مقتل )
( لله موقفك الذي وثباته ... وثباته مثل به يتمثل )
( والخيل خط والمجال صحيفة ... والسمر تنقط والصوارم تشكل )
( والبيض قد كسرت حروف جفونها ... وعوامل الأسل المثقف تعمل )
(1/34)
________________________________________
وهي طويلة وجميعها فرائد ولم أكثر منها إلا لعلمي أن نظم الوزير لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى غريب في هذه البلاد
ومن البراعات التي يفهم من إشاراتها أنها تهنئة بمولود قول أبي بكر بن الخازن رحمه الله تعالى
( بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا ... وكوكب المجد في أفق العلا صعدا )
ومما يشعر بقرينة الذوق أن الناظم يريد الرثاء قول التهامي
( حكم المنية في البرية جاري ... ما هذه الدنيا بدار قرار )
وهذه القصيدة يرثي بها ولده وهي نسيج وحدها وواسطة عقدها
ومنها
( ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار )
( جبلت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذاء والأقذار )
( وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفير هار )
( فالعيش نوم والمنية يقظة ... والمرء بينهما خيال سار )
وما أعلم أن أحدا استهل للمراثي بأحسن من هذه البراعات ومنها يشير إلى ولده وهو من المعاني المستغربة
( جاورت أعدائي وجاور ربه ... شتان بين جواره وجواري )
وأما قصيدة الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى في تهنئة السلطان الملك الأفضل بسلطنة حماة وتعزيته بوفاة والده الملك المؤيد سقى الله ثراه فإنها من عجائب الدهر فإنه جمع فيها بين نقيضي المدح والرثاء في كل بيت وبراعتها
( هناء محاذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما )
( ثغور ابتسام في ثغور مدامع ... شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما )
( يرد مجاري الدمع والبشر واضح ... كوابل غيث في ضحى الشمس قد همى )
(1/35)
________________________________________
سبحان المانح والله من لا يتعلم الأدب من هنا فهو من المحجوبين عن إدراكه
وكتب إليه الشيخ صلاح الدين الصفدي قصيدة ضمن فيها إعجاز معلقة امرئ القيس وصرح في براعتها بغليظ العتب ولم يأت في البراعة بإشارة لطيفة يفهم منها القصد بل صرح وقال
( أفي كل يوم منك عتب يسوءني ... كجلمود صخر حطه السيل من عل )
فأجابه الشيخ جمال الدين بقصيدة ضمن فيها الأعجاز المذكورة وبراعة استهلالها
( فطمت ولائي ثم أقبلت عاتبا ... أفاطم مهلا بعض هذا التدلل )
والإشارة بقوله أفاطم مهلا بعض هذا التدلل لا يخفى على حذاق الأدب ما مراده منها وفي هذا القدر كفاية وما أحلى ما قال بعده وهو مما قصده في تلك الإشارة
( فدونك عتب اللفظ ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل )
وهنا بحث وهو إني وقفت على بديعية الشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جابر الأندلسي الشهيرة ببديعية العميان فوجدته قد صرح في براعتها بمدح النبي وهي
( بطيبة إنزل ويمم سيد الأمم ... وانثر له المدح وانشر طيب الكلم )
فهذه البراعة ليس فيها إشارة تشعر بغرض الناظم وقصده بل أطلق التصريح ونثر المدح ونشر طيب الكلم فإن قال قائل إنها براعة استهلال قلت إن البديعية لا بد لها من براعة وحسن مخلص وحسن ختام فإذا كان مطلع القصيدة مبنيا على تصريح المدح لم يبق لحسن التخلص محل ولا موضع ونظم هذه القصيدة سافل بالنسبة إلى طريق الجماعة غير أن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبا جعفر الأندلسي شرحها شرحا مفيدا
وهنا فائدة وهو أن الغزل الذي يصدر به المديح النبوي يتعين على الناظم أن يحتشم فيه ويتأدب ويتضاءل ويتشبب مطربا بذكر سلع ورامة وسفح العقيق والعذيب
(1/36)
________________________________________
والغوير ولعلع وأكناف حاجر ويطرح ذكر محاسن المرد والتغزل في ثقل الردف ودقة الخصر وبياض الساق وحمرة الخد وخضرة العذار وما أشبه ذلك وقل من يسلك هذا الطريق من أهل الأدب وبراعة الشيخ صفي الدين الحلي في هذا الباب من أحسن البراعات وأحشمها وهي
( إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم ... وأقر السلام على عرب بذي سلم )
فقد شبب بذكر سلع والسؤال عن جيبرة العلم والسلام على عرب بذي سلم ولا يشكل على من عنده أدنى ذوق أن هذه البراعة صدرت لمديح نبوي ومطلع البردة أيضا في هذا الباب من أحسن البراعات أيضا وهو
( أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم )
فمزج دمعه بدمه عند تذكر جيران بذي سلم من ألطف الإشارات إلى أن القصيدة نبوية وما أحلى ما قال بعده
( أم هبت الريح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق في الظلماء من أضم )
وحشمة الشيخ جمال الدين بن نباتة في براعة قصيدته الرائية النبوية يتعلم الأديب منها سلوك الأدب وهي
( صحا القلب لولا نسمة تتخطر ... ولمعة برق بالفضا تتسعر )
وما أحشم قوله بعده
( وذكر جبين المالكية أن بدا ... هلال الدجى والشيء بالشيء يذكر )
( سقى الله أكناف الفضا سائل الحيا ... وإن كنت أسقى أدمعا تتحدر )
(1/37)
________________________________________
وأما قصيدتي النبوية الموسومة بأمان الخائف فإنها عزيب هذا البارق وحلبة مجرى هذه السوابق لأنني لم أخرج في تغزلها عن التباري والتشبيب بذكر المنازل المعهودة وبراعتها
( شدت بكم العشاق لما ترنموا ... فغنوا وقد طاب المقام وزمزم )
وقلت بعده
( وضاع شذاكم بين سلع وحاجر ... فكان دليل الظاعنين إليكم )
( وجزتم بواد الجزع فاخضر والتوى ... على خده بالنبت صدع منمم )
( ولما روى أخبار نشر ثغوركم ... أراك الحمى جاء الهوى يتنسم )
وما أليقه أن يكون صدرا للمدائح النبوية ومنها
( فيا عرب الوادي المنيع حجابه ... وأعني به قلبي الذي فيه خيموا )
( رفعتم قبابا نصب عيني ونحوها ... تجر ذيول الشوق والقلب يجزم )
( ويا من أماتونا اشتياقا وصيروا ... مدامعنا غسلا لنا وتيمموا )
( منعتم تحيات السلام لموتنا ... غراما وقد متنا فصلوا وسلموا )
( يقولون لي في الحي أين قبابهم ... ومن هم من السادات قلت هم هم )
( عريب لهم طرفي خباء مطنب ... بدمعي وقلبي نارهم حين تضرم )
ومن ألطف الإشارات إلى أن هذا التغزل صدر قصيدة نبوية قولي منها
( أوري بذكر البان والزند والنقا ... وسفح اللوى والجزع والقصد أنتم )
ولم أزل في براعة الاستهلال أستهل أهلة هذه المعاني إلى أن وصلت إلى حسن التخلص فقلت
(1/38)
________________________________________
( تقنعت في حبي لهم فتعصبوا ... علي وهم سادات من قد تلثموا )
( لهم حسب عاني ببطحاء مكة ... لأن رسول الله في الأصل منهم )
ومن الأغزال التي لا تليق أن يكون غزلها لمديح قصيد نبوي قصيد السري الرفاء فإنه مدح بها الفاطميين وجدهم وجرح القلوب بندبة الحسين عليه السلام فإنه قال منها
( مهلا فما نقلوا آثار والده ... وإنما نقضوا في قتله الدينا )
وهذه القصيدة مشتملة على مدح النبي وآل بيته وندبة الحسين بن علي عليهما السلام فما ينبغي أن تكون براعتها
( نطوي الليالي علما أن ستطوينا ... فشعشعيها بماء المزن واسقينا )
ما أحق هذه البراعة ليعدها من المديح بقول القائل
( تمنيتهم بالرقمتين ودارهم ... بوادي الغضى يا بعد ما أتمناه )
وما كفاه حتى قال بعد ذلك
( وتوجي بكؤوس الراح راحتنا ... فإنما خلقت للراح أيدينا )
( قامت تهز قواما ناعما سرقت ... شمائل البان من أعطافه اللينا )
( تدير خمرا تلقاها المزاج لها ... ألقيت فوق جنى الورد نسرينا )
( فلست أدري أتسقينا وقد نفحت ... روائح المسك منها أم تحيينا )
( وقد ملكنا زمان العيش صافية ... لو فاتنا الملك راحت عنه تسلينا )
أقول غفر الله له هذا الغزل فيه إساءة أدب على مماديحه فإنه شبب بوصف القيان وبذكر الخمر وبينه وبين المديح مباينة عظيمة
رجع إلى البراعات البارعة التي تشعر أنها صدر المديح النبوي بالإشارات اللطيفة منها براعة الشيخ برهان الدين القيراطي وهي قوله
( ذكر الملتقى على الصفراء ... فبكاه بدمعة حمراء )
(1/39)
________________________________________
وأما براعة بديعيتي فإنها ببركة ممدوحها نور هذه المطالع وقبلة هذا الكلام الجامع فإني جمعت فيها بين براعة الاستهلال وحسن الابتداء بالشرط المقرر لكل منهما وأبرزت تسمية نوعها البديعي في أحسن قوالب التورية وشنفت بأقراط غزلها الأسماع مع حشمة الألفاظ وعذوبتها وعدم تجافي جنوبها عن مضاجع الرقة وبديعية صفي الدين غزلها لا ينكر غير أنه لم يلتزم فيها تسمية النوع البديعي مورى به من جنس الغزل ولو التزمه لتجافت عليه تلك الرقة
وأما الشيخ عز الدين الموصلي فإنه لما التزم ذلك نحت من الجبال بيوتا وقد أشرت إلى ذلك في الخطبة بقولي وهي البديعية التي هدمت بها ما نحته الموصلي في بيوته من الجبال وجاريت الصفي مقيدا بتسمية النوع وهو من ذلك محلول العقال وسميتها تقديم أبي بكر عالما أنه لا يسمع من الحلي والموصلي في هذا التقديم مقال
ومن أحسن إشارات براعتي التي تشعر أنها صدر مديح نبوي تشبيبي بعرب ذي سلم وخطابي لهم بأن لي في مدائحهم براعة تستهل الدمع وكأنني وعدتهم بشيء لا بد من القيام به وهذا حسبما أراده ابن أبي الأصبع بقوله براعة الاستهلال هي ابتداء الناظم بمعنى ما يريد تكميله
براعة الاستهلال في النثر
انتهى ما أوردته هنا من البراعات البارعة نظما وأما براعات النثر فإنها مثلها إن لم تكن براعة الخطبة أو الرسالة أو صدر الكتاب المصنف دالة على غرض المنشىء وإلا فليست ببراعة استهلال
وقد رأيت غالب البديعيين قد اكتفوا عند استشهادهم على براعة الاستهلال في النثر بقول الصاحب عمرو بن مسعدة كاتب المأمون فإنه امتحن أن يكتب للخليفة يخبره أن بقرة ولدت عجلا وجهه كوجه الإنسان فكتب الحمد لله الذي خلق الأنام في بطون الأنعام
ورأيت الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته قد ألقى عند الاستشهاد بها عصا التسيار واحتجبت عنه في هذا الأفق الشموس والأقمار أين هو من علو مقام القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وقد كتب عن السلطان الملك الظاهر إلى الأمير سنقر الفارقاني جوابا عن مطالعته بفتح سوس من بلاد السودان واستهل بقوله ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة )
الله
(1/40)
________________________________________
أكبر إن من البلاغة لسحرا والله ما أظن هذا الاتفاق الغريب اتفق لناثر ولإهلال كاتب المأمون في هذا الاستهلال بزاهر وهذا المثال الشريف ليس له مثال منه صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي تثني على عزائمه التي دلت على كل أمر رشيد وأتت على كل جبار عنيد وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء ( وما ربك بظلام للعبيد )
وبراعة الشيخ جمال الدين بن عبد الرزاق الأصفهاني في رسالة القوس تجاري براعة القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في هذه الحلبة وتساويها في علو هذه الرتبة فإنه أتى فيها بالعجائب وأصاب غرض البلاغة بسهم صائب واستهلها بعد البسملة بقوله تعالى ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فاتبع سببا ) منها شيطان تطلع شمس النصرة من بين قرنيه مارد لا يصلح إلا بتعريك أذنيه صورة مركبة ليس لها من تركيب النظم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم
وأما براعة الشيخ جمال الدين بن نباتة في خطبة كتابه المسمى بخبز الشعير فإنها خاص الخاص ولا بد من مقدمة تكون هي النتيجة الموجبة لتسمية هذا الكتاب بخبز الشعير فإنه مأكول مذموم وما ذاك إلا إنه كان يخترع المعنى الذي لم يسبق إليه ويسكنه بيتا من أبياته العامرة بالمحاسن فيأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي بلفظه ولا يغير فيه غير البحر وربما عام به في بحر طويل يفتقر إلى كثرة الحشو واستعمال ما لا يلائم فلم يسع الشيخ جمال الدين إلا أنه جمعه من نظمه ونظم الشيخ صلاح الدين واستهل خطبته بقوله تعالى ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا ) ورتب كتابه المذكور على قوله قلت أنا فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
فمن ذلك قول الشيخ جمال الدين قلت
( ومولع بفخاخ ... يمدها وشباك )
( قالت لي العين ماذا ... يصيد قلت كراكي )
(1/41)
________________________________________
فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( غار على سرح الكرى عندما رمى الكراكي ... غزال للبدور يحاكي )
( فقلت ارجعي يا عين عن ورد حسنه ... ألم تنظريه كيف صاد كراكي )
ومن ذلك قال الشيخ جمال الدين قلت
( أسعد بها يا قمري برزة ... سعيدة الطالع والغارب )
( صرعت طيرا وسكنت الحشا ... فما تعديت عن الواجب )
فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال من البحر نفسه
( قلت له والطير من فوقه ... يصرعه بالبندق الصائب )
( سكنت في قلبي فحركته ... فقال لم أخرج عن الواجب )
قال الشيخ جمال الدين قلت
( وبمهجتي رشأ يميس قوامه ... فكأنه نشوان من شفتيه )
( شغف العذار بخده ورآه قد ... نعست لواحظه فدب عليه )
فأخذه الصلاح وقال
( وأهيف كالغصن الرطيب إذا انثنى ... تميل حمامات الأراك إليه )
( له عارض لما رأى الطرف ناعسا ... أتى خده سرا فدب عليه )
وأحسن ما وقع في هذا الباب للشيخ جمال الدين أنه قال
( بروحي عاطر الأنفاس ألمى ... ملي الحسن خالي الوجنتين )
( له خالان في دينار خد ... تباع له القلوب بحبتين )
فأخذه الصلاح وقال
( بروحي خده المحمر أضحت ... عليه شامة شرط المحبة )
( كأن الحسن يعشقه قديما ... فنقطه بدينار وحبه )
(1/42)
________________________________________
فلما وقف الشيخ جمال الدين على هذين البيتين قال لا إله إلا الله الشيخ صلاح الدين سرق كما يقال من الحبتين حبة
قال الشيخ جمال الدين قلت
( يا غادرا بي ولم أغدر بصحبته ... وكان مني محل السمع والبصر )
( قد كنت من قلبك القاسي أخال جفا ... فجاء ما خلته نقشا على حجر )
فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( ما زلت أشكو حين وفر لي الضنا ... فسما وأسلمني إلى البلوى وفر )
( حتى توفر من شكاية لوعتي ... لي قلبه فرأيت نقشا في حجر )
قال الشيخ جمال الدين قلت
( يا عاذلي شمس النهار جميلة ... وجمال قاتلتي ألذ وأزين )
( فانظر إلى حسنيهما متأملا ... وادفع ملامك بالتي هي أحسن )
فأخذه صلاح الدين مع البحر بل أخذ الكل مع القافية وقال
( بأبي فتاة من كمال صفاتها ... وجمال بهجتها تحار الأعين )
( كم قد دفعت عواذلي عن وجهها ... لما تبدت بالتي هي أحسن )
ومن ذلك قال الشيخ جمال الدين وأجاد إلى الغاية
( فديتك أيها الرامي بقوس ... ولحظ يا ضنى قلبي عليه )
( لقوسك نحو حاجبك انجذاب ... وشبه الشيء منجذب إليه )
فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( تشرط من أحب فذبت وجدا ... فقال وقد رأى جزعي عليه )
( عقيق دمي جرى فأصاب خدي ... وشبه الشيء منجذب إليه )
وما أظن الشيخ صلاح الدين غفر الله له لما سمع ما قاله الشيخ جمال الدين ونظم بعده هذين البيتين كان في حيز الاعتدال وأين انجذاب القوس إلى الحاجب من
(1/43)
________________________________________
انجذاب الدم إلى الخد وليته في براعة استهلاله بقول الله تعالى ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا ) قال بعدها اللهم ومن دخل بيتي كافرا بفوائدي المنعمة وبيت شعري سارقا من ألفاظه ومعانيه المحكمة فأخجله في سره وعلانيته وعاقبه على قوله ونيته
ومنها بلغني أن بعض أدباء عصرنا ممن منحته ودي وأنفقت على ذهنه الطالب ما عندي وأقمته وهو لا يدري الوزن مقام من زكاة نقدي وأودعته ذخائر فكري فأنفقها وأعرته أوراقي العتيقة فلا والله ما ردها ولا أعتقها بل إنه غير الثناء بالهجاء والولاء بالجفاء ونسبني إلى سرقة بيوت الأشعار مع الغناء عنها والغنى فتغاضيت وقلت هماز مشاء بنميم وغصة صديق أتجرعها ولو كانت من حميم وأخليت من حديثه باب فمي ومجلس صدري وصرفت ذكره عن فكري
ولكن وقفت له على تصانيف وضعها في علم الأدب والعلم عند الله تعالى ووشحها بشعره وشعري المغصوب المنهوب يقول يا صاحبي ألا لا
وما يتوضح من جيد تلك الأشعار لمعة إلا ومن لفظي مشكاتها ولا تتضوع زهرة إلا ومني في الحقيقة نباتها فضحكت والله من ذهنه الذاهل وذكرت على زعمه قول القائل
( وفتى يقول الشعر إلا أنه ... فيما علمنا يسرق المسروقا )
وعجب له كيف رضي لنفسه هذا الأمر منكرا وكيف حلا لذوقه اللطيف هذا الحرام مكررا وقد أوردت الآن في هذا الكتاب قدرا كافيا ووزنا من الشعر وافيا وسميته خبز الشعير المأكول المذموم وعرضته على معدلة مولانا ليعلم أينا مع خليله مظلوم
ولولا الإطالة لأوردت جميع أبيات الشيخ جمال الدين التي دخلها الشيخ صلاح الدين بغير طريق ليرتدع القاصر عن التطاول إلى معاني الغير
ومن البراعات التي يستهل بها في هذا الأفق الذي مرآة سمائه صقيلة براعة المقر المخدومي القضائي الفخري عبد الرحمن بن مكانس مالك أزمة البلاغة وملك المتأخرين نظما ونثرا في رسالة كتبها إلى المقر المرحومي القضائي الزيني أبي بكر
(1/44)
________________________________________
ابن العجمي عين كتاب الإنشاء الشريف بالأبواب الشريفة وبقية الفضلاء الذين فضلوا بالطريق الفاضلية بسبب عبد الله القيرواني الضرير
فإني نقلت من خط المشار إليه ما صورته ورد علينا شخص من القيروان ضرير يتعاطى نظم الشعر المقفى الموزون الخالي من المعاني فتردد إلي في مجالس متفرقة ثم بلغني بعد ذلك أنه وشى إلى صاحبي الشيخ زين الدين بن العجمي بأني اهتضمت من جانبه وانتقصته وغضضت منه بالنسبة إلىالأدب وأنه يستعين بكلام الغير كثيرا فتأذى بسبب ذلك وتأذيت من كذب الناقل فكتبت إليه رقعة براعة استهلالها ( ليس على الأعمى حرج )
أقول إنه يستغنى بهذه البراعة عن الرسالة
منها وبلغ المملوك أنه رماه بعض الأصحاب برمية مثل هذه فأصمى وتردد إليه مرة أخرى ف ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى )
ولقد خسرت صفقته إذ المملوك ما برح مخلصا لمولانا في ولائه ومبايعا له على سلطنة البلاغة وأجل من تشرف بحمل لوائه
ومولانا بحمد الله أولى من استفتى قلبه واستدل على صفاء صدق محبته بشواهد المحبة والمسؤول من صدقاته أمران أحدهما الجواب فإن يقوم عند المملوك مقام الفرج من هذه الشدة والآخر رد كل فاسق عن هذا الباب العالي فإن أبا بكر أولى من يصلب في الردة
انتهى كلام القاضي فخر الدين
ولقد كشف الشيخ جمال الدين بن نباتة عن هذا الوجه القناع وأظهر من بهجته في رسالة السيف والقلم ما ليس لمطالع البدور عليه اطلاع فإن الرسالة مبنية على المفاخرة بينهما ولما انتصب القلم لمفاخرة السيف كانت براعته ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) واستهل بعدها بقوله الحمد لله الذي علم بالقلم وشرفه بالقسم
وبراعة استهلال السيف قوله تعالى ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) واستهل بعده بقوله الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف وما أظن أن أحدا من المتقدمين نسج على هذا المنوال ولا نفث في عقد أقلامهم مثل هذا السحر الحلال
(1/45)
________________________________________
وممن طلع من العصريين في هذا الأفق الساطع فأبدر ورقي ببلاغته أعواد هذا المنبر القاضي ناصر الدين بن البارزي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية فإنه اتفق له بحماة محنة كان لطف الله تعالى متكفلا له بالسلامة منها ولم يضرم نارها إلا من غذي بلبان نعمته قديما وحديثا فالحمد لله الذي أسعف الإسلام والمسلمين بنجاته وأمتع العلم الشريف والرياسة بطول حياته ولما هاجر من حماة المحروسة إلى دمشق المحروسة كان إذ ذاك مولانا السلطان الملك المؤيد كافلها ففوض إليه خطابة الجامع الأموي فلم يبق أحد من أعيان دمشق حتى حضر في تلك الجمعة لأجل سماع الخطبة فكانت براعة خطبته الحمد لله الذي أيد محمدا بهجرته ونقله من أحب البقاع إليه لما اختاره من تأييده ورفعته فعلت بالجامع الأموي أصوات ترنم حركت أعواد المنبر طربا وكاد النسر أن يصفق لها بجناحيه عجبا
وما ألطف براعة الشيخ العلامة نور الدين أبي الثناء محمود الشافعي الناظر في الحكم العزيز بحماة المحروسة والشهير بخطيب الدهشة بحماة المحروسة في كتاب أدعيته المسمى بدواء المصاب في الدعاء المجاب وهي الحمد لله سامع الدعاء ودافع البلاء
وفيها البناء والتأسيس فإنه أشار بسامع الدعاء إلى الدعاء المجاب وبدافع البلاء إلى دواء المصاب
وأما براعة خطيب الخطباء أبي يحيى عبد الرحيم بن نباتة الفارقي فإنها شغلت أفكاري مدة ولم يسعني غير السكوت والإحجام عنها فإنه استهلها في خطبة وفاة النبي بقوله الحمد لله المنتقم ممن خالفه المهلك من آسفه
ولقد اعتذر عنها جماعة من أكابر العلماء
وأورد الشيخ سري الدين بن هانئ في شرحه الذي كتبه على ديوان الخطب على هذه البراعة عذرا لأبي البقاء أرجو أن تهب عليه نسمات القبول
وما أحشم ما استهل الشيخ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي في خطبة وفاة النبي الحمد لله الذي استأثر بالبقاء وحق له أن يستأثر وحكم بالفناء على سكان هذا الفناء فأذعنوا لحكمه القاهر
وأما خطبة الشيخ صفي الدين في صدر شرح بديعيته فإن استهلالها نير ولكن فيه نظر وبعض مباينة عما نحن فيه فإنه قال الحمد لله الذي حلل لنا سحر البيان
(1/46)
________________________________________
وكتابه مبني على البديع
ولهذا استهليت خطبة شرح بديعيتي بقولي الحمد لله البديع الرفيع
ولما جمعت ديواني استهليت خطبتي بقولي الحمد لله الذي لا يحصر مجموع فضله ديوان
وكان قد رسم لي أن أنشىء صداقا للملك الناصر وأنا إذ ذاك بدمشق وقد حل ركابه الشريف بها على بنت المرحوم الشريف السيفي كشبغا الظاهر الحموي فاستهليت بقولي الحمد لله الذي أيد السنة الشريفة بقوة وناصر
وتمثلت بعد هذا التاريخ بالمواقف الشريفة الإمامية الخليفية المستعينية العباسية زاد الله شرفها تعظيما فبرزت إلي أوامرها المطاعة أن أنشىء عهدا بكفالة السلطنة بالبلاد الهندية للسلطان العادل مظفر شاه شمس الدنيا والدين صاحب دهلي والفتوحات الهندية فاستهليت براعته بقولي الحمد لله الذي وثق عهد النجاح للمستعين به
وقلت بعد الاستهلال وثبت أوتاده ليفوز من تمسك من غير فاصلة بسببه وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظا فأفرغ على أطراف الأرض حلل الخلافة الشريفة وعلم أن في خلفها الزاهر زهرة الحياة الدنيا فقال عز من قائل ( إني جاعل في الأرض خليفة ) واختارها من بيت براعة استهلاله من أول بيت وضع للناس وسبقت إرادته وله الحمد ان تكون هذه النهاية الشريفة من سقاية بني العباس وذلك في العشر الأواخر من رمضان سنة ثلاث عشرة وثمانمائة
ومما أنشأته في الديار المصرية وقد استقريت منشىء ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية تقليد مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي عظم الله شأنه بصحابة ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية بتاريخ شوال سنة خمس عشرة وثمانمائة واستهليته بقولي الحمد لله الذي أودع محمدا سره وقلت بعد الاستهلال وجعله ناصر دينه فحل به عقد الشرك وشد أزره وأرسله لينشئ مصالح الأمة فهذبنا بترسلاته والله أعلم حيث يجعل رسالاته وبين ديوان الإنشاء الشريف بصاحب من بيت ظهر التمييز بكتابته وأيد الإسلام والمسلمين بملك مؤيد تمسك بمحمد وصحابته
وأنشأت بعد هذا التاريخ توقيعا لرئيس الطب بالديار المصرية فكانت براعته الحمد لله الحكيم اللطيف
وبراعة الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح لامية العجم في غاية الحسن
(1/47)
________________________________________
فإنه استهلها بقوله الحمد لله الذي شرح صدر من تأدب
والكتاب مبني على شيء من علم الأدب
وأما البراعات التي يحلو تقبيلها بوجنات الطروس فمنها براعة الشيخ جمال الدين ابن نباتة من رسالة كتبها إلى القاضي علاء الدين الحسني واستهلها بقوله يقبل الأرض العلية على السحاب نسبا
وقال بعد الاستهلال الموفية على حصباء الأنجم حسبا
هذا الأدب إن أطنبت في وصفه فهو فوق الوصف
وكتب إليه الشيخ برهان الدين القيراطي من القاهرة المحروسة إلى دمشق المحروسة رسالة بليغة واستهلها بقوله يقبل الأرض التي سقت السماء نباتها
وقال بعد البراعة وحرس الله ذاتها وعمر معاني الحسن أبياتها
ومن أظرف ما وقع من البراعات المتوشحة برداء التبكيت براعة القاضي فخر الدين عبد الوهاب كاتب الدرج فإنه كان له صديق منهم يعبده فكتب إليه رسالة يداعبه فيها واستهلها بقوله يقبل اليد الشهابية كثر الله عبيدها
وقال بعد البراعة وضاعف خدمها وأضعف حسودها
وقد خطر لي أن أوردها بكمالها لوجازتها وغرابة أسلوبها فإنه قال بعد يقبل الأرض الخ وينهي بعد ولاء يمتد ودعاء يستد وثناء كأنه عنبر أو كافور راوند إن مولانا توجه والأعضاء خلفه سائره وكل عين لغيبته ساهره ولا يخفى عليه شوق العليل إلى الشفاء والظمآن إلى صيب الماء والغريب إلى بلده والمحصور إلى سعة مسلكه ومقعده فمولانا يطوي هذه الشقة ويقصر هذه المدة ويدع أحد غلمانه يسد مسده فالمملوك قلق لسماع أخبار التشويش في البلاد وتطرق أهل الجرائم والفساد فمولانا يرسم لغلمانه أن يشمروا في خدمته ذيلا ويسهروا عليه بالنوبة لمن يطرق ليلا والله المسؤول أن تكون هذه السفرة معجلة ويخص فيها بالتبرك مخرجه ومدخله ويبلغه من فضله مزيدا ويجعل يومه عليه مباركا وليله عليه سعيدا
وكتب المقر المخدومي فضل الله بن مكانس مجد الأدب الذي ظهر من بيته
(1/48)
________________________________________
فجره ورضيع لبانه الذي ما سقانا منه ذرة إلا قلنا لله دره إلى والده المقر المرحومي الفخري من القاهرة إلى حلب وهو صحبة الركاب الشريف الظاهري يشكو إليه رمدا حصل له بعده وكان مبدأ الرسالة قوله
( ما الطرف بعدكم بالنوم مكحول ... هذا وكم بيننا من ربعكم ميل )
وقال بعد الاستهلال لا استهلت لمولانا دموع ولا جفا جفنه مدى الليالي هجوع
منها يطالع العلوم الكريمة بما قاساه طرف المملوك من الرمد وما حصل عليه من الكمد
( إن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهي )
( بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها )
فلو رآه وقد أخذت عيناه من العناصر الثلاثة بنصيب وعوضها الهواء عن التراب بمضاعفة الماء واللهيب لرأى من نارها ما يفحم القلوب ومن دمعها ما هو البلاء المصبوب واستمر انهمالها حتى أنشدها المتوجع قارنها الدمع فبئس القرين
وطالت مدة رمده حتى لقد أتى على الإنسان حين وتزايد خوف المملوك على مقلتيه وشحه بكريمتيه ففصد في الذراعين وكاد أن يصير لولا أن من الله تعالى عليه أثرا بعد عين
وكتب إلى المقر المخدومي المشار إليه سيدنا الإمام العلامة الذي صلت جماعة أهل العصر خلف إمامته وملك قياد البلاغة ببراعته وعبارته بدر الدين رحلة الطالبين أبو عبد الله محمد بن الدماميني المخزومي المالكي جوابا عن حل لغز في ورد أرسله إليه فاستهله بقوله يقبل الأرض وينهي ورود الجواب الذي شفى الصدور وروده وقال بعد الاستهلال واللغز الذي نسي بوروده منه بان الحمى وزروده منه فاستحلى المملوك منه بالتحريف ورده وود لو اقتطف من أغصان حروفه ورده فرده ذل التقصير عاريا عن ملابس عزه وأنشد قول ابن قلاقس وهو يقلى بنار عجزه
( إذا منعتك أشجار المعالي ... جناها الغض فاقنع بالشميم )
(1/49)
________________________________________
فظهر من طريق سعده نصره وعلم أن هذا الورد لا يحسن من غير تلك الحضرة وأن هذه الفاكهة لا تخرجها إلا أغصان أقلام لها بيدي الراحة المخدومية بهجة ونضرة
ومنه وتمشى نظر المملوك من هذا اللغز في بساتين الوزير على الحديقة فرأى كل وردة وأخت الوجنات الحمر فتحير أوردة هي أم شقيقة وعلمت أن الفكر القاصر لا يجاري من بديهته من بحار الفضل رويه وأن الخاطر الذي هو على ضعف من رعايا الأدب لا يقوى على سلطان هذا اللغز لأن شوكته قوية
منه وتمتعت من ورده الوارد بالمشموم ثم تذكرت البعد عن جناب المخدوم فاستقطر البين ماء الورد من حدقي
وكتبت إليه من القاهرة المحروسة في منتصف ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانمائة عند دخولي إليها في البحر هاربا من طرابلس الشام وقد عضت علي أنياب الحرب بثغرها رسالة مشتملة على حكاية الحال وريت في براعتها بمصنفين له أحدهما الفواكه البدرية الذي جمعه من ثمار أدبه والثاني نزول الغيث الذي نكت فيه على الغيث الذي انسجم في شرح لامية العجم للشيخ صلاح الدين الصفدي واستهليتها بقولي يقبل الأرض التي سقى دوحها بنزول الغيث وأثمر بالفواكة البدرية
وقلت بعد الاستهلال وطلع بدر كمالها من الغرب فسلمنا لمعجزاته المحمدية وجرى لسان البلاغة في ثغرها فسما على العقد بنظمه المستجاد وأنشد لا فض الله فاه وقد ابتسم عن محاسنه التي لم يخلق مثلها في البلاد
( لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام )
فأكرم به من مورد فضل ما برح منهله العذب كثير الزحام ومدينة علم تشرفت بالجناب المحمدي فعلى ساكنها السلام ومجلس حكم ما ثبت لمدعي الباطل به حجة وعرفات أدب إن وقفت بها وقفة صرت على الحقيقة ابن حجة وأفق معان بالغ في سمو بدر فلم يقنع بما دون النجوم وميدان عربية يجول فيه فرسان العربية من بني مخزوم ومنها أورى بدخوله إلى دمشق ومطارحته للجماعة وتالله ما لفرسان الشقر أو البلق في هذا الميدان مجال وإذا عرفوا ما حصل للفارس المخزومي عندهم من الفتح كفى الله المؤمنين القتال وينهي بعد أدعية ما برح المملوك منتصبا لرفعها وتعريدا ثنية ما
(1/50)
________________________________________
لسجع المطوق في الأوراق النباتية مثل سجعها وأشواقا برحت بالمملوك ولكن تمسك في مصر بالآثار
( وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار من الديار )
وهذه الرسالة لكونها نظمت في طويل البحر ومديده يفتقر إلى سرد غالبها لتعلقها بحكاية الحال وينهي وصول المملوك إلى مصر مخيما بكنانتها وهو بسهم البين مصاب مذعور لما عاينه من المصارع عند مقاتل الفرسان في منازل الأحباب مكلما من ثغر طرابلس الشام بألسنة الرماح محمولا على جناح غراب وقد حكم عليه البين أن لا يبرح سفره على جناح
( وكان في البين ما كفاني ... فكيف بالبين والغراب )
منها يا مولانا وأبثك ما لاقيت من أهوال البحر وأحدث عنه ولا حرج فكم وقع المملوك من أعاريضه في زحاف تقطع منه القلب لما دخل إلى دوائر تلك اللجج وشاهدت منه سلطانا جائرا يأخذ كل سفينة غصبا ونظرت إلى الجواري الحسان وقد رمت أزر قلوعها وهي بين يديه لقلة رجالها تسبى فتحققت أن رأي من جاء يسعى في الفلك غير صائب واستصوبت هنا رأي من جاء يمشي وهو راكب وزاد الظمأ بالمملوك وقد اتخذ في البحر سبيله وكم قلت من شدة الظمأ يا ترى قبل الحفرة أطوي من البحر هذه الشقة الطويلة
( وهل أباكر بحر النيل منشرحا ... وأشرب الحلو من أكواب ملاح )
بحر تلاطمت علينا أمواجه حتى متنا من الخوف وحملنا على نعش الغراب وقامت واوات دوائره مقام مع فنصبنا للغرق لما استوت المياه والأخشاب وقارن العبد فيه سوداء استرقت مواليها وهي جارية وغشيهم منها في اليم ما غشيهم فهل أتاك حديث الغاشية واقعها الريح فحملت بنا ودخلها الماء فجاءها المخاض وانشق قلبها لفقد رجالها وجرى ما جرى على ذلك القلب ففاض وتوشحت بالسواد في هذا المأتم وسارت على البحر وهي مثل وكم سمع فيها للمغاربة على ذلك التوشيح زجل برج
(1/51)
________________________________________
مائي ولكن تعرب في رفعها وخفضها عن النسر والحوت وتتشامخ كالجبال وهي خشب مسندة من تبطنها عد من المصبرين في التابوت تأتي بالطباق ولكن بالمقلوب لأن بياضها سواد وتمشي مع الماء وتطير مع الهواء وصلاحها عين الفساد إن نقر الموج على دفوفها لعبت أنامل قلوعها بالعود وترقصنا على آلتها الحدباء فتقوم قيامتنا من هذا الرقص الخارج ونحن قعود وتتشامم وهي كما قيل أنف في السماء وإست في الماء وكم تطيل الشكوى إلى قامة صاريها عند الميل وهي الصعدة الصماء فيها الهدى وليس لها عقل ولا دين وتتصابى إذا هبت الصبا وهي ابنة مائة وثمانين وتوقف أحوال القوم وهي تجري بهم في موج كالجبال وتدعي براءة الذمة وكم أغرقت لهم من أموال هذا وكم ضعف نحيل خصرها عن تثاقل أرداف الأمواج وكم وجلت القلوب لما صار الأهداب مجاذيفها علىمقلة البحر اختلاج وكم أسبلت على وجنة البحر طرة قلعها فبالغ الريح في تشويشها وكم مر على قريتها العامرة فتركها وهي خاوية على عروشها تتعاظم فتهزل إلى أن ترى ضلوعها من السقم تعد ولقد رأيتها بعد ذلك التعاظم وقد تبت وهي حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد
وأما البراعة التي لخطبة كتابي المسمى بمجرئ السوابق في وصف الخيول المسومة فإنها أحرزت قصبات السبق وهي الحمد لله الذي يقف عند سابق فضله كل جواد ويقصر في حلبة هذا الكرم الذي ليس له غاية في بديع الاستطراد فمن ألهمه الحزم وأرشده إلى حد المعرفة حاز قصبات السبق ولا نقول كاد نحمده على أن جعل لنا الخير معقودا بنواصي الخيل ونشكره شكرا نعلو به على أشهب الصبح ونمتطي أدهم الليل ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو أن نكون منها في ميادين الرحمة من السابقين ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله قائد العز المحجلين
وقد آن أن نقطع طول هذا البحث برسالة السكين فإن استهلالها يسن ما كل
(1/52)
________________________________________
من الذوق ويبرزه من قراب الشك إلى القطع باليقين وما ذاك إلا أنه لما انفرد كمال الدين عبد الرزاق الأصفهاني برسالة القوس واستوفى جميع المحاسن وجاء الشيخ جمال الدين بن نباتة برسالة السيف والقلم وأظهر فيها معجزات الأدب أردت أن أعززهما من اختراع رسالة السكين بثالث واستهليتها بقولي يقبل الأرض التي قامت حدود مكارمها وقطعت عنا مكروه الفاقة بمسنون عزائمها
منها وينهى وصول السكين التي قطع المملوك بها أوصال الجفا وأضافها إلى الأدوية فحصل بها البرء والشفا وتالله ما غابت إلا وبلغ الأقلام من تقشيرها إلى الحفى
منها ما شاهدها موسى إلا سجد في محراب النصاب وذل بعدما خضعت له الرؤوس والرقاب كم أيقظت طرف القلم بعدما خط وعلى الحقيقة ما رؤي مثلها قط وكم وجد الصاحب بها في المضايق نفعا وحكم بحسن صحبتها قطعا من أجل أنها تدخل في مضايق ليس للسيف قط فيها مدخل وكلما تفعله توجزه والرمح في تعقيده مطول تطرف بأشعتها الباهرة عين الشمس وبإقامتها الحد حافظت الأقلام على مواظبة الخمس وكم لها من عجائب تركت السيف في بحر عمدة كالغريق ولو سمع بها من قبل ضربه ما حمل التطريق
انتهى ما أوردته من براعة الاستهلال نثرا ونظما ومن لم ير بهجة ما أبرزته للمتأخرين فهو في هذه أعمى
(1/53)
________________________________________
الجناس
ذكر الجناس المركب والمطلق
( بالله سر بي فسربي طلقوا وطني ... وركبوا في ضلوعي مطلق السقم )
أما الجناس فإنه غير مذهبي ومذهب من نسجت على منواله من أهل الأدب وكذلك كثرة اشتقاق الألفاظ فإن كلا منهما يؤدي إلى العقادة والتقييد عن إطلاق عنان لبلاغة في مضمار المعاني المبتكرة كقول القائل وأستحيي أن أقول إنه أبو الطيب
( فقلقت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيش كلهن قلاقل ) ولقد تصفحت ديوانه فلم أجد لوافد هذا النوع نزولا إلا ما قل في أبياته وهو نادر جدا ولا العرب من قبله خيمت بأبياتها عليه غير أن هذا البيت حكمت على أبي الطيب به المقادير ومثله قول القائل
( وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر )
فقرب وقبر لأجل الجناس المقلوب هو الذي قلب عليه القلوب اللهم إلا أن يقع الجناس في حشو بيت من البحور التي تحمل ثقله من غير اعتناء بأمره كقول القائل
( لله لبنى كلما لبنا على ... تعنيقها ونهودها تتقاعد )
( وبنار أسما وهي أسمى رتبة ... لقد احترقت وريقها يتبارد )
(1/54)
________________________________________
ففي طلعة شمس التورية هنا ما يغني عن النظر إلى زحل الجناس ولقد أحسن من قال
( أنظر إلى صور الألفاظ واحدة ... وإنما بالمعاني تعشق الصور )
والجناس من صور الألفاظ وممن وافق على ذلك علامة عصره الشهاب محمود وقال إنما يحسن الجناس إذا قل وأنى في الكلام عفوا من غير كد ولا استكراه ولا بعد ولا ميل إلى جانب الركة ولا يكون كقول الأعشي
( وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلول شلشل شول )
ولا كقول مسلم بن الوليد
( شلت وشلت ثم شل شليلها ... فإني شليل شليلها مشلولا )
ولا بأس به في مطالع القصائد إن تعذر على الناظم أن يركبه تورية فإنه نوع متوسط بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع كما قرره مشايخه كالتورية والاستخدام والاستعارة والتشبيه وما قارب ذلك من أنواع البديل
وحكي عن ابن جني أن الأصمعي كان يدفع قول العامة إذا قالوا هذا يجانس هذا إذا كان من شكله ويقول ليس بعربي خالص
وقال ابن رشيق صاحب العمدة هو من أنواع الفراغ
وقلة الفائدة ومما لا يشك في تكلفه
وقد كثر منه هؤلاء الساقة المتعقبون في نظمهم ونثرهم حتى برد ورك انتهى كلامه
ولم يحتج إليه بكثرة استعماله إلا من قصرت همته عن اختراع المعاني التي هي كالنجوم الزاهرة في أفق الألفاظ وإذا خلت بيوت الألفاظ من سكان المعاني تنزلت منزلة الأطلال البالية وما أحلى قول الفاضل هنا
( إنما الدار قبل بالسكان ... ثم بعد السكان بالجيران )
( فإذا ما الأرواح شردها الحتف ... فماذا يراد بالأبدان )
وكان الشيخ صلاح الدين الصفدي يستسمن ورمه ويظنه شحما فيشبع أفكاره منه ويملأ بطون دفاتره ويأتي فيه بتراكيب تخف عندها جلاميد الصخور كقوله غفر الله له
(1/55)
________________________________________
( ونم في أمان بالحبيب ولا تخف ... لقائط واش في لقاء طواشي )
وقوله
( وكم ساق في الظلماء والليل شاهد ... رواحل واط في رواح لواط )
وقوله
( وإني إذا كان الفراق معاندي ... مطالع ناء في مطال عناء )
وقوله في الراح
( وكم ألبست نفسي الفتى بعد نورها ... مدارع قار في مدار عقار )
وقوله
( إذا جرح العشاق قالوا أقمت في ... مدار جراح في مدارج راح )
وقوله
( وكم شمت لما قست مقدار ودكم ... بوارق ياس في بوار قياس )
وقوله
( ولا تفتحن باب الهدايا وعدها ... مطار فراش لا مطارف راش )
وقوله
( ثنت نحوه الأغصان قامة لينها ... طواعن شاط في طواع نشاط )
وقوله
( ومر على غيري سقام وصحة ... ولم يبر قان مثل ذي يرقان )
ورأيت بخط الشيخ بدر الدين البشتكي تحت هذا البيت والذي قبله وهو الضعيف باليرقان وأن من ذلك مبلغه من النظم لجدير أن يقعد مع صغار المتأدبين انتهى ومنه قوله
( فجار وأجرى حين جاورت واجترى ... فما فاته مما يروم جناس )
وقوله
( زاروا وزانوا وزادوا ... هذا الجناس المليح )
وفي ذلك من الركة ما لا يخفى على أهل الذوق السليم ولولا الخشية من سأم الأسماع لأوردت له كثيرا من هذا النمط وما أظرف ما وقع له مع الشيخ جمال الدين ابن نباتة وذلك أنه لما وقف على كتابه المسمى بجنان الجناس وقد اشتمل على كثير من هذا النوع قرأه جنان الخناس وجرى بينهما بسبب ذلك ما يطول شرحه وهذا
(1/56)
________________________________________
مما يؤيد قولي أنه غير مذهبي ومذهب من نسجت على منواله ويعجبني هنا قول الشيخ زين الدين عمر بن الوردي رحمه الله تعالى
( إذا أحببت نظم الشعر فاختر ... لنظمك كل سهل ذي امتناع )
( ولا تقصد مجانسة ومكن ... قوافيه وكله إلى الطباع )
وكان الأسعد بن مماتي أيضا ممن لم يجعل الجناس له مذهبا في نظمه وما أحلى ما قال
( طبع المجنس فيه نوع قيادة ... أو ما ترى تأليفه للأحرف )
ومن غريب ما يحكى أن الشيخ صلاح الدين الصفدي مع تهافته على الجناس والتزامه بما صنفه في جنسه وأنواعه زاحم ابن مماتي في لفظ بيته ومعناه فقال
( ألا إن من عانى القريض بطبعه ... يقود فأرسله لمن صد واحتشم )
( ألم تره إن قال شعرا مجانسا ... يؤلف ما بين الحروف إذا نظم )
فانظر كيف أخذ المعنى وغالب الألفاظ ولم يتمكن من نظم ذلك إلا في بيتين أتى فيهما بكثرة الحشو مع قلة الأدب على أهله فإن الأسعد أثبت القيادة لطبع المجنس والشيخ صلاح الدين أثبت الحكم المذكور لمن يعاني نظم الشعر وقد طال الشرح وتعين الكلام على الجناس لأن الشروع فيه يلزم لأجل المعارضة لمن تقدمني من ناظمي البديعيات
أما هذا النوع فإنه ما سمي جناسا إلا لمجيء حروف ألفاظه من جنس واحد ومادة واحدة ولا يشترط فيه تماثل جميع الحروف بل يكفي في التماثل ما تعرف به المجانسة
وأما اشتقاق الجناس فمنهم من يقول التجنيس هو تفعيل من الجنس ومنهم من يقول المجانسة المفاعلة من الجنس أيضا إلا أن إحدى الكلمتين إذا تشابهت بالأخرى وقعت بينهما مفاعلة الجنسية
والجناس مصدر جانس ومنهم من يقول التجانس التفاعل من الجنس أيضا لأنه مصدر تجانس الشيئان إذا دخلا في جنس واحد ولما انقسم أقساما كثيرة وتنوع أنواعا عديدة تنزل منزلة الجنس الذي يصدق على كل واحد من أنواعه فهو حينئذ جنس وأنواعه التام والمحرف والمصحف والملفق وهلم جرا
كما أن البديع جنس وأنواعه الجناس واللف والنشر والاستعارة والتورية والاستخدام وغير ذلك من أنواع البديع وأما حدود أنواع الجناس فقد اختلفت
(1/57)
________________________________________
فيها عبارات البديعيين ولكن نأتي بحد كل واحد من الأنواع في موضعه ونذكر ما وقع الاتفاق عليه
وقد صدرت بديعيتي هذه بالجناس المركب والمطلق حسب ما رتبه الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته ولكن فاته شنب التسمية وإبرازها في شعار التورية من جنس التغزل فحد المركب أن يكون أحد الركنين كلمة مفردة والأخرى مركبة من كلمتين وهو على ضربين فالأول ما تشابه لفظا وخطا كقول الشاعر
( عضنا الدهر بنابه ... ليت ما حل بنا به )
ومثله قول القائل
( ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني )
وحفظت من شيخي العلامة الشيخ شمس الدين الهيتي الحسني النجوي وأنا في مبادي العمر والاشتغال من الجناس المركب المتشابه قول القائل من دوبيت
( في مصر من القضاة قاض وله ... في أكل مواريث اليتامى وله )
( إن رمت عدالة فقل مجتهدا ... من عد له دراهما عدله )
وكان يقول لا أعرف لهما ناظما
وما ألطف قول القائل
( يا سيدا حاز رقي ... بما حباني وأولى )
( أحسنت برا فقل لي ... أحسنت في الشكر أولا )
وقال العلامة شهاب الدين محمود أنشدني الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الوهاب لنفسه من المتشابه لفظا وخطا
( حار في سقمي من بعدهم ... كل من في الحي داوى أورقا )
( بعدهم لا طل وادي المنحنى ... وكذا بان الحمى لا أورقا )
(1/58)
________________________________________
وأورد الشيخ صلاح الدين الصفدي لنفسه في كتابه المسمى بجنان الجناس من هذا النوع قوله
( يا من إذا ما أتاه ... أهل المودة أولم )
( أنا محبك حقا ... إن كنت في القوم أولم )
وهذا النوع لم يذكره الشيخ صفي الدين في بديعيته
انتهى الكلام على المتشابه من المركب لفظا وخطا والثاني ما هو متشابه لفظا لا خطا ويسمى المفروق وهو الذي نظمه صفي الدين في بديعيته كقول الشاعر
( لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تكن بالغت في تهذيبها )
( وإذا عرضت الشعر غير مهذب ... عدوه منك وساوسا تهذي بها )
ومثله قول القائل
( يا من تدل بمقلة ... وأنامل من عندم )
( كفي جعلت لك الفدا ... أسياف لحظك عن دمي )
ومثله قول ابن أسد الفارقي
( غدونا بآمال ورحنا بخيبة ... أماتت لنا أفهامنا والقرائحا )
( فلا تلق منا غاديا نحو حاجة ... لتسأله عن حاجة والق رائحا )
ويحسن هنا قول أبي الفتح البستي فيه
( وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له )
وما ألطف قول العلامة شهاب الدين محمود من هذا النوع
( ولم أر مثل نشر الروض لما ... تلاقينا ببنت العامري )
( جرى دمعي وأومض برق فيها ... فقال الروض في ذا العام ربي )
(1/59)
________________________________________
ومن لطائف الشيخ جمال الدين بن نباتة
( قمرا نراه أم مليحا أمردا ... ولحاظه بين الجوانح أم ردى )
ومثله قول شمس الدين محمد بن العفيف
( أسرع وسر طالب المعالي ... بكل واد وكل مهمه )
( وإن لحا عاذل جهول ... فقل له يا عذول مه مه )
ومثله قوله
( إن الذي منزله ... من سحب دمعي أمرعا )
لم أدر من بعدي هل ... ضيع عهدي أم رعى )
ومثله قولي للقاضي بهاء الدين السبكي رحمه الله تعالى
( كن كيف شئت عن الهوى لا أنتهي ... حتى تعود لي الحياة وأنت هي )
وأنشدني قاضي القضاة تقي الدين بن الحسني الحنفي بحماة في مبادئ العمر وقد ذكرت بين يديه الجناس المركب
( قلت للعاذل الملح على الدمع ... وإجرائه على الخد نيلا )
( سل سبيلا إلى النجاة ودع دمع ... عيوني تجري لهم سلسبيلا )
ومن أنواع الجناس المركب نوع يسمى المرفو وهو أن يكون أحد الركنين جزءا مستقلا والآخر مجزأ من كلمة أخرى كقول الحريري
( والمكر مهما استطعت لا تأته ... لتقتني السؤدد والمكرمه )
وقوله
( ولا تله عن تذكار ذنبك وابكه ... بدمع يحاكي المزن حال مصابه )
( ومثل لعينيك الحمام ووقعه ... وروعة ملقاه ومطعم صابه )
وهذا النوع لا يخلو من تعسف وعقادة في التركيب
انتهى الكلام على الجناس المركب وأقسامه غير أن هنا بحثا لطيفا وهو أنه قد
(1/60)
________________________________________
تقرر إن ركني الجناس يتفقان في اللفظ ويختلفان في المعنى لأنه نوع لفظي لا معنوي وهو نوع متوسط بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع والتورية من أعز أنواعه وأعلاها رتبة فإذا جعلت الجناس تورية انحصر المعنيان في ركن واحد وخلصت من عقادة الجناس وحركت الأذواق وأبهجت خاطر السامع بما أتحفته من بديع تركيبها وتأهيله بغريبها وأنا أذكر المثالين هنا ليتضح في الأذهان الصحيحة أن النهار لم يحتج إلى إقامة دليل
قال صاحب الجناس المركب
( أعن العقيق سألت برقا أومضا ... أأقام حاد بالركائب أو مضى )
قال صاحب التورية
( وإذا تبسم ضاحكا لم ألتفت ... إن عاد برقا في الدياجي أومضا )
وهنا يحسن أن يتمثل بقول القائل
( ومن يقل للمسك أين الشذا ... كذبه في الحال من شما )
ومثله قول الشاعر
( نديمي لا تسقني ... سوى الصرف فهو الهني )
( ودع كأسها أطلسا ... ولا تسقني مع دني )
ومن التورية المركبة ما أنشدني من لفظه علامة عصرنا القاضي بدر الدين ابن الدماميني بما كتب به إلى مولانا الحافظ الشيخ شهاب الدين ملك المتأدبين وعمدة المحققين أبي العباس أحمد بن حجر الشافعي
( حمى ابن على حوزة المجد والعلا ... ومن رام أشتات المعالي وحازها )
( وكم مشكلات في البيان بفهمه ... تبينها من غير عجب ومازها )
فأجابه شيخنا المشار إليه
( بروحي بدرا في الندا ما أطاع من ... نهاه وقد حاز المعالي فزانها )
( يسائل أن ينهي عن الجود نفسه ... وها هو قد بر العفاة ومانها )
(1/61)
________________________________________
وما أحلى ما قال متغزلا
( سألت من لحظة وحاجبه ... كالسهم والقوس موعدا حسنا )
( ففوق السهم من لواحظه ... وإنقوس الحاجبان وقت رنا )
ومن نثر الشيخ بدر الدين المشار إليه في التورية المركبة يشير إلى تقريظ كتبه لبعض أهل الأدب على مصنف سافل لم تمكن تسميته والتزم في التقريظ نوع الإيهام من الأول إلى الآخر وكتب الشيخ بدر الدين على ذلك المصنف قوله ولقد كنت أرتجي بابا أدخل منه إلى التقريظ ففتح لي المقر التقوي بابا مرتجا ونهج الطريق إلى المدح فاقتفيت آثاره واهتديت حين رأيت منهجا
ومثله قوله في التقريظ الذي كتبه على بديعيتي هذه كتبت وأسياف الخطوب ليس لها إلا الجوائح أغماد والزمن قد كادني بسهام أوتاره المصيبة ورماني بعد أن كاد
ومثله ما أنشدني من لفظه لنفسه الكريمة أحد أعيان العصر القاضي مجد الدين بن مكانس حيث قال
( أقول لحبي قم ومس يا معذبي ... كميسة خود حرك السكر رأسها )
( ولا تسه عن شيء إذا ما حكيتها ... فقام كغصن البان لينا وما سها )
وأحجية الشيخ شهاب الدين ابن حجر في هذا الباب من طرف الأدب فإنها تورية خفية مركبة في الأصل
( يا فاضلا هو في الأحاجي ... ليس يخلو من ولع )
( ما مثل قولك للذي ... يشكو الحبيب أسكت رجع )
فصه مرادف أسكت وباء مرادف رجع فحصلت التورية في صهباء وصه باء ومن النظم في هذا النوع الغريب قول المعمار
( وخادم يعلو على عشاقه ... برتبة من الجمال نالها )
( واسمه وهو العجيب محسن ... وكم دموع في الهوى أسا لها )
(1/62)
________________________________________
ومثله قول الشيخ شمس الدين المزين في غلام مليح وله لألاء مليح
( ومليح لالاه يحكيه حسنا ... فهو كالبدر في الدجا يتلالا )
( قلت قصدي من الأنام مليح ... هكذا هكذا وإلا فلا لا )
ومن نظمي الغريب في هذا النوع
( تصديتم لقتل ضعيف جسم ... لغير الوجد فيكم ما تصدى )
( وعد ضلوعه بالسقم لما ... تعديتم عليه وما تعدى )
وقلت فيه
( بعد هند وبعد سلمى تعطشت ... إلى رشف كل العس المى )
( وفؤادي يقول لا تطلب الري ... من الريق بعد هند وسلمى )
وقلت من قصيدة مطولة
( حين قابلت خده بدموعي ... أثرت خلت ثوب خز منمم )
( وانظر اليوم خده مع دموعي ... واحك ما شئت من عقيق وعن دم )
والبيت الأول من المعاني المخترعة التي لم يسبق إليها
انتهى ما أوردته من الكلام على الجناس المركب واستجلاء عرائس التورية وأما الجناس المطلق فإن للناس في الفرق بينه وبين المشتق معارك وسماه السكاكي وغيره المتشابه والمتقارب لشدة مشابهته وقربه من المشتق وكل منهما يختلف في الحروف والحركات ولكن الفرق بينهما دقيق قل من أتى بصحته ظاهرا فإن المشتق غلط فيه جماعة من المؤلفين وعدوه تجنيسا وليس الأمر كذلك فإن معنى المشتق يرجع إلى أصل واحد
والمراد من الجناس اختلاف المعنى في ركنيه والمطلق كل ركن منه يباين الآخر في المعنى وأنا أذكر لكل واحد منهما شاهدا يزول به الالتباس فالمشتق كقوله تعالى ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ) وقيل إن ما مصدرية أي لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي فعلى كل تقدير الجميع راجع إلى العبادة والمعنى في الاشتقاق راجع إلى أصل واحد ومنه قوله
(1/63)
________________________________________
تعالى ( ومن شر حاسد إذا حسد ) وقوله تعالى ( إذا وقعت الواقعة ) وقوله تعالى ( أزفت الآزفة ) ومن النظم قول عمرو بن كلثوم في معلقته
( ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا )
وما ألطف قول كشاجم في خادم أسود مشهور بالظلم
( يا مشبها في فعله لونه ... لم تحظ ما أوجبت القسمة )
( فعلك من لونك مستخرج ... والظلم مشتق من الظلمة )
فإن النبي قال ( الظلم ظلمات يوم القيامة ) ومن السحر الحلال قول بعض المتأخرين في هذا الباب
( عاتبت طيف الذي أهوى وقلت له ... كيف اهتديت وجنح الليل مسدول )
( فقال آنست نارا من جوانحكم ... يضيء منها لدى السارين قنديل )
( فقلت نار الجوى معنى وليس لها ... نور يضيء وهذا القول مقبول )
( فقال نسبتنا في الحال واحدة ... أنا الخيال ونار الشوق تخييل )
وقد نبه على الاشتقاق في قوله نسبتنا في الحال واحدة
ورأيت الشيخ شمس الدين بن الصائغ في شرحه على البردة لما انتهى إلى قول المصنف
( ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى ... أن اشتكت قدماه الضر من ورم )
قال ظلمت وظلام جناس اشتقاق وهو كقوله تعالى ( وأسلمت مع سليمان ) قلت أما ظلمت وظلام فاشتقاق بلا خلاف وأسلمت مع سليمان جناس مطلق لأنه لم يرجع في المعنى إلى أصل واحد وهو أعظم شواهد البديعيين على الجناس المطلق
انتهى الكلام على المشتق وأما الجناس المطلق فلشدة تشابهه بالمشتق يوهم
(1/64)
________________________________________
أحد ركنيه أن أصلهما واحد وليس كذلك كقوله تعالى ( وإن يردك بخير فلا راد لفضله ) وكقوله تعالى ( ليريه كيف يواري سوأة أخيه )
ومنه ما كتب به إلى المأمون في حق عامل له وهو فلان ما ترك فضة إلا فضها ولا ذهبا إلا أذهبه ولا مالا إلا مال عليه ولا فرسا إلا افترسه ولا دارا إلا أدارها ملكا ولا غلة إلا غلها ولا ضيعة إلا ضيعها ولا عقارا إلا عقره ولا حالا إلا أحاله ولا جليلا إلا أجلاه ولا دقيقا إلا دقه
فهذه الأركان هنا شواهد على الجناس المطلق ليس فيها ركنان يرجعان إلى أصل واحد كالمشتق بل جميع ما ذكرنا أسماء أجناس وهي محمولة على دم الاشتقاق ومثل ذلك من النظم قول الشاعر
( عرب تراهم أعجمين عن القرى ... متنزلين على الضيوف النزل )
( فأقمت بين الأزد غير مزود ... ورحلت عن خولان غير مخول )
ومثله قول الآخر
( بجانب الكرخ من بغداد عن لنا ... ظبي ينفره عن وصلنا نفر )
( ضفيرتاه على قتلي تظافرتا ... يا من رأى شاعرا أودى به الشعر )
وما أحلى قول القائل سلم على الربع من سلمى بذي سلم
فالثلاثة عنان جنسها مطلق في المطلق وقال الآخر وأجاد
( إذا أعطشتك أكف اللئام ... كفتك القناعة شبعا وريا )
( فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا )
وما أحلى قول أبي فراس في هذا النوع
( فما السلاف أزدهتني بل سوالفه ... ولا الشمول دهتني بل شمائله )
(1/65)
________________________________________
ومثله قول الصاحب بهاء الدين زهير
( يا من لعبت به شمول ... ما ألطف هذه الشمائل )
وللبحتري
( وإذا ما رياح جودك هبت ... صار قول العذول فيها هباء )
ويحسن هنا قول الشاب الظريف محمد بن العفيف
( أراك فيمتلي قلبي سرورا ... وأخشى أن تشط بك الديار )
( فجر واهجر وصد ولا تصلني ... رضيت بأن تجور وأنت جار )
وما أحسن ما قال الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة رحمه الله تعالى بمنه وكرمه
( تولى شبابي فولى الغرام ... ولازم شيبي لزوم الغريم )
( ولو لم يصدني بازيه ... لما صارمتني مهاة الصريم )
انتهى الكلام على المطلق وعلى الفرق بينه وبين المشتق منه نظما ونثرا وقد رسم لي أن أثبت في بديعيتي هذه أبيات من تقدمني في النظم كالشيخ صفي الدين الحلي والشيخ عز الدين الموصلي وما ورد في بديعية العميان من القدر الذي استعملوه ليشاهد المتأمل في هذا الميدان مجرى السوابق فإن الشيخ صفي الدين جمع بين الجناس المركب والمطلق في بيت واحد وهو المطلع فقال
( إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم ... وأقر السلام على عرب بذي سلم )
والعميان لم يأتوا في البيت إلا بنوع واحد فقالوا في المركب
( دع عنك سلمى وسل ما بالعقيق جرى ... وأم سلعا وسل عن أهله القدم )
(1/66)
________________________________________
وقالوا في الجناس المطلق
( جار الزمان فكفوا جوره وكفوا ... وهل أضام لدى عرب على أضم )
( فالمطلق ف أضام وأضم وأما جار وجور فمشتق ولكن لم يخف ما في البيتين من الثقل مع خفة الالتزام وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
(1/67)
________________________________________
( فحيي سلمى وسل ما ركبت بشذا ... قد أطلقته أمام الحي عن أمم )
فالشيخ أتى بالنوعين في بيت واحد وورى بالاسمين من جنس الغزل ومع ذلك تلطف وتضاءل عليهم واحتشم وبيتي تقدم ذكره ولكن دعت الضرورة إلى ذكره هنا حسب المرسوم وهو
( بالله سر بي فسربي طلقوا وطني ... وركبوا في ضلوعي مطلق السقم )
وفي تسمية النوع هنا ما يغني عن التنبيه عليهما
وقد تقدم الشرح على كل واحد منهما والشيخ صفي الدين والعميان لم يثقل التقييد بتسمية النوع لهم كاهلا مع أن يكون مورى به من جنس الغزل وشتان بين عالم الإطلاق والتقييد بضيق هذا الخناق لأن الرقيق لم يقم له سوق بل يصدق إذا ما ادعى عتقه والله المسؤول أن يقيم لنا سوق القبول في متاجر الرقة فإن الشيخ صفي الدين قال في خطبته مع إطلاق قياده فانظر أيها العالم الأديب إلى غزارة الجمع وهي ضمن الرياقة في السمع ثم قال بعد ذلك
( ودع كل صوت غير صوتي فإنني ... أنا الصائح المحكي والآخر الصدى )
ذكر الجناس الملفق
( ورمت تلفيق صبري كي أرى قدمي ... يسعى معي فسعى لكن أراق دمي )
حد الملفق أن يكون كل من الركنين مركبا من كلمتين وهذا هو الفرق بينه وبين المركب وقل من أفرده عنه وغالب المؤلفين ما فرقوا بينهما بل عدوا كل واحد منهما مركبا إلا الحاتمي وابن رشيق وأمثالهما ولعمري لو سموا الملفق مركبا والمركب ملفقا
(1/67)
________________________________________
لكان أقرب إلى المطابقة في التسمية لأن الملفق مركب في الركنين والمركب ركن واحد كلمة مفردة والثاني مركب من كلمتين وهذا هو التلفيق وما ألم بالملفق أحد من أصحاب البديعيات غير الشيخ صفي الدين الحلي وما ذاك إلا أنه قال في خطبة بديعيته أنها نتيجة سبعين كتابا في هذا الفن وهذا دليل على إنه لما عارضه الشيخ عز الدين والتزم تسمية الأنواع التي ذكرها الشيخ صفي الدين لم يجد بدا من نظمه لأجل المعارضة ولكن نحت فيه بيتا من الجبال وسيأتي
وأما العميان فإنهم عدوه في بديعيتهم في المركب فاختصرته هنا وكذلك بقية أبياتهم في أنواع الجناس تعين اختصارها فإنهم لم يأتوا في البيت إلا بالنوع الواحد
ومن الملفق في النظم قول الشاعر
( وكم لجباه الراغبين إليه من ... مجال سجود في مجالس جود )
وما ألطف ما قال القاضي أبو علي عبد الباقي بن أبي حصين في هذا النوع وقد ولي القضاء بالمعرة وهو ابن خمس وعشرين سنة وأقام في الحكم خمس سنين وهو
( وليت الحكم خمسا وهي خمس ... لعمري والصبا في العنفوان )
( فلم تضع الأعادي قدر شاني ... ولا قالوا فلان قد رشاني )
وما أحلى قول الشيخ شرف الدين بن عنين في هذا الباب
( خبروها بأنه ما تصدى ... لسلو عنها ولو مات صدا )
ويعجبني قوله بعد المطلع
( وسلوها في زورة من خيال ... إن تكن لم تجد من الهجر بدا )
وبيت الحلي في الملفق
( فقد ضمنت وجود الدمع من عدم ... لهم ولم أستطع مع ذاك منع دمي )
ولم يمكن الشيخ صفي الدين أن يحصر مع الملفق غيره من أنواع الجناس في بيت واحد لما تقدم من صعوبة مسلكه وهو عزيز الوقوع ولكن له رونق وموقع في الذوق لطلاوة تركيبه وغرابة أسلوبه وبيت الشيخ صفي الدين في غاية الرقة والانسجام
(1/68)
________________________________________
غير أن التحريف حكم عليه فصار مشوشا والمشوش كل جنس تجاذبه طرفان من الصنعة فلا يمكن إطلاق أحدهما على الآخر وبيت صفي الدين تجاذبه المحرف والملفق انتهى
وبيت الشيخ عز الدين
( ملفق ظاهر سرى وشان دمي ... لما جرى من عيوني إذ وشى ندمي )
هذا البيت فيه الجناس الملفق على الصنعة وتسميته على الشروط المذكورة ولكن عجزت لعقادة تركيبه عن الطيران بأجنحة الفهم لا أحوم له على معنى ونظرت بعد ذلك في شرحه فوجدته قد قال إن لفظة ملفق صفة للجار والمجرور في قوله فحيي سلمى وسل ما ركبت بشذا يعني إن الشذا الذي أطلقته سلمى أمام الحي كان ملفقا وبيتي المسؤول له من الله السلامة
( ورمت تلفيق صبري كي أرى قدمي ... يسعى معي فسعى لكن أراق دمي )
والكلام في رقة قولي ورمت تلفيق صبري إلخ البيت إنما وقع من أصحاب الغراميات لا من أصحاب البديعيات وقد تقدم قولي إن الفرقة الناجية من التعسف والتكلف في النظم لم ترض بالجناس إذا أمكنت التورية وقال المقر المرحومي الفخري في التورية التي سماها جناسا ملفقا
( إن الهواءين يا معشوق قد عبثا ... بالروح والجسم في سري وفي علني )
( فالروح تفديك بالممدود قد تلفت ... والجسم حوشيت بالمقصور فيك فني )
وأنشدني من لفظه لنفسه علامة عصره الشيخ بدر الدين الدماميني
( تدري لماذا أتاك قلبي ... في عسكر الوجد وهو ذائب )
( أذنب ثم اختشى فوافى ... من ذلك الذنب فيك تائب )
وأنشدني من لفظه لنفسه الكريمة أحد أعيان العصر ابن مكانس
( كمال أوصافي يا منيتي ... في الحب أن أصبحت مثل الخلال )
( وملت من سكر الهوى نشوة ... فارحم معنى مغرما فيك مال )
(1/69)
________________________________________
ومن نظمي في هذا النوع الغريب
( رأت حياة شبابي قد قضت أجلا ... والسقم قد زاد لما قل مصطبري )
( قالت سرقت نحول الخصر قلت لها ... ما يحمل الشيخ هذا وهو في كبري )
انتهى والله عز و جل أعلم
الجناس المذيل واللاحق
( وذيل الهم همل الدمع لي فجرى ... كلاحق الغيث حيث الأرض في ضرم )
المذيل اختلف جماعة المؤلفين في اسمه ولم يتقرر له أحسن من هذه التسمية فإن فيها مطابقة للمسمى وما ذاك إلا أن المذيل هو ما زاد أحد ركنيه على الآخر حرفا في آخره فصار له كالذيل وهو الفرق بينه وبين المطرف ويأتي الكلام على المطرف في موضعه فالمذيل كقول كعب بن زهير
( ولقد علمت وأنت خير عليمة ... أن لا يقربني الهوى لهوان )
وما ألطف من قال
( وسألتها بإشارة عن حالها ... وعلي فيها للوشاة عيون )
( فتنفست صعدا وقالت ما الهوى ... إلا الهوان فزال عنه النون )
( ومنه قول أبي تمام
( يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب )
وقال آخر
( عذيري من دهر موار موارب ... له حسنات كلهن ذنوب )
(1/70)
________________________________________
ومن النثر فلان حام حامل لأعباء الأمور كاف كافل لمصالح الجمهور
ومثله فلان سأل عن إخوانه سالم من زمانه ومن غراميات البها زهير في الجناس المذيل قوله من قصيدة
( أشكو وأشكر فعله ... فاعجب لشاك منه شاكر )
( طرفي وطرف النجم فيك ... كلاهما ساه وساهر )
ولم يخرج عما نحن فيه قوله منها
( يا ليل بدرك حاضر ... يا ليت بدري كان حاضر )
( حتى يبان لناظري ... من منهما زاه وزاهر )
وما أحلى ما ختم القصيدة بقوله
( بدري أرق محاسنا ... والفرق مثل الصبح ظاهر )
وقد تأتي الزيادة في آخر المذيل بحرفين كقول حسان بن ثابت
( وكنا متى يغزو النبي قبيلة ... نصل جانبيه بالقنا والقنابا )
ومنه قول النابغة
( لها نار جن بعد أنس تحولوا ... وزال بهم صرف النوى والنوائب النوائب )
ومنه في رثاء قوله
( فيا لك من حزم وعزم طواهما ... جديد الردى تحت الصفا والصفائح )
وأرق ما سمعته في هذا الباب قول القائل
( إن البكاء هو الشفاء ... من الجوى بين الجوانح )
انتهى الكلام على الجناس المذيل وأما اللاحق فقل من فرق بينه وبين المضارع والمراد بالمضارع هنا المشابه والفرق بينهما دقيق فإن اللاحق هنا ما أبدل من أحد ركنيه حرف من غير مخرجه ومتى كان الحرف المبدل من مخرج المبدل منه
(1/71)
________________________________________
سمي مضارعا وإن كان قريبا منه كان مضارعا أيضا وأنا أذكر شاهد كل منهما فإن الفرق بينهما يدق عن كثير من الأفهام ولم يساعده على ظلمة شكه غير ضياء الحسن
والمضارع هو المتشابه في المخرج كقوله تعالى وهو إلى الغاية التي لا تدرك ( وهم ينهون عنه وينأون عنه ) ومنه قوله ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة )
ومثله قول بعضهم البرايا أهداف البلايا
ومن النظم قول الشريف الرضي رحمه الله
( لا يذكر الرمل إلا حن مغترب ... له إلى الرمل أوطار وأوطان )
فاللام والراء والنون من مخرج واحد عند قطرب والجرمي وابن دريد والفراء
قال بعض أهل الأدب في كتاب راش سهامه بالعقوق ولوى ماله عن الحقوق
فالعين والحاء من مخرج واحد
ويعجبني قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في هذا الباب
( رق النسيم كرقتي من بعدكم ... فكأننا في حيكم نتغاير )
( ووعدت بالسلوان واش عابكم ... فكأننا في كذبنا نتخاير )
فالغين والخاء من مخرج واحد
انتهى الكلام على المضارع ومقاربه في مخارج حروفه على الأبدال واللاحق قد تقدم أنه ما أبدل من أحد ركنيه حرف من غير مخرجه كقوله تعالى ( فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر )
وكتب بعضهم في جواب رسالة وصل كتابك فتناولته باليمين ووضعته مكان العقد الثمين
ومن النظم قول البحتري وأجاد إلى الغاية
( عجب الناس لاعتزالي وفي الأطراف ... تلفى منازل الأشراف )
( وقعودي عن التقلب والأرض ... لمثلي رحيبة الأكناف )
( ليس عن ثروة بلغت مداها ... غير أني امرؤ كفاني كفافي )
(1/72)
________________________________________
فكفاني وكفافي هو اللاحق الذي لا يلحق
وهنا نكتة لطيفة تؤيد قول البحتري في بيته الأول وهو
( عجب الناس لاعتزالي وفي الأطراف ... تلفى منازل الأشراف )
قيل لبعضهم في أي موضع في القرآن الأطراف منازل الأشراف فقال في قوله تعالى ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ) فهذا أشرفهم وكان ينزل من أقصى المدينة والأطراف والأشراف مما نحن فيه
وما أحلى قول أبي هلال العسكري في اللاحق
( أراعي تحت حاشية الدياجي ... شقائق وجنة سقيت مداما )
( وإن ذكرت لواحظ مقلتيه ... حسبت قلوبنا مطرت سهاما )
( وإن مالت بعطفيه شمول ... سقانا من شمائله سقاما )
انتهى الكلام على الجناس اللاحق والفرق بينه وبين المضارع ومن الناس من يسمي كل ما اختلف بحرف تجنيس التصريف سواء كان من المخرج أو من غيره ولكن رأيت استجلاء الفرق أنور ولا يشترط أن يكون الإبدال في الأول ولا في الوسط ولا في الآخر فإن جل القصد الإبدال كيفما اتفق وبيت الشيخ صفي الدين يشتمل على المذيل واللاحق وهو
( أبيت والدمع هام هامل سرب ... والجسم في أضم لحم على وضم )
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( يذيل الدمع جار جارح بأذى ... كلاحق ماحق الآثار في الأكم )
قال شيخنا الشيخ شمس الدين الهيتي وقد تقدمت ترجمته لما أنشدته هذا البيت والذي قبله بعد حفظي لهما من المصنف بحماة لو عزا أحد هذين البيتين إلى الجان ما شككت في قوله
وبيت بديعيتي
(1/73)
________________________________________
( وذيل الهم همل الدمع لي فجرى ... كلاحق الغيث حيث الأرض في ضرم )
فالمذيل في هم وهمل واللاحق في غيث وحيث
الجناس التام والمطرف
( يا سعد ما تم لي سعد يطرفني ... بقربهم وقليل الحظ لم يلم )
أما الجناس التام فهو ما تماثل ركناه واتفقا لفظا واختلفا معنى من غير تفاوت في تصحيح تركيبهما واختلاف حركتهما سواء كانا من اسمين أو من فعلين أو من اسم وفعل فإنهم قالوا إذا انتظم ركناه من نوع واحد كاسمين أو فعلين سمي مماثلا وإن انتظما من نوعين كاسم وفعل سمي مستوفى وجل القصد تماثل الركنين في اللفظ والخط والحركة واختلافهما في المعنى سواء كانا من اسمين أو من غير ذلك فإن المراد أن يكون الجناس تاما على الصفة المذكورة من حيث هو أكمل الأنواع إبداعا وأسماها رتبة وأولها في الترتيب فمنه قول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه صولة الباطل ساعة وصولة الحق إلى الساعة
وقيل ما وقع في القرآن العظيم غير هذين الركنين وهو قوله تعالى ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة )
ولكن استخرج ابن حجر من القرآن جناسا آخر تاما عظيما وهو قوله تعالى ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) ( يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار )
ومن الشعر قول بعضهم وأجاد
( وسميته يحيى ليحيى فلم يكن ... إلى رد أمر الله فيه سبيل )
ومن ملح هذا النوع قول ابن الرومي
( للسود في السود آثار تركن بها ... وقعا من البيض يثني أعين البيض )
ومنه قول أبي الفتح البستي
( سما وحمى بني سام وحام ... فليس كمثله سام وحام )
(1/74)
________________________________________
أما أبو الفتح فإنه ثابر على استعمال الجناس كثيرا ولكن ما أعلم أنه نظم أحسن من هذا البيت وقد تجمل به نوع الجناس وكاد أن يكون تورية
وما أحسن قول المعري فيه وأحشمه
( لم نلق غيرك إنسانا يلاذ به ... فلا برحت لعين الدهر إنسانا )
ومطلع الشيخ صفي الدين في قصيدته البائية التي عارض بها المتنبي وامتدح بها السلطان الملك الناصر سقى الله عهده حسن في هذا الباب وهو
( أسبلن من فوق النهود ذوائبا ... فتركن حبات القلوب ذوائبا )
ومن محاسنها
( عاتبته فتضرجت وجناته ... وازور ألحاظا وقطب حاجبا )
( فأذابني الخد الكليم وطرفه ... ذو النون إذ ذهب الغداة مغاضبا )
ومطلع قصيدة ابن نباتة التي امتدح بها الملك الأفضل صاحب حماة غاية في هذا النوع وقد عارض أبا الطيب المتنبي ولكن أتى فيها بما لو سمعه أبو العلاء لرجع عن ديوان أحمد وأقر بمعجزات محمد
فمطلع المتنبي
( أرق على أرق ومثلي يأرق ... وجوى يزيد وعبرة تترقرق )
ومطلع ابن نباتة
( ما بت فيك بدمع عيني أشرق ... إلا وأنت من الغزالة أشرق )
ولأجل إطنابي في هذه القصيدة تعين إيراد شيء من محاسنها هنا
فمنها
( أنفقت عيني في البكاء وحبذا ... عين على مرأى جمالك تنفق )
( وتكاثرت في الجفن أنجم أدمعي ... فكأن غرب الجفن مني مشرق )
(1/75)
________________________________________
( وأخافني فيك العذول وما درى ... أني لجورك في الهوى أتشوق )
( قسما بمن جعل الأسى بك لذة ... والدمع راحة من يحب ويعشق )
( إن العذول هو الغبي وإن من ... يفني عليك حياته لموفق )
( لي من نصيب هواك سهم وافر ... وسهام سحر من جفونك ترشق )
( يمتار من دمعي عليك ذووا البكا ... فاعجب له من سائل يتصدق )
( ولقد سقيت بكأس فيك مدامة ... في غيظ عذالي عليك فلا سقوا )
( وضممت من عطفيك غصن ملاحة ... بالحلي يزهر والغلائل يورق )
( وقرأت من خديك بعد تأمل ... خطابه حب القلوب معلق )
( ورزقت من جفنيك ما حسد الورى ... حظي عليه وهو رزق ضيق )
( ونعمت باللذات وهي جديدة ... ولبست ثوب الراح وهو معتق )
( في ليل أفراح كأن هلاله ... للشرب ما بين الندامى زورق )
( حتى استطال الفجر يطعن في الدجى ... فهو السنان أو العدو الأزرق )
( يا حبذا ليل نبيع به الكرى ... لكننا لا عن رضا نتفرق )
( حيث الشباب إلى المسرة راكض ... لا يستقر وطالب لا يرفق )
( ما سرني أن الكميت يحثها ... نحوي السقاة وأن فودي أبلق )
( زار الضنا ونأى الحبيب وعادني ... أرق على أرق ومثلي يأرق )
والعذر عن طول ما أوردته واضح لغرابة أسلوبها غزلا ومدحا
منها في المدح
( قوم لذكراهم على صحف العلا ... أصل الفخار وكل ذكر ملحق )
( الملك بعض ديارهم فلينزلوا ... والنجم بعض جدودهم فليرتقوا )
( إن يسجع الدين الحنيف بمدحهم ... فلأنه بأبي الفتوح مطوق )
( أو يبق ماضيهم على سنن الوفا ... فلأنهم ببقاء أفضلهم بقوا )
( ملأت مواهبه القلوب مهابة ... فالقلب قبل الطرف فيها مطرق )
(1/76)
________________________________________
( وكأنما أقلامه بسوادها ... غربان بين في الخزائن تنعق )
( لا عيب فيه سوى العزائم قصرت ... عنها الكواكب وهي بعد تحلق )
منها
( يا أيها الملك المكمل فضله ... وقيت من حدق إليك تحدق )
( وبقيت للمداح تجلب عيسهم ... جلبا بغير بلادكم لا ينفق )
( أذكرتنا زمن المؤيد لا عدت ... مثواه باكية الغمامة تشهق )
( حتى تجر به ذيول حديقة ... أكمامها بيد النسيم تفتق )
منها
( وبديعة كالروض إلا أنها ... تجلى بجارحة السماع وتنشق )
( نظمتها عقدا بدون مثاله ... في النظم شاب من الوليد المفرق )
( لا فضل لي فيها وبحرك قاذف ... درر الصفاء يقول للناس انفقوا )
( من عش بيتك قد درجت فطار لي ... في الخافقين جناح ذكرك يخفق )
( ولكم علقت من القريض صناعة ... ما كنت لولاكم بها أتعلق )
( لكم الولا مني لأن نداكم ... في كل حادثة لفقري يعتق )
ومن مطالعي في الجناس التام قولي
( يا طيب الأخبار يا ريح الصبا ... يا من إليه كل قلب قد صبا )
وهذه القصيدة كتبت بها من القاهرة المحروسة سنة اثنتين وثمانمائة إلى القاضي تاج الدين بن البارزي صاحب دواوين الإنشاء الشريف تشوقا إليه وإلى حماة المحروسة وقلت بعد المطلع أخاطب النسيم بما هو أرق منه
( يا صادق الأنفاس يا أهل الذكا ... يا طاهر الأذيال كم لك من نبا )
(1/77)
________________________________________
( يا من نراه عبارة عن حاجر ... يا روح نجد مرحبا بك مرحبا )
( يا نسمة الخير الذي من طيبه ... نتنشق الأخبار عن تلك الربا )
( بالله إن رنحت ذيلك بالحمى ... ووردت شعبا من دموعي معشبا )
( وهززت فيه كل عود أراكة ... أضحى بهاتيك الثغور مطيبا )
( ولثمت من ثغر الأقاحي مبسما ... أبدى بدر الطل ثغرا أشنبا )
( ودخلت كل خباء زهر قد غدا ... بدموع أجفان الغمام مطنبا )
( وطرقت حي العامرية ظامئا ... فنعمت في الوادي بريا زينبا )
( وحملت من نشر الخزامى نقحة ... مشمولة بالطيب من ذاك الخبا )
( عج بالعذيب فإن محجر عينه ... أضحى لما حملته مترقبا )
( واصحب عبير المسك منه فإنه ... لشوارد الغزلان أضحى مشربا )
( وإذا تنسمت الشذا وتعطرت ... منك الذيول وطبت يا ريح الصبا )
( عرج على وادي حماة بسحرة ... متيمما منه صعيدا طيبا )
( واحمل لنا في طي بردك نشره ... فبغير ذاك الطيب لن نتطيبا )
( واسرع إلي وداو في مصر به ... قلبا على نار البعاد مقلبا )
( لله ذاك السفح والوادي الذي ... ما زال روض الأنس فيه مخصبا )
( وأنعم بمصر نسبة لكن أرى ... وادي حماة ولطفه لي أنسبا )
( أرض رضعت بها ثدي شبيبتي ... ومزجت لذاتي بكاسات الصبا )
( يا ساكني مغنى حماة وحقكم ... من بعدكم ما ذقت عيشا طيبا )
( ومهالك الحرمان تمنع عبدكم ... من أن ينال من التلاقي مطلبا )
( وإذا اشتهيت السير نحو دياركم ... قرأ النوى لي في الأواخر من سبا )
( وقد التفت إليك يا دهري يطول ... تعتبي ويحق لي أن أعتبا )
( قررت لي طول الشتات وظيفة ... وجعلت دمعي في الخدود مرتبا )
( وأسرتني لكن بحق محمد ... يا دهر كن في مخلصي متسببا )
(1/78)
________________________________________
( فمحمد ومدينة قد حلها ... لم ألق غيرهما لقلبي مطلبا )
( مولى إذا قصد الزمان بلحنه ... خفضي غدا عن رفع قدري معربا )
( ذو رتبة نصب السعود بيوتها ... من فوق هام الفرقدين وطنبا )
( وفضائل أمست على حلل العلوم ... برقمها الزاهي طرازا مذهبا )
( وكتابة منسوبة لكن إلى ... عين الكمال وحقها أن تنسبا )
( وإذا تسنم ذروة من منبر ... لخطابة فابن الخطيب هنا هبا )
( من بيت فضل قد علت طبقاته ... وأراه للعلم الشريف مبوبا )
( وإذا وقفت لحاجة في بابه ... تلقاه بابا للنجاح مجربا )
( يا كاتب الأسرار يا من فضله ... قد جمل الدنيا وزان المنصبا )
( أقلامك السمر الرشاق إذا انثنت ... أغنت نهار الخطب عن بيض الظبا )
( سود العيون كأنما ألحاظها ... قد كحلت بسواد أحداق الظبا )
( لكن إلى وجه الطروس إذا رنت ... أبدت لنا سحرا حلالا طيبا )
( وسرى نسيم الذوق في قصباتها ... فغدا بها بين الأنام مشيبا )
( فلأجل ذا إن رجعت أقوالها ... لم نلق إلا مرقصا أو مطربا )
رجع إلى ما كنا فيه من الجناس التام ومن نظمي فيه أيضا مع زيادة التورية
( طلبت تقبيل من أحب وقد ... أنكرت في الخد نقطة حسنه )
( فرق لي قلبه وقال إذا ... لثمت خدي لا تنكر الحسنه )
انتهى الكلام على الجناس التام وقد تقدم قولي إن جميع ما نهلت من شرابهم الصافي لم يرضوا بالجناس التام إذا أمكن استدراك التورية من ركنيه لعلمهم بعلو رتبتها عنه والتفات الأذواق الصحيحة السليمة إلى حسن موقعها وإذا راجعت النظر في كلامهم وجدت غالب ما نظموه من التورية جناسا تاما فمن ذلك قول الشيخ صدر الدين ابن الوكيل من دو بيت
(1/79)
________________________________________
( كم قال معاطفي حكتها الأسل ... والبيض سرقن ماحوته المقل )
( والآن أوامري عليهم حكمت ... البيض تحد والقنا تعتقل )
ففي تحد وتعتقل جناسان تامان إذا أبطلت الاشتراك وأبرزت كلا من الركنين في موضعه على طريق من له رغبة في الجناس ومثله قول محيي الدين بن عبد الظاهر في كوز
( وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا قلب )
( إذا استولى على حب ... فقل ما شئت في الصب )
ومثله قول بدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي
( تعشقته لدن القوام مهفهفا ... شهي اللمى أحوى المراشف أشنبا )
( وقالوا بدا حب الشباب بوجهه ... فيا حسنه وجها إلي محببا )
ومثله قول الشيخ شرف الدين الأنصاري شيخ شيوخ حماة
( لنا من ربة الخالين جاره ... تواصل تارة وتصد تارة )
( تعاملني بما يحلو وتلوي ... ولكن ليس في جوفي مراره )
ومثله قول الشيخ ظهير الدين البارزي سقى الله ثراه
( يا لحية الحب التي ... طال لها تلفتي )
( هل أنت مسك الترك أو ... هل أنت مسك نبتي )
ومثله قول الشيخ علاء الدين الوداعي
( أثخنت عينها الجراح ولا إثم ... عليها لأنها نعساء )
( زاد في عشقها جنوني فقالوا ... ما بهذا فقلت بي سوداء )
(1/80)
________________________________________
ومثله قول لسان الدين بن الخطيب
( جلس المولى لتسليم الورى ... ولفصل البرد في الجو احتكام )
( فإذا ما سألوا عن يومنا ... قلت هذا اليوم برد وسلام )
ومثله قول الشيخ سراج الدين الوراق فيمن بخل بالراح والتورية ثلاثية وهو
( لا تطمعن براحة من معشر ... سادوا بغير مآثر السادات )
( قطعت عن المعروف أيديهم وقد ... سرقوا العلا فخلت من الراحات )
ومثله قول نصير الدين الحمامي
( لي منزل معروفه ... ينهل غيثا كالسحب )
( أقبل ذا العذر به ... وأقبل الجار الجنب )
ومثله قول شهاب الدين الحاجبي
( له عين لها غزل وغزو ... مكحلة ولي عين تباكت )
( وحاكت في فعائلها المواضي ... فيا لك مقلة غزلت وحاكت )
ومثله قول ابن الوردي
( قالت إذا كنت ترجو ... وصلي وتخشى نفوري )
( صف ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري )
ومثله قول ابن الصائغ
( هجرت فأحشائي لذاك توقدت ... جمرا وليست في المحبة فاتره )
( هذا وتحرمني الثقيل الهوى ... من ذا الذي يرضى بنار الهاجره )
ومثله قول ابن نباتة في الملك المؤيد صاحب حماة
( لنا ملك قد قاسمتنا هباته ... فنثر العطا منه ونظم الثنا منا )
( يذكرنا أخبار معن بجوده ... وننشي له لفظا فينشي لنا معنى )
(1/81)
________________________________________
ومثله قوله وهو أعدل شاهد في هذا الباب
( دمعي عليك مجانس قلبي ... فانظر على الحالين في الصب )
فذكر التجانس هنا أحد لازمي التورية والدمع هو اللازم الآخر وقد نبهنا الشيخ جمال الدين على أنه لم يرض بالجناس ويؤيد ذلك قوله على الحالين ومنه قول القيراطي
( أباح لي نرجس ألحاظه ... في مجلس ما فيه ما نكره )
( فقلت ورد الخد جد لي به ... أيضا فقال الكل في الحضره )
ومثله قول بدر الدين بن الصاحب
( فتنت بنبت من عوارض خده ... فها أنا في قيد الغرام أسير )
( وما كان لي بالعشق قط تعلق ... ولا بالهوى قبل العذار شعور )
ومثله قول صلاح الدين الصفدي
( إن لم تصدقني تصدق بالكرى ... ليزورني فيه الخيال الزائل )
( وانظر إلى فقري لوصلك واغتنم ... أجري وقل للدمع قف يا سائل )
ومثله قول ابن أبي حجلة
( يا صاح قد حضر الشراب ومنيتي ... وحظيت بعد الهجر بالإيناس )
( وكسا العذار الخد حسنا فاسقني ... واجعل حديثك كله في الكاس )
وما أظرف قول يحيى الخباز الحموي
( أصبحت في العالم أعجوبة ... عند ذوي المعقول والفهم )
( جدي حموي فاسمعوا واعجبوا ... وما كفى حتى أبي أمي )
ومثله قول المعمار
( قد بت من كربي لفقد النسا ... أفور كالتنور من ناريه )
( وقد طغى الماء فمن لي بأن ... أحمل بالجود على جاريه )
(1/82)
________________________________________
ومثله قول الشيخ شرف الدين حسن المشهور بالزغاري
( قيل لي إذا رأيت أقمار تم ... عن بدور السماء للطرف تلهي )
( أي وجه أضناك قلت دعوني ... فسقامي قد صح من كل وجه )
ومثله قول عز الدين الموصلي
( حديث عذار الحب باد وساقه ... له أوجه تبدي لقلبي اشتياقه )
( درى أننا نصغي إلى الحسن دائما ... فأبدى لنا ذاك الحديث وساقه )
ومثله قول ابن مكانس
( يقول معذبي إذ همت فيه ... بخد خلت فيه الشعر نملا )
( أتعرف خده للعشق أهلا ... فقلت له نعم أهلا وسهلا )
وأنشدني من لفظه لنفسه بقية السلف وما كان للفروع النباتية نعم الخلف الشيخ زين الدين أبو بكر بن العجمي عين كتاب الإنشاء الشريف بالديار المصرية وقد تمثلت بين يديه بالقاهرة المحروسة سنة إحدى وثمانمائة وطالبته بشيء من لفظه في المواليا فإنه كان إمام فنونه المتشعبة فقال
( للحب قالوا معناك الذي أذبلتو ... جدلو بقبلة فقلبو فيك خبلتو )
( فقال أقسم لو أن البوس سبلتو ... ومات للشرق مادرتو وقبلتو )
ومنه قول ابن خطيب داريا
( تقول وقد أتتني ذات يوم ... مخبرة عن الظبي الجموح )
( يسرك أن أروح إليه أجري ... فقلت لها خذي مالي وروحي )
ومنه قول بدر الدين الدماميني
( قم بنا نركب طرف اللهو ... سبقا للمدام )
( واثن يا صاح عناني ... لكميت ولجام )
(1/83)
________________________________________
ومثله قول ابن حجر
( سألوا عن عاشق في ... قمر باد سناه )
( أسقمته مقلتاه ... قلت لا بل شفتاه )
ومثله قولي
( عاتبته ودموعي غير جارية ... لأن دمعي من طول البكا نشفا )
( فقال لم أر وكف الدمع قلت له ... حسيبك الله يا بدر الدجى وكفى )
ولم أستطرد إلى هذا إلا لتأييد قولي إن جميع من نسجت على منوالهم لم يرضوا بالجناس التام إذا أمكنت التورية التامة وصبح الفرق بينهما بحمد الله ظاهر وبدر مثاله في ليالي السطور سافر
انتهى ما أوردته من محاسن التورية التامة ووجوب تقديمها على الجناس التام إذا كان عند الناظم يقظة وكان ممن يميل إلى هذا المذهب
وأما الجناس المطرف فهو ما زاد أحد ركنيه على الآخر حرفا في طرفه الأول وهذا هو الفرق بينه وبين المذيل فإن الزيادة في المذيل تكون في آخره وأما المطرف فتكون زيادته في أوله لتصير له كالطرف ويسمى الناقص والمردف وفي تسميته اختلاف كثير ولكن مطابقة المطرف في التسمية طرفة كقوله تعالى ( والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق )
والزيادة تارة تكون في أول الركن الثاني كما تقدم وتارة في أول الركن الأول كقول أبي الفتح البستي
( أبا العباس لا تحسب بأني ... بشيء من حلى الأشعار عاري )
( فلي طبع كسلسال معين ... زلال من ذرى الإحجار جاري )
( إذ ما كبت الأدوار زندا ... فلي زند على الأدوار واري )
ومثله
( وكم سبقت منه إلي عوارف ... ثنائي على تلك العوارف وارف )
( وكم غرر من بره ولطائف ... فشكري على تلك اللطائف طائف )
(1/84)
________________________________________
ومثله قول القائل
( قام يسعى ما بين شرب أعزه ... من بني الترك أغيد فيه عزه )
وقصيدة هذا المطلع رأيتها في بعض التذاكر بخط الشهاب محمود ولم أعرف لها ناظما وأعجبني فيها أبيات منها
( يقظ ما يشير طرف إليه ... بمرام إلا ويعرف رمزه )
( كلما تفعل الصوارم تغني ... عنه ألحاظه المراض بغمزه )
ومن نظم ابن نباتة الذي جعله نفثا
( عطفت كأمثال القسي حواجبا ... فرمت غداة البين قلبا واجبا )
ومثله قولي
( والله ما هب النسيم بحاجر ... إلا ترقرق مدمعي بمحاجري )
انتهى الكلام على الجناس التام والمطرف وهما في بيت البديعية ظاهران وبيت صفي الدين الحلي قوله
( من شأنه حمل أعباء الهوى كمدا ... إذا هم شأنه بالدمع لم يلم )
وبيت عز الدين الموصلي
( مذ نم للعين أنس حين طرفها ... مرأى الحبيب ببذل العين لم يلم )
وبيتي
( يسعد ما تم لي سعد يطرفني ... بقربهم وقليل الحظ لم يلم )
وللمتأمل أن يستحلي ويستجلي ما يظهر في مرآة ذوقه ولا يميل عن جادة الإنصاف
الجناس المصحف والمحرف
( هل من يفي ويقي إن صحفوا عذلي ... وحرفوا وأتوا بالكلم في الكلم )
(1/85)
________________________________________
يفي ويقي فيهما جناس التصحيف ومنهم من يسميه جناس الخط وهو ما تماثل ركناه خطا واختلفا لفظا والمقدم في هذا قوله تعالى ( والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين ) ومنه قول النبي لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ( قصر ثوبك فإنه أنقى وأتقى وأبقى )
وقول النبي حين سمع رجلا ينشد على سبيل الافتخار وقيل سأله عن نسبه فقال
( إني امرؤ حميري حين تنسبني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر )
فقال له النبي ذلك والله ألأم لجدك وأقل لحدك ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو كنت تاجرا ما اخترت غير العطر إن فاتني ربحه لم تفتني ريحة ومنه قول القاضي الفاضل في بعض رسالاته فأنتم يا بني أيوب أيديكم آفة أنفس الأموال كما أن سيوفكم آفة أنفس الأبطال فلو ملكتم الدهر لامتطيتم لياليه أداهم وقلدتم بيض أيامه صوارم ووهبتم شموسه وأقماره دنانير ودراهم وأوقاتكم أعراس ومآتم إلا على الأموال فهي مآثم والجود خاتم في أيديكم ونفس حاتم نقش في ذلك الخاتم
وقال أهل الأدب خلف الوعد خلق الوعد والأربعة أركان بغير حشو وهو غاية في هذا الباب ومن النظم قول الشاعر
( فإن حلو فليس لهم مقر ... وإن رحلوا فليس لهم مفر )
ومثله قول أبي فراس
( من بحر جودك أغترف ... وبفضل علمك أعترف )
ولم أذكر هنا من جناس التصحيف إلا ذالنوع السالم من اختلاف الحركة بالتحريف فإنه إذا اجتمع فيه النوعان صار مشوشا كقول الحريري زينت زينب بقد يقد
فهذا فيه التحريف والتصحيف
وقد تقدم أن الركنين إذا تجاذبهما نوعان من التجنيس ولم يخلصا لواحد كان الجناس مشوشا ومثله قول أبي تمام في حده الحد بين الجد واللعب
ومن المصحف السالم ما كتبت به إلى المقر المخدومي فخر الدين بن مكانس في رسالتي التي ذكرت فيها حريق دمشق وهو وأضحت أوقات الربوة بعد ذلك العيش
(1/86)
________________________________________
الخضل واليسر عسيره ولقد كان أهلها في ظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة فعبس بعد ذلك ثغر روضها الباسم وضاع من غير تورية عطره الناسم
ومن غراميات البهاء زهير ولطائفه في الجناس المصحف قوله
( وليس مشيبا ما ترون بعارضي ... فلا تمنعوني أن أهيم وأطربا )
( وما هو إلا نور ثغر لثمته ... تعلق في أطراف شعري فألهبا )
( وأعجبني التجنيس بيني وبينه ... فلما تبدى أشنبا رحت أشيبا )
وما أظرف قول شمس الدين بن العفيف وقد كنى بأحد الركنين عن الآخر وهو
( يا ذا الذي صد عن محب ... فيه أذاب الغرام قلبه )
( مالك في الهجر من دليل ... لكن هذي علو قبه )
ولم يطالب فيه بالتشويش لظرافته ولطافته
( انتهى الكلام على الجناس المصحف
وأما قولي وحرفوا وأتوا بالكلم في الكلم فهذا جناس التحريف وهو ما اتفق ركناه في عدد الحروف وترتيبها واختلفا في الحركات سواء كانا من اسمين أو فعلين أو من اسم وفعل أو من غير ذلك فإن القصد اختلاف الحركات كما تقرر والمقدم فيه وهو الغاية التي لا تدرك قوله تعالى ( ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين )
ولا يقال إن اللفظين متحدان في المعنى لأنهما من الأنذار فلا يكون بينهما تجنيس فاختلاف المعنى ظاهر إذ المراد بالأول الفاعلون وهم الرسل وبالثاني المفعولون وهم الذين وقع عليهم الإنذار وقول النبي ( اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي )
ومثله قولهم جبة البرد جنة البرد ومثله قولهم رطب الرطب ضرب من الضرب ومنه قول القاضي الفاضل لا زالت الملوك ببابه وقوفا والأقدار له سيوفا والخلق له في دار الدنيا ضيوفا ودين دين الحق إذا جردوا لتقاضيه سيوفا سيوفي
ومن النظم قول أبي تمام
( هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام )
(1/87)
________________________________________
وما أحلى قول أبي العلاء المعري
( لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل )
ومثله قول ابن الفارض رحمه الله تعالى
( هلا نهاك نهاك عن لوم امرئ ... لم يلف غير منعم بشقاء )
ومثله قول الشيخ عبد العزيز شيخ شيوخ حماة
( لعيني كل يوم فيه عبرة ... تصيرني لأهل العشق عبره )
وغاص هو والقاضي الفاضل في هذا البحر وأظهرا من هذا الروي جواهر العقود فمن قصيد شيخ الشيوخ بحماة
( إذا غفل الوشاة بعثت دمعي ... فيغدو مرسلا من غير فتره )
( علامة شقوتي في الحب إني ... ثقلت عليك لا من طول عشره )
( سألزم باب خمار الثنايا ... ليطلق لي ولو في العمر سكره )
وظريف هنا قول الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف من قصيدة
( لا أجازي حبيب قلبي بظلمه ... أنا أحني عليه من قلب أمه )
( جوره مثل عدله عند من يهواه ... مثلي وظلمه مثل ظلمه )
وما أظرف قول الصاحب بهاء الدين زهير من غرامياته في هذا النوع
( زها ورد خديك لكنه ... بغير النواظر لم يقطف )
( وقد زعموا أنه مضعف ... وما علموا أنه مضعفي )
وأورد الشيخ كمال الدين الدميري في كتابه المسمى بحياة الحيوان عندما انتهى إلى ذكر المها أبياتا تعجبني في هذا الباب أولها تام وآخرها مطرف وباقي الأبيات تحريفها تمتزج بالأذواق حلاوته المعتدلة والأبيات لجميل بثينة
( خليلي إن قالت بثينة ما له ... أتانا بلا وعد فقولا لها لها )
(1/88)
________________________________________
( أني وهو مشغول لعظم الذي به ... ومنه بات طول الليل يرعى السهاسها )
( بثينة تزري بالغزالة في الضحى ... إذا برزت لم تبق يوما بها بها )
( لها مقلة كحلاء نجلاء خلقة ... كأن أباها الظبي أو أمها مها )
( دهتني بود قاتل وهو متلفي ... وكم قتلت بالود من ودها دها )
ويعجبني قول من قال إن الصديق الصدوق أول العقد وواسطة العقد
ومثله قولهم البدعة شرك الشرك
وما أحلى قول ابن نباتة
( قوامك تحت شعرك يا أمامه ... غدا لك حاملا علم الإمامه )
ولي مع زيادة التورية
( ولما أراني الشعر وهو مذيل ... وجانب ذاك الصدغ وهو مطرف )
( بدا بخمار من خمار بريقه ... فقلت لهم هذا الجناس المحرف )
انتهى الكلام على الجناس المصحف والمحرف ومنه بيت الشيخ صفي الدين الحلي
( من لي بكل غرير من ظبائهم ... غزير حسن يداوي الكلم بالكلم )
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي الحنبلي
( هل من تقي نقي حين صحف لي ... محرف القول زان الحكم بالحكم )
أما التصحيف والتحريف في هذا البيت فظاهران وأما المعنى فالسريرة عند الله
وبيتي
( هل من يقي ويفي إن صحفوا عذلي ... وحرفوا وأتوا بالكلم في الكلم )
الجناس اللفظي والمقلوب
( قد فاض دمعي وفاظ القلب إذ سمعا ... لفظي عذول ملا الأسماع بالألم )
(1/89)
________________________________________
أما اللفظي فهو النوع الذي إذا تماثل ركناه وتجانسا خطا خالف أحدهما الآخر بإبدال حرف منه فيه مناسبة لفظية كما يكتب بالضاد والظاء وشاهده قولي في البيت فاض وفاظ فإن الأول من فيض الماء والثاني من التلف وجاء في هذا النوع من القرآن العظيم ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) فالأول من النضارة والثاني من النظر وألحقوا به ما يكتب بالهاء والتاء كقولهم جبلت القلوب على معاداة المعادات وقيل هو حديث أو بالنون والتنوين كقول الأرجاني
( وبيض الهند من وجدي هواز ... بإحدى البيض من عليا هوازن )
أو بالألف والنون كقول الشاعر ابن العفيف
( أحسن خلق الله وجها وفما ... إن لم يكن أحق بالحسن فمن )
ولم ينظم هذا النوع غير الصفي وهو قليل جدا وأصعب مسالكه تركيبه بالضاد والظاء لأجل إبدال الحرف الذي فيه المناسبة اللفظية وقد تقدم قول الشيخ شمس الدين بن الصائغ أنه أورد في شرحه الذي سماه رقم البردة شيئا من محاسن الزجل على هذا النوع البديعي الذي أطلق عنان القلم في الكلام عليه
والزجل فن يتمكن الناظم فيه من المعاني لجولانه في ميادين الأغصان والخرجات وهو لا يحسن رسمه في الكتابة إلا من عرف اصطلاحه
وكان الشيخ علاء الدين بن مقاتل إذا ذكر الزجل كان ابن بجدته وأبا عذرته وممن سلمت إليه مقاليد هذا الفن
وأورد الشيخ صلاح الدين الصفدي له نبذة من غرر أزجاله في تذكرته وتاريخه تغني عن الإكثار في ترجمته وله في الجناس اللفظي زجل جانسه بالظاء والضاد لم يسبق إليه ومطلعه قوله
( إن مع معشوقي جفون ولحاظ ... لو رآهم عابد لهام وحاض )
( ومع أنوار من سحر عينيه إذا ... حفظوه باب أنساه صلا تودا )
( إن ماعو عيون فواتر حور ... في بحور ولدانها بواتر جفون )
( كيف لا يفتن عشاقو ذاك الفتور ... وعلى خده شامه بنقطة فنون )
( من نظرهم نظره بقي مسحور ... وكيف أنو ما ينسحر من عيون )
(1/90)
________________________________________
( يعتقدهم رقود وهم إيقاظ ... وجفون كل جفن بسيف أي قاض )
( يقضي فيمن بسر وباح وهذي ... حكمه ممن أضل ناس وهدى )
( حضرني لما أن يغيب عني ... في غيابو ياما بتحفظ فصول )
( حتى نوا يصير قريب مني ... ولو أنو يكون في ميدان يجول )
( إيش تضيق الدنيا على ذهني ... ولا يدري إيش كان يريد لو يقول )
( وأنسى ما قد حفظتو من الألفاظ ... ويضيق بي رحب المكان الفاض )
( ولا أطلب يومي شراب وغدا ... فأبقى سكران طول ليلتي وغدا )
( يا نسيم السحر على حبي ... بث مني طيب السلام كلو )
( لله وأوصيه بالعاشق المسبى ... وبقلبي ذاك الذي استلو )
( وإن تيسر لك أن ترى قلبي ... وأن يسل عن جسمي الضعيف قلو )
( أنو نخيل من بعدك إلى أن فاظ ... واغتسل مما من عيونو فاض )
( وعلى حذو الدارجين قد حذا ... وفي نايو حادي المنايا حدا )
( أذكراني في عتبو وخد البهار ... عصتو حتى وقف على ما حرا )
( وبقي هو يحمرونا بصفار ... ونوادر مني ومنو ترا )
( فلا تعجب من خد وكيف يحمار ... فوق ورد الخدود وتحتو جرا )
( ماء الحيا في وجناتو لما انغاظ ... ونشف ماء لوني إلى أن غاض )
( وما ينكر حالي وحالو فذا ... سر فيه ممن أنا لو فدا )
ونظمت في هذا النوع الغريب تورية فجاءت في غاية الحسن ولم أسبق إليها إلا من الشاب الظريف محمد بن العفيف كقوله
( عبتم من المحبوب حمرة شعره ... وأظنكم بدليله لم تشعروا )
( لا تنكروا ما أحمر منه فإنه ... بدماء أرباب الغرام مضفر )
وقولي
( خاطرت في عشقي له يا مهجتي ... لا تشغلي قلبي الحزين وخاطري )
( فالطرف شاهد منه ناضر قده ... فغدا يهيم بكل غصن ناضر )
(1/91)
________________________________________
وقولي
( مرج حماة بنوا غيره ... زاد على المقياس في روضته )
( واغتاظ نمروذ دمشق له ... فقلت لا أفكر في غيضته )
وقولي
( حضبت عزمي إليك شوقا ... فلم أطق مكثة بأرض )
( وحيث لم أحظ بالتلاقي ... فغايتي أن ألوم حضي )
انتهى الكلام على الجناس اللفظي وأما الجناس المقلوب وسماه قوم جناس العكس وهو الذي يشتمل كل واحد من ركنيه على حروف الآخر من غير زيادة ولا نقص ويخالف أحدهما الآخر في الترتيب كقوله تعالى حكاية عن هارون ( خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ) ومنه قول النبي ( يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارقأ )
وما ألطف ما أشار الصاحب بن عباد إلى الجناس المقلوب بقوله لأبي العباس بن الحرث في يوم قيظ وقد طلب مروحة الخيش ما يقول الشيخ في قلبه يعني الخيش ومروحة الخيش أحدثها بنو العباس وذكرها الحريري في المقامات وقال اسمعوا وقيتم الطيش وأنشد لغزا في مروحة الخيش
( وجارية في سيرها مشمعلة ... ولكن على أثر المسير قفولها )
( لها سائق من جنسها يستحثها ... على أنه في الاحتثاث رسيلها )
( ترى في أوان القيظ تنطف بالندى ... ويبدو إذا ولى المصيف فحولها )
وكان السبب في حدوث هذه المروحة إن هارون الرشيد دخل يوما على أخته علية بنت المهدي في يوم قيظ فألفاها وقد صبغت ثيابها من زعفران وصندل ونشرتها على الحبال لتجف فجلس هارون قريبا من الثياب المنشورة فصارت الريح تمر على الثياب فتحمل منها ريحا بليلة عطرة فوجد لذلك راحة من الحر واستطابه وأمر أن يصنع له مثل ذلك وقال ابن الشريشي في شرح المقامات وهذه المروحة شبه الشراع للسفينة تعلق بالسقف ويشد بها حبل وتبل بالماء وترش بالماورد فإذا أراد الرجل في القائلة
(1/92)
________________________________________
أن ينام جذبها بحبلها فتذهب بطول البيت وتجيء فيهب على النائم منها نسيم بارد رطب
اه
رجع إلى الجناس المقلوب فمنه قول بعضهم
( حكاني بهار الروض حين ألفته ... وكل مشوق للبهار مصاحب )
( فقلت له ما بال لونك شاحبا ... فقال لأني حين أقلب راهب )
وما أحلى قول ابن العفيف مع زيادة التورية
( أسكرني باللفظ والمقلة ... الكحلاء والوجنة والكاس )
( ساق يريني قلبه قسوة ... وكل ساق قلبه قاس )
وبديع هنا قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في الأمير شجاع الدين بهرام
( قيل كل القلوب من ... رهب الحرب تضطرب )
( قلت هذا تخرص ... قلب بهرام ما رهب )
وبيت عبد الله بن رواحة غاية في هذا النوع وقيل هو أمدح بيت قالته العرب فإنه من جملة مديح النبي وهو قوله
( تحمله الناقة الأدماء معتجرا ... بالبرد كالبدر جلى نوره الظلما )
وما أحلى قول القائل
( وألفيتهم يستعرضون حوائجا ... إليهم ولو كانت عليهم جوائحا )
ومثله
( إن بين الضلوع مني نارا ... تتلظى فكيف لي أن أطيقا )
( فبحقي عليك يا من سقاني ... أرحيقا سقيتني أم حريقا )
ومن الغايات في هذا الباب قول القائل
( لبق أقبل فيه هيف ... كل ما أملك إن غنى هبه )
(1/93)
________________________________________
فهذا البيت كل كلمة منه بانضمامها إلى أختها تجانسها في القلب وأعلى منه رتبة قول سيف الدين ابن المشد
( ليل أضاء هلاله ... أنى يضيء بكوكب )
وهذا البيت كل كلمة منه تقرأ مستوية ومقلوبة وهو مما لا يستحيل بالانعكاس كقول الحريري ساكب كاس وهذا النوع يأتي الكلام عليه في موضعه لأن المراد هنا جناس القلب وللشيخ علاء الدين بن مقاتل الحموي أيضا زجل في هذا النوع سارت به الركبان أنشده المصنف في حماة بحضرة الملك المؤيد والشيخ صفي الدين والشيخ جمال الدين بن نباتة فوقع في المجلس شيء إذا استوعبت الزجل كتابة علمته
( قلبي بحب تياه ... ليس يعشق إلا إياه ... فاز من وقف وحياه ... يرصد على محياه )
( بدر السما لو يطبع ... من رام وصالو يعطب )
( صغير بحير في أمرو ... غزال قهر بسمرو ... ليث الهوى ونمرو ... فاعجب لصغر عمرو )
( ريم ابن عشر وأربع ... أردى الأسود وأرعب )
( أذكر نهار تبعتو ... وروحي كنت بعتو ... وخيب ما فيه طمعتو ... فقال وقد سمعتو )
( ارجع ولا لي تتبع ... أخشى عليك لا تتعب )
( كم قدامو وخلفو ... مشيت مطيع لحلفو ... ورمت لثم كفو ... قال دع مناك وكفو )
( فإن لثم أصبع ... من الثريا أصعب )
( ما زلت لو نداري ... حتى حصل في داري ... ناديت ودمعي جاري إيش ... كان يصيب يا جاري )
( لو كنت من فيك أشبع ... قال إيش يكن لك أشعب )
( من حاز حسن خدو ... لحظو لقتلي حدو ... وورد خد وندو ... ما في الرياض شيء )
( روض الحيا مبرقع ... عليه ساج معقرب )
( من في الجمال فريدو ... للصب من وريدو ... يذبح ولو يزيدو ... وكم ذا شيخ مريدو )
( خلاه دموعو يبلع ... وهو بعقلو يلعب )
( كم خصم في المقاتل ... صابو ابن مقاتل ... وكم ذا في المحافل ... قد أنشالوا جحافل )
( من كل بيت مربع ... ملحون بألف معرب )
والشيء اللطيف الذي وقع في المجلس المشار إليه ووعدت بذكره ذكروا أن الشيخ علاء الدين بن مقاتل لما وصل إلى قوله ملحون بألف معرب صار الشيخ جمال
(1/94)
________________________________________
الدين بن نبانة ينظر إلى الشيخ علاء الدين بن مقاتل ويشير إلى الشيخ صفي الدين الحلي ويقول ملحون بألف معرب
والملك المؤيد يتبسم لذلك
اه
وإذا نظر المتأمل إلى بعض هذه الأحرف في رسم كتابة الزجل لا ينتقد فإن شرط رسمه أن يوضع كذا لأجل تحرير وزنه
انتهى الكلام على الجناس اللفظي والمقلوب وبيت الشيخ صفي الدين الحلي فيهما
( بكل قد نضير لا نظير له ... لا ينقضي أملي منه ولا ألمي )
وبيت الشيخ عز الدين
( لفظي حض على حظ يمانعه ... مقلوب معنى ملا الأحشاء من ألم )
وبيتي
( قد فاض دمعي وفاظ القلب إذ سمعا ... لفظي عذول ملا الأسماع بالألم )
انتهى والله أعلم
ذكر الجناس المعنوي
( أبا معاذ أخا الخنساء كنت لهم ... يا معنوي فهدوني بجورهم )
أما الجناس المعنوي فإنه ضربان تجنيس إضمار وتجنيس إشارة
ومنهم من سمى تجنيس الإشارة تجنيس الكناية وكل منهما مطابق التسمية
ولم ينظم الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته غير نوع الإضمار وهو أصعب مسلكا من جناس الإشارة ولا بد أن أنوع هذا الشرح بمحاسن النوعين فإن المعنوي طرفة من طرف الأدب عزيز الوجود جدا ولم يذكره الشيخ جلال الدين القزويني في التلخيص ولا في الإيضاح ولا ذكره ابن رشيق في العمدة ولا زكي الدين بن أبي الأصبع في التحرير ولا ابن منقذ في كتابه والعميان ذكروه في شرح بديعيتهم ولكن ما تيسر لهم نظمه وذكر الشهاب محمود في كتابه المسمى بحسن التوسل في صناعة الترسل منه نوع
(1/95)
________________________________________
الإشارة لا نوع الإضمار ولكن ما نظمه ولم يذكر نوع الإضمار في بديعيته غير الشيخ صفي الدين الحلي وقد تقدم القول أنه قال عن بديعيته إنها نتيجة سبعين كتابا في هذا الفن
وكان شيخنا قاضي القضاة علاء الدين بن القضامي رحمه الله يقول وهو إمام هذا العلم ما أعلم لبيت أبي بكر بن عبدون في إضمار الركنين ثانيا غير بيت الشيخ صفي الدين الحلي ولو لم يفتح ابن عبدون هذا الباب في بيته ما حصل للشيخ صفي الدين دخول إلى نظم هذا النوع
انتهى
والكلام على البيتين يأتي بعد تعريف النوع
فالمعنوي المضمر هو أن يضمر الناظم ركني التجنيس ويأتي في الظاهر بما يرادف المضمر للدلالة عليه فإن تعذر المرادف أتى بلفظ فيه كناية لطيفة تدل على المضمر بالمعنى كقول أبي بكر بن عبدون المشار إليه وقد اصطبح بخمرة ترك بعضها إلى الليل فصارت خلا
( ألا في سبيل اللهو كأس مدامة ... أتتنا بطعم عهده غير ثابت )
( حكت بنت بسطام بن قيس صبيحة ... وأمست كجسم الشنفري بعد ثابت )
فبنت بسطام بن قيس كان اسمها الصهباء والشنفري قال
( اسقنيها يا سواد بن عمرو ... إن جسمي من بعد حالي لخل )
والخل هو الرقيق المهزول فظهر من كناية اللفظ الظاهر جناسان مضمران في صهباء وصهباء وخل وخل وهما في صدر البيت وعجزه ومن هنا أخذ الشيخ صفي الدين الحلي وقال
( وكل لحظ أتى باسم ابن ذي يزن ... في فتكه بالمعنى أو أبى هرم )
فابن ذي يزن اسمه سيف وأبو هرم اسمه سنان فظهر له جناسان مضمران من كنايات الألفاظ الظاهرة فظهر قول شيخنا قاضي القضاة علاء الدين إن هذا الباب ما فتحه للشيخ صفي الدين غير ابن عبدون وكنت أود أن يكون شيخنا رحمه الله حيا ويراني قد عززتهما بثالث وهو
( أبا معاذ أخا الخنساء كنت لهم ... يا معنوي فهدوني بجورهم )
أبو معاذ اسمه جبل وأخو الخنساء اسمه صخر فظهر له من كنايات الألفاظ
(1/96)
________________________________________
الظاهرة أيضا جناسان مضمران في صدر البيت وهما جبل وجبل وصخر وصخر وبالنسبة إلى الجبل في الركن الواحد يحسن قولي فهدوني بجورهم وقد أظهرت محاسن هذا الجناس المضمر وكشفت عن جماله الباهر سطور الأشكال ليتمتع به صاحب الذوق السليم فإن فحول المتأخرين وقفوا عن المجاراة في حلبته ولم يتعلق أحد منهم إلا بأذيال الضرب الثاني وهو جناس الإشارة ويأتي الكلام عليه
ومن غريب ما يحكى أن الشيخ صلاح الدين الصفدي قال في شرح لامية العجم وفي كتابه المسمى بجنان الجناس لما اعترضه الجناس المعنوي قال هذا النوع عندي باطل ولم يتيسر له منه نظم بيت واحد مع كثرة تهافته على الجناس وأنواعه
والذي يظهر لي أنه عجز عن نظمه فإنه قال في غضون ذلك وقد استخرجت من شعر أبي الطيب المتنبي من الجناس المعنوي قوله
( حاولن تقريبي وخفن مراقبا ... فوضعن أيديهن فوق ترائبا )
وهذا دليل على أنه لم يفهمه
انتهى الكلام على الجناس المعنوي الذي يضمر فيه الركنان وما أخرت بيت الشيخ عز الدين الموصلي ونثرت نظم الترتيب الذي تقدم إلا لتنحيه عن نظم الجناس المعنوي المضمر الركنين وميله إلى جناس الإشارة لسهولة مأخذه فلم يبق لبيته طاقة على المناظرة لتحوله عن النوع الذي عارض فيه الشيخ صفي الدين والظاهر أنه قنع بقول القائل
( إذا منعتك أشجار المعالي ... جناها الغض فاقنع بالشميم )
والضرب الثاني من المعنوي وهو جناس الإشارة والكناية هو غير الأول وسبب ورود هذا النوع في النظم أن الشاعر يقصد المجانسة في بيته بين الركنين من الجناس فلا يوافقه الوزن على إبرازهما فيضمر الواحد ويعدل بقوته إلى مرادف فيه كناية تدل على الركن المضمر فإن لم يتفق له مرادف الركن المضمر يأتي بلفظة فيها كناية لطيفة تدل عليه وهذا لا يتفق في الكلام المنثور والذي يدل عليه المرادف قول امرأة من عقيل وقد أراد قومها الرحيل عن بني ثهلان وتوجه منهم جماعة يحضرون الإبل وهو
( فما مكثنا دام الجمال عليكما ... بثهلان إلا أن تشد الأباعر )
(1/97)
________________________________________
وأرادت أن تجانس بين الجمال والجمال فلم يساعدها الوزن ولا القافية فعدلت إلى مرادفة الجمال بالأباعر والذي يدل على مضمره اللفظة الظاهرة بالكناية اللطيفة قول دعبل في امرأته سلمى
( إني أحبك حبا لو تضمنه ... سلمى سميك ذاك الشاهق الراسي )
فالكناية اللطيفة في سميك لأنها أشعرت أن الركن المضمر في سلمى يظهر منه جناس الإشارة بين الركن الظاهر والمضمر في سلمى وسلمى الذي هو الجبل ومثله قول الآخر
( وتحت البراقع مقلوبها ... تدب على ورد تلك الخدود )
فكنى عن العقارب بمقلوب البراقع ولا شك أن بين اللفظ المصرح به والمكنى عنه تجانسا ومثله قول الآخر يهجو مغنيا ثقيلا
( قال غنيت ثقيلا ... قلت قد غنيت نفسك )
ومن الكنايات بالمرادف قول شرف الدين بن الحلاوي وهو غاية في هذا النوع
( وبدت نظائر ثغره في قرطه ... فتشابها متخالفين فأشكلا )
( فرأيت تحت البدر سالفة الطلا ... ورأيت فوق الدر مسكرة الطلا )
أراد أن يجانس بين سالفة الطلا وسلافة الطلا فلم يساعده الوزن فعدل بقوته إلى المسكرة وهي مرادفة السلافة وقد تقدم أن الشيخ عز الدين الموصلي لم ينظم من المعنوي إلا هذا الضرب وهو الذي أوجب تأخير بيته عن المناظرة وقد تقرر أن الشاعر يريد في هذا النوع إظهار الركنين فلا يساعده الوزن فيعدل بحسن تصرفه إلى مرادفه وأراد الشيخ عز الدين أن يمشي على هذا الطريق فحصل له في الطريق عقلة فإنه قال
( وكافر يضمر الإحسان في عذل ... كظلمة الليل عن ذا المعنوي عمي )
فالليل يسمى كافرا وهو الذي يستر الأشياء وكافر هنا بمعنى ساتر وهذا هو الركن الذي أضمره عز الدين ورادفه بالظلمة وكنى بها عنه فظهر منها جناس الإشارة بين كافر
(1/98)
________________________________________
وكافر غير أن الوزن ما عصى على عز الدين حتى عدل إلى المرادف فلو أراد أن يبرز الركنين لكان الوزن داخلا تحت طاعته إذا قال
( وكافر يضمر الإحسان في عذل ... ككافر الليل عن ذا المعنوي عمي )
ولما وقف مولانا الشيخ شهاب الدين بن حجر على هذا النوع قال هذا عزيز الوجود وأنشدني بعد أيام مولانا السلطان الملك المؤيد هذين البيتين وهما في نوع المضمر المقدم ذكره غاية وهما
( جمع الصفات الصالحات مليكنا ... فغدا بنصر الحق منه مؤيدا )
( كأبي الأمين برأيه وكجده ... أني توجه وابن يحيى في الندى )
ومن نظمي في نوع الإشارة الغريبة قولي من جملة قصيد في سكر حماة
( وجناس ذاك السكر يحلو للورى ... تحريفه ويروق في تشرين )
ففي صريح الجناس وتورية التحريف كنايتان لطيفتان يظهر منهما جناس الإشارة محرفا بين السكر والسكر والمراد بقولي يروق في تشرين أن عاصي حماة يروق في هذا الفصل إلى أن يرى قراره من أعالي شطوطه وهذه القصيدة كتبت بها من القاهرة المحروسة في عام ثماني عشرة وثمانمائة إلى مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي كاتب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية وقد حل ركابه الكريم بحماة المحروسة وقالت شطوطها أهلا بعيش أخضر يتجدد وروى عاصيها بعد نار شوقه الكامل عن المبرد وعادت إلى عصر الشبيبة وقد شاهدت الملك المؤيد ومطلع القصيدة
( خلي التعلل في حمى يبرين ... فهوى حماة هو الذي يبريني )
( وأطع ولا تذكر مع العاصي حمى ... ما في وراء النهر ما يرضيني )
( أنا سائل والنهر فيها لذلي ... ومع افتقاري نظرة تغنيني )
( والنبت يضبطها بشكل معرب ... لما يزيد الطير في التلحين )
( والغصن يحكي النون في ميلانه ... وخياله في الماء كالتنوين )
( والله ما أنا آيس من قربها ... بالله صدقني وخذ بيميني )
(1/99)
________________________________________
( فالطرف قد أبقى بقايا أدمع ... وهناك أجريها برجع أنيني )
( فاحذر ملامي عند فيض مدامعي ... فالدمع دمعي والعيون عيوني )
( قالوا تسلى عن ثمار شطوطها ... فأجبت لا والتين والزيتون )
( يا لائمين على شريعتها لكم ... في ذاك دينكم ولي أنا ديني )
( فلنا على الأعراف من ريحانها ... قصص أتت بتناسخ البشنين )
( وبشط شرعا يا لنا كم شرعت ... أعوادها وتثقفت باللين )
( لكن إذا اشتبكت رأيت الظل قد ... ألقته مضطربا شبيه طعين )
( وخيال ضوء الشمس في تدويره ... يحكي فم الطعنات في التكوين )
( وعيونها كم قال هدب نباتها ... ما للبناني مثل شرح عيوني )
( تلك المعالم والمعاهد بغيتي ... بحماة لا الجيران من جيرون )
( كم قال دمع الصب ليتهم على ... تلك الرسوم بفضلهم يجروني )
( يا نازلين حمى حماة نعمتم ... فيها صباحا نوره يهديني )
( قد كنت أنساها برؤيتكم وقد ... صرتم بها فالصبر غير معيني )
( غبتم وهذا محضري لي شاهد ... بالعسر من صبري وبالمضمون )
( وحللتم دار السعادة بالحمى ... فبحقكم بالبعد لا تشقوني )
( ذنبي عظيم لانقطاعي عنكم ... فلأجله في مصر لا تبقوني )
( وتكونت نار اشتياقي في الحشا ... لفساد تكويني فدع تكويني )
( وعجزت ضعفا عن وفا دين اللقا ... فترفقوا بفؤادي المرهون )
( فعسى يزول ظلام بعدي عنكم ... وأرى ضياء القرب من شمسين )
( ولرقة فيكم أظن بأنكم ... حنيتم طربا لرجع حنيني )
( هذي غراميات صب ماله ... أرب بتورية ولا تضمين )
( لكن إذا ذكروا بديع مدائح ... في البارزي فكل فوق دوني )
( ما القصد فخري إنما أنا عبده ... فالشك أدفعه بحسن يقيني )
( الغصن نسقيه وغصن يراعه ... يسقي الورى لكن أنا ينشيني )
(1/100)
________________________________________
( فالطرس وهو مطوق بيمينه ... ينسي السواجع معرب التلحين )
( هو كامل في فضله وعلومه ... والله أعطاه كمال الدين )
( حسنت لياليه وأيام له ... فهدى الزمان بطرة وجبين )
( يا صاحب البيت الذي عن وصفه ... قد أحجمت شعراء هذا الحين )
( إن جاء نظمي قاصرا عن وصفه ... عذرا فهذي نشطة الخمسين )
( ونعم كبرت وبان عجزي إنما ... كانت مسرات اللقا تصبيني )
( وحجبتموني عن حماة وغبتموا ... عني فهذا من فنون جنوني )
( وقعدت عن ديوان شيخ شيوخنا ... في مصر جار عويس والمتيني )
( برهان شوقي قد أقمت دليله ... بسنا نجوت مع ضياء الدين )
( لا زلتم بكمالكم في نعمة ... مقرونة بالنصر والتمكين )
(1/101)
________________________________________
ذكر الاستطراد
( واستطردوا خيل صبري عنهم فكبت ... وقصرت كليالينا بوصلهم )
الاستطراد في اللغة مصدر استطرد الفارس من قرنه في الحرب وذلك أن يفر من بين يديه يوهمه الانهزام ثم يعطف عليه على غرة منه وهو ضرب من المكيدة وفي الاصطلاح أن تكون في غرض من أغراض الشعر توهم أنك مستمر فيه ثم تخرج منه إلى غيره لمناسبة بينهما ولا بد من التصريح باسم المستطرد به بشرط أن لا يكون قد تقدم له ذكر ثم ترجع إلى الأول وتقطع الكلام فيكون المستطرد به آخر كلامك وهذا هو الفرق بينه وبين المخلص فإن الاستطراد يشترط فيه الرجوع إلى الكلام الأول وقطع الكلام بعد المستطرد به والأمران معدومان في المخلص فإنه لا يرجع إلى الأول ولا يقطع الكلام بل يستمر إلى ما يخلص إليه
وحد صاحب الإيضاح الاستطراد بحد أتى فيه بالغرض بعد ما بالغ في الإيجاز فإنه قال الاستطراد هو الانتقال من معنى إلى معنى متصل به ثم يقصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني ففي قوله متصل به جل القصد وعدم الاحتياج إلى الكلام الكثير
وذكر الحاتمي في حلية المحاضرة أنه نقل هذه التسمية عن البحتري
وذكر غيره أن البحتري نقلها عن أبي تمام وقال ابن المعتز الاستطراد هو الخروج من معنى إلى معنى وفسره بأن قال هو أن يكون المتكلم في معنى فيخرج منه بطريق التشبيه أو الشرط أو الأخبار أو غير ذلك إلى معنى آخر يتضمن مدحا أو هجوا أو وصفا وغالب وقوعه في الهجاء فمنه قوله تعالى في كتابه العزيز ( ألا بعدا لمدين كما بعدت
(1/102)
________________________________________
ثمود ) فذكر ثمود استطراد
وقيل إن أول شاهد ورد في هذا النوع وسار مسير الأمثال قول السموأل
( وإنا لقوم لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول )
فانظر إلى خروجه الداخل في الافتخار إلى الهجو وحسن عوده إلى ما كان عليه من الافتخار بقوله
( يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول )
ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه
( إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحرث بن هشام )
( ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... فنجا برأس طمره ولجام )
فانظر كيف خرج من الغزل إلى هجو الحرث بن هشام والحرث هو أخو أبي جهل أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه ومات يوم اليرموك بالشام ومنه قول البحتري من قصيدة في وصف فرس
( كالهيكل المبني إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل )
( ملك العيون فإن بدا أعطيته ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل )
( ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول )
ومنه قول أحمد بن يحيى البلاذري يرثي أبا تمام
( أمسى حبيب رهن قبر موحش ... لم يدفع الأقدار عنه بكيد )
( لم ينجه لما تناهى عمره ... أدب ولم يسلم بقوة أيد )
( قد كنت أرجو أن تنالك رحمة ... لكن أخاف قرابة ابن حميد )
(1/103)
________________________________________
ما أحسن ما خرج من الرثاء إلى الهجو في حميد بن قحطبة والقرابة التي بينه وبين ابن حميد أنهما كانا طائيين ومنه قول الحسين بن علي القمي
( جاورت أجبالا كأن صخورها ... وجنات نجم ذي الحياء البارد )
( والشوك يفعل في ثيابي مثل ما ... فعل الهجاء بعرض عبد الواحد )
ومنه قول أبي محمد بن مكدم وهو غاية في هذا الباب
( وليل كوجه البرقعيدي ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونه )
( قطعت فنومي عن جفوني مشرد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه )
( بذي أولق فيه اعوجاج كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه )
( إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش ونور جبينه )
فانظر إلى قوة الاستطراد من وصف حاله مع الليل إلى هجاء الثلاثة ومدح قرواش
ومنه
( إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه ... فليس به باس وإن كان من جرم )
أنظر ما أبلغ ما خرج من الوعظ إلى الهجو المؤلم في قبيلة جرم
ومثله
( وشادن بالدلال عاتبني ... واميتتي من تدلل العاتب )
( فكان ردي عليه من خجل ... أبرد من شعر خالد الكاتب )
ومنه قول ابن المعتز
( ولقد شربت مدامة كرخية ... مع ماجد طلق اليدين حميد )
( عليت بماء بارد فكأنما ... عليت ببرد قصيدة ابن سعيد )
ومثله قول بعضهم يصف خمرا طبخت حتى راقت وصفت
( لم يبق منها وقود الطابخين لها ... إلا كما أبقت الأنواء من داري )
(1/104)
________________________________________
أنظر ما أحلى استطراده من وصف الخمر إلى وصف داره بالخراب بألطف كناية
والغريب في هذا الباب الاستطراد من الهجو إلى الهجو وهو كقول جرير يهجو أم الفرزدق
( لها برص بأسفل اسكتيها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا )
ومثله قوله
( وكأني أقرأ بحرف أبي عمرو ... على القوم سورة الأنعام )
( محنة تصفع ابن عمرو بن يحيى ... في دماغ الأعشى بنعل القطامي )
ولقد أردت أن أستطرد هنا إلى ذكر ما وقع لي وللمتأخرين من الاستطرادات الغريبة فلم أجد أبدع من بيت البديعية فاكتفيت عند قضاة الأدب بحسن آدابه فإنه أعدل شاهد في هذا الباب وحبست عنان القلم عن الاستطراد في وصفه علما أن في إنصاف علماء الأدب إذا وقفوا عليه ما يغني عن ذلك
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( كأن آناء ليلى في تطاولها ... تسويف كاذب آمالي بقربهم )
الذي يظهر لي أن الشيخ صفي الدين عبر على الاستطراد بتقديم أداة التشبيه في أول البيت وقد تقدم قول صاحب الإيضاح أن يقصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني وما خرج أحد من الاستطراد بطريق التشبيه إلا جعل أداة التشبيه مع المستطرد به في آخر الكلام كقول السري الرفاء
( لنا روضة بالدار صيغ لزهرها ... قلائد من حلي الندى وشنوف )
( يمر بنا فيها إذا ما تبسمت ... نسيم كعقل الخالدي ضعيف )
(1/105)
________________________________________
فأداة التشبيه جاءت هنا في الآخر مع المستطرد به كما تقرر ولم يقدم الناظم في أول البيت ما يتوصل به إلى آخره
اه
ومثل هذا الإيراد قول ابن جلنك الحلبي وهو أظرف ما رأيت في هذا الباب حكي أنه كتب رقعة إلى بعض الحكام وقيل إلى قاضي القضاه كمال الدين بن الزملكاني يسأله فيها شيئا فوقع له بخبز وأستحيي أن أقول إنه رطلان فتوجه ابن جلنك يوما إلى بستان يرتاض فيه فقيل إنه لقاضي القضاة المشار إليه فكتب على حائط البستان
( لله بستان حللنا دوحه ... في جنة قد فتحت أبوابها )
( والبان تحسبها سنانيرا رأت ... قاضي القضاة فنفشت أذنابها )
فاستطراده من وصف البستان وتشبيه البان التشبيه المخترع إلى هجو قاضي القضاة مرقص عند سماعه
وما شك أحد من أهل الأدب أن التشبيه غريب في اختراعه وقيل إن الشيخ بدر الدين بن مالك أملى عليهما كراسة في البديع وأنا بالأشواق إلى رؤيتها
ومن استطرادات أبي عبد الله محمد بن حجاج البغدادي في طريقه التي لم تنسج على منوالها غيره فإن الشيخ جمال الدين بن نباتة قال فيها في خطبة كتابه المسمى بتلطيف المزاج في شعر ابن حجاج فإني رأيت نتائج أفكار الشعراء ذرية بعضها من بعض وأمم أشعارهم تبعث جميعها في صعيد واحد من الأرض إلا أشعار الأريب الفريد أبي عبد الله الحسين بن حجاج فإنها أمة غريبة تبعث وحدها وذرية عجيبة تبلغ بإتقان اللهو اللعب رشدها لم يحط خاطر أحد بمثلها خبرا ولا استطاع على معارضة شهدها صبرا انتهى قول الشيخ جمال الدين
واستطراده الموعود بذكره هو قوله
( تفديك أمي وأبي ... وابني وإن كان صبي )
( يا من إليه حينما ... وجدته منقلبي )
(1/106)
________________________________________
( يا من مديح غيره ... عندي عزيز المطلب )
( لحية من يشناك في ... حال رضا أو غضب )
( من عين من يطلبها ... بالليل في استي تختبي )
( وأمه أم الشكوك ... في استها والريب )
( ذات حر أوسع من ... شارع باب اللعب )
( وشعرة غليظة ... ذات نبات أشيب )
( قد شاب منها بعضها ... وبعضها لم يشب )
( نتفت منها طاقة ... بشدة أو تعب )
( فما شككت أنها ... لحية ابن الحلبي )
ومنها في الاستطرادات الغريبة لما بلغه أن المهذب يعشق ابن أخيه وينكر ذلك ويعقد الأيمان عليه بسببه قوله
( جارية مثل شراع ... المضرب المطنب )
( صعدت من عليها ... بالليل فوق مرقب )
حتى رأيت ابن أخي ... بحضرة المهذب )
ومثله قوله من قصيدة
( حتى متى أفديك يا ستي ... بندف قطن استك دق إستي )
( متى أرى سرمك منهدما ... وخصيتي تنهز من تحتي )
( قالت بهذا الأير واستحقرت ... وكان قد نام على بختي )
( قلت نعم هذا على ما به ... قد ضرط البخت فما أنت )
( هذا إذا قام استوى طوله ... بطول ساقيك إذا نمت )
( فلو رأيتيه على بيضه ... مثل أبي منصور في الدست )
( خريت بالطول على عارضي ... صاحب ديوان أو بلت )
(1/107)
________________________________________
( يا أيها الأستاذ يا من به ... يمسي كما أملته وقتي )
( خذ بيدي إني في محنة ... زلقت فيها في خرا تحتي )
وأما قول القاضي الفاضل في هذا الباب على طريقته الفاضلية فإنه عجيب وهو
( لي عندكم دين ولكن هل له ... من طالب وفؤادي المرهون )
( فكأنني ألف ولام في الهوى ... وكأن موعد وصلكم تنوين )
ومثله قول مسلم بن الوليد
( سريت بها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر خالد )
وغاية الغايات في هذا الباب قول عبد المطلب جد النبي
( لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... ولو تسلت أسلناها على الأسل )
( لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل )
أنظر إلى هذه البلاغة الهاشمية كيف جمعت بين حشمة الافتخار وتفخم الحماسة وبديع الافتنان وغريب الاستطراد ورقة الانسجام
انتهى الكلام على بيت الشيخ صفي الدين الحلي
وبيت العميان هو
( قد أفصح الضب تصديقا لبعثته ... إفصاح قس وسمع القوم لم يهم )
وهذا البيت على طريق الشيخ صفي الدين الحلي فإن ناظمه قصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني وبيت الشيخ عز الدين الموصلي هو
( يستطرد الشوق خيل الدمع سابقة ... فيفضل السحب فضل العرب للعجم )
الذي أقوله إن الشيخ عز الدين رحمه الله أحرز قصبات السبق بما استطرده هنا على الشيخ صفي الدين وعلى العميان مع التزامه بتسمية النوع المورى به من أنس الغزل ومراعاة جانب الرقة ونظم الاستطراد على الشرط المذكور وبيت بديعيتي هو
( واستطردوا خيل شوقي عنهم فكبت ... وقصرت كليالينا بوصلهم )
وهذا البيت غريب ولا بد لأهل الأدب من تأهيل غريبه
انتهى
(1/108)
________________________________________
ذكر الاستعارة
( وكان غرس التمني يانعا فذوى ... بالاستعارة من نيران هجرهم )
الاستعارة عندهم أفضل من المجاز وهي أخص منه إذ قصد المبالغة شرط في الاستعارة دون المجاز وموقعها في الأذواق السليمة أبلغ وليس في أنواع البديع أعجب منها إذا وقعت في مواقعها وللناس فيها اختلاف كثير
وأما أصحاب المعاني والبيان فإنهم أطلقوا فيها أعنة أقلامهم وجالوا بها في ميادين البحوث
وليس الغرض هنا إلا نفس الاستطراد إلى ما وقع فيها من المحاسن نظما ونثرا بعد تقريبها إلى الأذهان بحدود يزول بها الالتباس
حد الرماني الاستعارة فقال هي تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على سبيل النقل
وذكر الخفاجي كلام الرماني وقال تفسير هذه الجملة قوله عز و جل ( واشتعل الرأس شيبا ) استعارة لأن الاشتعال للنار ولم يوضع في أصل اللغة للشيب فلما نقل إليه بان المعنى لما اكتسبه من التشبيه لأن الشيب لما كان يأخذ من الرأس شيئا فشيئا حتى يحيله إلى غير لونه الأول كان بمنزلة النار التي تسري في الخشب حتى تحيله إلى غير حاله المتقدمة فهذا هو نقل العبارة عن الحقيقة في الوضع للبيان
ولا بد أن تكون الاستعارة أبلغ من الحقيقة لأجل التشبيه العارض فيها لأن الحقيقة لو قامت مقامها لكانت أولى بها ولا يخفى على أهل الذوق أن قوله تعالى
(1/109)
________________________________________
( واشتعل الرأس شيبا ) أبلغ من كثر شيب الرأس وهو حقيقة ولا بد للاستعارة من مستعار منه ومستعار ومستعار له فالنار مستعار منها والاشتعال مستعار والشيب مستعار له
انتهى
ومنهم من قال هي ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه وهذا يؤيد قول ابن جني إن لم تكن الاستعارة للمبالغة وإلا فهي حقيقة
وكلام ابن جني حسن في موضعه فإن الشي إذا أعطي وصف نفسه لم تكن استعارة
وقال ابن المعتز هي استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء عرف بها كقول النبي ( ضموا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء ) فاستعار الفحمة للعشاء لقصد حسن البيان
ومنهم من قال هي استعارة الشيء المحسوس للشيء المعقول
قال فخر الدين الرازي هي جعلك الشيء للشيء للمبالغة في التشبيه
وقال ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير هي نقل اسم الراجح إلى المرجوح لطلب المبالغة في التشبه وحسن البيان فإنك إذا قلت زيد أسد فقد نقلت اسم الأسد لزيد لكن الأسد راجح في الجراءة وزيد مرجوح وقد بالغت في تشبيه زيد بالأسد وأحسنت البيان انتهى
ولا تحسن الاستعارة إلا إذا كان التشبيه مقررا وكلما زاد التشبيه خفاء زادت الاستعارة حسنا وما أحسن قول ذي الرمة هنا
( أقامت بها حتى ذوى العود في الثرى ... وكف الثريا في ملاءته الفجر )
فاستعار للفجر ملاءة وأخرج لفظه مخرج التشبيه
وكان أبو عمرو بن العلاء لا يرى أن لأحد مثل هذه الاستعارة وأحسن الاستعارات ما قرب منها دون ما بعد وأعظمها في هذا الباب قوله تعالى ( والصبح إذا تنفس ) فإن ظهور الأنوار من المشرق من أشعة الشمس قليلا قليلا بينه وبين إخراج النفس مشابهة شديدة القرب ومن هذا النور استضاء الحريري في مقاماته بقوله إلى أن عطس أنف الصباح
وقد تقدم أن بعد الاستعارة يبعد من القلوب عند أهل الذوق كقول أبي نواس مع يقظته
( بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح )
(1/110)
________________________________________
فأي شيء أبعد استعارة من صوت المال وكيف يصيح ويبح من الشكوى ومثله قول بشار
( وجدت رقاب الوصل أسياف هجرنا ... وقدت لرجل البين نعلين من خدي )
قال ابن رشيق في العمدة ما أقبح رجل البين وأهجن استعارتها وكذلك رقاب الوصل
ومثله قول ابن المعتز وهو من أنقد النقاد كل يوم يبول زب السحاب
وأين هذا البعد من قرب استعارة ابن نباتة القديم في قوله
( حتى إذا نهر الأباطح والثرى ... نظرت إليه بأعين النوار )
فنظر أعين النوار من أشبه الاستعارات وأليقها وأقربها لأن النوار يشبه العيون إذا كان مقابلا لمن يمر به كأنه ناظر إليه ويعجبني هنا قول القائل ولم يلحق فيما قاله
( مجرة جدول وسماء آس ... وأنجم نرجس وشموس ورد )
( ورعد مثالث وسحاب كاس ... وبرق مدامة وضباب ند )
ومن الغايات في هذا الباب قول مجير الدين ابن تميم
( وليلة بت أسقى في غياهبها ... راحا تسل شبابي من يد الهرم )
( ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم )
والذي اتفق عليه علماء البديع أن الاستعارة المرشحة هي المقدمة في هذا الباب وليس فوق رتبتها في البديع رتبة وأعلاها وأغلاها قوله تعالى ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم ) فإن الاستعارة الأولى وهي لفظ الشراء رشحت الثانية وهي لفظ الربح والتجارة ومن الاستعارات المرشحة قول الإمام
(1/111)
________________________________________
علي بن أبي طالب رضي الله عنه تعالى عنه الدنيا من أمسى فيها على جناح أمن أصبح فيها على قوادم خوف فإن الاستعارة الأولى التي هي لفظ الجناح رشحت الثانية وهو لفظ القوادم مع زيادة المطابقة بين الأمن والخوف والصباح والمساء وناهيك بالبلاغة الهاشمية وباب المدينة وما أحلى قول بعض العرب فيها جعلنا رماحنا أرشية الموت فاستقينا بها أرواح العدا ومثله قول الشاعر
( سلامة بن نجاح ... يجد حث الراح )
( إذا تغنى زمرنا ... عليه بالأقداح )
ومثله لابن سكرة وشتان بين قوله هنا وبين قوله في الكافات
( قيل ما أعددت للبرد ... فقد جاء بشده )
( قلت دراعة عري ... تحتها جبة رعده )
والذي ينشأ هنا قول القائل
( والشمس لا تشرب خمر الندى ... في الروض إلا بكؤوس الشقيق )
ومثله قول ابن رشيق رحمه الله
( باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المزاح )
( من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح )
وما ألطف قول أبي زكريا المغربي وقد ترجمه ذو الوزارتين لسان الدين ابن الخطيب في تاريخه المسمى بالإحاطة في تاريخ غرناطة وهو
( نام طفل النبت في حجر النعامي ... لاهتزاز الطل في مهد الخزامي )
( كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجنة الصبح لثاما )
( تحسب البدر محيا ثملا ... قد سقته راحة الصبح مداما )
ويعجبني هنا قول ابن قلاقس
( وفي طمي أبراد النسيم خميلة ... بأعطافها نور المنى يتفتح )
(1/112)
________________________________________
( تضاحك في سر المعاطف عارضا ... مدامعه في وجنة الروض تسفح )
( وتوري به كف الصبا زند بارق ... شرارته في فحمه الليل تقدح )
وقال أبو الحسن علي بن ظافر العسقلاني في كتابه المسمى ببدائع البداية اجتمعت أنا والقاضي الأعز يوما في روضة فقلت له أجز طار نسيم الروض من وكر الزهر
فقال وجاء مبلول الجناح بالمطر
وما أبدع قول ابن خفاجة في هذا الباب
( وقد نظرت شمس الأصيل إلى الربا ... بأضعف من طرف المريب وافترا )
( وصفرة مسواك الأصيل تروقني ... على لعس من مسقط الشمس أسمرا )
وممن تلطف في استعمال الاستعارة المرشحة إلى الغاية مجد الدين الأربلي بقوله
( أصغي إلى قول العذول بجملتي ... مستفهما عنكم بغير ملال )
( لتلقطي زهرات ورد حديثكم ... من بين شوك ملامة العذال )
وممن جاراه في هذه الحلبة أبو الوليد بن حيان الشاطبي بقوله
( فوق خد الورد دمع ... من عيون السحب يذرف )
( برداء الشمس أضحى ... بعد ما سال يجفف )
وظريف قول مجير الدين بن تميم منها
( كيف السبيل لأن أقبل خد من ... أهوى وقد نامت عيون الحرس )
( وأصابع المنثور تومي نحونا ... حسدا وتغمزها عيون النرجس )
ومثله قوله
( لما ادعى المنثور أن الورد لا ... يؤتى وأن يصلى بنار سعير )
( ودت ثغور الأقحوان لو أنها ... كانت تعض أصابع المنثور )
ومثله قوله
( كيف السبيل للثم من أحببته ... في روضة للزهر فيها معرك )
( ما بين منثور أقام ونرجس ... مع أقحوان فضله لا يدرك )
( هذا يشير بأصبع وعيون ذا ... ترنوا إلي وثغر هذا يضحك )
(1/113)
________________________________________
وما أحلى قول محيي الدين بن قرناص الحموي
( قد أتينا الرياض حين تجلت ... وتحلت من الندا بجمان )
( ورأينا خواتم الزهر لما ... سقطت من أنامل الأغصان )
وقال البدر الذهبي وأجاد
( هلم يا صاح إلى روضة ... يجلو بها العاني صدا همه )
( نسيمها يعثر في ذيله ... وزهرها يضحك في كمه )
ومثله قول ابن عمار
( يا ليلة بتنا بها ... في ظل أكناف النعيم )
( من فوق أكمام الرياض ... وتحت أذيال النسيم )
وأما مطلع قصيدة ابن النبيه في هذا الباب فإنه أبهى من مطالع الأقمار وديباجة الاستعارة من حلية تستعار وهو
( تبسم ثغر الزهر عن شنب القطر ... ودب عذار الظل في وجنة النهر )
وهذا المعنى مولد من قول ابن خفاجة الأندلسي
( وطرة ظل فوق وجه غدير ... )
ولكن ابتسام ثغر الزهر عن شنب القطر في قول ابن النبيه غاية
وتلطف الشريف العقيلي في هذا الباب بقوله
( وروضة الجام فيها ... من زهرة الراح ورد )
( فاشرب على وجه روض ... له من الماء خد )
وما أحلى قول القاضي السعيد بن سنا الملك هنا
( ولبعدهم طالت ذوائب ليلهم ... فيها تغطي ضوء وجه نهارهم )
(1/114)
________________________________________
وأحلى منه قوله
( سرى طيفه لا بل سرى لي سرابه ... وقد طار من وكر الظلام غرابه )
( أتت مع نقس الليل صفحة خده ... فقلت حبيب قد أتاني كتابه )
وقال من غيرها
( بشوك القنا يحمون ... شهد رضابها )
وما أحلى تكميله بقوله
( ولا بد دون الشهد من إبر النعل ... )
ومثله قوله
( ألقى حبائل صيد من ذوائبه ... فصاد قلبي بأشراك من الشعر )
وأحلى منه قوله
( خصر أدير عليه معصم قبلة ... فكأن تقبيلي له تعنيق )
وغاية الغايات قوله
( بعثت لي على فم الطيف قبلة ... فأتاني بعض المسرة جملة )
ومن الاستعارات الحسنة في هذا الباب قول شمس الدين بن العفيف في مديح النبي
( حياك يا تربة الهادي الرسول حيا ... بمنطق الرعد باد من فم السحب )
وظريف هنا قول ابن قلاقس
( هدتنا للسرور نجوم راح ... بها قذفت شياطين الهموم )
( وكف الصبح تلقط ما تبدي ... بجيد الليل من درر النجوم )
ومن اللطائف في هذا الباب قول أبي الحسن العقيلي
( لنا أخ يحسن أن يحسنا ... رضاه للجانين عذب الجنى )
( قد عرفت روضة معروفه ... بأنها تنبت زهر الغنى )
( إذا تبدي وجه إحسانه ... تنزهت فيه عيون المنى )
(1/115)
________________________________________
ويعجبني في الاستعارة المرشحة قول ابن سعيد الموصلي من قصيدة يتشوق فيها إلى دمشق المحروسة فإنه أتى فيها في بيت واحد باستعارات كثيرة مع اجتناب الحشو ومطلع القصيدة قوله
( سقى دمشق وأياما مضت فيها ... مواطر السحب ساريها وغاديها )
وبيت الاستعارة بعده
( ولا يزال جنين النبت ترضعه ... حوامل المزن في أحشا أراضيها )
ومن أغرب الاستعارات وأبدعها وأحشمها قول ابن زيدون من قصيدته النونية المشهورة
( سران في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا )
وقد عن لي أن أنثر في حدائق الاستعارة نبذة من زهر المنثور وأورد منه ما يزهو بوروده على روضات الزهور كقول القائل وطفقنا نتعاطى شموسا من أكف بدور وجسوم نار في غلائل نور إلى أن ذاب ذهب الأصيل على لجين الماء وشبت نار الشفق في فحمة الظلماء ومثله قول علي بن ظافر الحداد في دوح انعطفت قدود أشجاره وابتسمت ثغور أزهاره وذر كافور مائه على عنبر طينته وامتدت بكاسات الجلنار أنامل غصونه
وقال آخر وأجاد وقد عرق بالندا جبين النسيم وابتل جناح الهواء وضربت خيمة الغمام وأغرورقت مقلة السماء وقام خطيب الرعد فنبض عرق البرق
ولقد حاز القاضي الفاضل قصبات السبق في هذا الميدان بقوله كتبها المملوك وقد عمشت مقلة السراج وشابت لمة الدواة وخرس لسان القلم وكل خاطر السكين وضاق صدر الورق
وما أحلى قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر والأغصان قد أخضر نبات عارضها ودنانير الأزهار ودراهمها قد تهيأت لتسليم قابضها
وقال جمال الدين بن نباتة كتبها المملوك ودمع الغيث قد رقا ووجه الأرض قد راق
(1/116)
________________________________________
وقدود الأغصان قد راسلت أهواء القلوب بالأوراق وقيان حمائمها قد ترنمت وجذبت القلوب بالأطواق والورد قد أحمر خده الوسيم وفكت أزراره من أجياد القضيب أنامل النسيم وخرجت أكفه من أكمامه لأخذ البيعة على الأزهار بالتقديم
ومما كتبته في البشارة الصادرة عن الملك المؤيد عند عوده من البلاد الرومية وحلول ركابه الشريف بحلب المحروسة المتضمنة ما من الله به من الفتح الذي صار له في الروم قصص سنة عشرين وثمانمائة فمن ذلك قولي عند حصار قلعة طرسوس وفتحها ورأوا ألسن السهام في أفواه تلك المرامي فقالوا رأينا المصائب ناطقة وما رموا على سماء برج غيوم ستائر إلا لمعت فيها من بوارق نقوطها بارقة وحكم عليها القضاء بالاعتقال ولم يأتوا عند ذلك الحكم بدافع هذا بعدما صفق مقبلهم جماد وجهه فبصقت فيه أفواه المدافع
وقولي في الاستعارة المرشحة أيضا عند حصار قلعة دريدة وفتحها وقررنا صدع سورها باختلاف الآلات فجاء ما قررناه نقشا على حجر وادعت أن صخرها أصم فأسمعناه من آذان المرامي تنقير المدافع وتحريك الوتر وقرعنا سن جبلها بنابات المداقع وكسرنا منه السنية وأمست حلق مراميها كالخواتم في أصابع سهامنا المستوية
ومثله قولي عند حصار قلعة كختار وفتحها على لسان حال القلعة في سموها وإفراط علوها فأنا الهيكل الذي ذاب قلب الأصيل على تذهيبه وود دينار الشمس أن يكون من تعاويذه والشجرة التي لولا سمو فرعها تفكهت به حبات الثريا وانتظمت في سلك عناقيده وتشامخ هذا الحصن ورفع أنف جبله وتشامم فأرمدنا عيون مراميه بدم القوم وأميال سهامنا على تكحيلها تتزاحم وغاية الغايات في هذا الباب قولي عند حصار قلعة كركر وتنكرت أكراد كركر بسور القلعة فعرفناهم بلامات القسي وألفات السهام وعطست أنوف مراميها بأصوات مدافعنا وكان بها زكام
ومن حسن ختامها ولم نخرج عما نحن فيه من بديع الاستعارة وغريبها قولي فلا بكر قلعة إلا افتضينا بكارتها بالفتح وابتذلنا من سترها الحجاب ولا كأس برج أترعوه بالتحصين إلا توجنا رأسه من حبات مدافعنا بالحباب
انتهى
ولم أحبس عنان القلم عن الاستطراد إلى ما وقع لي من محاسن الاستعارة نظما إلا للتخفيف عن بيت البديعية وقلت تكفيه المزاحمة في مناظرة الشيخ صفي الدين
(1/117)
________________________________________
الحلي ومبارزة الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله وحمل ثقل العميان فبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله في بديعيته وهو الشاهد على نوع الاستعارة
( إن لم أحث مطايا العزم مثقلة ... من القوافي تؤم المجد عن أمم )
وبيت العميان
( يقول صحبي وسفن العيس خائضة ... بحر السراب وعين القيظ لم تنم )
بيت الشيخ صفي الدين وبيت العميان لم يحسن السكوت عليهما ولا تتم الفائدة بهما فإن بيت الشيخ صفي الدين متعلق بما قبله وبيت العميان متعلق بما بعده وبيت الشيخ عز الدين صالح للتجريد وهو
( دع المعاصي فشيب الرأس مشتعل ... بالاستعارة من أزواجها العقم )
أقول ولو بلغت ما عسى أن يكون أن في قوله من أزواجها العقم ما يرعب السامع وبيت بديعيتي
( وكان غرس التمني يانعا فذوى ... بالاستعارة من نيران هجرهم )
وقد تقدم أن المقدم عند علماء البديع الاستعارة المرشحة فلفظة غرس رشحت بيانع وأما قولي بالاستعارة من نيران هجرهم بعد ذوى فما أعده إلا من المنح الإلهامية فإن اسم النوع الذي هو الاستعارة جمع بين التورية والاستعارة والترشيح مع عدم الحشو وصحة التركيب والمشي على جادة الرقة والالتزام بتسمية النوع مورى به من جنس الغزل
انتهى
(1/118)
________________________________________
ذكر الاستخدام
( واستخدموا العين مني وهي جارية ... وقد سمحت بها أيام عسرهم )
الاستخدام هو استفعال من الخدمة وأما في الاصطلاح فقد اختلفت العبارات في ذلك على طريقين الأولى طريقة صاحب الإيضاح ومن تبعه ومشى عليها كثير من الناس وهي أن الاستخدام إطلاق لفظ مشترك بين معنيين فتريد بذلك اللفظ أحد المعنيين ثم تعيد عليه ضميرا تريد به المعنى الآخر أو تعيد عليه إن شئت ضميرين تريد بأحدهما أحد المعنيين وبالآخر المعنى الآخر وعلى هذه الطريقة مشى أصحاب البديعيات والشيخ صفي الدين الحلي والعميان والشيخ عز الدين وهلم جرا
الثانية طريقة الشيخ بدر الدين بن مالك رحمه الله تعالى في المصباح وهي أن الاستخدام إطلاق لفظ مشترك بين معنيين ثم يأتي بلفظين يفهم من أحدهما أحد المعنيين ومن الآخر المعنى الآخر ثم إن اللفظين قد يكونان متأخرين عن اللفظ المشترك وقد يكونان متقدمين وقد يكون اللفظ المشترك متوسطا بينهما والطريقتان راجعتان إلى مقصود واحد وهو استعمال المعنيين وهذا هو الفرق بين التورية والاستخدام فإن المراد من التورية هو أحد المعنيين وفي الاستخدام كل من المعنيين مراد
ونقل الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام ما يؤكد هذا فإنه قال المشترك إذا لزم استعماله في مفهوميه معا فهو الاستخدام وإن لزم في أحد مفهوميه في الظاهر مع لمح الآخر في الباطن فهو التورية
ومنهم من قال الاستخدام عبارة عن أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين معنيين اشتراكا أصليا متوسطة بين قرينتين تستخدم كل قرينة منهما معنى من معنيي تلك اللفظة
(1/119)
________________________________________
المشتركة وهذا مذهب ابن مالك
وعلى كل تقدير فالطريقتان راجعتان إلى مقصود واحد وهو استعمال المعنيين بضمير وغير ضمير وأعظم الشواهد على طريقة ابن مالك ومن تبعه قوله تعالى ( لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت ) فإن لفظة كتاب يحتمل أن يراد بها الأجل المحتوم والكتاب المكتوب وقد توسطت بين لفظتي أجل ويمحو فاستخدمت أحد مفهوميها وهو الأمد بقرينة ذكر الأجل واستخدمت المفهوم الآخر وهو الكتاب المكتوب بقرينة يمحو ومنه قوله من القصيدة النباتية
( حويت ريقا نباتيا حلا فغدا ... ينظم الدر عقدا من ثناياك )
فإن لفظة نباتي تحتمل الاشتراك بالنسبة إلى السكر وإلى ابن نباتة الشاعر وقد توسطت بين الريق وحلاوته وبين الدر والنظم والعقد فاستخدمت أحد مفهوميها وهو السكر النباتي بذكر الريق والحلاوة واستخدمت المفهوم الآخر وهو قول الشاعر النباتي بذكر النظم والدر والعقد وليس في جانب من المفهومين إشكال
وأما شاهد الضمائر على طريق صاحب الإيضاح فجميع كتب المؤلفين لم يستشهدوا فيها على عود الضمير الواحد إلا بقول القائل
( إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا )
فلفظة السماء يراد بها المطر وهو أحد المعنيين والضمير في رعيناه يراد به المعنى الآخر وهو النبات
وأما شاهد الضميرين فإنهم لم يخرجوا به عن قول البحتري وهو
( فسقى الغضى والساكنيه وإن هم ... شبوه بين جوانحي وضلوعي )
فإن لفظة الغضى محتملة الموضع والشجر والسقيا صالحة لكل منهما فلما قال والساكنيه استعمل أحد معنيي اللفظة وهو الموضع بدلالة القرينة عليه ولما قال شبوه استعمل المعنى الآخر وهو الشجر بدلالة القرينة عليه
انتهى
والشيخ صفي الدين رحمه الله لم يستطرد في شرح بديعيته إلى غاية ذلك ولكن رأيته في شرحه قد أورد على بيت البحتري نقدا حسنا ليس فيه تحمل ولا إشكال
(1/120)
________________________________________
فإنه قال شرط علماء البديع أن يكون اشتراك لفظة الاستخدام اشتراكا أصليا والنظر هنا في اشتراك لفظة الغضى فإنه ليس بأصلي لأن أحد المعنيين منقول من الآخر والغضى في الحقيقة الشجر وسموا الوادي غضى لكثرة نبته فيه وقالوا جمر الغضى لقوة ناره فكل منقول من أصل واحد ولم يرد في كتب المؤلفين غير هذين البيتين وقول أبي العلاء
( قصد الدهر من أبي حمزة الأواب ... مولى حجى وخدن اقتصاد )
( وفقيها أفكاره شدن للنعمان ... ما لم يشده شعر زياد )
فالنعمان يحتمل هنا أبا حنيفة رضي الله عنه ويحتمل النعمان بن المنذر ملك الحيرة فإن الزمخشري صنف كتابا في مناقب أبي حنيفة سماه شقائق النعمان في حقائق النعمان وأما أبو العلاء فإنه أراد بلفظ النعمان أبا حنيفة وأراد بالضمير المحذوف ابن المنذر ملك الحيرة وزياد هنا هو النابغة وكان معروفا بمدح النعمان بن المنذر وهذا يصح على طريقة ابن مالك فإن فقيها يخدم أبا حنيفة وشعر زياد يخدم النعمان بن المنذر ولا يصح على مذهب صاحب الإيضاح فإن ضمير يشده لم يعد على واحد منهما لأن شرط الضمير في الاستخدام أن يكون عائدا على اللفظة المشتركة ليستخدم بها معناها الآخر كما قال البحتري في شبوه فهذا الضمير عائد على الغضى وهذا جعل الضمير في يشده غير عائد على اللفظة المشتركة التي هي النعمان فصار طيب الذكر الذي يشيده زياد لا يعلم لمن هو لأن الضمير لا يعود على النعمان اللهم إلا أن يكون التقدير ما لم يشده له فيعود الضمير على النعمان بهذا التقدير
انتهى
وما أحلى قول بعض المتأخرين مع عدم التعسف والسلامة من النقد وصحة الاشتراك الأصلي وهو
( وللغزالة شيء من تلفته ... ونورها من ضيا خديه مكتسب )
وأنا بالأشواق إلى معرفة الناظم وهذا النوع أعني الاستخدام قل من البلغاء من تكلفه وصح معه بشروطه لصعوبة مسلكه وشدة التباسه بالتورية وقد تقدم ما أوردنا فيه من النقد على بيتي البحتري وأبي العلاء وهو أعلى رتبة عند علماء البديع من التورية
(1/121)
________________________________________
وأحلى موقعا في الأذواق السليمة ولكن قل من ظفر منه بسلامة التخلص من علق النقد وصعد من غور التعسف إلى نجد السهولة قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام ومن أنواع البديع ما هو نادر الوقوع ملحق بالمستحيل الممنوع وهو نوع التورية والاستخدام الذي تقف الأفهام حسرى دون غايته عند مرامي المرام
( نوع يشق على الغبي وجوده ... من أي باب جاء يغدو مقفلا )
لا يقرع هضبته فارع ولا يقرع بابه قارع إلا من تنحو البلاغة نحوه في الخطاب ويجري ريحها بأمره رخاء حيث أصاب على أن المتقدمين ما قصدوه جملة كافية ولا شعروا به لما شعروا أنه دخل معهم في بيت تحت قفل قافيه وأما المولدون من الشعراء كالفرزدق وجرير ومن عاصرهما وخاض معهما لجة بحر البلاغة فلم يرد أحد منهم ورد هذا الغدير وأما الذين تفقهوا من بعدهم في الأدب وتنبهوا لتخلل طرقه بالطلب فربما قصدوا بعض أنواع البديع فجادت إذ جاءت وفاتت مرة أخرى وأخرى فاءت وقد قصد أبو تمام كثيرا من الجناس وفتح أبوابه وشرع طرقه للناس
وأما التورية والاستخدام فما تنبه لمحاسنهما وتيقظ وتحرى وتحرر وتحفد وتحفظ إلا من تأخر من الشعراء والكتاب وتضلع من العلوم وتطلع من كل باب وأظن أن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى هو الذي ذلل منهما الصعاب وأنزل الناس بهذه الساحات والرحاب حتى ارتشف هذه السلافة أهل عصره وأصحابه الذين نزلوا ربوع مصره وخفقت رياحهم بالإخلاص في نصره كالقاضي السعيد هبة الله بن سنا الملك ومن انخرط معه في هذا السلك ولم يزل هو ومن عاصره على هذا المنهج في ذلك الأوان ومن جاء بعدهم من التابعين بإحسان إلى أن جاء بعدهم حلبة أخرى وزمرة تترى فكلهم يرمون في هذا الإحسان عن قوس واحدة وينفقون من مادة هي في الجود معن بن زائدة ويصلون المقطوع بالمقطوع فلا تخلو فيه كلمة فائتة من فائدة وغالب شعرهم على هذا النمط وأكثره درر أسماع متى تلتق تلتقط كأبي الحسين
(1/122)
________________________________________
الجزار والسراج الوراق والنصير الحمامي والحكيم شمس الدين بن دانيال والقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر فهؤلاء هم الفحول الذين جدوا بعد القاضي الفاضل إلى هذه الغاية ورفعوا راية هذا النوع وكان كل منهم عرابة تلك الراية تسابقوا جيادا والديار المصرية لهم حلبة وتلاحقوا أفرادا وهم في شرف هذا الفن من هذه النسبة
وجاء من شعراء الشام جماعة تأخر عصرهم وتأزر نصرهم ولأن في هذا النوع هصرهم وبعد حصرهم فيما أرادوه كما زاد حصرهم كل ناظم تود الشعرى لو كانت له شعرا ويود الصبح لو كان له طرسا والغسق مدادا والنثرة نثرا منهم شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة والأمير مجير الدين بن تميم وبدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي ومحيي الدين بن قرناص وشمس الدين بن محمد العفيف وسيف الدين بن المشد
ثم إن الشيخ صلاح الدين قال في آخر هذا الفصل وهؤلاء معهم جماعة يحضرني ذكرهم عند شعرهم ويعز علي أن لم أرهم على تكاثرهم لفوات عصرهم وكأني بقائل يقول لقد أفرطت في التعصب لأهل مصر والشام على من دونهم من الأنام وهذا باطن باطل وعدوان وحمية لأوطانك وما جاورها من البلدان فالجواب إن الكلام في التورية والاستخدام لا غير ومن هنا تنقطع المادة في السير ومن ادعى أنه يأتي بدليل وبرهان فالمقياس بيننا والشقراء والميدان
وقد رجح صاحب يتيمة الدهر شعراء الشام على شعراء العراق وقال إنهم حازوا قصبات السبق عليهم في حلبة السباق فإنهم قوم جبلت طباعهم على اللطافة وطبعت جبلتهم على الكيس والظرافة
انتهى كلام الشيخ صلاح الدين الصفدي
قلت واتصل هذا الحديث القديم بالشيخ جمال الدين بن نباتة فأينع فرعه النباتي بغصنه ووريقه واستعبد التورية والاستخدام في سوق رقية فمن استخداماته ما أرانا من استخدام البحتري عيب الوليد وقلنا بعده في استخدام أبي العلاء ليس على الأعمى حرج فإنه مشى على الحس في ظلمة التعقيد واستخدام الشيخ جمال الدين الموعود به قوله من قصيدة رائية امتدح بها النبي
( إذا لم تفض عيني العقيق فلا رأت ... منازله بالقرب تبهي وتبهر )
( وإن لم تواصل عادت السفح مقلتي ... فلا عادها عيش بمغناه أخضر )
(1/123)
________________________________________
أنظر أيها المتأمل إلى حصة الاشتراك بين الاستخدامين وانسجام البيت الأول مع البيت الثاني وسيلان الرقة لذا القطر النباتي والتشبيب المرقص بالمنازل الحجازية والغزل الذي يليق أن تصدر به المدائح النبوية
ولعمري إنه مشى على طريق صاحب الإيضاح فزاده إيضاحا ولو دعي إلى عروس الأفراح زاده أفراحا وهذه القصيدة التي ظفرت منها بهذين الاستخدامين محاسنها غرر في جباه القصائد ولأنواع البديع بها صلة ومن أبياتها عائد منها
( سقى الله أكناف الغضى سائل الحيا ... وإن كنت أسقى أدمعا تتحدر )
( وعيشا نضى عنه الزمان بياضه ... وخلفه في الرأس يزهو ويزهر )
( تغير ذاك اللون مع من أحبه ... ومن ذا الذي يا عز لا يتغير )
( وكان الصبا ليلا وكنت كحالم ... فوا أسفي والشيب كالصبح يسفر )
( يعللني تحت العمامة كتمه ... فيعتاد قلبي حسرة حين أحسر )
( وينكرني ليلى وما خلت أنه ... إذا وضع المرء العمامة ينكر )
ومنها
( وغيداء أما جفنها فمؤنث ... كليل وأما لحظها فمذكر )
( يروقك جمع الحسن في لحظاتها ... على أنه بالجفن جمع مكسر )
( يشف وراء المشرفية خدها ... كما شف من دون الزجاجة مسكر )
( خليلي كم روض نزلت فناءه ... وفيه ربيع للنزيل وجعفر )
( وفارقتها والطير صافرة بها ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر )
ومنها في وصف الناقة
( ورب طموح العزم أدماء جسرة ... يظل بها عزمي على البيد يجسر )
( طوت بذراعي وخدها شقة الفلا ... وكف الثريا في دجى الليل يشبر )
(1/124)
________________________________________
( ومد جناحي طلها ألف الضحى ... فشدت كما شد النعام المنفر )
( بصم الحصى ترمي الحداة كأنما ... تغار على محبوبها حين يذكر )
( إذا ما حروف العيس خطت بقفرة ... غدت موضع العنوان والعيس أسطر )
( فلله حرف لا ترام كأنها ... لو شك السرى حرف لدى الشد مضمر )
وعارض الشيخ جمال الدين بن نباتة جماعة نسجوا على منواله في عصره لكن الذوق السليم يشهد أنهم كانوا خلاسة قطره
وهذا الشرح هو جامعهم الكبير وإذا ذكرت فيه نظائرهم فاعلم أنه ليس له فيهم نظير
نرجع إلى الاستخدام وشواهده وإيراد أبيات البديعيات فيه فبيت صفي الدين قوله
( من كل أبلج واري الزندي يوم قرى ... مشمر عنه يوم الحرب مصطلم )
العميان
( إن الغضى لست أنسى أهله فهم ... شلوه بين ضلوعي يوم بينهم )
أقول لو عاش البحتري ما صبر للعميان على هذه السرقة الفاحشة فإنهم أخذوا لفظه ومعناه وضميره وما اختشوا من الحرج ولا سلموا من النقد
وبيت عز الدين
( والعين قرت بهم لما بها سمحوا ... واستخدموها من الأعدا فلم تنم )
قوله والعين قرت بهم لما بها سمحوا في غاية الحسن فإنه أتى بالاستخدام وعود الضمير في شطر البيت مع الانسجام والرقة واستخدامه في العين الناظرة وعين المال وأما قوله في الشطر الثاني واستخدموها من الأعدا فلم تنم ما أعلم ما المراد به فإن الاستخدام في العين التي هي الجارحة قد تقدم والذي يظهر لي أن اضطراره إلى تسمية النوع ألجأه إلى ذلك وبيت بديعيتي
( واستخدموا العين مني فهي جارية ... وكم سمحت بها أيام عسرهم )
فالتورية في جارية بعدما استخدموها لم يوجد في سوق الرقيق مثلها والعود بالضمير مع تمكن القافية وعدم التكلف والحشو لا يخفى على أهل الذوق السليم فإن قافية مصطلم في بيت صفي الدين تمجه الأذواق
انتهى الكلام على الاستخدام
(1/125)
________________________________________
ذكر الهزل الذي يراد به الجد
( والبين هازلني بالجد حين رأى ... دمعي وقال تبرد أنت بالديم )
قال صاحب التلخيص ومنه يعني فن البديع الهزل الذي يراد به الجد كقوله
( إذا ما تميمي أتاك مفاخرا ... فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب )
ولم يزد على ذلك شيئا
والهزل الذي يراد به الجد هو أن يقصد المتكلم مدح إنسان أو ذمه فيخرج من ذلك المقصد مخرج الهزل والمجون اللائق بالحال كما فعل أصحاب النوادر ومثل أشعب وأبي دلامة وأبي العيناء ومزيد ومن سلك مسلكهم كما حكي عن أشعب أنه حضر وليمة بعض ولاة المدينة وكان رجلا بخيلا فدعا الناس ثلاثة أيام وهو يجمعهم على مائدة فيها جدي مشوي فيحوم الناس حوله ولا يمسه أحد منهم لعلمهم ببخله وأشعب كان يحضر مع الناس ويرى الجدي فقال في اليوم الثالث زوجته طالق إن لم يكن عمر هذا الجدي بعد أن ذبح وشوي أطول من عمره قبل ذلك
ومن شواهد الهزل الذي يراد به الجد ما أنشده ابن المعتز من قول أبي العتاهية
( أرقيك أرقيك بسم الله أرقيكا ... من بخل نفسك على الله يشفيكا )
( ما سلم كفك إلا من يناولها ... ولا عدوك إلى من يرجيكا )
(1/126)
________________________________________
والفاتح لهذا الباب امرؤ القيس وقوله أبلغ ما سمع فيه وألطف وهو
( وقد علمت سلمى وإن كان بعلها ... بأن الفتى يهذي وليس بفعال )
قال زكي الدين بن أبي الأصبع ما رأيت أحسن من قوله ملتفتا وإن كان بعلها
انتهى
وهذا النوع أعني الهزل الذي يراد به الجد ما سبكه في قوالبه إلا من لطفت ذاته وكان له ملكة في هذا الفن وحسن تصرف
ومن أظرف ما وقع في هذا الباب أنه حصل لي بالديار المصرية جرب أشرفت منه على التلف فوصف لي الحكيم بطيخا وهو عزيز الوجود في تلك الأيام فبلغني أنه أهدي إلى مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية عظم الله تعالى شأنه بطيخ فكتبت إليه
( مولاي عاقبني الزمان بجربة ... وقد انقطعت بجسمي المسلوخ )
( وعميت من حزني على ما تم لي ... لكن شممت روائح البطيخ )
فالكناية على طلب البطيخ سبكت في أحسن قوالب الهزل مع حسن التضمين ومثله قولي
( جاء الشتاء فرأسي ... والجسم صارا شماته )
( بطيلسان ابن حرب ... وفروة ابن نباته )
ففي طيلسان ابن حرب وفروة ابن نباتة مع ما فيهما من الهزل الظاهر كنايتان عن الفقر الذي تزايد حده وطيلسان ابن حرب معروف لشهرته وأما فروة ابن نباتة ففيها إشارة إلى قوله
( زرقة جسمي وبياض ثلجها ... سنجابي الأبلق في فصل الشتا )
(1/127)
________________________________________
ومثله قولي
( وصاحب تسمح لي نفسه ... بغدوة لكن إذا ما انتشا )
( يضحك سني للغدا عنده ... لكنني أقلع ضرسي للعشا )
فيه على الهزل الذي يراد به الجد زيادة تلطف الاستدراك ومراعاة النظير وكان هذا الصاحب تغمده الله برحمته ورضوانه من أعز الأصحاب علي ولكن التصريح باسمه غير ممكن هنا وبين الهزل الذي يراد به الجد وبين التهكم فرق لطيف وهو أن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل وهذا النوع بالعكس
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( أشبعت نفسك من ذمي فهاضك ما ... تلقى وأكثر موت الناس بالتخم )
فقوله وأكثر موت الناس بالتخم كناية يهزلون بها على من يفزط في أكل شيء ويخص به نفسه
وبيت العميان
( قل للصباح إذا ما لاح نورهم ... إن كان عندك هذا النور فابتسم )
لم أر في بيت العميان هذا هزلا يراد به الجد والله أعلم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( هزل أريد به جد عتابك لي ... كما كتمت بياض الشيب بالكتم )
الشيخ عز الدين غفر الله له حكى هنا حكاية لم يسعني الكلام عليها لئلا يطول الشرح
وبيت بديعيتي
( والبين هازلني بالجد حين رأى ... دمعي وقال تبرد أنت بالديم )
أنظر أيها المتأمل هنا بنور الله تعالى فإن الهزل الذي يراد به الجد أنا ملتزم تسميته وقد استوعب شطر البيت وانظر كيف أفرغت هذا النوع الغريب في أحسن القوالب وأغرب المعاني فإن الدمع تزايد انهماله إلى أن صار كالديم الهاطلة والبين يغبطني بذلك مهازلا ويقول لي تبرد أنت بهذه الديم
(1/128)
________________________________________
ذكر المقابلة
( قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا ... ولوا غضابا فيا حربي لغيظهم )
المقابلة أدخلها جماعة في المطابقة وهو غير صحيح فإن المقابلة أعم من المطابقة وهي التنظير بين شيئين فأكثر وبين ما يخالف وما يوافق
فبقولنا وما يوافق صارت المقابلة أعم من المطابقة فإن التنظير بين ما يوافق ليس بمطابقة وهذا مذهب زكي الدين بن أبي الأصبع فإنه قال صحة المقابلات عبارة عن توخي المتكلم بين الكلام على ما ينبغي فإذا أتى بأشياء في صدر كلامه أتى بأضدادها في عجزه على الترتيب بحيث يقابل الأول بالأول والثاني بالثاني لا يخرم من ذلك شيئا في المخالف والموافق ومتى أخل بالترتيب كانت المقابلة فاسدة وقد تكون المقابلة بغير الأضداد والفرق بين المطابقة والمقابلة من وجهين أحدهما أن المطابقة لا تكون إلا بالجمع بين ضدين والمقابلة تكون غالبا بجمع بين أربعة أضداد ضدان في صدر الكلام وضدان في عجزه وتبلغ إلى الجمع بين عشرة أضداد خمسة في الصدر وخمسة في العجز
والثاني أن المطابقة لا تكون إلا بالأضداد والمقابلة بالأضداد وغير الأضداد ولكن بالأضداد أعلا رتبة وأعظم موقعا
ومن معجزات هذا الباب قوله عز و جل ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) فانظر إلى مجيء الليل والنهار في صدر الكلام وهما ضدان ثم قابلهما في عجز الكلام بضدين وهما السكون والحركة على الترتيب ثم عبر عن الحركة بلفظ الأرداف فالتزم الكلام ضربا من
(1/129)
________________________________________
المحاسن زائدا على المقابلة فإنه عدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل لكون الحركة تكون لمصلحة ولمفسدة وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة وهي تشير إلى الإعانة بالقوة وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل وسلامة الحس وإضافة الطرف إلى تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المآرب ويتقي أسباب المهالك
والآية الشريفة سيقت للاعتداد بالنعم فوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ هو ردفه ليتم حسن البيان فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح التي لو عددت بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنها إلى ألفاظ كثيرة فحصل في هذا الكلام بهذا السبب عدة ضروب من المحاسن
ألا تراه سبحانه وتعالى كيف جعل العلة في وجود الليل والنهار حصول منافع الإنسان حيث قال لتسكنوا ولتبتغوا بلام التعليل فجمعت هذه الكلمات من أنواع البديع المقابلة والتعليل والإشارة والإرداف وائتلاف اللفظ مع المعنى وحسن البيان وحسن النسق فلذلك جاء إكلام متلائما آخذا بعضه بأعناق بعض ثم أخبرنا بالخبر الصادق إن جميع ما عدده من النعم باللفظ الخاص وما تضمنته العبارة من النعم التي تلزم من لفظ الأرداف بعض رحمته حيث قال بحرف التبعيض ومن رحمته
وهذا كله في بعض آية عدتها عشر كلمات فالحظ هذه البلاغة الباهرة والفصاحة الظاهرة
انتهى
ومن أمثلة صحة المقابلة في السنة الشريفة قول النبي ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان الخرق في شيء إلا شانه )
فانظر كيف قابل الرفق بالخرق والزين بالشين بأحسن ترتيب وأتم مناسبة
وهذا الباب في مقابلة اثنين باثنين ومنه قوله تعالى ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ) ومنه قول النبي ( إن لله عبادا جعلهم مفاتيح الخير مغاليق الشر )
ومنه وهو ظريف في مقابلة اثنين باثنين أن المنصور قال لمحمد ابن عمران إنك لبخيل
فقال يا أمير المؤمنين لا أحمد في حق ولا أذم في باطل
ومنه في النظم قول النابغة
( فتى كان فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا )
وقول الحلي
( ورنح الرقص منه عطفا ... خف به اللطف والدخول )
( فعطفه داخل خفيف ... وردفه خارج ثقيل )
(1/130)
________________________________________
وأخبرني مولانا قاضي القضاة الشافعي نور الدين الحاكم بحماة المحروسة المشهور بخطيب الدهشة أنه كان بحماة يهودي يطوف بالحناء والصابون على رأسه ويقول معي حناء أخضر جديد وصابون يابس عتيق
وأما مقابلة ثلاثة بثلاثة فقيل إن المنصور سأل أبا دلامة عن أشعر بيت في المقابلة فأنشده
( ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل )
فالشاعر قابل بين أحسن وأقبح وبين الدين والكفر والدنيا والإفلاس
قال ابن أبي الأصبع إنه لم يقل قبله مثله
ومن مقابلة أربعة بأربعة قوله تعالى ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) المقابلة بين قوله واستغنى وقوله واتقى لأن معناه زهد فيما عنده واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة وذلك يتضمن عدم التقوى ومن مقابلة أربعة بأربعة قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته عند الموت هذا ما أوصى به أبو بكر عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها وأول عهده بالآخرة داخلا فيها
فقابل أولا بآخر والدنيا بالآخرة وخارجا بداخل ومنها بفيها
فانظر إلى ضيق هذا المقام كيف صدر عنه مثل هذا الكلام
قال علماء البديع كلما كثر عددها كانت أبلغ
فمن مقابلة خمسة بخمسة قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه لعثمان بن عفان رضي الله عنهما إن الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي وأنت رجل إذا صدقت سخطت وإن كذبت رضيت
وأوردوا لأبي الطيب في مقابلة خمسة بخمسة
( أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي )
قال صاحب الإيضاح ضد الليل المحض هو النهار لا الصبح والمقابلة الخامسة بين بي ولي فيها نظر لأن الباء واللام صلتا الفعلين ورجح بيت أبي دلامة
(1/131)
________________________________________
المتقدم على بيت أبي الطيب بجودة المقابلة ولكن القافية مستدعاة فإن الذي ذكره مختص بالرجل وبغيره والمعنى قد تم بدون الرجل قال زكي الدين بن أبي الأصبع لو كان لما اضطر إلى القافية أفاد بها معنى زائدا بحيث يقول بالبشر لكان البيت نادرا
وعلى كل تقدير بيت أبي دلامة أفضل من بيت المتنبي لصحة المقابلة لأنه قابل بالأضداد والمتنبي بغير الأضداد والمقابلة بالأضداد أفضل وهو مذهب السكاكي فإنه قال المقابلة أن تجمع بين شيئين متوافقين فأكثر ثم إذا شرطت هناك شيئا شرطت هناك ضده
انتهى
وبيت المتنبي أفضل بالكثرة عند غير السكاكي وإن المقابلة عنده لا تصح إلا بالأضداد وأسلم من بيت أبي الطيب في التركيب ما أورده الصاحب شرف الدين مستوفي أربل
( على رأس عبد تاج عز يزينه ... وفي رجل حر قيد ذل يشينه )
وبيت صفي الدين الحلي
( كان الرضا بدنوي من خواطرهم ... فصار سخطي لبعدي عن جوارهم )
فقابل الرضا بالسخط والدنو بالبعد ولفظة من بعن فإذا قلنا إن من ضد عن سلم له أربعة بأربعة وخواطرهم بجوارهم على مذهب من يرى أن المقابلة تجوز بالأضداد وبغيرها وبيت العميان
( بواطئ فوق خد الصبح مشتهر ... وطائر تحت ذيل الليل مكتتم )
بيت العميان أمكن من بيت صفي الدين في المقابلة لأنهم قابلوا واطئا بطائر لأن الواطئ هو الماشي على الأرض والطائر السائر في الهواء وفوق بتحت وخد بذيل لما بينهما من معنى العلو والسفل والصبح بالليل ومشتهر بمكتتم وانظر لفظة مشتهر مع مكتتم وهي القافية التي لا يمكن أمكن منها ولفظة خواطرهم ومقابلتها بجوارهم في بيت صفي الدين وما بينهما من المباينة غير أن ثقل قولهم بواطئ يشق حمله على لطيف الذوق وبيت الشيخ عز الدين
( ليل الشباب وحسن الوصل قابله ... صبح المشيب وقبح الهجر واندمي )
(1/132)
________________________________________
قابل بين ليل وصبح وشباب ومشيب وحسن وقبح والوصل والهجر وهي مقابلة صحيحة بين الأضداد وأتى بلفظة قابله اضطرارا لتسمية النوع وأما قوله واندمي فقافية مستدعاة أجنبية من المقابلة فإنه لم يؤهلها لمقابلة ضد ولا لغيره بل تركها بمنزلة الأجانب وبيت بديعيتي
( قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا ... ولوا غضابا فيا حربي لغيظهم )
قد تقرر أن الشيخ عز الدين لم يأت بلفظة قابله في بيته إلا اضطرارا لتسمية النوع فإنه لم يقابلها بشيء فانظر كيف أتيت بلفظة قابلتهم في أول البيت وقابلتها في الشطر الآخر بلفظة ولوا ومقابلة بقية الأضداد من الرضا والغضب والسلم والحرب ظاهرة
وتمكين القافية بغيظهم ومقابلتها بالانشراح أظهر فإن القافية إذا كانت ممكنة وهي جارية في عداد المقابلات كانت من أعلى رتب هذا النوع كما تقدم في بيت المتنبي وبيت أبي دلامة
وقافية العميان منتظمة في هذا العقد بخلاف بيت صفي الدين وبيت عز الدين
انتهى
(1/133)
________________________________________
ذكر الالتفات
( وما أروني التفاتا عند نفرتهم ... وأنت يا ظبي أدري بالتفاتهم )
فسر قدامة الالتفات بأن قال هو أن يكون المتكلم آخذا في معنى فيعترضه إما شك فيه أو ظن أن رادا يرده عليه أو سائلا يسأله عن سببه فيلتفت إليه بعد فراغه منه فإما أن يجلي الشك أو يؤكده أو يذكر سببه كقول الرماح بن ميادة
( فلا صرمه يبدو وفي اليأس راحة ... ولا وصله يصفو لنا فنكارمه )
فكأن الشاعر توهم أن قائلا يقول له وما تصنع بصرمه فقال لأن في اليأس راحة
وأما ابن المعتز فقال الالتفات انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة ومثاله في الكتاب قوله تعالى بعد الإخبار بأن الحمد لله رب العالمين ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وكقوله تعالى ( إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ) وكقوله تعالى ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) ومثال ذلك من الشعر قول جرير
( متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام )
(1/134)
________________________________________
وانصرف المتكلم عن الخطاب إلى الأخبار وهو عكس الأول كقوله تعالى ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ) ومثاله أيضا قول عنترة
( ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم )
ثم قال يخبر عن هذه المخاطبة
( كيف المزار وقد تربع أهلنا ... بعنيزتين وأهلها بالغيلم )
أو انصراف المتكلم عن الأخبار إلى التكلم كقوله تعالى ( والله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت ) أو انصراف المتكلم عن التكلم إلى الأخبار وهو كقوله تعالى ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) والقراءة في الكلمات الثلاث بالنون شاذة نقلها صاحب البحر الزاخر وفي هذا الكتاب سبعة آلاف رواية
وقد جمع امرؤ القيس الالتفاتات الثلاث في ثلاثة أبيات متواليات وهي قوله
( تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلي ولم ترقد )
( وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد )
( وذلك من نبإ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود )
فخاطب في البيت الأول وانصرف عن الخطاب إلى الإخبار في البيت الثاني وانصرف عن الإخبار إلى التكلم في البيت الثالث على الترتيب
وما أحلى قول مهيار بن مرزويه في قصيدته التي سارت بمحاسنها الركبان وامتدح بها الوزير زعيم الدين في يوم نوروز سنة ثمان وعشرين وأربعمائة والمطلع هو
( بكر العارض تحدوه النعامى ... فسقاك الري يا دار أماما )
(1/135)
________________________________________
فانصرف عن الإخبار إلى المخاطبة في بيت واحد ومثله في اللطف قول القاضي الأرجاني
( وهل هي إلا مهجة يطلبونها ... فإن أرضت الأحباب فهي لهم فدى )
( إذا رمتم قتلي وأنتم أحبتي ... فماذا الذي أخشى إذا كنتم عدى )
ومثله قول أبي الطيب
( لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا )
( بما بجفنيك من سحر صلى دنفا ... يهوى الحياة وأما إن صددت فلا )
ومثله قول أبي العلاء
( يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر )
( لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر )
ومن لطائف الالتفات بالانصراف من الخطاب إلى الإخبار قول ابن نبيه
( من سحر عينيك الأمان الأمان ... قتلت رب السيف والطيلسان )
( أسمر كالرمح له مقلة ... لو لم تكن كحلاء كانت سنان )
فقوله عن المقلة بعد تشبيه القوام بالرمح أنها لو لم تكن كحلاء كانت سنان بديع وغريب
ومن أغرب ما وقع لي في هذا النوع اللطيف أنني صرحت باسم الالتفات عند وقوعه بقولي من قصيدة قلت فيها
( والله إن لم ألقهم من بعد ذا ... فعلى زماني لم أزل متعتبا )
( وقد التفت إليك يا دهري بطول ... تعتبي ويحق لي أن أعتبا )
( قررت لي طول الشتات وظيفة ... وجعلت دمعي في الخدود مرتبا )
واتفق لي أيضا نظير ذلك في رسالة كتبت بها إلى العلامة بدر الدين ابن قاضي أذرعات رحمه الله منها سكن القلب وغير بدع إذا كان القلب للبدر منزلا ورام هلال الأفق أن يباهي سموه بمطلعه فقلنا ما أنت من براعة هذا الاستهلال ولا تطاول الرامح إلى الطعن في محله الذي يجل قدرا عن مناظر ومباهي فقلنا له أقصر مكتفيا وإلا
(1/136)
________________________________________
فعند التناهي ولقد شوقتني ظباء المعالي في هذا المسرح إلى الالتفات فقلت ملتفتا إلى تلك الليالي المقمرة بنوره وقطوف الفواكه البدرية دانيات
( أيا بدرا سما أفق المعالي ... وأوقع طائرا من كل نسر )
( ذكرت لياليا بك قد تقضت ... فيا شوقي إلى ليلات بدر )
وأما بيت القصيدة أعني البديعية فإنه البيت الذي حظيت من بابه بالفتح وناداه الغير من وراء حجراته وتغايرت ظباء الصريم وهو في سرب بديعه على حسن التفاته وودت ربوع البديعيات أن يسكن منها في بيت ولكن ( راودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت ) ولقد أنصف الحريري في المقامة الحلوانية عند إيراد البيت الجامع لمشبهات الثغر بقوله يا رواة القريض وأساة القول المريض إن خلاصة الجوهر تظهر بالسبك ويد الحق تصدع رداء الشك
وها أنا قد عرضت خبيئتي للاختبار وعرضت حقيبتي على الاعتبار وقلت وأنا ماش في عرض بيت بديعيتي على هذا السنن وأرجو أن يكون بحسن التفاته في مرآة الذوق مثل الغزال نظرة ولفتة وسأبرزه بين أقرانه وإذا انسدلت غدائر الأشكال ظهر الفرق من نور بيانه فبيت الشيخ صفي الدين
( وعاذل رام بالتعنيف يرشدني ... عدمت رشدك هل أسمعت ذا صمم )
ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع وأما بيت عز الدين
( وما التفت لساع حج في شغف ... ما أنت للركن من وجدي بملتزم )
وبيت بديعيتي
( وما أروني التفاتا عند نفرتهم ... وأنت يا ظبي أدري بالتفاتهم )
فهذا البيت فيه التورية بتسمية النوع وقد برزت في أحسن قوالبها ومراعاة النظير في الملائمة بين الالتفات والظبي والنفرة والانسجام الذي أخذ بمجامع القلوب رقة والتمكين الذي ما تمكنت قافية باستقرارها في بيت كتمكين قافيته والسهولة التي عدها التيفاشي في باب الظرافة وناهيك بظرافة هذا البيت والتوشيح وهو الذي يكون معنى أول الكلام دالا على آخره ورد العجز على الصدر والالتفات الذي هو المقصود دون غيره من الأنواع فقد اشتمل هذا البيت على ثمانية أنواع من البديع مع عدم التكلف والله تعالى أعلم
(1/137)
________________________________________
ذكر الافتنان
( تغزلي وافتناني في شمائلهم ... أضحى رثا لاصطباري بعد بعدهم )
الافتنان هو أن يفتن الشاعر فيأتي بفنين متضادين من فنون الشعر في بيت واحد فأكثر مثل النسيب والحماسة والمديح والهجاء والهناء والعزاء فأما ما افتن به الشاعر من النسيب والحماسة كقول عنترة
( إن تغدقي دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئم )
فأول البيت نسيب وآخره حماسة وكقول أبي دلف ويروى لعبد الله بن ظاهر
( أحبك يا ظلوم وأنت مني ... مكان الروح من جسد الجبان )
ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان )
ومما جمع فيه بين التهنئة والتعزية قوله تعالى ( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ) ومما جمع فيه بين التعزية والفخر قوله تعالى ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) ومن إنشاء العلامة الشهاب محمود ما كتب به من رسالة تهنئة وتعزية لمن رزقه الله تعالى ولدا ذكرا في يوم وماتت له بنت قوله
(1/138)
________________________________________
ولا عتب على الدهر فيما اقترف إن كان قد ساء فيما مضى فقد أحسن الخلف
واعتذر بما وهب عما سلب فعفا الله عما سلف
ومما جمع فيه من النظم بين التهنئة والتعزية قول بعض الشعراء ليزيد بن معاوية لما دفن أباه وجلس للتعزية
( إصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا )
( لا رزء أصبح في الإسلام نعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا )
وقال زكي الدين بن أبي الأصبع أحسن شعر افتن فيه صاحبه بالجمع بين التعزية والتهنئة قول أبي نواس للعباس بن الفضل بن الربيع يعزيه بالرشيد ويهنيه بالأمين حيث قال
( تعز أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان أو هو كائن )
( حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساو مرة ومحاسن )
( وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن )
ولعمري إن جمال الدين بن نباتة رحمه الله قال في تعزية الملك المؤيد صاحب حماة وتهنئة ولده الأفضل بالسلطنة بعد أبيه ما هو أحسن من قول أبي نواس الذي استحسنه ابن أبي الأصبع وقول من تقدمه
وإن تأخر ابن نباتة فقد تقدم بنباته فإنه استطرب في قصيدة مطولة بالجمع بين التهنئة والتعزية إلى آخرها وأتى بمعان منها سلامة الاختراع والذي يؤدي إليه اجتهاد ذوقي إن هذه القصيدة من العجائب في هذا النوع وأوردت مطلعها في براعة الاستهلال لكن تعين إيراده هنا لندخل منه إلى بيوت القصيدة المشتملة على هذا النوع ليتأيد ما أشرت إليه من غرابة أسلوبها وهو قوله رحمه الله تعالى
( هناء محا ذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما )
( ثغور ابتسام في ثغور مدامع ... شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما )
( نرد مجاري الدمع والبشر واضح ... كوابل غيث في ضحى الشمس قد همى )
( سقى الغيث عنا تربة الملك الذي ... عهدنا سجاياه أعز وأكرما )
(1/139)
________________________________________
( ودامت يد النعمى على الملك الذي ... تدانت به الدنيا وعز به الحمى )
( مليكان هذا قد هوى لضريحه ... برغمي وهذا للأسرة قد سما )
( وروضة أصل شاذوي تكافأت ... فغصن ذوى منها وآخر قد نما )
( فقدنا لأعناق البرية مالكا ... وسمنا لأنواع الجميل متمما )
( كأن ديار الملك غاب إذا انقضى ... به ضيغم أنشأ به الدهر ضيغما )
( كأن عماد الدين غير مقوض ... وقد قمت يا أزكى الأنام وأحزما )
( فإن يك من أيوب نجم قد انقضى ... فقد أطلعت أوصافك الغر أنجما )
( وإن تك أيام المؤيد قد مضت ... فقد جددت علياك وقتا وموسما )
( هو الغيث ولى بالثناء مشيعا ... وأبقاك بحرا بالمواهب منعما )
وكانت وفاة الملك المؤيد في شهر المحرم فقال ولم يخرج عما نحن فيه
( بك انبسطت فينا التهاني وأنشأت ... ربيع الهنا حتى نسينا المحرما )
والجمع بين التهنئة والتعزية في نوع الافتنان أصعب مسلكا من الجمع بين النسيب والحماسة لشدة التناقض بينهما
ومن أظرف ما رأيت في هذا النوع أن ابن حجاج جمع في الافتنان بين التعزية والمدح المؤدي إلى التهكم بقوله في تعزية بعض الرؤساء بأبيه في بيت واحد وهو
( أبوك قد جمل أهل الثرى ... فجمل الله به المقبره )
وأما الغزل المخمس فكثير في نظم الفحول وغيرهم وما أحلى قول مهيار الديلمي في بيت واحد
( وأتعب من حاولت يا قلب وصله ... حبيب سنان السمهري رقيبه )
وممن أتحف الأذواق بحلاوة هذا النوع وجمع فيه بين النسيب والحماسة القاضي الأرجاني رحمه الله تعالى في قوله
( نزل الأحبة ساحة الأعداء ... فغدا لقاء منهم بلقاء )
(1/140)
________________________________________
وما أحلى ما قال بعده
( كم طعنة نجلاء تعرض بالحمى ... من دون نظرة مقل نجلاء )
فتحدثنا سرا فحول قبابها ... سمر الرماح يملن للإصغاء )
( من كل باكية دما من دونها ... يوم الطعان بمقلة زرقاء )
يا دمية من دون رفع سجوفها ... خوض القنا بالخيل بحر دماء )
( لو ساعد الأحباب قلت تجلدا ... أهون علي بملتقى الأعداء )
ومثله قول أبي الطيب في بيت وكل من النصفين كامل في معناه
( عدوية بدوية من دنها ... سلب النفوس ونار حرب توقد )
وممن تفنن في هذا النوع وجمع بين رقة النسيب وفخامة الحماسة إبراهيم بن محمد الأنصاري الساحلي المنبوز بطويحن جرى ذكره في التاج بما نصه جواب الآفاق ومحالف الرفاق رفع له ببلده راية للأدب لا تحجم وأصبح نسيج وحده فيما سدى وألحم فإن نسب صار للنسيب شرف ونسب وإن مدح قدح من أنوار فطنته ما قدح كم حرك الجامد ونظم الجمان في سلوك المحامد فمن قوله في الافتنان الذي جمع فيه بين الحماسة والتشبب
( خطرت كمياد القنا المتأطر ... ورنت بألحاظ الغزال الأعفر )
( وأتتك بين تطاعن وتداعب ... في فتك قسورة وعطفة جؤذر )
وما أبدع قوله منها
( وبملعب الصدغين مطرود جنة ... زحفت عليه كتائب ابن المنذر )
وله ولم يخرج عما نحن فيه
( زارت وفي كل مرمى لحظ محترس ... وحول كل كناس كف مفترس )
(1/141)
________________________________________
وما أحلى ما قال بعده
( مهما تلا خدها الزاهي الضحى نطقت ... سيوف آماقها عن آية الحرس )
ويعجبني قول أبي الفتوح بن قلاقس
( عقدوا الشعور معاقد التيجان ... وتقلدوا بصوارم الأجفان )
( ومشوا وقد هزوا رماح قدودهم ... هز الكماة عوالي المران )
( وتدرعوا زردا فخلت أراقما ... خلعت ملابسها على الغزلان )
وممن افتن في قصيدة كاملة وتفنن وخلص من تفخيم الحماسة والفخر إلى رقة الغزل وأحسن القاضي السعيد هبة الله بن سنا الملك رحمه الله فإنه قسم القصيدة شطرين وتلاعب في ميدان البلاغة بالفنين وهذه القصيدة تقف دونها فرسان الحماسة ويكبو الجواد من فحولها وينثني من لطائف غزلها من لعبت بلطف شمائله خمر لطف شمولها وهي
( سواي يخاف الدهر أو يرهب الردى ... وغيري يهوى أن يكون مخلدا )
( ولكنني لا أرهب الدهر إن سطا ... ولا أحذر الموت الزؤام إذا عدا )
( ولو مد نحوي حادث الدهر طرفه ... لحدثت نفسي أن أمد له يدا )
( توقد عزم يترك الماء جمرة ... وحلية حلم تترك السيف مبردا )
( وفرط احتقار للأنام فإنني ... أرى كل عار من حلا سؤددي سدى )
( وأظمأ أن أبدي إلى الماء منة ... ولو كان لي نهر المجرة موردا )
( ولو كان إدراك الهدى بتذلل ... رأيت الهدى أن لا أميل إلى الهدى )
( وقدما بغيري أصبح الدهر أشيبا ... وبي بل بفضلي أصبح الدهر أمردا )
( وإنك عبدي يا زمان وإنني ... على الكره مني أن أرى لك سيدا )
( وما أنا راض أنني واطئ الثرى ... ولي همة لا ترتضي الأفق مقعدا )
( ولو علمت زهر النجوم مكانتي ... لخرت جميعا نحو وجهي سجدا )
( وبذل نوالي زاد حتى لقد غدا ... من الغيظ منه ساكن البحر مزبدا )
(1/142)
________________________________________
( ولي قلم في أنملي إن هززته ... فما ضرني أن لا أهز المهندا )
( إذا جال فوق الطرس وقع صريره ... فإن صليل المشرفي له صدا )
والمخلص من الحماسة والفخر إلى الغزل قوله
( ومن كل شي قد صحوت سوى هوى ... أقام عذولي بالملام وأقعدا )
( إذا وصل من أهواه لم يك مسعدي ... فليت عذولي كان بالصمت مسعدا )
( بحب حبيبي من يكون مفندا ... فيا ليتني كنت العذول المفندا )
( وقال لقد آنست نارا بخده ... فقلت وإني ما وجدت بها هدى )
( وكم لي إلى دار الحبيب التفاتة ... تذكرني عهدا قديما ومعهدا )
( ولم أدم ذاك الخد باللحظ إنما ... عملت خلوقا حين أبصرت مسجدا )
( يراقب طرفي أن يلوح هلالها ... فقد طالما قد قام حين تعبدا )
( عبرت عليها واعتبرت تجلدي ... فيا حسرتي لما اعتبرت التجلدا )
( كأن بطرفي ما بقلبي صبابة ... فلم ير تلك الدار إلا تقيدا )
( وكم لجوادي وقفة في عراصها ... تعود منها جيدة ما تعودا )
( تعود ذاك الجيد مني أنني ... أصيره من در عيني مقلدا )
( ويا رب ليل بت فيه وبيننا ... عناق أعاد العقد عقدا مبددا )
( ولم أجعل الكف الشمال وسادة ... فبات على كفي اليمين موسدا )
( وجردته من ثوبه وأعدته ... بثوب عفافي كاسيا متجردا )
( وقربني حتى طربت إلى النوى ... وأوردني حتى صديت إلى الصدا )
( شهدت بأن الشهد والمسك ريقه ... وما كنت لو لم أختبره لأشهدا )
( وأن السلاف البابلية لحظة ... وإلا سلوا إنسانه كيف عربدا )
وممن حذا هذا الحذو ونسج على هذا المنوال ومشى فيه على طريق ما سلكها أحد قبله الصاحب بهاء الدين زهير فإنه كتب إلى كمال الدين بن العديم أبياتا معناها
(1/143)
________________________________________
أنه انتخبه لقضاء حاجة له ولم يؤهل غيره لها وتخلص منها إلى الغزل بما تستجلي منه عرائس البيان ويظهر به الافتنان وهي
( دعوتك لما أن بدت لي حاجة ... وقلت رئيس مثله قد تفضلا )
( لعلك للفضل الذي أنت ربه ... تغار فلا ترضى بأن تتبدلا )
( إذا لم يكن إلا تحمل منة ... فمنك وأما من سواك فلا ولا )
( حملت زمانا عنكم كل كلفة ... وخففت حتى آن لي أن أثقلا )
( ومن مذهبي المشهور مذ كنت أنني ... لغير حبيب قط لن أتذللا )
( وقد عشت دهرا ما شكوت لحادث ... بلى كنت أشكو الأغيد المتدللا )
( وما همت إلا للصبابة والهوى ... ولا خفت إلا سطوة الهجر والقلا )
( أروح وأخلاقي تذوب حلاوة ... وأغدو وأعطافي تسيل تعزلا )
وقد طال الشرح ولكن رأيت الافتنان نوعا غريبا فطلبت بالكثرة زيادة إيضاحه ليستضيء المتأمل في ظلمات الأشكال بنور مصباحه
وبيت الشيخ صفي الدين
( ما كنت قبل ظبا الألحاظ قط أرى ... سيفا أراق دمي إلا على قدم )
كان المطلوب من الشيخ صفي الدين في هذا النوع غير هذا النظم مع عدم تكلفه بتسمية النوع وأما العميان فإنهم لم ينظموا هذا أيضا في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين
( كان افتناني بثغر راق مبسمه ... صار افتناني بثغر فيه سفك دمي )
وبيت بديعيتي
( تغزلي وافتناني في شمائلهم ... أضحى رثا لاصطباري بعد بعدهم )
والجمع في افتنان هذا البيت بين النسيب الخالص والتعزية وكل من الشطرين مستقل بمعناه هو جمع غريب والكناية عن موت الصبر بأن التغزل أضحى رثاء له من ألطف الكنايات ويؤيد ذلك قولي بعد بعدهم
(1/144)
________________________________________
ذكر ابن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير نوعا يسمى التمريج لم ينظمه أصحاب البديعيات وهو قريب من الافتنان ولكن بينهما فرق دقيق لأن الافتنان لا يكون إلا بالجمع بين فنين من أغراض المتكلم كما تقدم والتمريج يخالف ذلك وهو الجمع بين الفنون والمعاني والله تعالى أعلم
(1/145)
________________________________________
ذكر الاستدراك
( قالوا نرى لك لحما بعد فرقتنا ... فقلت مستدركا لكن على وضم )
الاستدراك على قسمين قسم يتقدم الاستدراك فيه تقرير لما أخبر به المتكلم وتوكيد وقسم لا يتقدمه ذلك فمن أمثلة الأول قول القائل
( وإخوان تخذتهم دروعا ... فكانوها ولكن )
( وخلتهم سهاما صائبات ... فكانوها ولكن في )
( وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي )
وقال ابن أبي الأصبع لم أسمع في هذا الباب أحسن من قول ابن دويدة المغربي يخاطب رجلا أودع بعض القضاة مالا فادعى القاضي ضياعه وهو
( إن قال قد ضاعت فيصدق أنها ... ضاعت ولكن منك يعني لو تعي )
( أو قال قد وقعت فيصدق أنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع )
وممن تلطف في هذا الباب وأجاد للغاية القاضي الأرجاني بقوله
( غالطتني إذ كست جسمي ضنا ... كسوة أعرت من اللحم العظاما )
( ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما )
(1/146)
________________________________________
ولقد أحسن القائل في شكوى الزمان بقوله
( ولي فرس من نسل أعوج سابق ... ولكن على قدر الشعير يحمحم )
( وأقسم ما قصرت فيما يزيدني ... علوا ولكن عند من أتقدم )
وهذه كلها شواهد القسم الأول من الاستدراك
وأما شواهد القسم الثاني وهو الذي لا يتقدم الاستدراك فيه تقرير ولا توكيد مثل قول زهير
( أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله )
ومتى لم يكن في الاستدراك نكتة زائدة عن معنى الاستدراك لتدخله في أنواع البديع وإلا فلا يعد بديعا ولا يخفى على الذوق السليم ما في بيت زهير من الزيادة على معنى الاستدراك بقوله ولكنه قد يهلك المال نائله
فإنه لو اقتصر على صدر البيت دل على أن ماله موفور وتلك صفة ذم فاستدرك ما يزيل هذا الاحتمال ويخلص الكلام للمدح المحض
وإذا تأمل الذائق بيت الأرجاني متع ذوقه بحلاوة الأدب من قوله
( ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما )
فالنكتة الزائدة على معنى الاستدراك لا تخفى إلا على من حجب عن ذوق هذا العلم وهو من شواهد القسم الأول فإنه قرر ما أخبرت به من قولها أنت عندي في الهوى مثل عيني ثم أكد بقوله صدقت ثم نكت بالزيادة على معنى الاستدراك التنكيت الذي يتطفل النسيم على رقته ولولاه ما سكن هذا النوع بيتا بديعيا ولا تأهل بعد غربته
وأصحاب البديعيات على هذا المنوال نسجوا وأداروا كؤوس السلافة على أهل الأذواق ومازجوها بلطف مزاجهم فامتزجوا
والذي أقوله إن الشيخ صفي الدين حلا في هذا المنهل الصافي مورده وعلا في هذا السلك البديعي منظمه ومنضده وبيته
( رجوت أن يرجعوا يوما وقد رجعوا ... عند العتاب ولكن عن وفا ذممي )
فإنه قرر ما أخبر به قبل الاستدراك وأكده بقوله وقد رجعوا وفي قوله عند العتاب تكميل بديعي
(1/147)
________________________________________
وأما العميان فإنهم ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت عز الدين
( فكم حميت بالاستدراك ذا أسف ... لكن عن المشتهي والبرء من سقمي )
وأما هذا البيت فإنه عامر بقلق البناء مع عقادة التركيب
وبيت بديعيتي
( قالوا نرى لك لحما بعد فرقتنا ... فقلت مستدركا لكن على وضم )
وفي إنصاف أهل العلم والذوق السليم ما يغني عن التطويل في محاسن هذا البيت
(1/148)
________________________________________
ذكر الطي والنشر
( والطي والنشر والتغيير مع قصر ... للظهر والعظم والأحوال والهمم )
الطي والنشر هو أن تذكر شيئين فصاعدا إما تفصيلا فتنص على كل واحد منهما وإما إجمالا فتأتي بلفظ واحد يشتمل على متعدد وتفوض إلى العقل رد كل واحد إلى ما يليق به لا أنك تحتاج أن تنص على ذلك ثم إن المذكور على التفصيل قسمان قسم يرجع إلى المذكور بعده على الترتيب من غير الأضداد لتخرج المقابلة فيكون الأول للأول والثاني للثاني وهذا هو الأكثر في اللف والنشر والأشهر وقسم على العكس وهو الذي لا يشترط فيه الترتيب ثقة بأن السامع يرد كل شيء إلى موضعه تقدم أو تأخر
أما المذكور على الإجمال فهو قسم واحد لا يتبين فيه ترتيب ولا يمكن عكسه ومثاله أن يقول لي منه ثلاثة بدر وغصن وظبي
فحصل من هذا أن اللف والنشر على ثلاثة أقسام وإذا كان المفصل المرتب في اللف والنشر هو المقدم نبدأ بشواهده
فمنه بين شيئين قوله تعالى ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) فالسكون راجع إلى الليل والابتغاء راجع إلى النهار
ومنه قول الشاعر
( ألست أنت الذي من ورد نعمته ... وورد راحته أجني وأغترف )
(1/149)
________________________________________
وقد جمع هذا البيت مع حشمة الألفاظ بين جناس التحريف والاستعارة واللف والنشر
وما ألطف قول شمس الدين محمد بن دانيال الحكيم
( ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ومن بختي )
( قد بعت عبدي وحماري وقد ... أصبحت لا فوقي ولا تحتي )
ومن غراميات البهاء زهير
( ولي فيك قلب بالغرام مقيد ... له خبر يرويه طرفي مطلقا )
( ومن فرط وجدي في لماه وثغره ... أعلل قلبي بالعذيب وبالنقا )
ومثله قوله
( يا ردفه يا خصره ... من لي بنجد أو تهامه )
ومثله قول ابن نباتة
( له قلب ولي دمع عليه ... فهذا قاسيون وذا يزيد )
ومثله قوله مع زيادة التورية
( لا تخف عيلة ولا تخش فقرا ... يا كثير المحاسن المختاله )
( لك عين وقامة في البرايا ... تلك غزالة وذي فتاله )
ومثله قوله مع زيادة التورية
( سألته عن قومه فانثنى ... يعجب من إسراف دمعي السخي )
( وأبصر المسك وبدر الدجى ... فقال ذا خالي وهذا أخي )
ولابن حيوس بين ثلاثة وثلاثة
( ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كاسه الملأى وعن إبريقه )
( فعل المدام ولونها ومذاقها ... من مقلتيه ووجنتيه وريقه )
(1/150)
________________________________________
ومثله قول ابن الرومي
( آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم )
( منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم )
ومثله قول حميدة الأندلسية وهو
( ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار )
( غزوناهم من ناظريك وأدمعي ... وأنفاسنا بالسيف والسيل والنار )
قال الشيخ شهاب الدين أبو جعفر الأندلسي نزيل حلب وقد أورد هذين البيتين في شرحه على بديعية صاحبه أبي عبد الله محمد بن جابر الأندلسي إن حميدة كانت من ذوي الألباب وفحول أهل الآداب حتى إن بعض المنتحلين تعلق بهذه الأهداب وادعى نظم هذين البيتين لما فيهما من المعاني والألفاظ العذاب وما غره في ذلك إلا بعد ديارها وخلو هذه البلاد من أخبارها وقد تلبس بعضهم بشعارها وادعى هذا من أشعارها وهو قولها
( وقانا لفحة الرمضاء روض ... وقاه مضاعف الطل العميم )
( تظل غصونه تحنو علينا ... حنو الوالدات على الفطيم )
( وأسقانا على ظمإ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم )
( تروع حصاه حالية الغواني ... فتلمس جانب العقد النظيم )
فهذه الأبيات نسبوها إلى المنازي من شعرائهم وركبوا التعصب في جادة إدعائهم وهي أبيات لم يحكها غير لسانها ولا رقم بردها غير حسانها وقد رأيت بعض المؤرخين من أهل بلادنا أثبتوها لها قبل أن يخرج المنازي من العدم إلى الوجود ويتصف بلفظه الموجود
انتهى كلام الشيخ شهاب الدين المذكور
ومنه بين ثلاثة وثلاثة قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى وعفا عنه آمين
( عرج على حرم المحبوب منتصبا ... لقبلة الحسن واعذرني على سهري )
(1/151)
________________________________________
( وانظر إلى الخال فوق الخد تحت لمى ... تجد بلالا يراعي الصبح في السحر )
ومنه بين أربعة وأربعة
( ثغر وخد ونهد واحمرار يد ... كالطلع والورد والرمان والبلح )
ومثله قول شمس الدين بن العفيف رحمه الله تعالى
( رأى جسدي والدمع والقلب والحشا ... فأضنى وأفنى واستمال وتيما )
ومثله قولي من قصيدة
( من محياه والدلال ومسك الخال ... والثغر يا شيوخ البديع )
( انظروا في التكميل واللف والنشر ... وحسن الختام والترصيع )
وللشيخ شهاب الدين أبي جعفر الشارح المذكور بين خمسة وخمسة ولكن لم يخل من التعسف وهو
( ملك يجيء بخمسة من خمسة ... كفى الحسود بها فمات لما به )
( من وجهه ووقاره وجواره ... وحسامه بيديه يوم ضرابه )
( قمر على رضوى تسير به الصبا ... والبرق يلمع من خلال سحابه )
ولابن جابر ناظم البديعية بين ستة وستة
( إن شئت ظبيا أو هلالا أو دجى ... أو زهر غصن في الكثيب الأملد )
( فللحظها ولوجهها ولشعرها ... ولخدها والقد والردف أقصد )
صبرنا على الأملد صفة الكثيب ولكن لم نصبر على دخول القصد فإنها زيادة أجنبية
وقد جمع قاضي القضاة نجم الدين عبد الرحيم بن البارزي بين سبعة وسبعة
( يقطع بالسكين بطيخة ضحى ... على طبق في مجلس لأصاحبه )
( كبدر ببرق قد شمسا أهلة ... لدى هالة في الأفق بين كواكبه )
(1/152)
________________________________________
قال شهاب الدين المذكور في شرح بديعية صاحبه ابن جابر إن اللف والنشر في هذين البيتين غير كامل التفصيل
لأنه نص في اللف على ستة ونص في النشر على سبعة وكل منهما راجع إلى منصوص عليه في اللف إلا الأهلة فإنه راجع إلى الأشطار وهي غير مذكورة في اللف
قلت هذا يفهم من قوله يقطع
قال الشيخ شهاب الدين قوله ضحى في بيت اللف مطرح لا نظير له في النشر
قلت ضحى ليس لها في الحسن نظير فإنه جعل البطيخة شمسا وهي أنور من قول صاحبه في بيته أملد وأقصد
فإنه لم ينص عليهما في اللف وهما أجنبيان مما نحن فيه
ووصلوا في الجمع بين اللف والنشر المفصل المرتب إلى اثني عشر
لكن تكلفوا وتعسفوا وأتوا به في بيتين ولم تسفر لهم وجوه المعاني المسفرة عن بهجة
ولابن بلدتنا الشيخ علاء الدين بن مقاتل مالك أزمة الزجل وقد تقدم ذكره في ما أوردته له من أزجاله على الجناس المقلوب واللفظي الجمع في اللف والنشر بين ثمانية وثمانية مع عدم الحشو والفرار من التعسف وصحة الانسجام
( خدود وأصداغ وقد ومقلة ... وثغر وأرياق ولحن ومعرب )
( فورد وسوسان وبان ونرجس ... وكاس وجريال وجنك ومطرب )
ومما سمعت في هذا النوع وفيه الجمع بين عشرة وعشرة قول بعضهم
( شعر جنين محيا معطف كفل ... صدغ فم وجنات ناظر ثغر )
( ليل صباح هلال بانة ونقا ... آس أقاح شقيق نرجس در )
وجل القصد هنا أن يكون اللف والنشر في بيت واحد خاليا من الحشو وعقادة التركيب جامعا بين سهولة اللفظ والمعاني المخترعة
انتهى الكلام على اللف والنشر المفصل المرتب
وأما القسم الذي هو العكس أعني غير المرتب فكقول الشاعر
( كيف أسلو وأنت حقف وغصن ... وغزال لحظا وقدا وردفا )
فعدم الترتيب ظاهر في البيت وأما القسم المذكور على الإجمال فهو قسم واحد
(1/153)
________________________________________
لا يتبين فيه ترتيب ولا عكس كما تقدم ومثله قول ابن سكرة في بيت الكافات الشتائية
( جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا )
( كن وكيس وكانون وكاس طلا ... مع الكباب وكس ناعم وكسا )
وظريف هنا قول من قال
( جاء الصفاع وعندي من حوائجه ... سبع إذا الصفع في ميدانه وقفا )
( نطع وطرق وزريوك وغاشية ... وركوة وجراب ناعم وقفا )
ففي قوله بعد ما ذكره من آلات الصفع وقفا
غاية في اللطف وقوة في تمكين القافية
انتهى الكلام على اللف والنشر المفصل المرتب وعلى غيره
وأما أصحاب البديعيات فإنهم ما نظموا إلا المفصل المرتب لأنه المقدم عند علماء البديع في هذا الباب ولم يأتوا به إلا في بيت واحد بحيث يكون مثالا شاهدا على هذا النوع وماشيا على سنن الأبيات المفردة المشتملة على أنواع البديع وبيت صفي الدين غاية في هذا الباب لما اشتمل عليه من السهولة والرقة وعدم الحشو وهو قوله
( وجدي حنيني أنيني فكرتي ولهي ... منهم إليهم عليهم فيهم بهم )
والعميان لم يأتوا بهذا النوع إلا في بيتين مع عقادة التركيب
ولقد حبست عنان القلم عن الكلام عليهما لكونهما من جملة مديح النبي وهما
( حيث الذي إن بدا في قومه وحبى ... عفاته ورمى الأعداء بالنقم )
( فالبدر في شبهه والغيث جاد لذي ... محل وليث الشرى قد جال في الغنم )
(1/154)
________________________________________
وبيت عز الدين الموصلي
( نشر ويسر وبشر من شذا وندى ... وأوجه فتعرف طي نشرهم )
قوله فتعرف طي نشرهم ليس له نص في اللف لأنه نص فيه على ثلاثة وعجز عن ترتيب اللف والنشر في نص اللف وعلى كل تقدير فلا بد له من تسمية النوع فسماه ولكن أتى به فضلة ولو التزم الشيخ صفي الدين أن يسمي هذا النوع البديعي في بيته لتجافت عليه تلك الرقة
( فالطي والنشر والتغيير مع قصر ... للظهر والعظم والأحوال والهمم )
فالطي والنشر في نص اللف قبالة الظهر والعظم والتغيير مع القصر قبالة الأحوال والهمم هذا مع زيادة العدة على الشيخ عز الدين وعدم التكلف ولولا الالتزام بتسمية النوع ومراعاة السهولة والانسجام وصلت إلى أكثر من هذه العدة
(1/155)
________________________________________
ذكر الطباق
( بوحشة بدلوا أنسي وقد خفضوا ... قدري وزادوا علوا في طباقهم )
المطابقة يقال لها التطبيق والطباق والمطابقة في اللغة أن يضع البعير رجله في موضع يده فإنه فعل ذلك قيل طابق البعير
وقال الأصمعي المطابقة أصلها وضع الرجل موضع اليد في مشي ذوات الأربع
وقال الخليل بن أحمد يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حد واحد
انتهى
وليس بين تسمية اللغة وتسمية الاصطلاح مناسبة لأن المطابقة في الاصطلاح الجمع بين الضدين في كلام أو بيت شعر كالإيراد والإصدار والليل والنهار والبياض والسواد
وليس في الألوان ما تحصل به المطابقة غيرهما أعني البياض والسواد فقد قال الرماني وغيره البياض والسواد ضدان بخلاف بقية الألوان لأن كلا منهما إذا قوي زاد بعدا من صاحبه
انتهى
وإذا ألحقوا بقية الألوان بالمطابقة فالتدبيج أحق منها بذلك فإنهم أوردوا في المطابقة من التدبيج قول ابن حيوس على جهة الكناية
( فافخر بعم عم جود يمينه ... وأب لأفعال الدنية آبي )
( ببياض عرض واحمرار صوارم ... وسواد نقع واخضرار رحاب )
(1/156)
________________________________________
وقد تقرر أن المطابقة الجمع بين الضدين عند غالب الناس سواء كانت من سمين أو من فعلين أو غير ذلك
قال الأخفش وقد سئل عنها أجد قوما يختلفون فيها فطائفة وهم الأكثر يرون أنها الشيء وضده وطائفة يزعمون أنها اشتراك المعنيين في لفظ واحد منهم قدامه بن جعفر الكاتب وأوردوا في ذلك قول زياد الأعجم
( ونبئتهم يستنصرون بكاهل ... وللؤم فيهم كاهل وسنام )
فكاهل الأول اسم رجل والثاني العضو المعروف فاللفظ واحد والمعنيان مختلفان وهذا هو الجناس التام بعينه وقال الأخفش من قال إن المطابقة اشتراك المعنيين في لفظ واحد فقد خالف الخليل والأصمعي فقيل أوكانا يعرفان ذلك فقال سبحان الله من أعلم منهما بطيبه وخبيثه وما أحسن ما أتى الأخفش في الجواب بالمطابقة
ومنهم من أدخل المقابلة فيها وليس بمليح إذ لم يبق للفرق بينهما محل
فإن السكاكي قال المقابلة أن تجمع بين شيئين فأكثر وتقابل بالأضداد ثم إذا شرطت هنا شيئا شرطت هناك ضده والمطابقة هي الإتيان بلفظتين والواحدة ضد الأخرى وكأن المتكلم طابق الضد بالضد
ولقد شفى زكي الدين بن أبي الأصبع القلوب في ما قرره فإنه قال المطابقة ضربان ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة وضرب يأتي بألفاظ المجاز فما كان بلفظ الحقيقة سمي طباقا وما كان بلفظ المجاز سمي تكافؤا
فمثال التكافؤ وهو من إنشادات قدامة
( حلو الشمائل وهو مر باسل ... يحمي الذمار صبيحة الإرهاق )
فقوله حلو ومر يجري مجرى الاستعارة إذ ليس في الإنسان ولا في شمائله ما يذاق بحاسة الذوق
ومن أمثلة التكافؤ قول ابن رشيق وهو حسن
( وقد أطفؤا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالي في سماء عجاج )
(1/157)
________________________________________
ومثله
( إن هذا الربيع شيء عجيب ... تضحك الأرض من بكاء السماء )
( ذهب حينما ذهبنا ودر ... حيث درنا وفضة في الفضاء )
وما أحلى قول القائل في هذا الباب
( إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب ... تحرك يقظان التراب ونائمه )
فالمطابقة بين اليقظان والنائم ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز وهذا هو التكافؤ عند ابن أبي الأصبع
وأما المطابقة الحقيقية التي لم تأت بغير ألفاظ الحقيقة فأعظم الشواهد عليها قوله تعالى ( وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيى ) وكقول النبي للأنصار رضي الله تعالى عنهم ( إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع ) فانظر إلى هذه البلاغة النبوية والمناسبة التامة ضمن المطابقة
ومن الشواهد الشعرية قول الحماسي
( تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما )
ولآخر
( لئن ساءني أن نلتني بإساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك )
ولآخر في وصف فرس وأجاد
( وأرى الوحش في يميني إذا ما ... كان يوما عنانه بشمالي )
والمعجز الذي لا تصل إليه قدرة مخلوق قوله تعالى ( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) فانظر إلى عظم هذه المطابقة وما فيها من الوجازة
ومن ذلك في الحديث قول النبي ( فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن ديناه لآخرته ومن الشبيبة للكبر ومن الحياة للممات فوالذي نفسي بيده ما بعد الحياة مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار )
انتهى ما قررته في المطابقة لغة واصطلاحا وما أوردته من الفرق بينهما وبين التكافؤ على رأي ابن أبي الأصبع
(1/158)
________________________________________
ولهم مطابقة السلب بعد الإيجاب وهي المطابقة التي لم يصرح فيها بإظهار الضدين كقوله تعالى ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) فالمطابقة حاصلة بين إيجاب العلم ونفيه لأنهما ضدان ومثله قول البحتري
( يقيض لي من حيث لا أعلم النوى ... ويسري إلي الشوق من حيث أعلم )
فالمطابقة باطنة ومعناها ظاهر فإن قوله لا أعلم كقوله جاهل والسابق إلى هذا امرؤ القيس بقوله
( جزعت ولم أجزع من البين مجزعا ... وعزيت قلبا بالكواعب مولعا )
فالمطابقة حاصلة بين إيجاب الجزع ونفيه ومن المستحسن في ذلك قول بعضهم
( خلقوا وما خلقوا لمكرمة ... فكأنهم خلقوا وما خلقوا )
( رزقوا وما رزقوا سماح يد ... فكأنهم رزقوا وما رزقوا )
ومثله قول بشر بن هارون وقد ظهر منه الفرح عند الموت فقيل له أتفرح بالموت فقال ليس قدومي على خالق أرجوه كمقامي عند مخلوق لا أرجوه
فالمطابقة حاصلة بين إيجاب الرجاء ونفيه
انتهى الكلام على مطابقة السلب بعد الإيجاب
ولهم إيهام المطابقة كما لهم إيهام التورية والشاهد على إيهام المطابقة قول الشاعر
( يبدي وشاحا أبيضا من سيبه ... والجو قد لبس الوشاح الأغبرا )
فإن الأغبر ليس بضد الأبيض وإنما يوهم بلفظه أنه ضده ومثله قول دعبل
( لا تعجبني يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى )
فالضحك هنا من جهة المعنى ليس بضد البكاء لأنه كناية عن كثرة الشيب ولكنه من جهة اللفظ يوهم المطابقة
ولهم الملحق بالطباق وهو راجع إلى الضدين كقوله تعالى ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) طابق الأشداء بالرحماء لأن الرحمة فيها معنى اللين ومثله قوله
(1/159)
________________________________________
تعالى ( مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا ) فالمطابقة بين الغرق ودخول النار فإن من دخل النار احترق والاحتراق ضد الغرق ومنه قول الحماسي
( لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا )
ففي قوله تتابع لي غنى معنى الكثرة وأما قول أبي الطيب
( لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو إساءة مجرم )
فمتفق عليه أنه من الطباق الفاسد فإن المجرم ليس بضد للمحب بوجه ما وليس للمحب ضد غير المبغض انتهى
وذكروا في آخر الباب طباق الترديد وهو أن ترد آخر الكلام المطابق على أوله فإن لم يكن الكلام مطابقا فهو من رد الإعجاز على الصدور ومنه قول الأعشى
( لا يرقع الناس ما أوهوا وإن جهدوا ... طول الحياة ولا يوهون ما رقعوا )
وجل القصد في هذا الباب المطابقة في الحقيقة التي قررها ابن أبي الأصبع وتقدم ذلك في أول الباب مع الشواهد عليه ومثله قول بشار
( إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمرا ثم نم )
ومن لطيف هذا الطباق ما أورده القاضي جلال الدين القزويني في إيضاحه على تلخيصه وهو قول القاضي الأرجاني
( ولقد نزلت من الملوك بماجد ... فقر الرجال إليه مفتاح الغنى )
والذي أقوله إن المطابقة التي يأتي بها الناظم مجردة ليس تحتها كبير أمر ونهاية ذلك أن يطابق الضد بالضد وهو شيء سهل اللهم إلا أن تترشح بنوع من أنواع البديع يشاركه في البهجة والرونق كقوله تعالى ( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب ) ففي العطف بقوله تعالى ( وترزق من تشاء بغير حساب ) دلالة على أن من قدر على تلك
(1/160)
________________________________________
الأفعال العظيمة قدر على أن يرزق بغير حساب من شاء من عباده وهذه مبالغة التكميل المشحونة بقدرة الرب سبحانه وتعالى فانظر إلى عظم كلام الخالق هنا فقد اجتمع فيه المطابقة الحقيقية والعكس الذي لا يدرك لوجازته وبلاغته ومبالغة التكميل التي لا تليق بغير قدرته ومثل ذلك قول امرئ القيس
( مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل )
فالمطابقة في الإقبال والإدبار ولكنه لما قال معا زادها تكميلا في غاية الكمال فإن المراد بها قرب الحركة في حالتي الإقبال والإدبار وحالتي الكر والفر فلو ترك المطابقة مجردة من هذا التكميل ما حصل لها هذه البهجة ولا هذا الموقع ثم إنه استطرد بعد تمام المطابقة وكمال التكميل إلى التشبيه على سبيل الاستطراد البديعي ولم يكن قد ضرب لأنواع البديع في بيوت العرب وتد ولا امتد له سبب
وقد اشتمل بيت امرئ القيس على المطابقة والتكميل والاستطراد على طريقة فإن ابن المعتز قال هو أن يكون المتكلم في معنى فيخرج منه بطريق التشبيه إلى معنى آخر وممن كسا المطابقة ديباجة التورية أبو الطيب المتنبي حيث قال
( برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان )
( كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني )
لعمري لقد رفع أبو الطيب قدر المطابقة وأزال حقارتها بمجاورة هذا النوع البديعي الذي عظم عند أهل الأدب قدرا ومثله قول الصاحب بن عباد في رثاء الوزير كثير بن أحمد
( يقولون قد أودى كثير بن أحمد ... وذلك رزء في الأنام جليل )
فقلت دعوني والعلا نبكه معا ... فمثل كثير في الأنام قليل )
وأبو تمام كساها ديباجة المجانسة بقوله
( بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب )
وما أحلى قول الأرجاني من قصيدة
( تعلق بين الهجر والوصل مهجتي ... فلا أربي في الحب أقضي ولا نحبي )
(1/161)
________________________________________
فشد أزر المطابقة ببديع اللف والنشر وأهلها بغريب هذا المعنى بعدما سال رقة وعلق بخاطري من هذه القصيدة
( فلا تتعجب أنني عشت بعدهم ... فإنهم روحي وقد سكنوا قلبي )
ومنها
( وحرف تجوب القاع والوهد والربا ... كحرف مديم الجر والرفع والنصب )
نجائب يقدحن الحصى كل ليلة ... كأن بأيديها مصابيح للركب )
ومن المطابقة باللف والنشر أيضا قول شيخ شيوخ حماة المحروسة
( إن قوما يلحون في حب ليلى ... لا يكادون يفقهون حديثا )
( سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيبا وردوا خبيثا )
ومثله قوله يخاطب العاذل
( أراك بخيلا بعوني فهبني ... سكوتك عني إذا لم تعني )
( ذممت الهوى ورجوت السلو ... فأبكيت عيني وأضحكت سني )
ومثله قوله
( يا وجوها زانت سناها فروع ... حالكات أغنتكم عن حلاكم )
( لي من حسنكم نهار وليل ... أنعم الله صبحكم ومساكم )
ومثله قوله من قصيدة
( توغل حرقتي أجرى دموعي ... فقل ما شئت في دخل وخرج )
ومنه قول أبي حفص المطوعي في الباب
( أو ما ترى نور الخلاف كأنه ... لما بدا للعين نور وفاق )
فالمطابقة هنا بزيادة التورية مع الاستعارة البديعة ويعجبني قوله بعد هذا البيت
( كأكف سنور ولكن نشره ... يسعى بفأر المسك في الآفاق )
وأما سحر البلاغة هنا فقول القاضي الفاضل
( دام صاحي وداده عمر الدهر ... جنينا لسكري النشوان )
(1/162)
________________________________________
أنظر أيها المتأمل ما أبدع ما أبرز المطابقة في حلل هاتين الاستعارتين الغريبتين وما ألطف ما أيد معنى المطابقة بقوله بعدها
( وبنات الصدور أوقع فيما ... زعم المجد من بنات الدنان )
فالفاضل أبرز هذه المطابقة في حلل الاستعارة ولكن من أين للمستعير صحو الوداد ونشوة السكر سبحان المانح ما هذه إلا مواهب ربانية
وأما الذين تقدم القول بالاقتداء برأيهم في هذا الفن فإنهم ما أبرزوها إلا في أشعار التورية فمن ذلك قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في موصول
( وناطقة بالنفخ عن روح ربها ... تعبر عما عندنا وتترجم )
( سكتنا وقالت للقلوب فأطربت ... فنحن سكوت والهوى يتكلم )
فإنه جمع بين التورية والتضمين والمطابقة
وما أحلى قول الشيخ شرف الدين بن الفارض في المطابقة بالتورية في قوله
( أرج النسيم سرى من الزوراء ... سحرا فأحيا ميت الأحياء )
ومثله قول الوداعي في قصيدة وهو في غاية الحسن
( يفتن بالفاتر من طرفه ... وريقه البارد يا حار )
وما ألطف قول الشيخ شمس الدين الواسطي في دو بيت
( إن ضر مني بجذوة التذكار ... حبي وبرى عظمي شكرت الباري )
( فالعاذل في هواي لا عقل له ... ما أبلد عاذلي وأذكى ناري )
ومثله قول سراج الدين الوراق
( وبي من البدو كحلاء الجفون بدت ... في قومها كمهاة بين آساد )
( فلو بدت لحسان الحضر فمن لها ... على الرؤوس وقلن الفضل للبادي )
(1/163)
________________________________________
ومثله قول أبي الحسين الجزار
( أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعلمته من خمولي )
( أتيت لبابك أرجو الغنى ... فأخرجني الضرب عند الدخول )
ومثله قول الوداعي في مطلع قصيد
( ما كنت أول مغرم محروم ... من باخل بادي النفار كريم )
ومثله قول مجير الدين بن تميم
( لما لبست لبعده ثوب الضنا ... وغدوت من ثوب اصطباري عاريا )
( أجريت واقف مدمعي من بعده ... وجعلته وقفا عليه جاريا )
وكتبت من هذا النوع إلى القاضي كمال الدين بن النجار وكيل بيت المال بدمشق المحروسة
( كمال الدين يا مولاي يا من ... يغير البحر من بذل النوال )
( أيجمل أن يقول الناس إني ... أتيت لحاجة لم تقضها لي )
( وأصبح بينهم مثلا لأني ... أتاني النقص من جهة الكمال )
ومثله قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى
( إني إذا آنست هما طارقا ... عجلت باللذات قطع طريقه )
( ودعوت ألفاظ الحبيب وكأسه ... فنعمت بين حديثه وعتيقه )
ومثله قوله
( قصدت معاليك أرجو الندى ... وأشكو من العسر داء دفينا )
( فما كان بيني وبين اليسار ... سوى أن مددت إليك اليمينا )
ومثله قوله
( حزني من مهفهف القدر أم ... أسهم اللحظ ما أسد وأرشق )
( كلما قلت يفتح الله بالوصل ... رماني من سحر عينيه يغلق )
(1/164)
________________________________________
ومثله قوله
( إن أساء الحبيب قامت بعذر ... وجنة منه فوقها شامات )
( يا لها وجنة أقابل منها ... حسنات تمحى بها سيئات )
ومثله قوله
( قام غلام الأمير يحسب في ... يوم طهور البنين طاووسا )
( فأنزل الحاضرون من شبق ... وعاد ذاك الطهور تنجيسا )
وما ألطف قوله من هذا النوع
( يا غائبين تعللنا لغيبتكم ... بطيب لهو ولا والله لم يطب )
( ذكرت والكاس في كفي لياليكم ... فالكاس في راحة والقلب في تعب )
ومثله قوله في براعة قصيد
( يوم صحو فاجعله لي يوم سكر ... )
وما أحلى ما قال بعده في الشطر الثاني
( فأدر كأسي رضاب وخمر ... )
منها ولم يخرج عما نحن فيه
( جفن عينيه فاتر مستحيي ... إنما خده المشعشع جمري )
ومثله قوله من قصيدة
( فريد وهو فتان التثني ... فيا لله من فرد تثنى )
وله في روضة من قصيدة
( مطابقة الأوصاف أما نسيمها ... فصح وأما ماؤها فتكسرا )
أنظر ما أحسن تصريحه بالنوع هنا في قوله مطابقة الأوصاف
ومثله قول الشيخ برهان الدين إبراهيم القيراطي من قصيدة
( بأبي غني ملاحة أشكو له ... فقري فيصبح بالغنى يتطرب )
ومنها في هذا النوع
( غدا ينادمني وكأس حديثه ... أشهى إلي من العتيق وأطيب )
(1/165)
________________________________________
ومثله قوله
( في جفنه سيف مضاربه ... يا صاح أسبق لي من العذل )
( وبخده والردف لي خبر ... قد سار بين السهل والجبل )
ومثله قول الشيخ زين الدين بن الوردي
( تجادلنا أماء الزهر أزكى ... أم الخلاف أم ورد القطاف )
( وعقبي ذلك الجدل اصطلحنا ... وقد حصل الوفاق على الخلاف )
ومثله قول الشيخ بدر الدين بن الصاحب وهو في غاية الظرف
( كم جار صرف الدهر في حكمه ... وضر بي من حيث بي يعتني )
( ألبسني من شيبتي حلة ... قلت له والله عريتني )
ومنه قول الشيخ صلاح الدين الصفدي وقد أهدى إلى الشيخ جمال الدين بن نباتة تخفيفة
( أيا فاضلا تدنو الأفاضل نحوه ... وتشكر في جميع المناقب تصريفه )
( إذا كنت بالإحسان ثقلت كاهلي ... فلا عجب إن كنت تقبل تخفيفه )
ومنه قول الشيخ صفي الدين الحلي من قصيدة
( والريح تجري رخاء فوق بحرتها ... وماؤها مطلق في زي مأسور )
( قد جمعت جمع تصحيح جوانبها ... والماء يجمع فيها جمع تكثير )
ومنه قول المعمار
( أصاب قلبي خطائي ... بلحظه لشفائي )
( فرحت من فرط وجدي ... أشكو إلى الحكماء )
( قالوا أصبت بعين ... فقلت من عظم دائي )
( إن كان هذا صوابا ... فتلك عين الخطاء )
وحسن هنا قول البدر يوسف بن لؤلؤ الذهبي
( وحديقة مطلولة باكرتها ... والشمس ترشف ريق أزهار الربا )
( يتكسر الماء الزلال على الحصى ... فإذا عدا بين الرياض تشعبا )
(1/166)
________________________________________
ومنه قول الشيخ شمس الدين بن الصائغ الحنفي
( بروحي أفدي خاله فوق خده ... ومن أنا في الدنيا فأفديه بالمال )
( تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخال )
ومثله قول الشيخ عز الدين الموصلي
( سموا مني مهجتي سعيدا ... ولي شقاء به يزيد )
( إذا اجتمعنا يقول ضدي ... هذا شقي وذا سعيد )
وظريف قول جمال الدين عبد الله السوسي
( ورب أقطع يشدو ... ساروا وما ودعوني )
( ما أنصفوا أهل ودي ... واصلتهم قاطعوني )
وألطف منه قول الشيخ جلال الدين ابن الخطيب داريا
( يا معشر الأصحاب قد عن لي ... رأي يزيل الحمق فاستظرفوه )
( لا تحضروا إلا بأخفافكم ... ومن تثاقل منكم خففوه )
ومثله قوله
( تصفحت ديوان الصفي فلم أجد ... لديه من السحر الحلال مرامي )
( فقلت لقلبي دونك ابن نباتة ... ولا تتبع الحلي فهو حرامي )
وظريف هنا قول الشيخ بدر الدين البشتكي وإن لم يكن فيه تورية فقد صرح باسم النوع من جنس الغزل
( وقالوا يا قبيح الوجه تهوي ... مليحا دونه السمر الرشاق )
( فقلت وهل أنا إلا أديب ... فكيف يفوتني هذا الطباق )
(1/167)
________________________________________
ومن المطابقة بالتورية قول القاضي بدر الدين بن الدماميني رحمه الله
( بدر إذا شمت فوق الخد عارضه ... يوما أرى الصبح بالظلماء مختلطا )
( وظن أن صوابا هجر عاشقه ... لما رأى منه شيبا باديا وخطا )
ومن العجيب في هذا النوع قول شيخنا العلامة شهاب الدين بن حجر فسح الله في أجله
( خليلي ولي العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا )
( فحتى متى نبني بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وما تبنا )
وما أحلى قوله فيه
( أتى من أحبائي رسول فقال لي ... ترفق وهن واخضع تفز برضانا )
( فكم عاشق قاسى الهوان بحبنا ... فصار عزيزا حين ذاق هوانا )
ومثله قوله
( نأى رقيبي وحبيبي دنا ... وحسنه للطرف قد أدهشا )
( آنسني المحبوب يوم اللقا ... لكن رقيبي فيه ما أوحشا )
وما أظرف قوله فيه
( أشكو إلى الله ما بي ... وما حوته ضلوعي )
( قد طابق السقم جسمي ... بنزلة وطلوع )
أنظر كيف جمع بين قصر الوزن وعدم الحشو وصحة التركيب والمطابقة بالتورية وتسمية النوع من جنس الغزل ومثله قوله
( قال حبي أكتم الهوى ... خوف لاح وواشيه )
( كيف أسطيع كتمه ... وسقامي علانيه )
وأنشدني من لفظه لنفسه ابن مكانس وقد أوقفته في الشرح على هذا النوع فقال
( يا سادتي والعشق لم يبق لي ... من بعدكم روحا ولا حسا )
( صبحني الهم لهجرانكم ... والضر لما بنتم مسا )
(1/168)
________________________________________
وله
( لثغرك طعم ونشر يلذ ... ونسقى به يا أخا البدر عشقا )
( فدعنا نمت ونعش في الهوى ... غراما وننعم ذوقا ونشقا )
ومثله قوله
( رب خذ بالعدل قوما ... أهل ظلم متوالي )
( كلفوني بيع خيلي ... برخيص وبغال )
ونقلت من ديوان والده المقر الفخري
( زارت معطرة الشذا ملفوفة ... كي تختفي فأبى شذا العطر )
( يا معشر الأدباء هذا وقتكم ... فتناظموا في اللف والنشر )
ونقلت أيضا من ديوانه
( لم أنس معشوقة زارت بجنح دجى ... فبت في مسك أنفاس وطيب سمر )
( حتى الصباح وعيناها تظن بأن ... هاروت حل عشاء فيهما وسحر )
ونقلت منه ما امتدح به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
( يا ابن عم النبي إن أناسا ... قد توالوك بالسعادة فازوا )
( أنت للعلم في الحقيقة باب ... يا إماما وما سواك مجاز )
وقوله
( علقتها معشوقة خالها ... إن عمها بالحسن قد خصصا )
( يا وصلها الغالي ويا هجرها ... لله ما أغلى وما أرخصا )
وقلت في هذا المعنى من قصيدة
( وكيف أكتم حبا في هواه ولي ... من أحمر الدمع فوق الخد تشهير )
( ونار خديه قلبي أرخصت وغلت ... لما غدت ولها في القلب تسعير )
( وقال أغمدت سيف اللحظ عنك فكيف ... الحال قلت له والله مشهور )
(1/169)
________________________________________
وقلت من قصيدة وصرحت باسم النوع
( طابقت رقة حالي بالجفا عبثا ... فما طباقك إلا رقة وجفا )
وقلت من قصيدة
( شرفونا بمدمع العين عجبا ... ليتهم عند موتنا قبلونا )
وقلت بعده
( حبكم فرضنا وسيف جفاكم ... قد غدا في بعادنا مسنونا )
حتى تخلصت إلى مدح أمين الدين من غزل هذه القصيدة ولم أخرج عما نحن فيه من المطابقة
ومن غريب ما وقع لي في هذا النوع قولي من قصيدة
( بدر منير قسا برؤيته ... لكن يرى عند خده شفقه )
وقلت من قصيدة
( لي في حماكم أهيف من عامر ... وخراب بيت تصبر بالعامري )
( سلطان حسن ظاهر لما بدا ... جال الهوى في باطني بالظاهري )
( وضفرت شعرك إذ ظفرت بمهجتي ... يفديك محلول العرا من ظافر )
( وحميت برد الثغر إذ طابقته ... في ضمن تورية بجفن فاتر )
أنظر ما أحلى قولي في ضمن تورية والمراد المطابقة بالتورية
وقلت مطابقا والتورية ثلاثية
( بمر هجرك عجبا قد قضيت لنا ... وشاهد الحسن بالإحسان حلاك )
وكتبت إلى بعض المخاديم بحماة المحروسة حرسها الله تعالى أطلب منثورا أبيض فماطلني مدة والمنثور الأبيض عزيز بحماة
( زهر الوعود ذوي من طول مطلكم ... لأنه من نداكم غير ممطور )
( والعبد قد جهز المنظوم ممتدحا ... فطابقوه إذا وافى بمنثور )
(1/170)
________________________________________
وقلت
( هويت غصنا لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجد تغريد )
( قالت لواحظه أنا نسود على ... بيض الظبا قلت أنتم سود وا )
وقد طال الشرح ولكن هذا الطول تنشرح له الصدور وتعلو به همة الطالب ولم يرض بعدها بالرخيص من هذا الفن ويتأيد إن الذين اقتديت برأيهم ومشيت على سننهم لم يرضوا بالمطابقة المجردة ولم ينظموها إلا في سلك التورية وقد أوردت لهم هنا من ذلك ما شنف الأسماع ورقص عند السماع والكمال لله فإن الشيخ صفي الدين لم يأت بالمطابقة إلا مجردة وبيته
( قد طال ليلي وأجفاني به قصرت ... عن الرقاد فلم أصبح ولم أنم )
وبيت العميان مثله لكنه عامر بالركة والعقادة وهو
( واسهر إذا نام سار وامض حيث ونى ... واسمح إذا شح نفسا وأسر إن يقم )
وبيت عز الدين
( أبكي فيضحك عن در مطابقة ... حتى تشابه منثور بمنتظم )
لعمري إن بيت صفي الدين وبيت العميان يتنزلان عند هذا البيت العامر بالمحاسن منزلة الأطلال البالية فإن الشيخ عز الدين جمع فيه بين تسمية النوع من جنس الغزل وبين غرابة المعنى وحسن الانسجام ورقة النسيب وبديع اللف والنشر ولم يأت كل منهما إلا بمجرد المطابقة
وأما قول العميان في آخر بيتهم وأسر إن يقم فهذا اللفظ من بقية ما سقط من حجارة البيت
وبيت بديعتي هو
( بوحشة بدلوا أنسي وقد خفضوا ... قدري وزادوا علوا في طباقهم )
فالمطابقة والتورية وتسمية النوع البديعي اجتمعت هنا في قافية هذا البيت الذي علا بطباقه وتفيأ أهل البديع بظل رواقه
(1/171)
________________________________________
ذكر النزاهة
( نزهت لفظي عن فحش وقلت هم ... عرب وفي حيهم يا غربة الذمم )
النزاهة ما نظمها أحد في بديعيته إلا صفي الدين الحلي وقد تقدم القول أنه ذكر عن بديعيته أنها نتيجة سبعين كتابا في هذا الفن
وهو نوع غريب تجول سوابق الذوق السليم في حلبة ميدانه وتغرد سواجع الحشمة على بديع أفنانه لأنه هجو في الأصل ولكنه عبارة عن الإتيان بألفاظ فيها معنى الهجو الذي إذا سمعته العذراء في خدرها لا تنفر منه وهذه عبارة عمرو بن العلاء لما سئل عن أحسن الهجو
وقد وقع من النزاهة في الكتاب العزيز عجائب منها قوله تعالى ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون ) فإن ألفاظ الذم المخبر عنها في كلام الآية أتت منزهة عما يقع في غير هذا القسم من الفحش في الهجاء والمرض
هنا عبارة عن إبطان الكفر
ومن النزاهة البديعية في النظم قول أبي تمام
( بني فعيلة ما بالي وبالكم ... وفي البلاد مناديح ومضطرب )
( لحاجة لي فيكم ليس يشبهها ... إلا لجاجتكم في أنكم عرب )
(1/172)
________________________________________
ومن غريب هذا النوع قول معبد بن الحسين بن جبارة لرجل كان يدعو قوما إلى سماع قينة له ثم انكشف له بعد هذا أنهم كانوا ينالون منها القبيح
( ألم أقل لك إن القوم بغيتهم ... في ربة العود لا في رنة العود )
( لا تأسفن على الشاة التي عقرت ... فأنت غادرتها في مسرح السيد )
فانظر إلى مصاحبة هذه المعاني ونزاهة ألفاظها عن الفحش
ومن ذلك قول جرير
( فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا )
وقالوا أحسن ما وقع في هذا الباب قوله أيضا
( لو أن تغلب جمعت أنسابها ... يوم التفاخر لم تزن مثقالا )
فانظر إلى هذا الهجو المنكي كيف بالغ في تنزيه ألفاظه عن الفحش وفيه معنى الهزل الذي يراد به الجد وهو غاية في هذا النوع
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( حسبي بذكرك لي ذما ومنقصة ... فيما نطقت فلا تنقص ولا تذم )
وقال إنها بالذال المعجمة فإن جل قصده الذم هنا والذي أقوله إن هذا البيت شموس إيضاحه آفلة في غيوم العقادة وليته استضاء بما قاله جرير ومشى على سنته
والعميان لم ينظموا هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين نظمه في بديعيته لأجل معارضة الصفي وقال في بيته يخاطب العاذل
( لقد تفيهقت بالتشديق في عذلي ... كيف النزاهة عن ذا الأشدق الخصم )
قد تقرر أن النزاهة هجو ولكن شرطوا أن لا ينظم هجوها إلا بألفاظ لا تنفر منها العذراء في خدرها
والذي أقوله وأنا أستغفر الله إن ألفاظ عز الدين في بيته ينفر منها
(1/173)
________________________________________
الجان فكيف حال العذراء وحاصل القضية أنه نزه ألفاظه عن النزاهة ولم يتفيهق ولم يتشدق غيره وما أحقه بقول القائل
( وما مثله إلا كفارغ حمص ... خلي من المعنى ولكن يفرقع )
وبيت بديعيتي
( نزهت لفظي عن فحش وقلت هم ... عرب وفي حيهم يا غربة الذمم )
وحشمة النزاهة لا تخفى على أهل الذوق السليم والعلم مع ما فيها من عدم التكليف في الميل عن التعسف
والذي أقوله إن بيتي في هذا الباب جر أذيال البلاغة مع جرير وشاركه في العذوبة والتباري ولكن له نبأ في التسمية صدر عن خيبر
(1/174)
________________________________________
ذكر التخيير
( تخيروا لي سماع العذل وانتزعوا ... قلبي وزادوا نحولي مت من سقمي )
التخيير هو أن يأتي الشاعر ببيت يسوغ فيه أن يقفي بقواف شتى فيتخير منها قافية يرجحها على سائرها
يستدل بتخييرها على حسن اختياره كقول الشاعر
( إن الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت )
فإنه يسوغ أن يقال ما له مال ما له سبب ما له أحد ما له قوت فإذا تأملت ما له قوت وجدتها أبلغ من الجميع وأدل على القافية وأمس بذكر الحاجة وأبين للضرورة وأشجى للقلوب وأدعى للاستعطاف فلذلك رجحت على ما ذكرناه
ومن هذا النوع في الكتاب العزيز قوله تعالى ( إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون ) فالبلاغة تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى للمؤمنين لأنه سبحانه وتعالى ذكر العالم بجملته حيث قال ( السموات والأرض ) ومعرفة ما في العالم من الآيات الدالة على أن المخترع قادر عليم حكيم ولا بد من التصديق أولا بالصانع حتى يصح أن يكون ما في المصنوع من الآيات دليلا على أنه موصوف بتلك الصفات والتصديق هو الإيمان وكذلك قوله تعالى في الآية الثانية ( لقوم يوقنون ) فإن خلق الإنسان وتدبير
(1/175)
________________________________________
خلق الحيوان والتفكر في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول وكذلك معرفة جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار وإنزال الرزق من السماء وإحياء الأرض بعد موتها وتصريف الرياح يقتضي رجاحة العقل ليعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلي بعد قيام البرهان على أن للعالم الكلي صانعا مختارا فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة ( لقوم يعقلون )
وإن احتيج للعقل في الجميع إلا أن ذكره هنا أمتن بالمعنى من الأول ويروى أن أعرابيا سمع شخصا يقرأ ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله ) غفور رحيم فقال ما ينبغي أن يكون الكلام هكذا
فقيل إن القارئ غلط والقراءة ( والله عزيز حكيم )
فقال نعم هكذا تكون فاصلة هذا الكلام فإنه لما عز حكم
وإذا تأملت فواصل القرآن وجدتها كلها لم تخرج عن المناسبة كقوله تعالى ( فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ) لا يجوز التبديل بينهما
إذ لا يجوز النهي عن انتهار اليتيم لمكان تهذيبه وتأديبه وإنما ينهى عن قهره وغلبته كما لا يجوز أن ينهر السائل إذا حرم بل يرده ردا جميلا
ويعجبني قول ديك الجن
( قولي لطيفك ينثني ... عن مضجعي عند المنام )
عند الرقاد عند الهجوع عند الهجود عند الوسن
( فعسى أنام فتنطفي ... نار تأجج في العظام )
في الفؤاد في الضلوع في الكبود في البدن
( جسد تقلبه الأكف ... على فراش من سقام )
من قتاد من دموع من وقود من حزن
( أما أنا فكما علمت ... فهل لوصلك من دوام )
من معاد من رجوع من وجود من ثمن
فهذه القوافي المثبتة يقابل كل بيت بما يليق به منها والأولى أولى وأرجح
(1/176)
________________________________________
وبيت صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى
( عدمت صحة جسمي إذ وثقت بهم ... فما حصلت على شيء سوى الندم )
فلذكر عدمت في صدر البيت يليق أن تكون القافية العدم ولذكر الصحة يليق أن تكون القافية السقم ولذكر الوثوق يليق أن تكون القافية الندم والبيت في غاية الرقة والانسجام
وبيت عز الدين
( تخيير قلبي هوى السادات صح به ... عهدي وإني لحزني ثابت الألم )
أما تخيير هذا البيت فإني تركته لأهل الذوق السليم بل تخير البيت بكماله
ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع
وبيتي هو
( تخيروا لي سماع العذل وانتزعوا ... قلبي وزادوا نحولي مت من سقمي )
فسماع العذل يليق به السأم وانتزاع القلب يليق به الألم وزيادة النحول يليق بها السقم وتقديم السقم هنا لقربه من النحول ولم يدخل إلى هذا البيت من الأجانب قافية
(1/177)
________________________________________
ذكر الإبهام
( وزاد إبهام عذلي عاذلي ودجا ... ليلي فهل من بهيم يشتفي ألمي )
الإبهام بباء موحدة وهو أن يقول المتكلم كلاما مبهما يحتمل معنيين متضادين لا يتميز أحدهما عن الآخر ولا يأتي في كلامه بما يحصل به التمييز فيما بعد بل يقصد إبهام الأمر فيهما
والإبهام مختص بالفنون كالمديح والهجاء وغيرهما ولكن لا يفهم من ألفاظه مدح ولا هجاء بل يكون لفظه صالحا للأمرين ومثاله ما يحكى أن بعض الشعراء هنأ الحسن بن سهل باتصال ابنته بالمأمون مع من هنأه فأثاب الناس كلهم وحرمه فكتب إليه إن أنت تماديت على حرماني عملت فيك بيتا لا تعلم مدحتك فيه أو هجوتك
فاستحضره وسأله عن قوله فاعترف وقال لا أعطيك أو تفعل
فقال
( بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن )
( يا إمام الهدى ظفرت ... ولكن ببنت من )
فلم يعلم ما أراد بقوله ببنت من في الرفعة أو في الصغر واستحسن منه الحسن ذلك وناشده أسمعت هذا المعنى أم ابتكرته فقال لا والله بل نقلته من شعر شاعر مطبوع كثير العبث بهذا النوع اتفق أنه فصل قباء عند خياط أعور اسمه زيد فقال له
(1/178)
________________________________________
الخياط على طريق العبث به سآتيك به لا تدري أقباء هو أم دواج
فقال له الشاعر إن فعلت ذلك لأعملن فيك بيتا لا يعلم أحد ممن سمعه أدعوت لك أم دعوت عليك ففعل الخياط فقال الشاعر
( خاط لي زيد قباء ... ليت عينيه سواء )
فما علم أحد أن الصحيحة تساوي السقيمة أو بالعكس فاستحسن الحسن صدقه أضعاف استحسانه حذقه
وغالب الناس يسمون الخياط عمرا ويقولون
( خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء )
ولكن نقل زكي الدين بن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير أن الخياط كان اسمه زيدا وأورد البيت مصرعا مرفوع العروض والضرب ووجه الرفع ظاهر فيهما
ولم يتفق للمتأخرين ولا للسلف من قبل في هذا الإبهام غير البيت المتعلق بالخياط زيد والبيت المتعلق بالحسن بن سهل وقد تقدم ذكرهما وقد عززتهما بثالث لما وقفت على تاريخ زين الدين بن قرناص الحلبي ووجدته قريبا من قباء زيد الخياط فقلت
( تاريخ زين الدين فيه عجائب ... وبدائع وغرائب وفنون )
( فإذا أتاه مناظر في جمعه ... خبره عني إنه مجنون )
وكذلك الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته وتبعه الشيخ عز الدين الموصلي لأجل المناظرة ويأتي الكلام على بيتيهما
وقد كشفت عنه قناع الأشكال وأبرزت بدوره المتحجبة في أفق الكمال فإني كتبت فيه تقريضا لم أرض بقراضة الذهب أن تكون له رملا ولا سبقني إليه أديب ولا ولد منه على هذا الطريق شكلا وما ذاك إلا أنه ورد إلى الديار المصرية وأنا منشئ دواوين الإنشاء المؤيدي خلد الله ملكه الشيخ شمس الدين محمد بن ناهض الفقاعي في شهر شوال سنة ثمانية عشر وثمانمائة وقد صنف سيرة مشتملة على نظم ونثر للسلطان الملك المؤيد ولم يكن للمشار إليه إلمام بتعاطي الأدب في مبادي عمره فسألني أن أكتب له عليها تقريظا قبل تقديمها فامتنعت من ذلك مدة فدخل علي بمن
(1/179)
________________________________________
لا تمكن مخالفته فحسنت له كتابة شيخنا القاضي بدر الدين بن الدماميني أولا فتوجه إليه فالتزم بالأيمان المغلظة أنه لا يكتب له إلا إذا كتبت له فلزمتني الكتابة من وجوه فكتبت له هذا التقريظ الذي صلت البلغاء خلفه فإنه للمحاسن جامع وأوضحت طريقه فضاع نشره الذي كان من غير تورية ضائع وهو
وقفت على قواعد الأدب من هذه السيرة الناهضية فوجدت مطرب لحنها قد أعرب عن التنكيت لأهل النكتب الأدبية ونويت معها سلوك الأدب لاحتشامها بالصفات المؤيدية فإنها ما قوبلت بأدب إلا تقوت بسلطانها ولا جارتها سيرة مطولة إلا كانت قاصرة عن الجري في ميدانها ولا ذكرت التواريخ المقدمة معها إلا تأخرت وكبت خلفها ولا ناظرها ذو قصص إلا ثقل عليه أمرها ونظر إلى قصصه فاستخفها ولا بالغ أهل التقاريض في تقاريضهم إلا وكانت دونها واستحق لها هذا الوصف في ذمة أهل الأدب فاستوفت منه ديونها فلو نظر الصفدي إلى هذا التاريخ وراجع النظر لسلخ جلده أو تصفحه الكتبى لعدد على تاريخه وما عده أو كاثره ابن كثير لرأى نقصه متزايدا عنده أو عاصره ابن خلكان لقال لم أمازج شراب الفقاعي بخلي فإن عنده حمضة وبرده أو لمحه الذهبي وموه بتاريخه لقيل له هذا ما ينطلي معه وعلم أن خلاصة الذهب تظهر بالسبك فهضم من جانبه ووضعه ولو أدركه البديع لرمى بديعه وعلم أنه بدعة أو لحقه الوهراني لرآه في المنان إن حصل له بعد مطالعته هجعة نسب هذا التأليف إلى الدولة المؤيدية فصار له على كل أهل الأرض صوله فلو ناظره مؤلف بمجلد لقلنا هذا جراب الدولة تحمس في شعره وتغالى فألقى لنا في سوق الكلام رخصه ولو زايده أبو تمام لتحقق عجزه وأرانا بنفسه نقصه نعم هذه الأشعار التي ما زاحمها شاعر بديوانه إلا تلت عليه بعد الزلزلة الواقعة وتقوم القيامة وهي إلى الحشر مرمية على القارعة ولقد أقام أوزانها بالقسط ولكن رجحها على القيراطي بفضله ونقص عنها الراجح الحلي لأن فيها زيادة على مثله فيا له من شعر قصر عن بحره الطويل كل معارض وكيف لا وناظمه ذو همة علية وناهض وابن ناهض وقد وقف ابن حجة وقوف معترف أن عنده في نظمه وقفه وسيكتب المقر البدري على اعترافه أنه قاضي الأدب وإمامه الذي صلت البلغاء خلفه وفتحت لعلماء الأدب هذا الباب وأرجو أن يكون فتحا مبينا فإن رضوني براعة بحسن الختام وإذا حصل العلل من هذا النهر روينا نعم وقفت وغير خاف عن علومهم الكريمة أن شرط الواقف ما يهمل وامتثلت
(1/180)
________________________________________
مراسيم المصنف مع سلوك الأدب الذي يذوقه من له فيه أعذب منهل والله يجمعنا على هذا الشرب لتحلو موارده بالموارده ولا يحجبنا عن الكلام الذي يحسن السكوت عليه وتتم به الفائدة
وكتب بعد ذلك سيدنا القاضي بدر الدين المشار إليه وقفت أنا ولا أكاد أثبت نظري لشدة الخجل وسألت المهلة في وصف هذه الألفاظ فإذا هي قد جاءت على عجل فقلت أما المقام الشريف الممدوح عز نصره ولا زالت تفخر بدولته القاهرة مصره فملك مد على الرعية جناح العدل وحمى بيضة الإسلام وتواردت على تجريح عداته وتعديل صفاته السنة السيوف والأقلام وسار على أقوم طريق فأذكرنا السيرة العمريه وطلع في سماء الكواكب كالبدر فقل ما شئت في الطلعة القمرية ودعا إلى نسك طاعته فلبته في ذلك الموقف النفوس ونادى على أعدائه منادي الحتف فأرانا كيف يكون الترخيم بحذف الرؤس ناهيك بها مناقب سرت القلوب وسارت ونافست النجوم جواهر الألفاظ في مدحها فغارت وشملت البرايا بالمن والمنح وقابلت المسيء بالعفو والصفح حماها الله تعالى من الغير وجعل صفاتها الشريفة جمال الكتب والسير
وأما منشئ السيرة فماذا أقول وقد رأيت الخطب جليلا وماذا أصف وقد حملني العجز عبئا ثقيلا هو كبير أناس مزمل من البلاغة بأنواع وأجناس يأتم به الهداة كأنه علم وتروم الأدباء المقايسة به فيقاسون ولكن من شدة الألم له في الأدب صريمه وشهامه وفراهة تجريه إلى المقامات الرائقة فلا تعتريه سآمه ما هم بتركيب معنى إلا وشرح الصدور بذلك الهم ولا شن فارس فكره غارة إلا وتم منها على بيوت الشعراء ما تم
طالما أظهر برغم أنوف الحسدة في المجالس فضله وصعبت الآداب على غيره لكنها أصبحت عليه سهلة وعقل غرائب نكته عما سواه فلله ما أبدع عقله كدر عيش الحلي بما ابتدعه من العجائب ولا ينكر لمثله تكدير الصفي واكتفى في ميدان البراعة بجواد فكره الذي جال وهو مكر مفر وهكذا يكون المكتفي أتى في تاريخه بألفاظ لو رآها ابن الأثير لتأثر وابن سعيد لتعثر وابن بسام لأصيب منها بالقارعة فعبس وتولى أو الحجازي لرمي منها بالداهية التي هدمت ما بناه وثقلت عليه حملا وكتب خطا لو لمحه ابن مقلة لأصيب منه بنظره أو ابن البواب لهتك ستره وجاء بأدب لو وازن أحد به الراجح الحلي لما أقام له وزنا ولا رجحه ولو تأمل المليحي ملاحة لفظه الذي ما مر
(1/181)
________________________________________
مثله بالذوق إلا قال لسان التعجب ما أملحه ولو قيس به ابن الرومي المتعاظم لأنشد الناظم
( ولو أني بليت بهاشمي ... خؤولته بنو عبد المدان )
( لهان علي ما ألقى ولكن ... تعالوا وانظروا بمن ابتلاني )
ولو تشبه به مادح كافور لعاد من برده بكبد حرا ولو كلف مجاراته صاحب القطر النباتي لقال ربنا أفرغ علينا صبرا ولو تعرض ديك الجن لعزائمه في الأدب لما زادته إلا خبالا ولرأى سطورا تتوالد منها المعاني العجيبة والليالي كما علمت حبالي ولو أصبح ابن قادوس فخارا بمثل أدبه لقلنا له حسبه أن يدور في الدولاب ولو تسرح الزغاري إلى تصيد معانيه الشاردة لقطعت عليه أذناب الكلاب ولو تسلق المعمار عليها لعلم أنه ينحت من الجبال بيوتا ولو رآه أبو نواس لقال هذا الذي نقل الأدب خبرا وعلم من أين يؤتى ولو عورض به ابن مماتي لطال على قريحته الميتة النحيب أو ذكر الصابي لقال الذوق السليم ليس لعصرنا من صاب سوى هذا الأديب ولو أدرك آدابه الحكيم ابن دانيال لعلم أنه ما تخيل نظيرها في الوهم ولا تصور مثلها في الخيال وإذا كان الأمر كما قال حسان بن ثابت الأنصاري
( وإنما الشعر عقل المرء يعرضه ... على البرية إن كيسا وإن حمقا )
فما أوفر عقل هذا الشاعر وأوفاه وما أقدره على تخيل المعاني الغريبة وأقواه وما أحمق من قاسه على قرنائه من هذه الصناعة التي تعاطاها بسواه كم تصور معنى في الذهن فأبرزه في الخارج أغرب الأشياء أسلوبا وكم ركب جناسا إذا ذكر البستي عنده قال الأدب دعنا من تركيبه للجناس مقلوبا
ولقد كنت أرتجي بابا أدخل منه للتقريض ففتح لي المقر التقوي بابا مرتجا ونهج الطريق إلى المدح فاقتفيت آثاره واهتديت حيث رأيت منهجا أبقاه الله لإبهام يوضحه وفساد عاجز يصلحه والله تعالى يحفظ على منشئ هذه السيرة قريحته التي هي لعجائب الأدب حائزه ويجعله ممن يسرح في رياض الصدقات الشريفة بما يسوقه إليه من وفور الجائزه
(1/182)
________________________________________
وألح المصنف بعد ذلك على المقر المجدي فضل الله بن مكانس فكتب يا لطيف نظرت هذه السيرة التي يعرض عنها المعارض وينزو مؤلفها في رياض الأدب على بكر من سوام المعاني وفارض فوجدته قد نهض بعبء ثقيل من الكلام وقام وأوقف البلغاء في مقام العجز ويعذر العاجز إذ شرفها بذكر مولانا السلطان في هذا المقام خلد الله ملكه الشريف وعم بعدله المبسوط مدائن فضل ذات ظل وريف وجعل أيامه الزاهرة تواريخ السعود ومغانم الوفود ومواسم الكرم والجود وثبت قواعد سلطانه على التخوم ورفع جنابه المعظم على الأفلاك حتى تسير لخدمته ممنطقات بمناطق النجوم وأعز دولته عزا يذل له الدبر والأملس وتلبس أثوابه في الأرض ويخص محله الرفيع من تلك الأفلاك بالأطلس هنالك ينحني الهلال لتقبيل أقدامه ويمتد كف الثريا لاستجداء صوب غمامه ويتضاءل كل منهما فيصير هذا نعل فرسه وهذا حلية لجامه وملكه رقاب العباد وأمضى أحكام سيوفه في رقاب أهل العناد حتى يشهد الدين أنه قام بحقوقه نافلة وفرضا وسعى في مراضي الله فزلزل ديار الكفار سماء وأرضا ضاعف الله ثواب عمله المقبول وأنشد بشكره لسان العالم حتى ينطق ويقول
( السيد المالك الملك المؤيد سيف ... الدين شيخ حوى العليا وأرضاها )
( وشيد الدين والدنيا ببيض ظبا ... إن لم تضاه به في الحرب أمضاها )
ثم كررت النظر فيها واستنهضت القلم المكتابة عليها حسب سؤال منشيها فنكس القلم من الخجل رأسه وصعد من صريره أنفاسه وقال لست ممن يجيد في هذا التقريض عباره ولا ينهض في وصف ما جاء به هذا الرجل من متين كلمه الذي أفحم الفحول فكأنما ألقمهم حجاره فلقد ترفع قلمه في أرض قرطاسه وسما وأتى من الرقيق بشيء يحسبه الظمآن ماء وقذف الرعب في القلوب بذكر الوقائع فورمت خوفا وشكت
(1/183)
________________________________________
مما قذف بها ورما فلو وازنه القيراطي لثقل في الحقيقة عليه أو حام على حمى ابن أبي حجلة لفر طائرا من بين يديه أو جلا على ابن نباتة سلاف نظمه لم يقل إلي بكاسك الأشهى إلي أو أورى زنده مع الشواء لأحرق قلبه ولم يستحسن منه شيئا أو عاصر ابن الساعاتي لم يلتذ بطيب المنام أو جارى النصير الحمامي لألقى شعره في سرب الحمام أو تقدم لزمان أبي تمام وناظره لعلم الناس أنه غير لبيب وقال له علماء البديع هذا ضدك يا حبيب أو ابن حجاج لأظهر فساد عقله السخيف ورمى بجميع ما قاله في الكنيف فهو أولى منهم بما جره الفضل وجذب وأحق وإن اشتهرت فضائلهم أن يشتهر بالأدب فإنه لو كلف الغريب من القول لأتى به على كنهه أو أقام الاعتذار عن قبيح لقام العذر عما جاء به وذهب على وجهه ولو تصدى لتهجين حسن لزان بما يملأ الطروس من ذلك وشحن أو حاجج بالباطل من يعرب عن الحق لنهض بحجته واستمر يلحن فسبحان من أقدره على ما تقصر عن إدراكه الإفهام وتعجز عن تصوره عقول الأنام
ولقد استعفاه القلم عن الكتابة خشية من عرض فضائحه وسأله طي هذه الصحيفة خوفا من نشر قيائحه فأبى إلا إظهار المكتوم وفض المختوم فيا خجلتاه لما كتب ويا فضيحتاه إذا لام الفاضل على ما جاء به وعتب ولكنه جرى خلف الجوادين السابقين واقتدى بإمامتهما التي اعترف الآفاق أنها ملأت الخافقين أبقاهما الله مدى الزمان وأسبغ عليهما غطاء الفضل وبلغهما غاية الأماني يوم الخوف والأمان وأمتع بجناب منشئها الأحباب وأقر به أعين الإخوان وبسط به أنفس الأصحاب وألهمنا أجمعين تجنب ما خفي علينا من عوراتنا وكشف حجب قلوبنا بمنه وكرمه
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( ليت المنية حالت دون نصحك لي ... فيستريح كلانا من أذى التهم )
هذا البيت ليس له نظير في هذا الباب فإنه اشتمل على الرقة والسهولة والانسجام وما زاده حسنا إلا تقويته بليت التي استعان بها الشاعر في إبهام بيته على زيد الخياط
(1/184)
________________________________________
فإن الشيخ صفي الدين لما قال لعاذله ليت المنية حالت دون نصحك لي حسن إبهامه بقوله فيستريح كلانا من أذى التهم وصار الأمر مبهما بينه وبين العاذل
وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته يخاطب فيها العاذل
( أبهمت نصحي مشيرا بالأصابع لي ... ليت الوجود رمى الإبهام بالعدم )
وهذا الإبهام هنا يشار إليه بالأصابع وتعقد عليه الخناصر فإن الشيخ عز الدين رحمه الله تعالى أجاد فيه إلى الغاية ولم يتفق له في نظم بديعيته بيت نظيره ولا اتفق لغيره ممن نظم بديعية فإنه جمع بين السهولة والانسجام والتصوير والتورية البارزة في أحسن القوالب بتسمية نوع الإبهام الذي هو المقصود ولعمري إنه بالغ في عطف القلوب بهذا السحر الحلال
ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع وبيت بديعيتي
( وزاد إبهام عذلي عاذلي ودجا ... ليلي فهل من بهيم يشتفي ألمي )
فإن الإبهام هنا بين بهيم الليل وبين العاذل فإن اشتراك البهيم صالح لهما ولكن لم يحصل التمييز لأحدهما عن الآخر كما وقع الشرط بين الأمر بينهما مبهما ولا يعلم من هو المقصود منهما وهذا هو الفرق بين الإبهام والتورية إذ المراد من التورية المعنى البعيد المورى عنه بالقريب
(1/185)
________________________________________
ذكر إرسال المثل
( وكم تمثلت إذ أرخوا شعورهم ... وقلت بالله خلوا الرقص في الظلم )
إرسال المثل نوع لطيف في البديع ولم ينظمه في بديعيته غير الشيخ صفي الدين وهو عبارة عن أن يأتي الشاعر في بعض بيت بما يجري مجرى المثل من حكمة أو نعت أو غير ذلك مما يحسن التمثل به كقوله تعالى ( ليس لها من دون الله كاشفة ) وقوله تعالى ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء ) وقوله تعالى ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ) وقوله تعالى ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها )
ومما جاء من ذلك في السنة الشريفة قوله ( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين )
وقوله ( لا ضرر ولا ضرار )
وقوله ( خير الأمور أوساطها )
وقوله ( المرء مع من أحب )
وقوله ( المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم )
وقوله ( ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها يوم القيامة )
وقوله ( البلاء موكل بالمنطق )
وقد احتوى كتاب أبي أحمد العسكري على كثير من هذا الباب ومن أمثلته في الشعر قول زهير
( وهل ينبت الخطمي إلا وشيجة ... وتغرس إلا في منابتها النخل )
(1/186)
________________________________________
ومثله قول النابغة
( ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب )
ومثله قول بشار
( فعش واحدا أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه )
وما أحلى ما قال بعده
( إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفوا مشاربه )
وقول أبي تمام
( فلو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع )
وكقوله
( نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول )
وذكر ابن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير إنه استخرج أمثال أبي تمام من شعره فوجدها تسعين نصفا وثلثمائة بيت وأربعة وخمسين بيتا واستوعب أمثال أبي الطيب المتنبي فوجدها مائة نصف وثلاثة وسبعين نصفا وأربعمائة بيت ولكنه أخرج من أمثال أبي الطيب ما ولده من أمثال أبي تمام وصدر الجميع بما وقع في الكتاب العزيز من الأمثال بزيادات على ذلك وهي أمثال الأشعار السنية والحماسة وأمثال أبي نواس بعد أن ألحق أمثال القرآن بأمثال دواوين الإسلام السنية وختم الجميع بأمثال العامة في كتاب الأمثال له
ومما سار من أمثال الطغرائي في لامية العجم قوله
( حب السلامة يثني عزم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل )
( لو أن في شرف المأوى بلوغ مني ... لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل )
( أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل )
( وعادة النصل أن يزهى بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل )
( ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد والسفل )
(1/187)
________________________________________
( هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل )
( وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل )
( فاصبر لها غير محتال ولا ضجر ... في حادث الدهر ما يغني عن الحيل )
( أعدي عدوك أدنى من وثقت به ... فحاذر الناس واصحبهم على دخل )
( وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل )
( يا واردا سؤر عيش كله كدر ... أنفقت صفوك في أيامك الأول )
( فيم اقتحامك لج البحر تركبه ... وأنت تكفيك منه مصة الوشل )
( ملك القناعة لا يخشى عليه ولا ... يحتاج فيه إلى الأنصار والخول )
( ترجو البقاء بدار لا بقاء لها ... فهل سمعت بظل غير منتقل )
( ويا أمينا على الأسرار مطلعا ... اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل )
وممن سار في مجرى هذه القصيدة ووزنها أبو الطيب المتنبي في قصيدته التي أولها
( أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ... دعا فلباه قبل الركب والإبل )
( وما صبابة مشتاق على أمل ... من اللقاء كمشتاق بلا أمل )
( والهجر أقتل لي مما أراقبه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل )
( قد ذقت شدة أيامي ولذتها ... فما حصلت على صاب ولا عسل )
( خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل )
أنظر إلى محاسن هذين الفحلين إلى الغاية التي تمثلا بها في الشمس وزحل وتأخر سوابق الأفهام عن معرفة السابق منهما إلى الغاية ومنها قوله
( وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... وإن وجدت لسانا قائلا فقل )
( لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل )
(1/188)
________________________________________
( لأن حلمك حلم لا تكلفه ... ليس التكحل في العينين كالكحل )
( وما ثناك كلام الناس عن كرم ... ومن يسد طريق العارض الهطل )
وقد عن لي أن أجمع هنا ما حلا بذوقي من أمثال أبي الطيب المتنبي وإن كان فيها ما ولده من شعر أبي تمام كما ذكره ابن أبي الأصبع فإن القصد أن نصيرها عمدة لأهل الإنشاء إذا أوردوها في الوقائع التي تليق بها على اختلاف أنواعها فمن ذلك قوله
( إذا صديق نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل )
( في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل )
وقوله من قصيدة
( أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا )
( ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا )
وقوله من قصيدة
( ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام )
( كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لاجئ إليها اللئام )
( من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام )
( خير أعضائنا الرؤوس ولكن ... فضلتها بقصدك الأقدام )
وقوله
( ما كل من طلب المعالي نافذا ... فيها ولا كل الرجال فحولا )
( تلف الذي اتخذ الجراءة خلة ... وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا )
وقوله
( ومكايد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتني )
ويعجبني قوله في الهجو وهو مما نحن فيه
( فلو كنت امرأ تهجى هجونا ... ولكن ضاق قطر عن مسير )
(1/189)
________________________________________
وقوله
( فقر الجهول بلا لب إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن )
( قد هون الصبر عندي كل نازلة ... ولين العزم خد المركب الخشن )
( لا يعجبن مضيما حسن بزته ... وهل تروق دفينا جودة الكفن )
وقال من أبيات قوله
( عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علما )
( وكنت قبيل الموت أستعظم النوى ... فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى )
( فلا عبرت بي ساعة لا تعزني ... ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما )
وقوله أيضا
( وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل )
( أنعم ولذ فللأمور أواخر ... أبدا كما كانت لهن أوائل )
( للهو آونة تمر كأنها ... قبل تزودها حبيب راحل )
( جمح الزمان فما لذيذ خالص ... مما يشوب ولا سرور كامل )
( وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل )
وقال من قصيدة وهي أبلغ ما يكون في المدح
( أعيا زوالك عن محل نلته ... لا تخرج الأقمار من هالاتها )
وقال من قصيدة
( وأشجع مني كل يوم سلامتي ... وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر )
( ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما عمر )
( ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر )
( وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر )
( وإني رأيت الضر أحسن منظرا ... وأهون من مرأى صغير به كبر )
(1/190)
________________________________________
ويعجبني من المديح منها شعر
( وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله ... ولكن لشعري فيك من نفسه )
وقال من قصيدة
( وما ليل بأطول من نهار ... يظل بلحظ حسادي مشوبا )
( ولا موت بأنقص من حياة ... أرى لهم معي فيها نصيبا )
( عرفت نوائب الحدثان حتى ... لو انتسبت لكنت لها نقيبا )
وما أظرف ما قال منها
( وشيخ في الشباب وليس شيخا ... يسمى كل من بلغ المشيبا )
( قسا فالأسد تفزع من يديه ... ورق فنحن نفزع أن يذوبا )
وقال من قصيدة وهي التي ذكروا أنه ادعى فيها النبوة
( ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد )
وقال من قصيدة
( قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... فاليوم كل عزيز بعدكم هانا )
( إذا قدمت على الأهوال شيعني ... قلب إذا شئت أن يسلاكم خانا )
( أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ... ولا أعاتبه صفحا وأهوانا )
( وهكذا كنت في أهلي وفي وطني ... إن النفيس عزيز حيثما كانا )
( لا أشرئب إلى ما لم يفت طمعا ... ولا أبيت على ما فات حسرانا )
( ولا أسر بما غيري الحميد به ... ولو حملت إلي الدهر ملآنا )
وقوله من قصيدة
( فما لي وللدنيا طلابي نجومها ... ومسعاي منها في شدوق الأراقم )
(1/191)
________________________________________
( من الحلم أن يستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم )
( ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روي سيفه غير راحم )
( ولولا احتقاري الأسد شبهتها بهم ... ولكنها معدودة في البهايم )
( وكاد سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم )
وقال من قصيدة
( وأحسب أني لو هويت فراقكم ... لفارقتكم والدهر أخبث صاحب )
( فيا ليت ما بيني وبين أحبتي ... من البعد ما بيني وبين المصائب )
( يهون على مثلي إذا رام حاجة ... وقوع العوالي دونها والقواضب )
( كثير حياة المرء مثل قليلها ... يزول وباقي عيشه مثل ذاهب )
( بأي بلاد لم أجر ذوائبي ... وأي مكان لم تطأه ركائبي )
وتخلص إلى مديح طاهر ولكنه أتى في تخلصه بالعجائب فقال
( كأن رحيلي كان من كف طاهر ... فأثبت كوري في ظهور المواهب )
ما يقول أثبت كوري في ظهور المواهب إلا المتنبي
ومن أبياته التي سارت أمثالا قوله
( إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم )
( فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم )
( وكل شجاعة في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحليم )
( وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم )
( ولكن تأخذ الأسماع منه ... على قدر القرائح والفهوم )
(1/192)
________________________________________
وقال من قصيدة
( والهم يحترم الجسيم مخافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم )
( ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاء منعم )
( لا تخدعنك من عدو دمعة ... وارحم شبابك من عدوك ترحم )
وما أعظم ما قال بعده
( لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم )
( والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم )
( ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم )
( والذل يظهر في الذليل مودة ... وأود منه لمن يود الأرقم )
( ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم )
( أفعال من تلد الكرام كريمة ... وفعال من تلد الأعاجم أعجم )
وقوله
( كريشة بمهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق )
ويعجبني قوله من أبيات يتمثل بها في كثرة الإحسان المفرط
( ولم تملل تفقدك الموالي ... ولم تذمم أياديك الجساما )
( ولكن الغيوث إذا توالت ... بأرض مسافر كره المقاما )
( وصار أحب ما يهدى إليه ... لغير قلى وداعك والسلاما )
وقال
( والغنى في يد اللئيم قبيح ... قدر قبح الكريم في الإملاق )
وقال من قصيدة
( وقد يتزيا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه )
(1/193)
________________________________________
( بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه )
( وما استغربت عيني فراقا رأيته ... ولا علمتني غير ما أنا عالمه )
وقوله
( وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام )
وقال من قصيدة
( إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما تمر به الوحول )
وقوله
( رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال )
( فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال )
وقوله
( يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل )
( ولو زلتم ثم لم أبككم ... بكيت على حبي الزائل )
وقوله
( هل الولد المحبوب إلا تعلة ... وهل جلوة الحسناء إلا أذى البعل )
( وقد ذقت حلواء البنين على الصبا ... فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل )
( وما الدهر أهل أن تؤمل عنده ... حياة وإن يشتاق فيه إلى النسل )
وقال
( إذا ما الناس جربهم لبيب ... فإني قد أكلتهم وذاقا )
وقوله
( فما ترجي النفوس من زمن ... أحمد حاليه غير محمود )
وقوله
( ووجه البحر يعرف من بعيد ... إذا يسجو فكيف إذا يموج )
وقال
( ليس الجمال لأنف صح مارنه ... أنف العزيز بقطع العز يجتدع )
( من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع )
( إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع )
وقوله مفتخرا
( وإنا إذا ما الموت صرح في الوغى ... لبسنا إلى حاجاتنا الضرب والطعنا )
وقوله
( أهم بشيء والليالي كأنها ... تطاردني عن كونه وأطارد )
( وحيد من الخلان في كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قل المساعد )
(1/194)
________________________________________
( ولكن إذا لم يحمل القلب كفه ... على حالة لم يحمل الكف ساعد )
منها
( بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد )
( وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد )
( فإن قليل الحب بالعقل صالح ... وإن كثير الحب بالجهل فاسد )
وقوله
( وما كل وجه أبيض بمبارك ... ولا كل جفن ضيق بنجيب )
( كأن الردى عاد على كل ماجد ... إذا لم يعوذ مجده بعيوب )
( ولولا أيادي الدهر في الجمع بيننا ... غفلنا فلم نشعر له بذنوب )
( فرب كئيب ليس تندى جفونه ... ورب كثير الدمع غير كئيب )
( وفي تعب من يجحد الشمس ضوءها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب )
وقوله
( ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت ... على عينه حتى يرى صدقها كذبا )
( ومن تكن الأسد الضواري جدوده ... يكن ليله صبحا ومطعمه غصبا )
( ولست أبالي بعد إدراكي بالعلا ... أكان تراثا ما تناولت أم كسبا )
ويعجبني من هذه القصيدة قوله في مديح سيف الدولة وقد كسر الدمستق على مرعش
( أتى مرعشا يستقرب البعد مقبلا ... وأدبر إذ أقبلت تستبعد القربا )
( كذا يترك الأعداء من يكره القنا ... ويقفل من كانت غنيمته رعبا )
( مضى بعدما التف الرماحان ساعة ... كما يلتقي الهدب في الرقدة الهدبا )
( ولكنه ولى وللطعن سورة ... إذا ذكرتها نفسه لمس الجنبا )
( فحب الجبان النفس أوردها البقا ... وحب الشجاع الحرب أوردها الخربا )
وما أحلى ما قال بعده
( ويختلف الرزقان والفعل واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا )
(1/195)
________________________________________
ومن أنصاف مطالعه التي يتمثل بها الناس
( واحر قلباه ممن قلبه شبم ... )
ونصفه الثاني لأجل تمام شخص المطلع
( ومن بجسمي وحالي عنده سقم ... )
ويعجبني من هذه القصيدة قوله يخاطب سيف الدولة ويشير إليه أنه سمع فيه كلام الأعداء وقد أحضرهم لمواجهته ولم يخرج عن إرسال المثل
( يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم )
( أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم )
( وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم )
ومما سار من أمثالها قوله
( إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظنن أن الليث مبتسم )
( يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم )
( إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم )
( وبيننا لو رعبتم ذاك معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم )
( كم تطلبون لنا عيبا فيعجزكم ... ويكره الله ما تأتون والكرم )
ومنها وليس لمثله مثيل
( إذا ترحلت عن قوم وقد قرروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون هم )
وما أحلى ما قال بعده
( شر البلاد مكان لا صديق به ... وشر ما يكسب الإنسان ما يصم )
وقال من أبيات
( وإن كان ذنبي كل ذنب فإنه ... محا الذنب كل المحو من جاء تائبا )
وقال من قصيدة
( وما كمد الحساد شيئا قصدته ... ولكنه من يزحم البحر يغرق )
( وإطراق طرف العين ليس بنافع ... إذا كان طرف القلب ليس بمطرق )
(1/196)
________________________________________
وقوله
( لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا )
وقوله
( لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفس فخرت لا بجدودي )
وما أحلى ما قال من غزلها
( أي يوم سررتني بوصال ... لم ترعني ثلاثة بصدود )
منها
( أين فضلي إذا قنعت من الدهر ... بعيش معجل التنكيد )
( عش عزيزا أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود )
وقال من قصيدة
( وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق )
وقوله من قصيدة
( تحقر عندي همتي كل مطلب ... ويقصر في عيني المدى المتطاول )
وما أحلى ما قال بعده
( وما زلت طودا لا تزول مناكبي ... إلى أن بدت للضيم في زلازل )
وله من قصيدة
( ليس التعلل بالآمال من أربي ... ولا القناعة بالإقلال من شيمي )
( ولا أظن بنات الدهر تتركني ... حتى تسد عليها طرقها هممي )
وما ألطف ما قال منها
( أرى أناسا ومحصولي على غنم ... وذكر جود ومحصولي على الكلم )
( لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم )
(1/197)
________________________________________
وقال
( وكاتم الحب يوم البين منهتك ... وصاحب الدمع لا تخفى سرائره )
وقوله
( إذا قيل رفقا قال للحلم موضع ... وحلم الفتا في غير موضعه جهل )
وقال من قصيدة
( فموتي في الوغى عيشي لأني ... رأيت العيش من أرب النفوس )
وقال من أخرى
( إن ترمني نكبات الدهر عن كثب ... ترمي امرأ غير رعديد ولا نكس )
وقال
( خير الطيور على القصور وشرها ... يأوي الخراب ويسكن الناووسا )
وقال أيضا
( يخفي العداوة وهي غير خفية ... نظر العدو بما أسر يبوح )
وقال أيضا
( وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء )
وقال أيضا
( وشغل النفس عن طلب المعالي ... يبيع الشعر في سوق الكساد )
ومنها
( وما ماضي الشباب بمسترد ... ولا يوم يمر بمستعاد )
( متى لحظت بياض الشيب عيني ... فقد وجدته منها في السواد )
( وما العضب الطريف وإن تقوى ... بمنتصف من الكرم التلاد )
( فإن الجرح يدمي بعد حين ... إذا كان البناء على فساد )
( وكيف يبيت مضطجعا جبان ... فرشت لجنبه شوك القتاد )
وما أحلى قوله من قصيدة
( إني وإن لمت حاسدي فما ... أنكر أني عقوبة لهم )
( كفاني الذم أنني رجل ... أكرم مال ملكته الكرم )
وما أحلى ما قال بعده
( يجني الغنى للئام لو عقلوا ... ما ليس يجني عليهم العدم )
وقال أيضا
( خليلك أنت لا من قلت خلي ... وإن كثر التجمل والكلام )
( ولو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتام )
(1/198)
________________________________________
وما أحلى قوله منها
( تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام )
ومما سار من أمثالها
( لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام )
( تروع ركانة وتذوب ظرفا ... فما ندري أشيخ أم غلام )
وقال من قصيدة
( أظمتني الدنيا فلما جئتها ... مستمطرا أمطرت علي مصائبا )
وقال منها
( خذ من ثناي عليك ما أسطيعه ... لا تلزمني في الثناء الواجبا )
وقال من غيرها
( ومن لبه مع غيره كيف حاله ... ومن سره في جفنه كيف يكتم )
وقوله
( أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... وإذا نطقت فإنني الجوزاء )
( وإذا خفيت على الغبي فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياء )
( إن الكريم إذا أقام ببلدة ... سال النضار بها وقام الماء )
وقال من قصيدة
( لا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى يكون حشاك في أحشائه )
وما أحلى ما قال بعده
( إن القتيل مضرجا بدموعه ... مثل القتيل مضرجا بدمائه )
وما أحلى ما قال من قصيدة
( إذا ما قدرت على نطفة ... فإني على تركها أقدر )
( أصرف نفسي كما أشتهي ... وأملكها والقنا أحمر )
(1/199)
________________________________________
ويطربني من مديحها قوله منها أيضا
( كفتك المروءة ما تتقي ... وآمنك الود ما تحذر )
وقال
( فلا تطمعن من حاسد في مودة ... وإن كنت تبديها له وتنيل )
( يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول )
وقوله
( وما أخصك في برء بتهنئة ... إذا سلمت فكل الناس قد سلموا )
وقال
( ومن يجعل الضرغام للصيد بازه ... تصيده الضرغام فيما تصيدا )
( وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا )
وما أحلى ما قال بعده
( إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا )
( ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى )
ويعجبني منها في افتخاره
( وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا )
( فسار به من لا يسير مشمرا ... وغنى به من لا يغني مغردا )
ومن أمثالها
( فدع كل صوت بعد صوتي فإنني ... أنا الصائح المحكي والآخر الصدى )
( وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا )
ولقد أجاد في مديحها بقوله
( إذا سأل الإنسان أيامه الغنى ... وكنت على بعد جعلتك موعدا )
ومن الأمثال السائرة مطلع هذه القصيدة لكل امرئ من دهره ما تعودا
وقال من قصيدة
( وما التيه ظني فيهم غير أنني ... بغيض إلي الجاهل المتغافل )
(1/200)
________________________________________
وقوله
( وكيف يتم بأسك في أناس ... تصيبهم فيؤلمك المصاب )
وما ألطف ما قال بعده
( ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب )
( وما تركوك معصية ولكن ... يعاف الورد والموت الشراب )
( وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب )
( وكم ذنب يولده دلال ... وكم بعد يولده اقتراب )
( وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب )
ومن مطالعه التي سارت أمثالا
( على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام الكرام )
ويعجبني من مديحها
( إذا كان ما تنويه فعلا مضارعا ... مضى قبل أن تلقي عليه الجوازم )
( وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم )
وقال من قصيدة
( وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ... إذا لم يكن فوق الكرام كرائم )
وقال من غيرها
( وما الحسن في وجه الفتى شرف له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق )
وقال من قصيدة
( وما في سطوة الأرباب عيب ... ولا في زلة العبدان عار )
(1/201)
________________________________________
وقال من قصيدة
( وإذا لم تجد من الناس كفؤا ... ذات خدر أرادت الموت بعلا )
( وإذا الشيخ قال أف فما مل ... حياة وإنما الضعف ملا )
( آلة العيش صحة وشباب ... فإذا وليا عن المرء ولى )
وما أحلى ما قال بعده
( أبدا تسترد ما تهب الدنيا ... فيا ليت جودها كان بخلا )
وقال من قصيد
( رب أمر أتاك لا تحمد الفعال ... فيه وتحمد الأفعالا )
( وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا )
ومن أنصافها هكذا هكذا وإلا فلا لا
وقال من قصيدة مطلعها
( الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني )
( ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقران )
( لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان )
( ولما تفاضلت النفوس ودبرت ... أيدي الكماة عوالي المران )
( وإذا الرماح شغلن مهجة ثائر ... شغلته مهجته عن الإخوان )
وقال أيضا
( وإذا خامر الهوى قلب صب ... فعليه لكل عين دليل )
( وكثير من السؤال اشتياق ... وكثير من رده تعليل )
( ما الذي عنده تدار المنايا ... كالذي عنده تدار الشمول )
وقال من قصيدة
( ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب )
(1/202)
________________________________________
ومن مطالعه التي سارت أمثالا
( كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا )
وقوله منها
( إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة ... فلا تستعدن الحسام اليمانيا )
( وللنفس أخلاق تدل على الفتى ... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا )
( إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا )
( خلقت ألوفا لو رددت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا )
ومن أنصافها السائرة
( ومن قصد البحر استقل السواقيا ... )
وقال أيضا
( فارم بي ما أردت مني فإني ... أسد القلب آدمي الرواء )
( وفؤادي من الملوك وإن كان ... لساني يرى من الشعراء )
وقال من قصيدة
( فما الحداثة عن حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشبان والشيب )
ويعجبني من مديحها
( كأن كل سؤال في مسامعه ... قميص يوسف في أجفان يعقوب )
( إذا اعترته أعاديه بمسألة ... فقد عرته بجيش غير مغلوب )
وقال أيضا
( وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجده )
( فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده )
وما أحلى ما قال بعده
( وفي الناس من يرضى بميسور عيشة ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده )
( ولكن قلبا بين جنبي ما له ... مدى ينتهي بي في مراد أجده )
وقال
( إذا حللت مكانا بعد صاحبه ... جعلت فيه على ما قبله تيها )
(1/203)
________________________________________
وقوله
( وما منزل اللذات عندي بمنزل ... إذا لم أبجل عنده وأكرم )
منها
( إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم )
( وعادى محبيه بقول عداته ... وأصبح في ليل من الشك مظلم )
( أصادق نفس المرء من قبل جسمه ... وأعرفها من فعله والتكلم )
( وأحلم عن خلي وأعلم أنه ... متى أجزه حلما من الجهل يندم )
( وما كل ناو للجميل بفاعل ... ولا كل فعال له بمتمم )
( لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو إساءة مجرم )
منها
( رضيت بما ترضى به لي محبة ... وقدت إليك النفس قود المسلم )
وقوله
( وإذا الحلم لم يكن في طباع ... لم يحلم تقدم الميلاد )
( وإذا كان في الأنابيب خلف ... وقع الطيش في صدور الصعاد )
وقوله
( وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب )
( وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب )
منها وأجاد إلى الغاية
( واظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلب )
وقال من قصيدة
( لا تلق دهرك إلا غير مكترث ... ما دام يصحب فيه روحك البدن )
( فما يديم سرورا ما سررت به ... ولا يرد عليك الفائت الحزن )
( ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن )
( رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدر على مرعاكم اللبن )
( جزاء كل قريب منكم ملل ... وحظ كل محب منكم ضغن )
( وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن )
وقال من قصيدة
( ومراد النفوس أهون من أن ... تتعادى فيه وأن تتعانى )
(1/204)
________________________________________
( غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحات ولا يلاقي الهوانا )
( ولو أن الحياة تبقى لحي ... لعددنا أضلنا الشجاعانا )
( وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جبانا )
وله من قصيدة
( ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدا ضرب من الهذيان )
وقال
( لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والأقدام قتال )
وقال
( ومن يجد الطريق إلى المعالي ... فلا يذر المطي بلا سنام )
وما أحلى ما قال بعده
( ولم أر في عيوب الناس نقصا ... كنقص القادرين على التمام )
( وملني الفراش وكان جنبي ... يمل لقاءه في كل عام )
ومن اختراعاته المخترعة قوله منها ويشير إلى حمى أصابته وكانت تغشاه إذا أتى الليل
( وزائرتي كأن بها حياء ... فليس تزور إلا في الظلام )
( بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي )
( يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السقام )
( إذا ما فارقتني غسلتني ... كأنا عاكفان على حرام )
( كأن الصبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعة سجام )
( أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام )
( وتصدق وعدها والصدق شر ... إذا ألقاك في الكرب العظام )
( فإن أمرض فما مرض اصطباري ... وإن أحمم فما حم اعتزامي )
( وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام )
(1/205)
________________________________________
وقوله
( وللسر مني موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب )
( وما العشق إلا غرة وطماعة ... يمرض قلب نفسه فيصاب )
( أعز مكان في الدنا ظهر سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب )
منها في المديح قوله في كافور
( تجاوز قدر المدح حتى كأنه ... بأحسن ما يثني عليه يعاب )
( إذا نلت منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب )
وما أحلى ما قال بعده
( وما كنت لولا أنت إلا مهاجرا ... له كل يوم بلدة وصحاب )
وقوله
( من اقتضى بسوى الهندي حاجته ... أجاب كل سؤال عن هل بلم )
منها
( ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم )
( لا تشتكون إلى خلق فتشمتهم ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم )
( وكن على حذر للناس تستره ... ولا يغرك منهم ثغر مبتسم )
منها
( أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم )
( سبحان خالق نفسي كيف لذتها ... فيما النفوس تراه غاية الألم )
ومن أمثاله التي سارت في هجو كافور قوله
( العبد ليس لحر صالح بأخ ... لو أنه في ثياب الخز مولود )
( لا تشتر العبد إلا والعصى معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد )
(1/206)
________________________________________
( ما كنت أحسبني أبقى إلى زمن ... يسيء بي فيه كلب وهو محمود )
( من علم الأسود المخصي مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه السود )
ومن أمثاله
( ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى )
ومن أنصافه التي سارت أمثالا ولا بد دون الشهد من إبر النحل
وقال من قصيد
( قد كنت أحذر بينهم من مثل ذا ... لو كان ينفع خائفا أن يحذرا )
( أعطى الزمان فما قبلت عطاءه ... وأراد بي فأردت أن أتخيرا )
وقال من قصيدة
( وقد يتقارب الوصفان جدا ... وموصوفاهما متباعدان )
وقوله
( نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه )
( تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هي من كسبه )
( لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه )
( يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه )
( وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه )
( فلا قضى حاجته طالب ... فؤاده يخفق من رعبه )
وقال من قصيد
( إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى )
ولقد رأيت هنا في هذا القدر الذي أوردته من شعر أبي الطيب من إرسال المثل ما تطيب به الأذواق وتجول به فرسان الإنشاء بالحمر من جياد الأقلام في ميادين الأوراق وعلى كل تقدير فما لأبي الطيب في حكمه وأمثاله نظير
وهنا نكتة لطيفة وهي أن صلاح الدين الصفدي كان مذهبه تقديم أبي الطيب المتنبي على أبي تمام وهو مذهب أبي العلاء المعري فإنه سمي ديوانه بعدما شرحه معجز أحمد فاتفق أن صلاح الدين اجتمع بابن نباتة بالديار المصرية وذاكره في أبي
(1/207)
________________________________________
الطيب وأبي تمام فوجده على مذهبه واجتمعا بعد ذلك بالشيخ أثير الدين أبي حيان وذاكراه في ذلك فقدم أبا تمام فلاماه على ذلك فقال أنا لا أسمع لوما في حبيب
انتهى
ومذهبي في ذلك مذهب الشيخ صلاح الدين ومذهب الشيخ جمال الدين وإن كان الشيخ أثير الدين ما سمع في حبيبه لوما وخالف من لامه فيه وفند فمن المستحيل رجوع أبي بكر عن حب أحمد وقد عن لي أن أورد هنا ما سارت في الخافقين حكمه وأمثاله وانقاد أهل الذوق السليم لطاعته لما ورد عليهم مثاله وهو تأليفي الذي وسمته بتغريد الصادح وما ذاك إلا أن سيدنا ومولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي نور الله ضريحه وجعل من الرحيق المختوم غبوقة وصبوحه كان يقول أود أن أنتزع من الصادح والباغم أرجوزة مشتملة على أمثلة مرقصة وحكم بديعة بشرط أن يكون البيت منسجما مع الذي قبله والذي بعده ولم يتيسر لي ذلك لصعوبة المسلك انتهى
ولما قدر الله تعالى ما قدره من الاختفاء بدمشق سنة ثلاث عشرة وثمانمائة عند حلول الملك الناصر بها وأنا في خدمة المقر الأشرف القاضوي محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية كان الصادح والباغم بين كتبه فنظر فيه يوما وذكر قول قاضي القضاة صدر الدين ورسم لي بذلك فانتزعت له هذه الأرجوزة التي سارت غرر أمثالها ولم يسمح الزمان لمؤلف بمثالها ومن سافر فيها نظره وكان الذوق السليم رفيقه علم أنها تضرب بها الأمثال على الحقيقة وسميتها بتغريد الصادح وصدرتها من نظمي بأبيات تقوم مقام الديباجة والخطبة هي
( الحمد لله الذي هذبنا ... واختارنا للعلم إذ أدبنا )
( فإن للآداب فضلا يذكر ... فلا تخاطب كل من لا يشعر )
( يا مدعي الحكمة في كلامه ... ومن يروم السحر في نظامه )
( خذ حكما وكلها أمثال ... ليس لها في عصرنا مثال )
( ألفها ابن حجة للنجبا ... لأن فيها رأس مال الأدبا )
( واختارها من مفردات الصادح ... فكان ذا من أكبر المصالح )
من كل بيت إن تمثلت به ... سكنت من سامعه في قلبه )
(1/208)
________________________________________
( وقد تهجمت على الشريف ... لكنني خاطبت بالمعروف )
( وجئت من كلامه بنبذة ... تجلب للسامع كل لذة )
( وترفع الأديب إن تمثلا ... بها إذا خاطب أرباب العلا )
( من حكم تتبعها وصايا ... مقبولة من أحسن السجايا )
( من أول وأوسط وآخر ... جمعتها جمع أديب شاعر )
( حتى دنا البعيد للقريب ... وانتظم البديع بالغريب )
( وانسجمت في جمعها أرجوزه ... بديعة غريبة وجيزة )
( وكل من أنكر ما أحكمت في ... ترتيبها يكون غير منصف )
( فلينظر الأصل ليعرف السبب ... ويعترف إن كان من أهل الأدب )
( أول ما يرغب في استهلاله ... من نظمه المحكم في مقاله )
وهذا أول الصادح والباغم
( العيش بالرزق وبالتقدير ... وليس بالرأي ولا التدبير )
( في الناس من تسعده الأقدار ... وفعله جميعه إدبار )
ومن هنا يأتي هذا التأليف جميعه على هذا النمط وما أردت بهذا التنبيه إلا يقظة المتأمل
( من عرف الله أزال التهمه ... وقال كل فعله للحكمة )
( من أنكر القضاء فهو مشرك ... إن القضاء بالعباد أملك )
( ونحن لا نشرك بالله ولا ... نقنط من رحمته إذ نبتلى )
( عار علينا وقبيح ذكر ... أن نجعل الكفر مكان الشكر )
( وليس في العالم ظلم جاري ... إذ كان ما يجري بأمر الباري )
( وأسعد العالم عند الله ... من ساعد الناس بفضل الجاه )
( ومن أغاث البائس الملهوفا ... أغاثه الله إذا أخيفا )
( إن العظيم يدفع العظيما ... كما الجسيم يحمل الجسيما )
( فإن من خلائق الكرام ... رحمة ذي البلاء والأسقام )
( وإن من شرائط العلو ... العطف في البؤس على العدو )
(1/209)
________________________________________
( وقد علمت واللبيب يعلم ... بالطبع لا يرحم من لا يرحم )
( فالمرء لا يدري متى يمتحن ... فإنه في دهره مرتهن )
( وإن نجا اليوم فما ينجو غدا ... لا يأمن الآفات إلا ذو الردى )
( لا تغترر بالحفظ والسلامة ... فإنما الحياة كالمدامه )
والعمر مثل الكاس والدهر القذر ... والصفو لا بد له من الكدر )
أنظر أيها المتأمل كيف اتبعت قوله فإنما الحياة كالمدامه بقوله فالعمر مثل الكاس
وإذا نظرت إلى آخر البيت رأيت الاتفاق العجيب منها
( وكل إنسان فلا بد له ... من صاحب يحمل ما أثقله )
( جهد البلاء صحبة الأضداد ... فإنها كي على الفؤاد )
( أعظم ما يلقى الفتى من جهد ... أن يبتلى في جنسه بالضد )
( فإنما الرجال بالإخوان ... واليد بالساعد والبنان )
( لا يحقر الصحبة إلا جاهل ... أو مارق عن الرشاد غافل )
( صحبة يوم نسب قريب ... وذمة يحفظها اللبيب )
( وموجب الصداقة المساعده ... ومقتضى المودة المعاضده )
( لا سيما في النوب الشدائد ... والمحن العظيمة الأوابد )
( فالمرء يحيى أبدا أخاه ... وهو إذا ما عد من أعداه )
( وإن من عاشر قوما يوما ... ينصرهم ولا يخاف لوما )
( وإن من حارب من لا يقوى ... لحربه جر إليه البلوى )
فحارب الأكفاء والأقرانا ... فالمرء لا يحارب السلطانا )
( واقنع إذا حاربت بالسلامه ... واحذر فعالا توجب الندامه )
( فالتاجر الكيس في التجارة ... من خاف في متجره الخساره )
( يجهد في تحصيل رأس ماله ... ثم يروم الربح باحتياله )
( وإن رأيت النصر قد لاح لكا ... فلا تقصر واحترز أن تهلكا )
( واسبق إلى الأجود سبق الناقد ... فسبقك الخصم من المكايد )
(1/210)
________________________________________
( وانتهز الفرصة إن الفرصه ... تصير إن لم تنتهزها غصه )
( كم نظر الغالب يفترك ... عنه التوقي واستهان فهلك )
( ومن أضاع جنده في السلم ... لم يحفظوه في لقاء الخصم )
( وإن من لا يحفظ القلوبا ... يخذل حين يشهد الحروبا )
( والجند لا يرعون من أضاعهم ... كلا ولا يحمون من أجاعهم )
( وأضعف الملوك طرا عقدا ... من غره السلم فأقصى الجندا )
( والحزم والتدبير روح العزم ... لا خير في عزم بغير حزم )
( والحزم كل الحزم في المطاولة ... والصبر لا في سرعة المزاولة )
( وفي الخطوب تظهر الجواهر ... ما غلب الأيام إلا الصابر )
( لا تيأسن من فرج ولطف ... وقوة تظهر بعد ضعف )
( فربما جاءك بعد الياس ... روح بلا كد ولا التماس )
( في لمحة الطرف بكاء وضحك ... وناجذ باد ودمع ينسفك )
( تنال بالرفق وبالتأني ... ما لم تنل بالحرص والتعني )
( ما أحسن الثبات والتجلدا ... والحيرة والتبلدا )
( ليس الفتى إلا الذي إن طرقه ... خطب تلقاه بصبر وثقه )
( إذا الرزايا أقبلت ولم تقف ... فثم أحوال الرجال تختلف )
( وكم لقيت لذة في زمني ... فاصبر الآن لهذي المحن )
( فالموت لا يكون إلا مرة ... والموت أحلى من حياة مره )
( إني من الموت على يقين ... فاجهد الآن لما يقيني )
( صبرا على أهوالها ولا ضجر ... وربما فاز الفتى إذا صبر )
( لا يجزع الحر من المصائب ... كلا ولا يخضع للنوائب )
( فالحر للعبء الثقيل يحمل ... والصبر عند النائبات يجمل )
( لكل شيء مدة وتنقضي ... ما غلب الأيام من رضي )
( قد صدق القائل ف الكلام ... ليس النهي بعظم العظام )
( لا خير في جسامة الأجسام ... بل هو في العقول والأفهام )
( فالخيل للحرب وللجمال ... والإبل للحمل وللترحال )
(1/211)
________________________________________
( لا تحتقر شيئا صغيرا محتقر ... فربما أسالت الدم الإبر )
( لا تحرج الخصم ففي إحراجه ... جميع ما تكره من لجاجه )
( لا تطلب الفائت باللجاج ... وكن إذا كويت ذا إنضاج )
( فعاجز من ترك الموجودا ... طماعة وطلب المفقودا )
( وفتش الأمور عن أسرارها ... كم نكتة جاءتك مع إظهارها )
( لزمت للجهل قبيح الظاهر ... وما نظرت حسن السرائر )
( ليس يضر البدر في سناه ... إن الضرير قض لا يراه )
( كم حكمة أضحت بها المحافل ... نافقة وأنت عنها غافل )
( ويغفلون عن خفي الحكمه ... ولو رأوها لأزالوا التهمه )
( كم حسن ظاهره قبح ... وسمج عنوانه مليح )
( والحق قد تعلمه ثقيل ... يأباه إلا نفر قليل )
( فالعاقل الكامل في الرجال ... لا ينثني لزخرف المقال )
( إن العدو قوله مردود ... وقلما يصدق الحسود )
( لا تقبل الدعوى بغير شاهد ... لا سيما إن كان من معاند )
( أيؤخذ البريء بالسقيم ... والرجل المحسن باللئيم )
( كذاك من يستنصح الأعادي ... يردونه بالغش والفساد )
( إن أكل من ترى أذهانا ... من حسب الإساءة الإحسانا )
( فادفع إساءة العدا بالحسنى ... ولا تخل يسراك مثل اليمنى )
( وللرجال فاعلمن مكايد ... وخدع منكرة شدائد )
( فالندب لا يخضع للشدائد ... قط ولا يغتاظ بالمكايد )
( فرقع الخرق بلطف واجتهد ... وامكر إذا لم ينفع الصدق وكد )
( فهكذا الحازم إذ يكيد ... يبلغ في الأعداء ما يريد )
( وهو بريء منهم في الظاهر ... وغيره مختصب الأظافر )
(1/212)
________________________________________
( والشهم من يصلح أمر نفسه ... ولو بقتل ولده وعرسه )
( فإن من يقصد قلع ضرسه ... لم يعتمد إلا صلاح نفسه )
( وإن من خص اللئيم بالندا ... وجدته كمن يربي أسدا )
( وليس في طبع اللئيم شكر ... وليس في أصل الدنيء نصر )
( وإن من ألزمه وكلفه ... ضد الذي في طبعه ما أنصفه )
( كذاك من يصطنع الجهالا ... ويؤثر الأرذال والأنذال )
( لو أنكم أفاضل أحرار ... ما ظهرت بينكم الأسرار )
( إن الأصول تجذب الفروعا ... والعرق دساس إذا أطيعا )
( ما طاب فرع أصله خبيث ... ولا زكا من مجده حديث )
( قد يدركون رتبا في الدنيا ... ويبلغون وطرا من بغيا )
( لكنهم لا يبلغون في الكرم ... مبلغ من كاب له فيها قدم )
( وكل من تمايلت أطرافه ... في طيها وكرمت أسلافه )
( كان خليقا بالعلا وبالكرم ... وبرعت في أصله حسن الشيم )
( لولا بنو آدم بين العالم ... ما بان للعقول فضل العالم )
( فواحد يعطيك فضلا وكرم ... فذاك من يكفره فقد ظلم )
( وواحد يعطيك للمصانعة ... أو حاجة له إليك واقعه )
( لا تشرهن إلى حطام عاجل ... كم أكلة أودت بنفس الآكل )
( واحذر أخي يا فتى من الشره ... وقس بما رأيته ما لم تره )
( فليس من عقل الفتى أو كرمه ... إفساد شخص كامل لقرمه )
( فالبغي داء ماله دواء ... ليس لملك معه بقاء )
( والبغي فاحذره وخيم المرتع ... والعجب فاتركه شديد المصرع )
( والغدر بالعهد قبيح جدا ... شر الورى من ليس يرعى العهدا )
(1/213)
________________________________________
( عند تمام الأمر يبدو نقصه ... وربما ضر الحريص حرصه )
( وربما ضرك بعض مالكا ... وساءك المحسن من رجالكا )
( فالمرء يفدي نفسه بوفره ... عساه أن ينجو به من أسره )
تمت وختمها شيخنا رحمه الله بقوله
( لا تعطين شيئا بغير فائده ... فإنها من السجايا الفاسده )
( هذا الذي ألفته واخترته ... من رجز الشريف وانتخبته )
( وحرمة الآداب يا أهل الأدب ... إن الشريف قد أتانا بالعجب )
( قلنا جميعا إذ سمعنا رجزه ... كم قد أتى محمد بمعجزة )
( من كل بيت شطره قصيد ... وكلنا لبيته عبيد )
( فرحمة الله له في الآخرة ... خاتمة مع الهبات الوافره )
( ثم الصلاة والسلام دائما ... على الذي للرسل جاء خاتما )
انتهى ما أوردته من أمثال أبي الطيب المتنبي وأمثال الصادح والباغم ولم أقصد بذلك إلا أخذ ما يحتاج المتأدب إليه في إرسال المثل على أنواعه خصوصا أهل الإنشا فإنه حلبة جولاتهم وعمدة فرسانهم وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته
( رجوتكم نصحاء في الشدائد لي ... لضعف رشدي واستسمنت ذا ورم )
فقوله استسمنت ذا ورم من الأمثال السائرة ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته
( أنوار بهجته إرسالها مثلا ... يلوح أشهر من نار على علم )
فقوله أشهر من نار على علم من الأمثال السائرة وبيتي
( وكم تمثلت إذ أرخوا شعورهم ... وقلت بالله خلوا الرقص في الظلم )
فالرقص في الظلم من الأمثال السائرة ولكن قولي لهم بعد إرخاء الشعور خلوا الرقص في الظلم لا يخفى على الحذاق من أهل الأدب
(1/214)
________________________________________
ذكر التهكم
( ذل العذول بهم وجدا فقلت له ... تهكما أنت ذو عز وذو شمم )
التهكم نوع عزيز في أنواع البديع لعلو مناره وصعوبة مسلكه وكثرة التباسه بالهجاء في معرض المدح وبالهزل الذي يراد به الجد ويأتي الفرق بينهما بعد إيضاح حد
والتهكم في الأصل التهدم
يقال تهكمت البئر إذا تهدمت وتهكم عليه إذا اشتد غضبه والمتهكم المحتقر
قال أبو زيد تهكمت غضبت وتهكمت تحقرت وعلى هذا يكون المتهكم لشدة الغضب قد أوعد بالبشارة أو لشدة الكبر أو لتهاونه بالمخاطب قد فعل ذلك فهذا أصله في الاستعمال
وفي المصطلح هو عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في موضع الإنذار والوعد في مكان الوعيد والمدح في معرض الاستهزاء فشاهد البشارة في موضع الإنذار قوله تعالى ( بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) وشاهد المدح في معرض الاستهزاء بلفظ المدح قوله تعالى ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) قال الزمخشري إن في تأويل قوله تعالى له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله تهكما فإن المعقبات هم الحرس من حول السلطان يحفظونه على زعمه من أمر الله على سبيل التهكم فإنهم لا يحفظونه من أمره في الحقيقة إذا جاء والله أعلم
ومنه قوله تعالى ( قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ) فقوله إيمانكم تهكم
(1/215)
________________________________________
ومن التهكم في السنة الشريفة قوله ( بشر مال البخيل بحادث أو وارث )
وشاهد المدح في موضع الاستهزاء من النظم قول ابن الذروي في ابن أبي حصينة من أبيات
( لا تظنن حدبة الظهر عيبا ... فهي في الحسن من صفات الهلال )
( وكذاك القسي محدودبات ... وهي أنكى من الظبا والعوالي )
( وإذا ما علا السنام ففيه ... لقروم الجمال أي جمال )
( وارى الانحناء في مخلب البازي ... ولم يعد مخلب الريبال )
( كون الله حدبة فيك إن شئت ... من الفضل أو من الأفضال )
( فأتت ربوة على طود علم ... وأتت موجة ببحر نوال )
( ما رأتها النساء إلا تمنت ... أن غدت حلية لكل الرجال )
وما أحلى ما ضمنها بقوله
( وإذا لم يكن من الهجر بد ... فعسى أن تزورني في الخيال )
وقول ابن الرومي
( فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل )
وقيل إن أظرف ما نظم في التهكم قول حماد عجرد
( فيا ابن طرح يا أخا ... الحلس ويا ابن القتب )
( ومن نشا والده ... بين الربا والكثب )
( يا عربي يا عربي ... يا عربي يا عربي )
وهذا النوع أعني التهكم ذكر ابن أبي الأصبع في كتابه تحرير التحبير أنه من مخترعاته ولم يره في كتب من تقدمه من أئمة البديع والعميان لم ينظموه في بديعيتهم
(1/216)
________________________________________
وقنع الشهاب محمود في كتابه المسمى بحسن التوسل من أشجار معاليه بالشميم فإنه ذكر بعض شواهده ولم يأت له بحد تمشي الأفهام فيه على صراط مستقيم ولكن ابن أبي الأصبع أزال بكارة أشكاله وكان أبا عذرته وأرضع الأذواق لبان فهمه وكان فارس حلبته وقال الفرق بينه وبين الهزل الذي يراد به الجد أن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل وهو ضد الأول لأن الهزل الذي يراد به الجد يكون ظاهره هزلا وباطنه جدا
وذكر بعضهم الفرق بين التهكم والهجاء في معرض المدح فقال الفرق بينهما التصريح بلفظة في الآخر يخالف معناها معنى الالتزام في الكلام الأول وهو في هذا دون الأول
والشيخ صفي الدين نظم التهكم في بديعيته ولكن ما أسكن بيته قرينة صالحة لبيانه ولا غردت حمائم الإيضاح على أفنانه وبيته
( محضتني النصح إحسانا علي بلا ... غش وقلدتني الإنعام فاحتكم )
ولم يظهر لي من هذا البيت غير صريح المدح والشكر ولم أجد فيه لفظة تدل على الحقارة والاستهزاء ولا على البشارة في موضع الإنذار ولا على الوعد في موضع الوعيد ولم يشر في بيته إلى نوع من هذه الأنواع وقد تقدم أن العميان لم ينظموه في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين
( لقد تهكمت فيما قد منحتك من ... قولي بأنك ذو عز وذو كرم )
فالشيخ عز الدين ذكر في بيته أنه تهكم على العذول لما خاطبه بلفظ العز والكرم ولكنه لم يأت بصيغة التهكم وبيتي
( ذل العذول بهم وجدا فقلت له ... تهكما أنت ذو عز وذو شمم )
فخطاب العذول هنا بلفظ العز والشمم بعد وقوف العاذل في موقف الذل هو التهكم بعينه
(1/217)
________________________________________
ذكر المراجعة
( قال اصطبر قلت صبري ما يراجعني ... قال احتمل قلت من يقوى لصدهم )
المراجعة ليس نحتها كبير أمر ولو فوض إلي حكم في البديع ما نظمتها في أسلاك أنواعه وذكر ابن أبي الأصبع إنها من اختراعاته وعجبت من مثله كيف قربها إلى الذي استنبطه من الأنواع البديعة الغريبة كالتهكم والافتنان والتدبيج والهجاء في معرض المدح والاشتراك والألغاز والنزاهة ومنهم من سمى هذا النوع أعني المراجعة السؤال والجواب وهو أن يحكي المتكلم مراجعة في القول ومحاورة في الحديث بينه وبين غيره بأوجز عبارة وأرشق سبك وألطف معنى وأسهل لفظ إما في بيت واحد أو في أبيات كقول عمر بن أبي ربيعة
( بينما ينعتنني أبصرنني ... مثل قيد الرمح يعدو بي الأغر )
( قالت الكبرى ترى من ذا الفتى ... قالت الوسطى لها هذا عمر )
( قالت الصغرى وقد تيمتها ... قد عرفناه وهل يخفى القمر )
(1/218)
________________________________________
قال ابن أبي الأصبع لما أورد هذه الأبيات واستشهد بها على هذا النوع في كتابه المسمى بتحرير التحبير إن هذا الشاعر عالم بمعرفة وضع الكلام في مواضعه وما ذاك إلا أن قوافي الأبيات لو أطلقت لكانت مرفوعة وأما بلاغته في الأبيات فإنه جعل التي عرفته وعرفت به وشبهته تشبيها يدل على شغفها به هي الصغرى ليظهر بدليل الالتزام أنه فتي السن إذ الفتية من النساء لا تميل إلى الا الفتى من الرجال غالبا وختم قوله بما أخرجه مخرج المثل السائر موزونا ولا يقال إنما مالت الصغرى إليه دون أختيها لضعف عقلها وقلة تجريبها فإني أقول إنه تخلص من هذا المدخل بكونه أخبر أن الكبرى التي هي أعقلهن ما كانت رأته قبل ذلك وإنما كانت تهواه على السماع فلما رأته وعلمت أنه ذلك الموصوف لها أظهرت من وجدها به على مقدار عقلها ما أظهرت من سؤالها عنه ولم تتجاوز ذلك وقنعت بالسؤال عنه وقد علمته بلذة السؤال وبسماع اسمه وأظهرت تجاهل العارف الذي موجبه شدة الوله والعقل يمنعها من التصريح وأما الوسطى فسارعت إلى تعريفه باسمه العلم فكانت دون الكبرى في الثبات وأما الصغرى فمنزلتها في الثبات دون الأختين لأنها أظهرت في معرفة وصفه ما دل على شدة شغفها به فكل ذلك وإن لم يكن كذلك فألفاظ الشاعر تدل عليه
انتهى كلام ابن أبي الأصبع
ومن جيد أمثلة هذا النوع قول أبي نواس
( قال لي يوما سليمان ... وبعض القول أشنع )
( قال صفني وعليا ... أينا أبقى وأنفع )
( قلت إني إن أقل ما ... فيكما بالحق تجزع )
( قال كلا قلت مهلا ... قال قل لي قلت فاسمع )
( قال صفه قلت يعطي ... قال صفني قلت تمنع )
ومثله قول البحتري
( بت أسقيه صفوة الراح حتى ... وضع الرأس مائلا يتكفا )
( قلت عبد العزيز تفديك نفسي ... قال لبيك قلت لبيك ألفا )
( هاكها قال هاتها قلت خذها ... قال لا أستطيعها ثم أغفى )
(1/219)
________________________________________
وعلماء البديع أجمعوا على استحسان قول وضاح اليمن من أبيات
( قالت ألا لا تلجن دارنا ... إن أبانا رجل غائر )
( قلت فإني طالب غرة ... منه وسيفي صارم باتر )
( قالت فإن البحر ما بيننا ... قلت فإني سابح ماهر )
( قالت فإن القصر عالي البنا ... قلت فإني فوقه طائر )
( قالت أليس الله من فوقنا ... قلت بلى وهو لنا غافر )
( قالت فقد أعييتنا حيلة ... فأت إذا ما هجع السامر )
( واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا ناه ولا آمر )
وظريف هنا قول بعضهم
( قالت لقد أشمت بي حسدي ... مذ بحت بالسر لهم معلنا )
( قلت أنا قالت وإلا فمن ... قلت أنا قالت وإلا أنا )
وهي أبيات طويلة جميعها على هذا المنوال منسوج ولكن اكتفيت بالتمثيل منها على هذا القدر
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( قالوا اصطبر قلت صبري غير متبع ... قالوا اسلهم قلت ودي غير منصرم )
ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( راجعت في القول إذ أطلقت سلوتهم ... قال اسلهم قلت سمعي عنك في صمم )
والمراجعة إن لم تتكرر لم يبق لها في القلوب حلاوة ولا يطبق اسمها مسماه وقد تقدم قول الشاعر وتكراره في قوله
( قلت أنا قالت وإلا فمن ... قلت أنا قالت وإلا أنا )
وعز الدين لم يكرر مراجعته ولم يأت بها إلا في مكان واحد والذي أقوله إنه ما
(1/220)
________________________________________
صده عن ذلك إلا اشتغاله بتسمية النوع ولكن ليته لو دخل إلى سوق الرقيق وبيت بديعيتي
( قال اصطبر قلت صبري ما يراجعني ... قال احتمل قلت من يقوى لصدهم )
وهذا البيت متعلق ببيت التهكم الذي قبله وهو البيت المبني على خطاب العاذل وهو
( ذل العذول بهم وجدا فقلت له ... تهكما أنت ذو عز وذو شمم )
(1/221)
________________________________________
ذكر التوشيح
( توشيحهم بملا تلك الشعور إذا ... لفوه طيا يعرفنا بنشرهم )
اتفق علماء البديع على أن التوشيح أن يكون معنى أول الكلام دالا على لفظ آخره ولهذا سموه التوشيح فإنه ينزل فيه المعنى منزلة الوشاح وينزل أول الكلام وآخره منزلة محل الوشاح من العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح وهذا النوع فرعه قدامة من ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت وقال فيه التوشيح هو أن يكون في أول البيت معنى إذا فهم فهمت منه قافية البيت بشرط أن يكون المعنى المقدم بلفظه من جنس معنى القافية بلفظه
وأورد ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير من أعظم الشواهد على هذا قوله تعالى ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) فإن في معنى اصطفاء المذكورين ما يعلم منه الفاصلة لأن المذكورين نوع من جنس العالمين
ومن الأمثلة الشعرية قول الراعي النميري
( فإن وزن الحصى ووزنت قومي ... وجدت حصى ضريبتهم رزينا )
فإن السامع إذا فهم أن الشاعر أراد المفاخرة برزانة الحصى وتحقق أن القافية
(1/222)
________________________________________
مجردة مطلقة رويها النون وحرف إطلاقها الألف ورأى في صدر البيت ذكر الزنة تحقق أن تكون القافية رزينا ليس إلا
ومن عجائب أمثلة هذا النوع ما حكي عن عمر بن أبي ربيعة أنه أنشد عبد الله بن العباس رضي الله عنهما
( تشط غدا دار جيراننا ... )
فقال له عبد الله
( وللدار بعد غد أبعد ... )
فقال عمر هكذا والله قلت فقال عبد الله بن العباس وهكذا يكون
ويقرب من هذه القصة قصة عدي بن الرقاع حين أنشد الوليد بن عبد الملك بحضرة جرير والفرزدق قصيدته التي مطلعها عرف الديار توهما فاعتادها حتى انتهى إلى قوله تزجي أغن كأن إبرة روقه
ثم شغل الوليد عن الاستماع فقطع عدي الإنشاد فقال الفرزدق لجرير ما تراه يقول فقال جرير أراه يستلب بها مثلا
فقال الفرزدق إنه سيقول قلم أصاب من الدواة مدادها
فلما عاد الوليد إلى الاستماع وعاد عدي إلى الإنشاد قال البيت
فقال الفرزدق والله لما سمعت صدر بيته رحمته فلما أنشد عجزه انقلبت الرحمة حسدا
قال زكي الدين بن أبي الأصبع الذي أقوله إن بين ابن العباس وبين الفرزدق في استخراجهما العجزين كما بينهما في مطلق الفضل وفضل ابن عباس رضي الله عنهما معلوم وأنا أذكر الفرق فإن بيت عدي بن الرقاع من جملة قصيدة تقدم مطلعها مع معظمها وعلم أنها دالية مردفة بألف وهي من وزن قد عرف ثم تقدم في صدر البيت ذكر ظبية تسوق خشفا لها قد أخذ الشاعر في تشبيه طرف قرنه بالقلم في سواده وهذه القرائن لا تخفى على أهل الذوق الصحيح أن فيها ما يدل على عجز البيت بحيث يسبق إليه من هو دون الفرزدق من حذاق الشعراء وبيت عمر بيت مفرد لم تعلم قافيته من أي ضرب هي من القوافي ولا رويه من أي الحروف ولا حركة رويه من أي الحركات فاستخراج عجزه ارتجالا في غاية العسر ونهاية الصعوبة لولا ما أمد الله تعالى به هؤلاء الأقوام من المواد التي فضلوا بها عن غيرهم
انتهى كلام ابن أبي الأصبع
وبين التوشيح والتصدير فرق ظاهر مثل الصبح ولم يحصل الالتباس إلا لكون كل منهما يدل صدره على عجزه والفرق أن دلالة التصدير لفظية ودلالة التوشيح معنوية
(1/223)
________________________________________
والفرق بين التوشيح والتمكين أيضا أن التوشيح قد تقدم أنه لا بد أن يتقدم قافيته معنى يدل عليها والتمكين بخلاف ذلك
والعميان لم ينظموا أنواع التوشيح في بديعيتهم وبيت صفي الدين
( هم أرضعوني ثدي الوصل حافلة ... فكيف يحصل منها حال منفطمي )
فقصيدة صفي الدين قد علم أنها ميمية وقد مر على السامع منها عدة أبيات وقد صدر بيت التوشيح بذكر الرضاع والثدي فما يخفى أن تكون القافية منفطما إلا على كل أجنبي من هذا العلم
ولقد برز في حسن هذا التركيب باستجلاب الرقة على من تقدمه
وبيت الشيخ عز الدين
( نومي وعقلي بتوشيح الهوى سلبا ... فبت صبا بلا حلم ولا حلم )
قال في شرحه الهوى وشحني برداه غطاني فسلب نومي وعقلي فصرت بلا حلم ولا حلم
وهذه عبارته بنصها
وبيتي
( توشيحهم بملا تلك الشعور إذا ... لفوه طيا يعرفنا بنشرهم )
هذا النوع أعني التوشيح يفتقر الناظم إلى قدح زناد الفكر في سبك معانيه مع الملكة والبسطة في علم الأدب وحسن التصرف لا سيما إذا التزم بتسمية النوع وأبرز التسمية منتظمة في سلك التورية من جنس الغزل فتسمية النوع هنا قد عرفت والإتيان في هذا البيت بلفظة الملا هو الذي رشح جانب التوشيح الجائل على العاتق والكشح وأما توشيح الهوى في بيت الشيخ عز الدين فلم ينسج على منوال مقبول لأن استعارة الوشاح للهوى المقصور الذي هو الغرام لم يفهم منها شيء يقرب من التشبيه فإن علماء البديع قالوا الاستعارة هي ذكر الشيء باسم غيره وإثبات ما لغيره له لأجل المبالغة في التشبيه
وعلى هذا التقدير تكون استعارة الملا للشعور في حالة توشيح الأحباب بها هي الاستعارة التي يستعار منها المحاسن الأدبية فإن حسن التشبيه قد غازل بعيون كماله غزلها والتصريح في البيت بلفظ اللف والنشر والطي يعرفه من له أدنى ذوق مع أني ما اكتفيت بذلك حتى قلت بعد اللف والطي تعرفنا وتعرفنا فيها الاشتراك بين المعرفة والعرف فإذا تقرر أن القافية ميمية ما يتصور في ذوق أن تكون القافية غير نشرهم وقد اجتمع في هذا البيت من أنواع البديع التورية وحسن الاستعارة والترشيح والمطابقة والبسط والانسجام والتمكين والسهولة والتوشيح الذي هو العمدة
والله أعلم بالصواب
(1/224)
________________________________________
ذكر تشابه الأطراف
( شابهت أطراف أقوالي فإن أهم ... أهم إلى كل واد في صفاتهم )
هذا النوع الذي سموه تشابه الأطراف هو أيضا مثل المراجعة التي تقدمت ليس في كل منهما كبير أمر
وتالله ما خطر لي يوما ولا حسن في الفكر أن ألحق طرفا من تشابه الأطراف بذيل من أبيات شعري ولكن شروع المعارضة ملتزم وتشابه الأطراف هو أن يعيد الناظم لفظة القافية في أول البيت الذي يليها وهذا النوع كان اسمه التسبيغ بسين مهملة وغين معجمة وإنما ابن أبي الأصبع قال هذه التسمية غير لائقة بهذا المسمى فسماه تشابه الأطراف فإن الأبيات فيه تتشابه أطرافها
وأحسن ما وقع في هذا النوع قول أبي نواس
( خزيمة خير بني خازم ... وخازم خير بني دارم )
( ودارم خير تميم وما ... مثل تميم في بني آدم )
ولما كان هذا النوع لا يأتي إلا في بيتين والشيخ عز الدين لما التزم أن يأتي به لأجل التورية بالتسمية في بيت واحد شطر البيت شطرين وجعل كل شطر بمنزلة بيت كامل وأعاد لفظ القافية في الشطر الثاني فجاء به في غاية اللطف
فإن الشيخ صفي الدين أورد قبله بيت الاكتفاء ويأتي الكلام عليه في موضعه وإنما المراد هنا معرفة تشابه الأطراف وهو
( قالوا ألم تدر أن الحب غايته ... سلب الخواطر والألباب قلت لم )
( لم أدر قبل هواهم والهوى حرم ... أن الظباء تحل الصيد في الحرم )
(1/225)
________________________________________
تشابه الأطراف بين لم ولم في آخر البيت الأول وأول الثاني
وبيت الشيخ عز الدين
( أطرافك اشتبهت قولا متى تلم ... تلم فتى زائد البلوى فلم يلم )
أما قوله أطرافك اشتبهت يضيق الكلام فيه
وبيت بديعيتي
( شابهت أطراف أقوالي فإن أهم ... أهم إلى كل واد في صفاتهم )
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم ويا ليتني كنت معهم
(1/226)
________________________________________
ذكر التغاير
( أغاير الناس في حب الرقيب فمذ ... أراه أبسط آمالي بقربهم )
التغاير سماه قوم التلطف وهو أن يتلطف الشاعر بتوصله إلى مدح ما كان قد ذمه هو أو غيره
فأما مدح الإنسان ما ذمه غيره فإن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أتى فيه بما يمتزج صافي مشربه بالأرواح وينقلنا ببديع بلاغته من الإبهام إلى الإيضاح
فمن ذلك خطبته التي مدح فيها الدنيا مغايرا لأمثاله في ذمها حيث قال
أيها الذام للدنيا المغتر بغرورها بم تذمها أنت المتجرئ عليها أم هي المتجرئة عليك متى استهوتك أم متى غرتك أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى كم عللت ولديك وكم مرضت والديك تبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء لم ينفع أحدهم إشفاقك ولم تشف لهم بطبك ولم تدفع عنهم بقوتك قد مثلت لك بهم الدنيا نفسك وخيلت لك بمصرعهم مصرعك إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ودار موعظة لمن اتعظ بها مسجد أحباب الله ومصلى ملائكته ومهبط وحي الله ومتجر أوليائه اكتسبوا منها الرحمة وربحوا منها الجنة فمن ذا يذمها وقد أدبت بنيها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهليها فمثلت لهم ببلائها البلى وشوقتهم بسرورها إلى السرور وراحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيبا وترهيبا فذمها رجال غداة الندامة وحمدها آخرون ذكرتهم الدنيا فذكروا وحدثتهم فصدقوا ووعظتهم فاتعظوا
ونظم ابن أبي الأصبع معاني هذه الخطبة فقال
(1/227)
________________________________________
( من يذم الدنيا بظلم فإني ... بطريق الإنصاف أثني عليها )
( وعظتنا بكل شيء وإنا ... حين جدت بالوعظ من مصطفيها )
( نصحتنا فلم نر النصح نصحا ... حين أبدت لأهلها ما لديها )
( أعلمتنا أن المآل يقينا ... للبلى حين جددت عصريها )
( كم أرتنا مصارع الأهل والأحباب ... لو نستفيق يوما إليها )
( يوم بؤس لها ويوم رخاء ... فتزود ما شئت من يوميها )
( وتيقن زوال ذاك وهذا ... تسل عما تراه من حادثيها )
( دار زاد لمن تزود منها ... وغرور لمن يميل إليها )
( مهبط الوحي والمصلى الذي كم ... عفرت صورة بها خديها )
( متجر الأولياء قد ربحوا الجنة ... منها وأوردوا عينيها )
( رغبت ثم رهبت ليرى ... كل لبيب عقباه في حالتيها )
وإذا أنصفت تعين أن يثني ... عليها ذو البر من ولديها )
فأما من ذم ما مدحه الناس قاطبة فابن الرومي فإنه ذم الورد وهو مشهور ووصف البحتري يوم الفراق بالقصر وقد أجمع الناس على طوله فقال
( ولقد تأملت الفراق فلم أجد ... يوم الفراق على امرئ بطويل )
( قصرت مسافته على متزود ... منه لوهن صبابة وغليل )
وهذا النوع أعني المغايرة أورده الحريري في المقامة الدينارية وبالغ في مدح الدينار وذمه فقال في مدحه
( أكرم به أصفر راقت صفرته ... جواب آفاق ترامت سفرته )
( مأثورة سمعته وشهرته ... قد أودعت سر الغنى أسرته )
( وقارنت نجح المساعي خطرته ... وحببت إلى الأنام غرته )
( كأنما من القلوب نقرته ... به يصول من حوته صرته )
(1/228)
________________________________________
( وإن تفانت أو توانت عثرته ... يا حبذا نضاره ونضرته )
( وحبذا مغناته ونصرته ... كم آمر به استتبت أمرته )
( ومترف لولاه دامت حسرته ... وجيش هم هزمته كرته )
( وبدر تم أنزلته بدرته ... ومستشيط تتلظى جمرته )
( أسر نجواه فلانت سرته ... وكم أسير أسلمته أسرته )
( أنقذه حتى صفت مسرته ... وحق مولى أبدعته فطرته )
( لولا التقى لقلت جلت قدرته ... )
وقال في ذمه
( تبا له من خادع مماذق ... أصفر ذي وجهين كالمنافق )
( يبدو بوصفين لعين الرامق ... زينة معشوق ولون عاشق )
( وحبه عند ذوي الحقائق ... يدعو إلى ارتكاب سخط الخالق )
( لولاه لم تقطع يمين سارق ... ولا بدت مظلمة من فاسق )
( ولا اشمأز باخل من طارق ... ولا شكا الممطول مطل العائق )
( ولا استعيذ من حسود راشق ... وشر ما فيه من الخلائق )
( أن ليس يغني عنك في المضائق ... إلا إذا فر فرار الآبق )
( واها لمن يقذفه من حالق ... ومن إذا ناجاه نجوى الوامق )
( قال له قول المحق الصادق ... لا رأي في وصلك لي ففارق )
ومن المغايرة تفضيل القلم على السيف إذ المعتاد عكس ذلك كقول ابن الرومي
( إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم )
( فالموت والموت لا شيء يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم )
( كذا قضى الله في الأقلام إذ بريت ... إن السيوف لها مذ أرهفت خدم )
(1/229)
________________________________________
وغاير المتنبي ذلك وقال
( حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم )
والمغايرة هنا مليحة لكن المعنى مأخوذ من قول أبي تمام السيف أصدق إنباء من الكتب والمعنى في قول أبي تمام أبلغ فإن ابن أبي الأصبع قال لم يرض أبو تمام أن يقول السيف أصدق إنباء من القلم حتى قال من الكتب التي لا تكتب إلا بالأقلام والدواة والقرطاس والكاتب المطلق اليد واللسان والجنان فالحظ الفرق بينه وبين كلام المتنبي
انتهى كلام ابن أبي الأصبع
وقد عن لي هنا أن أرفع للمتأخرين في التقديم رأيه ليعلم المنكر الفرق بين البداية والنهاية فإن الشيخ جمال الدين أظهر في المغايرة بين السيف والقلم ما صدق به قول القائل
( وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل )
من ذلك قوله في رسالة المفاخرة بينهما والمغايرة في مدح كل واحد منهما وذمه فبرز القلم بإفصاحه ونشط لارتياحه ورقي من الأنامل على أعواده وقام خطيبا بمحاسنه في حلة مداده والتفت إلى السيف فقال ( بسم الله الرحمن الرحيم ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) الحمد لله الذي علم بالقلم وشرفه بالقسم وخط به ما قدر وقسم و الذي قال ( جف القلم بما هو كائن ) وعلى آله وصحبه ذوي المجد المبين وكل مجد بائن صلاة واضحة السطور فائحة من أدراج الصدور ما نقلت صحف البحار غواديها وكتبت أقلام النور على مهارق الدياجي حكمة باريها أما بعد
فإن القلم منار الدين والدنيا ونظام الشرف والعليا ومجاديح سحب الخير إذا احتاجت الهمم إلى السقيا ومفتاح باب اليمن المجرب إذا أعيا وسفير الملك المحجب وعذيق الملك المرجب وزمام أموره السائرة وقادمة أجنحته الطائرة
(1/230)
________________________________________
ومطلق أرزاق عفاته المتواترة وأنملة الهدى المشيرة إلى ذخائر الدنيا والآخرة به رقم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل وسنة نبيه التي تهذب الخواطر الخواطل فبينه وبين من يفاخره الكتاب والسنة وحسبه ما جرى على يده الكريمة من منه وفي مراضي الدول عونة للشائدين ويعين الله في ليالي النفس تقلب وجهه في الساجدين إن نظمت فرائد العلوم فإنما هو سلكها وإن علت أسرة الكتب فإنما هو ملكها وإن رقمت برود البيان فإنما هو جلالها وإن تشعبت فنون الحكم فإنما هو أمانها ومآلها وإذا انقسمت أمور الممالك فإنما هو عصمتها وثمالها وإن اجتمعت رعايا الصنائع فإنما هو إمامها المتلفع بسواده وإن زخرت بحار الأفكار فإنما هو المستخرج دررها من ظلمات مداده وإن وعد أوفى بجنب النفع وإن أوعد أخاف كأنما يستمد من النقع
هذا وهو لسان الملوك المخاطب ورسيلها لأبكار الفتوح والخاطب والمنفق في تعمير دولها ومحصول أنفاسه والمتحمل أمورها الشاقة على عينه ورأسه والمتيقظ لجهاد أعدائها والسيف في جفنه نائم والمجهز لبأسها وكرمها جيشي الحروب والمكارم والجاري بما أمر الله من العد والإحسان والمسود الناصر فكأنما هو لعين الدهر إنسان طالما ذب عن حرمها فشد الله أزره ورفع ذكره وقام في المحامات عن دينها أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره وقاتل على البعد والصوارم في القرب وأوتي من معجزات النبوة نوعا من النصر بالرعب وبعث جحافل السطور فالقسي دالات والرماح ألفات واللامات لامات والهمزات كواسر الطير التي تتبع الجحافل والأتربة عجاجها المحمر من دم الكلى والمفاصل فهو صاحب فضيلتي العلم والعلم وساحب ذيلي الفخار في الحرب والسلم لا يعاديه إلا من سفه نفسه ولبس لبسه وطبع على قلبه وفل الجدال من غربه وخرج في وزن المعارضة عن ضربه
وكيف يعادى من إذا كرع في نقسه قيل ( إنا أعطيناك الكوثر ) وإذا ذكر شانئه السيف قيل ( إن
(1/231)
________________________________________
شانئك هو الأبتر ) أقول قولي هذا وأستغفر الله من الشرف وخيلائه والفخار وكبريائه وأتوكل على الله فيما حكم وأسأله التدبير فيما جرى به من القلم ثم أكتفي بما ذكره من أدواته وجلس على كرسي دواته متمثلا بقول القائل
( قلم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد )
( وهبت له الآجام حين نشابها ... كرم السيول وصولة الآساد )
فعند ذلك نهض السيف قائما عجلا وتلمظ لسانه للقول مرتجلا وقال ( بسم الله الرحمن الرحيم وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف وشيد مراتب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وعقد مرصوف وأجناهم من ورق حديدها الأخضر ثمار نعيمها الدانية القطوف و هازم الألوف وعلى آله وصحبه الذين طالما محوا بريق بريق الصوارم سطور الصفوف صلاة عاطرة في الأنوف حالية بها الأسماع كالشنوف وسلم
أما بعد فإن السيف زند الحق الوري وزنده القوي وحده الفارق بين الرشيد والغوي والنجم الهادي إلى العز وسبيله والثغر الباسم عن تباشير فلوله به أظهر الله الإسلام وقد جنح خفاء وجلى شخص الدين الحنيفي وقد جمح جفاء وأجرى سيوفه بالأباطح فأما الحق فمكث والباطل فذهب جفاء وحملته اليد الشريفة النبوية وخصته على الأقلام بهذه المزية وأوضحت به للحق منهاجا وأطلعته في ليالي النقع والشك سراجا وهاجا وفتحت باب الدين بمصباحه حتى دخل فيه الناس أفواجا فهو ذو
(1/232)
________________________________________
الرأي الصائب وشهاب العزم الثاقب وسماء العز التي زينت من آثاره بزينة الكواكب والحد الذي كأنه ماء دافق يخرج عند قطع الأجساد من بين الصلب والترائب لا تجحد آثاره ولا ينكر قراره إذا اشتبت في الدجى والنقع ناره يجمع بين الحالتين البأس والكرم ويصاغ في طوق الحليتين فهو إما طوق في نحور الأعداء وإما خلخال في عراقيب أهل النقم ويحسم به أهواء الفتن المضلة ويحذف بهمته الجازمة حروف العلة وإذا انحنى في سماء القتام بالضرب فقل يسألونك عن الأهلة فهو القوي الاستطاعة الطويل المعمر إذا قصف سواه في ساعة فما أولاه بطول الإحسان وما أجمل ذكره في أخبار المعمرين ومقاتل الفرسان كأن الغيث في غمده للطالب المنتجع وكأنه زناد يستضاء به إلا أن دفع الدماء شرره الملتمع كم قد مد فأدرك الطلاب ودعا النصر بلسانه المحمر من أثر الدماء فأجاب وتشعبت الدول لقائم نصره المنتظر وحازت أبكار الفتوح بحدة الذكر وغدت أيامها به ذات حجول معلومة وغرر وشدت به الظهور وحمدت علائقه في الأمور واتخذته الملوك حرزا لسلطانها وحصنا على أوطانها وقطانها وجردته على صروف الأقدار في شانها وندب فما أعيت عليه المصالح وباشر اللمم فهو على الحقيقة بين الهدى والضلال فرق واضح وأغاث في كل فصل فهو إما لغمده سعد الأخبية وإما لحامله سعد السعود وأما لضده سعد الذابح يجلس على رؤوس الأعداء قهرا ويشرح أنباء الشجاعة قائلا للقلم ( ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) وهل يفاخر من وقف الموت على بابه وعض الحرب الضروس بنابه وقذفت شياطين القراع بشهبه ومنح آيات شريفة منها طلوع الشمس من غربه ومنها أن الله أنشأ برقه فكان للمارد مصرعا وللرائد مرتعا ( ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا ) كم اتخذ من جسد طرسا وكتب عليه حرفا لا ينسى فيه للألباب عبرة وللأذهان السابحة غمرة بعد غمرة
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من لفظ يجمح ورأي إلى الخصام يجنح
(1/233)
________________________________________
ولسان يحوجه اللدد إلى أن يخرج فيجرح وأتوكل عليه في صد الباطل وصرفه وأسأله الإعانة على كل باحث عن حتفه بظلفه ثم اختفى في بعض الخمائل وتمثل بقول القائل
( سل السيف عن أصل الفخار وفرعه ... فإني رأيت السيف أفصح مقولا )
فلما وعى القلم خطبته الطويلة الطائلة ونشطته الجليلة الجائلة وفهم كتابته وتلويحه وتعريضه بالذم وتصريحه وتعديله في الحديث وتجريحه استغاث باللفظ النصير واحتد وما أدراك ما حدة حده القصير وقام في دواته وقعد واضطرب على وجه القرطاس وارتعد وعدل إلى السب الصراح ورأى أنه إن سكت تكلم ولكن بأفواه الجراح فانحرف إلى السيف وقال أيها المعتز بطبعه المغتر بلمعه الناقض حبل الإنس بقطعه الناسخ بهجيره من ظلال العيش فيأ السراب الذي ( يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) الحبيس الذي طالما عادت عليه عوائد شره الكمين الإبليس الذي لو أمر لي بالسجود لقال ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) أتعرض بسبي وتتعرض لمكايد حربي ألست ذا الخدع البالغة والحرب خدعة والمنن النافعة ولا خير فيمن لا تبغي الأنام نفعه ألست المسود الأحق بقول القائل
( نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الجود والإقداما )
أتفاخرني وأنا للوصل وأنت للقطع وأنا للعطاء وأنت للمنع وأنا للصلح وأنت للضراب وأنا للعمارة وأنت للخراب وأنا المعمر وأنت المدمر وأنت المقلد وأنا صاحب التقليد وأنت العابث وأنا المجود ومن أولى من القلم بالتجويد فما أقبح شبهك وما أشنع يوما ترى فيه العيون وجهك أعلى مثلي يشق القول ويرفع
(1/234)
________________________________________
الصوت والصول وأنا ذو اللفظ المكين وأنت ممن دخل تحت قوله تعالى ( أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) فقد تعديت حدك وطلبت ما لم تبلغ به جهدك هيهات أنا المنتصب لمصالح الدول وأنت في الغمد طريح والمتعب في تمهيدها وأنت غافل مستريح والساهر وقد مهد لك في الغمد مضجع والجالس عن يمين الملك وأنت عن يساره فأي الحالتين أرفع والساعي في تدبير حال القوم والمغني لنفعهم العمر إذا كان نفعك يوما أو بعض يوم فاقطع عنك أسباب المفاخرة واستر أنيابك عند المكاشرة فما يحسن بالصامت محاورة المفصح والله يعلم المفسد من المصلح على أنه لا ينكر لمثلك التصدي ولا يستغرب منه على مثلي التعدي ما أنا أول من أطاع الباري وتجرأت عليه ومددت يد العدوان إليه أولست الذي قيل فيه
( شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم )
قد سلبت الرحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء وجلبت القوة فكم هيجت سبة حمراء وأثرت دهماء وخمشت الوجوه وكيف لا وأنت كالظفر كونا وقطعت اللذات ولم لا وأنت كالصبح لونا أين بطشك من حلمي وجهلك من علمي وجسمك من جسمي
( شتان ما بين جسم صيغ من ذهب ... وذاك جسمي وجسم صيغ من بهق )
أين عينك الزرقاء من عيني الكحيلة ورؤيتك الشنعاء من رؤيتي الجميلة أين لون الشيب من لون الشباب وأين نذير الأعداء من رسول الأحباب هذا وكم أكلت الأكباد غيظا وحميت الأضغان قيظا وشكوت الصدأ فسقيت ولكن بشواظ من نار وأخنت عليك الأيام حتى انتعل بأبعاضك الحمار ولولا تعرضك إلي لما وقعت في المقت ولولا إساءتك لما كنت تصقل في كل وقت فدع عنك هذا الفخر المديد
(1/235)
________________________________________
وتأمل وصفي إذا ( فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) وافهم قول ابن الرومي
( إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم )
( فالموت والموت لا شيء يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم )
( بذا قضى الله في الأقلام إذ بريت ... إن السيوف لها مذ أرهفت خدم )
فعند ذلك وثب السيف على قده وكاد الغضب يخرجه عن حده وقال أيها المتطاول على قصره والماشي على طريق غرره والمتعرض مني إلى الدمار والمتحرش بي فهو كما تقول العامة ذنبه قش ويحترس بالنار لقد شمرت عن ساقك حتى أغرقتك الغمرات وأتعبت نفسك فيما لا تدرك إلى أن أذهبها التعب حسرات أولست الذي طالما أرعش السيف للهيبة عطفك ونكس للخدمة رأسك وطرفك وأمر بعض رعيته وهو السكين فقطع قفاك وشق أنفك ورفعك في مهمات خاملة وحطك وجذبك للاستعمال وقطك فليت شعري كيف جسرت وعبست على مثلي وبسرت وأنت السوقة وأنا الملك وأنا الصادق وأنت المؤتفك وأنت لصون الحطام وأنا لصون الممالك وأنت لحفظ المزارع وأنا لحفظ المسالك وأنت للفلاحة وأنا للفلاح وأنت حاطب الليل من نفسه وأنا ساري الصباح وأنا الباصر وأنت الأرمد وأنا المخدوم الأبيض
وأنت الخادم الأسود وأقسم بمن صير في قبضتي أنواع اليمن المسخرة وجعل شخصك وشخصي كقوله تعالى ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) إنك عن بلوغ قدري لأذل رتبة وعن بري كفي لأخيب طلبة فإني لا أنكر قول بعض أربابك حيث قالوا
( أف لرزق الكتبه ... أف له ما أصعبه )
( يرتشف الرزق به ... من شق تلك القصبه )
( يا قلما يرفع في ... الطرس لوجهي ذنبه )
( ما أعرف المسكين إلا ... كاتبا ذا متربه )
(1/236)
________________________________________
إن عاينت الديوان وقعت في الحساب والعذاب أو البلاغة سحرت وبالغت فأنت ساحر كذاب أو فخرت بتقييد العلوم فما لك منها سوى لمحة الطرف أو برقم المصاحف فإنك تعبد الله على حرف أو جمعت عملا فإنما جمعك للتكسير أو رفعت إلى طرفك رجع البصر خاسئا وهو حسير وهل أنت في الدول إلا خيال تكتفي الهمم بطيفه أو أصبع يلعق بها الرزق إذا أكل الضارب بقائم سيفه وساع على رأسه قل ما أجدى وسار ربما أعطى قليلا وأكدى
ثم وقف وأكدى أين أنت من حظي الأسنى وكفي الأغنى وما خصصت به من الجوهر الفرد إذا عجزت أنت عن العرض الأدنى كم برزت فما أغنيت في مهمه وكم خرجت من دواتك لتسطير سيئة فخرجت كما قيل من ظلمة إلى ظلمة وهب أنك كما قلت مفتوق اللسان جريء الجنان مداخل بمخلبك بين ذوي الاقتناص معدود من شياطين الدول وأنت في الطرس والنقس بين بناء وغواص فلو جريت خلفي إلى أن تحفى وصحت بصريرك إلى أن تخفت وتخفى فما كنت مني إلا بمنزلة المدرة من السماك الرامح والبعرة على تيار الخضم الطافح فلا تعد نفسك بمعجزي فإنك ممن يمين ولا تحلف لها أن تبلغ مداي فليس لمخضوب البنان يمين ومن صلاح نجمك أن تعترف بفضلي الأكبر وتؤمن بمعجزتي التي بعثت منك إلى الأسود والأحمر لتستوجب حقا وتسلم من نار حر تلظى لا يصلاها إلا الأشقى إن لم يتضح لرأيك إلا الإصرار وأبت حصائد لسانك إلا أن توقعك في النار فلا رعى الله عزائمك القاصرة ولا جمع عقارب ليل نفسك التي إن عادت فإن نعال السيوف لها حاضرة ثم قطع الكلام وتمثل بقول أبي تمام
( السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب )
( بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب )
فلما تحقق تحريف القلم حرجه وفهم مقدار الغيظ الذي أخرجه وسمع هذه المقالة التي يقطر من جوانبها الدم ورأى أنه هو البادي بهذه المناقشة والبادي أظلم
(1/237)
________________________________________
رجع إلى خداعه وتنحى عن طريق قراعه وعلم أن الدهر دهره والقدر على حكم الوقت قدره وأنه أحق بقول القائل
( لحنها معرب وأعجب من ذا ... أن إعراب غيرها ملحون )
فالتفت إليه وقال أيها المتلهب في قدحه والخارج عما نسب إليه من صفحه ما هذه الزيادة في السباب والتطفيف في كيل الجواب وأين علم الشيوخ عند جهل الشباب أما كان الأحسن بك أن تترك هذا الرفث وتعلم أخاك على الشعث وتحلم كما زعمت أنك السيد وتزكو على الغيظ كما يزكو على النار الجيد أما تعلم أني معينك في تشييد الممالك ورفيقك فيما تسلكه لنفعها من المسالك أما أنا وأنت للملك كاليدين وفي تشييده كالركنين الأشدين وما أراك عبتني في الأكثر إلا بتحول جسدي الذي ليس خلقه علي وضعفه الذي ليس أمره إلي على أن أشهى الخصور أنحفها وأقوى الجفون أضعفها وأزكى النسيمات أعلها وأدنفها وهذه سادات العرب تعد ذلك من فضلها الأظهر وحسنها الأشهر ولو أنك تقول بالفصاحة وتقف في هذه الساحة لأسمعتك في ذلك من أشعارهم وأتحفتك بما يفخرون به من آثارهم وكذلك عيبك سواد خلقتي التي
( أكسبها الحب حلية صبغت ... صبغة حب القلوب والحدق )
فيا لله ويا للحجر الأسود من هذه الحجة البائره والكرة الخاسره وعلى هذه النسبة ما عبتني به من فقر الأنبياء وذل الحكماء على أن إطلاقات معروفي معروفة وسطوات
(1/238)
________________________________________
أمري في وجوه الأعداء المكسوفة مكشوفة فأستغفر الله مما فرط في مقالك والتقويض من عوائد احتمالك فلا تشمت بنا الأضداد ولا تسلط بفرقتنا المفسدين في الأرض إن الله لا يحب الفساد واغضض الآن من خيلائك بعض هذا الغض ولا تشك أني قسيمك ولو قيل لك يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض وإن أبيت إلا أن تهدد وتجرد الشغب وتحدد فاذكر محلنا من اليد الشريفة السلطانية الملكية المؤيدية أيد الله نعمها وجازى بالإحسان شيمها وأيقظ في الآجال والآمال سيفها وقلمها ولا عطل مشاهد المدح من أنسها ولا أخلى قرائض الباس والكرم من قيام خمسها فأقسم من بأسه بالليل وما وسق ومن بشر طلعته بالقمر إذا اتسق لو تجاور الأسد والظباء بتلك اليد لوردا بالأمن في منهل ورتعا في روض لا يجهل ولو لجأ إليها النهار لما راعه بمشيئة الله الليل بزجر أو الليل لما غلب على خيطه الأسود الخيط الأبيض من الفجر وعلى ذلك فما ينبغي لنا بين تلك الأنامل غير سلوك الأدب والمعاضدة على محو الأزمات والنوب والاستقامة على الحق ولا عوج والحديث من تلك الراحة عن البحر ولا حرج هذه نصيحتي إليك والدين النصيحة والله تعالى يطلعك على معاني الرشد الصريحة ويجعل بينك وبين الغي حجابا مستورا وينسيك ما تقدم من القول وكان ذلك في الكتاب مسطورا
فعند ذلك نكس السيف طرفه وقبل خديعة القلم قائلا لأمر ما جدع قصير أنفه وأمسك عن المشاغبة خيفة الزلل فإن السيوف معروفة بالخلل ثم قال أيها الضعيف الجبار البازغ في ليل المداد نجما وكم في النجوم غرار لقد تظلمت من أمر أنت البادي بظلمه وتسورت إلى فتح باب أنت السابق إلى فتح ختمه وقد فهمت الآن ما ذكرت من أمر اليد الشريفة ونعم ما ذكرت وأحسن بما أشرت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وقد تغافلت عن قولك الأحسن ورددتك إلى أمك الدواة كي تقر عينها ولا تحزن وسألت الله تعالى أن يزيد محاسن تلك اليد العالية تماما على الذي أحسن فإنها اليد التي
( لو أثر التقبيل في يد منعم ... لمحا براجم كفها التقبيل )
والراحة التي
( تسعى القلوب لغوثها ولغيثها ... فيجيبه التأمين والتأميل )
(1/239)
________________________________________
والأنامل التي علمها الله بالسيف والقلم ومكنها من رتبتي العلم والعلم ودارك بكرمها آمال العفاة بعد أن ولا ولم ولولا أن هذا المضمار يضيق عن وصفه السابق إلى غاية الخصل ومجده الذي إذا جر ذيله ود الفضل لو تمسك منه بالفضل لأطلت الآن في ذكر مجدها الأوضح وأفصحت في مدحها ولا ينكر لمثلها إن أنطقت الصامت فأفصح ثم إنك بعدما تقدم من القول المزيد والمجادلة التي عز أمرها على الحديد أقررت أنت أننا للملك كاليدين ولم تقر أينا اليمين وفي آفاقه كالقمرين ولم تذكر أينا الواضحة الجبين وما يشفي ضناي ويروي صداي إلا أن يحكم بيننا من لا يرد حكمه ولا يتهم فهمه فيظهر أينا المفضول من الفاضل والمخذول من الخاذل ويقصر عن القول المناظر ويستريح المناضل وقد رأيت أن يحكم بيننا المقام الأعظم الذي أشرت إلى يده الشريفة وتوسلت بمحاسنها اللطيفة فإنه مالك زمامنا ومنشئ غمامنا ومصرف كلامنا وحامل أعبائنا الذي ما هوى للهوى وصاحب أمرنا ونهينا وتالله ما ضل صاحبكم وما غوى ليفصل الأمر بحكمه ويقدمنا إلى مجلسه الشريف فيحكم بيننا بعلمه فقدم خيرة الله على ذلك الاشتراط وقل بعد تقبيلنا الأرض له في ذلك البساط خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط فنشط القلم فرحا ومشى في أرض الطرس مرحا وطرب لهذا الجواب وخر راكعا وأناب وقال سمعا وطاعة وشكر الله على هذه الساعة يا برد ذاك الذي قالت على كبدي
الآن ظهر ما تبغيان وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان وحكم بيننا الرأي المنير ونبأنا بحقيقة الأمر ولا ينبئك مثل خبير ثم تفاصلا على ذلك وتراضيا على ما يحكم به المالك وكانوا أحق بها وأهلها وانتبه المملوك من سنة فكره وطالع بما اختلج سواد هذه الليلة في سره والله تعالى يديم أيام مولانا السلطان التي هي نظام المفاخر ومقام المآثر وغوث الشاكي وغيث الشاكر ويمتع بظلال مقامه الذي لا تكسر الأيام مقدار ما هو جابر ولا تجبر ما هو كاسر إن شاء الله تعالى
تمت رسالة الشيخ جمال الدين التي كشف بها عن قناع المغايرة وأتى فيها بكل مثال ليس له مثيل ووسمها بصاحب حماة فأطاعه عاصي الأدب ووهب الله له على الكبر إسماعيل
نرجع إلى أبيات البديعيات فبيت الشيخ صفي الدين
( فالله يكلؤ عذالي ويلهمهم ... عذلي فقد فرجوا كربي بذكرهم )
(1/240)
________________________________________
الشيخ صفي الدين غاير الناس في الدعاء لعذاله وما ذاك إلا أن العذول ما برح ممتزجا بذكر الأحباب فكلما كرروا عذله وذكروا أحبابه فرجوا كربه بذلك الذكر
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته
( تغاير الحال حتى للنوى فئة ... أصبحت منتظرا أيام وصلهم )
أما الشرح في نوع المغايرة فقد طال
والكلام في بيت عز الدين يضيق عنه المجال فإنه نظم المغايرة ولكن غاير بها الأفهام وما أرانا من عقادة بيته غير الإبهام
وبيت بديعيتي
( أغاير الناس في حب الرقيب فمذ ... أراه أبسط آمالي بقربهم )
الناس قد أجمعوا على ذم الرقيب وغايرتهم في مدحه لمعنى وما ذاك إلا أنني لما أراه أتحقق أنه ما تجرد للمراقبة إلا وقد علم بزيارة الحبيب فانظر إلى حسن المغايرة وغرابه المعنى وحسن التركيب
(1/241)
________________________________________
ذكر التذييل
( والله ما طال تذييل اللقاء بهم ... يا عاذلي وكفى بالله في القسم )
التذييل هو أن يذيل الناظم أو الناثر كلاما بعد تمامه وحسن السكوت عليه بجملة تحقق ما قبلها من الكلام وتزيده توكيدا وتجري مجرى المثل بزيادة التحقيق
والفرق بينه وبين التكميل أن التكميل يرد على معنى يحتاج إلى الكمال
والتذييل لم يفد غير تحقيق الكلام الأول وتوكيده
ومن أعظم الشواهد عليه قوله تعالى ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) فالجملة الأخيرة هي التذييل الذي خرج كلامه مخرج المثل السائر
ومثله قوله تعالى ( ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ) فالجملة الأخيرة هي تذييل خرج في الكلام مخرج الأمثال التي ليس لها مثيل وقوله تعالى ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله ) ففي هذه الآية الشريفة تذييلان أحدهما قوله تعالى ( وعدا عليه حقا ) فإن الكلام كان قد تم قبل ذلك وحسن السكوت عليه والآخر قوله تعالى ( ومن أوفى بعهده من الله ) فخرج هذا الكلام مخرج المثل السائر
ووقع ذلك في السنة الشريفة وهو قول النبي ( من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه
(1/242)
________________________________________
وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة ولا يهلك على الله إلا هالك )
فقوله ( لا يهلك على الله إلا هالك ) هو التذليل الذي تتعلق البلاغة بأذياله وخرج الكلام فيه مخرج الأمثال وهذا التذليل انفرد بإخراجه مسلم ومن هذا الباب قول النابغة
( ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب )
اتفق أهل البديع على أن قوله أي الرجال المهذب من أحسن تذييل وقع في شعر لأنه خرج مخرج المثل ومثله قول بعض العرب
( ودعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل )
فعجز هذا البيت كله تذييل وهو في غاية الكمال ولقد أحسن بعضهم في هذا الباب حيث قال
( صدقتك الود أبغي الوصال ... وليس المكاذب كالصادق )
( فجازيتموني بطول البعاد ... وكم أخجل الحب من واثق )
فكل من عجزي البيتين تذييل وخرج الكلام فيهما مخرج المثل وأحسن منه قول الحطيئة
( نزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد )
فإن عجز البيت كله تذييل خرج مخرج المثل وصدر البيت استقل بالمعنى المراد على انفراده وفيه أيضا مع اتصاله بالعجز تعطف حسن في قوله يعطي ويعط وبالتعطف صار بين العجز والصدر ملاحمة وملاءمة شديدة ورابطة وثيقة قال ابن أبي الأصبع عجز هذا البيت إذا انفرد استقل مثلا وتذييلا كما أن الصدر إذا انفرد استقل بالمعنى المقصود من جملة البيت والغرض المطلوب من التمثيل أيضا وقل أن يوجد بيت بين صدره وعجزه مثل هذا التلاحم على استقلال كل قسم بنفسه وتمام معناه ولفظه ومن التذييل الحسن قول أبي الشيص
( وأهنتني فأهنت نفسي عامدا ... ما من يهون عليك ممن يكرم )
فعجز البيت كله تذييل في ضمنه مطابقة لذكره الهوان والكرامة
ومن بديع التمثيل قول ابن نباتة السعدي
( لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل )
(1/243)
________________________________________
فإنه استوفى ما أراده من المدح في الشطر الأول ثم احتاج إلى تتميم البيت وأراد إتمامه بتكرار المعنى المتقدم فيه استحسانا وتوكيدا فأخرجه مخرج المثل السائر حيث قال تركتني أصحب الدنيا بلا أمل ليحصل ما أراده من التوكيد وزيادة المعنى لأن المدح إذا خرج مخرج المثل كان أسير في الأرض
قال ابن أبي الأصبع هذا البيت إن نظر فيه إلى قول أبي الطيب المتنبي
( تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي )
فبيت ابن نباتة أفضل من بيت المتنبي لأنه أحسن الأدب مع ممدوحه إذ لم يجعله في حيز من يتمنى شيئا وجعل في قدرته وجوده ما يبلغ مادحه كل أمنية فلم يبق له أمل وإن كان في بيت المتنبي زيادة من جهة المبالغة في قوله دون مبلغه واستعارة في اللفظ بقوله تمسي الأماني صرعى ففي بيت ابن نباتة أن كل ما جعله المتنبي لممدوحه جعله ابن نباتة لمادحه مع زيادة المبالغة في المدح بكونه أخرجه مخرج المثل السائر كما بينا فهو أشهر وأسير وأبقى
وإذا تأمل الناظر في البيتين وجد معنى بيت المتنبي بكماله في صدر بيت ابن نباتة لأن حاصل بيت المتنبي أن الممدوح قدر على كل الأماني وهذا قد استقل به صدر بيت ابن نباتة والعجز ملزوم صدره لأن من نال كل أمل صحب الدنيا بلا أمل غير أن ابن نباتة لكونه أخرج العجز مخرج المثل صار كأنه استأنف معنى آخر مستقلا بجميع معنى بيت المتنبي مع كونه زاد بأن جعل للمادح ما جعله المتنبي للممدوح وهذا غاية في حسن الأدب
وقد ترجح بيت ابن نباتة على بيت المتنبي من وجوه
انتهى كلام ابن أبي الأصبع في النقد الحسن الذي قرره على بيت أبي الطيب وبيت ابن نباتة
وقد يختلط على بعض الناس هذه الأبواب الأربعة وهي باب الإيغال والتذييل والتمكين والتكميل
والفرق ظاهر فإن الإيغال لا يكون إلا في الكلمة التي فيها الروي وما يتعلق به وهو أيضا مما يأتي بعد تمام المعنى كالتكميل والتذييل
وأما التمكين فليس له مدخل في هذه الأبواب لأنه عبارة عن استقرار القافية في مكانها لأنها لا تزيد معنى البيت بل إذا حذفت نقص معنى البيت لأنها ممكنة في قواعده
وأما التكميل فإنه وإن أتى بعد تمام المعنى فهو يفارق الإيغال والتذييل من وجهين أحدهما كونه يأتي في الحشور والمقاطع والإيغال والتذييل لا يكونان إلا في المقاطع دون الحشو
(1/244)
________________________________________
والإيغال والتذييل لا يخرجان عن معنى الكلام المتقدم والتكميل لا بد أن يأتي بمعنى يكمل الغرض على التكملة المتقدمة إما تكميلا بديعيا أو تكميلا عروضيا
والتذييل يفارق الإيغال لكونه يزيد على الكلمة التي تسمى إيغالا ويستوعب غالبا عجز البيت
وبيت صفي الدين في التذييل
( لله لذة عيش بالحبيب مضت ... فلم تدم لي وغير الله لم يدم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت عز الدين الموصلي
( تذييل عيشي ورزقي قسمة حصلت ... في أول الخلق والأرزاق بالقسم )
وبيت بديعيتي
( والله ما طال تذييل اللقاء بهم ... يا عاذلي وكفى بالله في القسم )
فقولي وكفى بالله في القسم هي الجملة التي جاءت بعد تمام الكلام وحسن السكوت عليه واشتملت على معناه وزادته في القسم تحقيقا وتوكيدا وجرت مجرى المثل الذي ما يجارى في شرفه وكماله وأما لفظة التذييل التي هي تسمية لهذا النوع المقصود ففات الشيخ عز الدين فيها لفظة طال فإنني لو لم أذكر الطول ما ترشحت تورية التذييل ولا وقع لها في القلوب مواقع فإن الطول من لوازم الأذيال وطويل ذيل اللقاء في البيت من ألطف الاستعارات وقولي يا عاذلي هو التكميل الذي يأتي في الحشو وقد تقدم الكلام عليه وتقرر
(1/245)
________________________________________
ذكر التفويف
( خشن ألن أحزن افرح امنع اعط أنل ... فوف أجد وش رقق شد حب لم )
التفويف تأملته فوجدته نوعا لم يفد غير إرشاد ناظمه إلى طرق العقادة
والشاعر إذا كان معنويا وتجشم مشاقه تقصر يده عن التطاول إلى اختراع معنى من المعاني الغريبة وتجفوه حسان الألفاظ ولم يعطف عليه برقة وتأنف كل قرينة صالحة أن تسكن له بيتا ولكن شروع المعارصة ملزم به ولم يسعني غير تشريع الطباق في بيته
وهو في اللغة مشتق من الثوب المفوف الذي فيه خطوط بيض والمراد تلوينه ونقشه ومن ظريف قول ابن قاضي ميلة
( بعيشي ألم أخبركما أنه فتى ... على لفظه برد الكلام المفوف )
والتفويف في الصناعة عبارة عن إتيان المتكلم بمعان شتى من المدح والغزل وغير ذلك من الفنون والأغراض كل فن في جملة من الكلام منفصلة عن أختها مع تساوي الجملة في الوزنية
ويكون بالجملة الطويلة أو المتوسطة أو القصيرة وأحسنها وأبلغها وأصعبها مسلكا القصار فمثال ما جاء منه بالجملة الطويلة قول النابغة
( وأعظم أحلاما وأكبر سيدا ... وأفضل مشفوعا وأكرم شافع )
(1/246)
________________________________________
وبالجملة المتوسطة قول أبي الوليد بن زيدون
( ته أحتمل واحتكم أصبر وعز أهن ... وذل أخضع وقل أسمع ومر أطع )
ومثال ما جاء بالجملة القصيرة قول أبي الطيب المتنبي
( أقل أنل أقطع إحمل عل أسل أعد ... زد هش بش تفضل أدن سر صل )
أقل من الإقالة في العثرة أنل من الإنالة والآعطاء أقطع من الإقطاع احمل من قولهم حمله على فرسه عل من الاستعلاء والعلو أسل من السلو أعد أي أعدني إلى موضعي من الجوائز زد أي زدني مما كنت أعهده منك هش من الهشاشة وهي التهلل والبشر من بش البشاشة وهي البشر وطلاقة الوجه تفضل من الأفضال ادن أي قربني إليك وقوله سر من التسري وهو أن يعطيه جارية يتسراها صل من الصلة ولم أقصد بحل هذه الألفاظ إلا إيناسا تزول به وحشة العقادة عن المتأمل فإن هذه الجملة ما استولت عليها عقادة التركيب إلا لكون كل كلمة منها فعل أمر ولم يأت في الجملة القصيرة على هذه الصفة شيء من فصيح الكلام وعلى هذا المنوال نسج أصحاب البديعيات وبالله المستعان
وبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله
( أقصر أطل اعذل اعذر سل خل أعن ... خن هن عن ترفق كف لج لم )
وهذا النوع ما نظمه العميان وبيت الشيخ عز الدين
( فوف أزف انظم أنثر خص عم أفد ... اعتب أدر أبرق ارعد اضحك ابك لم )
هذا البيت بيت ما نحت من الجبال ولكن الجبال نحتت منه وبيت بديعيتي
( خشن ألن احزن افرح امنع اعط أنل ... فوف اجد وش رقق شد حب لم )
قد تقدم قولي للعاذل
( والله ما طال تذييل اللقاء بهم ... يا عاذلي وكفى بالله في القسم )
ولما قررت له ذلك قلت له في بيت التفويف إن شئت تخشن في عذلك وإن
(1/247)
________________________________________
شئت تلين وإن شئت تحزن وإن شئت تفرح وإن شئت تمنع وإن شئت تعطي وإن شئت تفوف العذل وتجيد نقشه وتوشيته وترقق فيه أو تشد معناه أن الكل بالنسبة إلى صدق المحبة سهل ولكن النكتة في قولي له أعني للعاذل حب لم يعني إذا حب لم يعد ذلك كأني أقول له
( من لم يبت والحب يقرع قلبه ... لم يدر كيف تفتت الأكباد )
وما أحلى قول الشيخ شرف الدين بن الفارض مخاطبا لعاذله
( دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا عشقت فبعد ذلك عنف )
(1/248)
________________________________________
ذكر المواربة
( يا عاذلي أنت محبوب لدي فلا ... توارب العقل مني واستفد حكمي )
المواربة براء مهملة وباء موحدة وهي مشتقة من الأرب وهي الحاجة لكن ذكر ابن أبي الأصبع أنها مشتقة من ورب العرق بفتح الواو والراء إذا فسد فهو ورب بكسر الراء
كأن المتكلم أفسد مفهوم ظاهر الكلام بما أبداه من تأويل باطنه
وحقيقة المواربة أن يقول المتكلم قولا يتضمن ما ينكر عليه فيه بسببه ويتوجه عليه المؤاخذة فإذا حصل الإنكار عليه استحضر بحذقه وجها من الوجوه التي يمكن التخلص بها من تلك المؤاخذة إما بتحريف كلمة أو تصحيفها أو بزيادة أو نقص أو غير ذلك
فأما شاهد ما وقع من المواربة بالتحريف فقول عتبان الحروز
( وإن يك منك كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب )
( فمنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب )
فلما بلغ الشعر هشاما وظفر به قال أنت القائل ومنا أمير المؤمنين شبيب فقال يا أمير المؤمنين ما قلت إلا ومنا أمير المؤمنين شبيب فتخلص بفتح الراء بعد ضمها وهذا ألطف مواربة وقعت في هذا الباب وشاهد الحذف قول أبي نواس في خالصة جارية أمير المؤمنين الرشيد هاجيا لها
( لقد ضاع شعري على بابكم ... كما ضاع حلي على خالصه )
(1/249)
________________________________________
فلما بلغ الرشيد ذلك أنكر عليه وتهدده بسببه فقال لم أقل إلا
( لقد ضاء شعري علي بابكم ... كما ضاء حلي علي خالصه )
فاستحسن الرشيد مواربته وقال بعض من حضر هذا بيت قلعت عيناه فأبصر
وشاهد التصحيف في المواربة يأتي في أبيات البديعيات ويعجبني قول الشيخ عز الدين الموصلي في المواربة من غير البديعية لما بلغه وفاة القاضي فتح الدين بن الشهيد وكان القاضي فتح الدين يرجح جانب الشيخ شمس الدين المزين على الشيخ عز الدين لبغض كان في خاطره لا لاستحقاق
( دمشق قالت لنا مقالا ... معناه في ذا الزمان بين )
( اندمل الجرح واستراحت ... ذاتي من الفتح والمزين )
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( لأنت عندي أخص الناس منزلة ... إذ كنت أقدرهم عندي على السلم )
المواربة في أخص يريد بها أخس بالسين المهملة وأقدرهم يريد بها أقذرهم بالذال المعجمة والمواربة في أقدرهم بالتصحيف
وهذا النوع لم ينظمه العميان في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( لأنت أفتح ذهنا في مواربة ... وبالتعقل منسوب إلى النعم )
مراد الشيخ بأفتح أقبح وبالتعقل التغفل وقال في شرحه إنه أراد بالنعم النعم وهو اسم جامع للإبل وغيرها وأراد بذلك المواربة بالتحريف أيضا
سلمنا له ذلك ولكن لم أر في بيته قبل المواربة معنى يستأنس به الذوق
وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على ما تقدم من خطاب العاذل
( يا عاذلي أنت محبوب لدي فلا ... توارب العقل مني واستفد حكمي )
قولي للعاذل أنت محبوب لدي من له أدنى ذوق يفهم منه أن مرادي المواربة بمجنون والمراد بلفظة توارب توازن والمعنى قبل المواربة مستقيم وهو في غاية الكمال وإذا حصلت المواربة صار البيت
( يا عاذلي أنت مجنون لدي فلا ... توازن العقل مني واستفد حكمي )
وأنتقل من صيغة المدح المقبول إلى صيغة الهجو الصريح
(1/250)
________________________________________
ذكر الكلام الجامع
( جمع الكلام إذا لم تغن حكمته ... وجوده عند أهل الذوق كالعدم )
الكلام الجامع هو أن يأتي الشاعر ببيت مشتمل على حكمة أو وعظ أو غير ذلك من الحقائق التي تجري مجرى الأمثال ويتمثل الناظم بحكمها أو وعظها أو بحالة تقتضي إجراء المثل كقول زهير بن أبي سلمى
( ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم )
وقول أبي نواس
( إذا كان غير الله في عدة الفتى ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد )
وقول المتنبي
( وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام )
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته
( من كان يعلم أن الشهد مطلبه ... فلا يخاف للدغ النحل من ألم )
فإنه حصر فيه الكلام الجامع بشروطه وأجراه مجرى المثل مع ما أودع فيه من الحكمة وزاد على ذلك بما كساه من ديباجة الرقة ولطف السهولة وحسن الانسجام وأما العميان فما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( كلامه جامع وصف الكمال كما ... يهيج الشوق أنواعا من الريم )
(1/251)
________________________________________
قد تقرر إن الكلام الجامع هو أن يأتي الناظم ببيت جملته حكمة أو موعظة أو غير ذلك من الحقائق التي تجري مجرى الأمثال وليس بين الشطر الأول من البيت وبين الشطر الثاني مناسبة ولا إيناس ملاءمة ولم أر لجريان المثل دخولا في باب هذا البيت وبيت بديعيتي
( جمع الكلام إذا لم تغن حكمته ... وجوده عند أهل الذوق كالعدم )
حكمة هذا البيت ما أجريت مثلها على هذا النمط إلا ليعلم المتيقظ أن فيه إشارة لطيفة إلى بيت عز الدين
فإني قررت أن ليس في كلامه الجامع ما يشعر بحكمة تجري مجرى الأمثال فوجوده عند أهل الذوق كالعدم والله الموفق
(1/252)
________________________________________
ذكر المناقضة
( إني أناقضهم إن أزمعوا ونأوا ... وجر نمل ثبيرا إثر عيسهم )
المناقضة تعليق الشرط على نقيضين ممكن ومستحيل ومراد المتكلم المستحيل دون الممكن ليؤثر التعليق عدم وقوع المشروط فكأن المتكلم ناقض نفسه في الظاهر إذ شرط وقوع أمر بوقوع نقيضين ومثاله قول النابغة
( وإنك سوف تحكم أو تباهي ... إذا ما شبت أو شاب الغراب )
فإن تعليقه وقوع حكم المخاطب على شيبة ممكن وعلى شيب الغراب مستحيل ومراده الثاني لا الأول لأن مقصوده أن يقول إنك لا تحكم أبدا
والفرق بين المناقضة وبين نفي الشيء بإيجابه أن هذا الباب ليس فيه نفي ولا إيجاب ونفي الشيء بإيجابه ليس فيه شرط وبيت الشيخ صفي الدين في المناقضة
( وإنني سوف أسلوهم إذا عدمت ... روحي وأحييت بعد الموت والعدم )
فتعليق الشرط بين النقيضين الممكن والمستحيل ظاهر والبيت في غاية الحسن والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت عز الدين
( إني أناقض عهد النازحين إذا ما شاب عزمي وشبت شهوة الهرم )
الشيخ عز الدين قرر في بيته وشرحه إن شيب العزم ممكن وشباب شهوة الهرم مستحيل
فرأيت تصوير شيب العزم وإمكانه وسبك استعارته في قالب التشبيه كما تقرر
(1/253)
________________________________________
في باب الاستعارة فيه أشكال فإنهم قالوا الاستعارة هي ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه
ولم أر في شيب العزم وجها للمبالغة في التشبيه وعلى كل تقدير فالممكن والمستحيل في بيت عز الدين فيهما نظر
وبيت بديعيتي
( إني أناقضهم إن أزمعوا ونأوا ... وجر نمل ثبيرا إثر عيسهم )
تعليق الشرط على الممكن والمستحيل في هذا البيت أوضح من الكلام عليه والله أعلم بالصواب
(1/254)
________________________________________
ذكر التصدير أو رد العجز على الصدر
( ألم أصرح بتصدير المديح لهم ... ألم أهدد ألم أصبر ألم ألم )
هذا النوع الذي هو رد الإعجاز على الصدور سماه المتأخرون التصدير
والتصدير هو أخف على المستمع وأليق بالمقام وقد قسمه ابن المعتز على ثلاثة أقسام
الأول ما وافق آخر كلمة في البيت آخر كلمة في صدره أو كانت مجانسة لها كقول الشاعر
( يلفى إذا ما كان يوم عرمرم ... في جيش رأي لا يفل عرمرم )
والثاني ما وافق آخر كلمة في البيت أول كلمة منه وهو الأحسن كقول الآخر
( سريع إلى ابن العم يلطم وجهه ... وليس إلى داعي الندى بسريع )
ومثله
( تمنت سليمى أن أموت صبابة ... وأهون شيء عندنا ما تمنت ) ومثله
( سكران سكر هوى وسكر مدامة ... أني يفيق فتى به سكران )
وشاهد الجناس في هذا الباب للسري الرفاء
( يسار من سجيتها المنايا ... ويمنى من عطيتها اليسار )
(1/255)
________________________________________
والأكثر أن تكون الكلمة التي في العجز عين الكلمة التي في الصدر لفظا وإن قبل اللفظ اشتراكا زاد النوع حسنا
مثاله
( ذوائب سود كالعناقيد أرسلت ... فمن أجلها منا النفوس ذوائب )
والقسم الثالث ما وافق آخر كلمة في البيت بعض كلام في أي موضع كان كقول الشاعر
( سقى الرمل صوب مستهل غمامه ... وما ذاك إلا حب من حل بالرمل )
هكذا عرف ابن المعتز هذا القسم الثالث من التصدير
لكن قال ابن أبي الأصبع إن هذا التعريف مدخول وصدق فإن ابن المعتز قال في أي موضع كان والكلمة إذا كانت في العجز لم تسم تصديرا لأن اشتقاق التصدير من صدر البيت فلا بد من زيادة قيد في التعريف يسلم به من المدخل بحيث يقول بعض كلمات البيت في أي موضع كانت من صدره
قال ابن أبي الأصبع أيضا الذي يحسن أن يسمى به القسم الأول تصدير التقفية والثاني تصدير الطرفين والثالث تصدير الحشو وقد وقع من القسم الأول في الكتاب العزيز قوله تعالى ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ومن القسم الثاني قوله تعالى ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) ومن القسم الثالث قوله تعالى ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون )
قال ابن أبي الأصبع وفي التصدير قسم رابع ذهب عنه ابن المعتز وهو أن يأتي فيما الكلام فيه منفي واعتراض فيه إضراب عن أوله كقول الشاعر
( فإن تك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد )
وقد جاء قدامة من التصدير بنوع آخر كما ذكرناه وسماه التبديل وهو أن يصير المتكلم الأخير من كلامه أولا أو بالعكس كقولهم أشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك
(1/256)
________________________________________
قال ابن أبي الأصبع لم أقف لهذا النوع على شاهد شعري فقلت
( اصبر على خلق من تصاحبه ... واصحب صبورا على أذى خلقك )
أصحاب البديعيات نظموا القسم الثاني الذي قرره ابن المعتز وهو ما وافق آخر كلمة من البيت أول كلمة فيه وهو الذي وقع الاتفاق على أنه الأحسن
وبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله
( فمي تحدث عن سري فما ظهرت ... سرائر القلب إلا من حديث فمي )
هذا النوع أعني التصدير ما برحت السهولة نازلة بأكناف أذياله فإنه سهل المأخذ ويتعين على الأديب المعنوي أن لا يتركه ساذجا من نكتة أدبية يزداد بها بهجة فإن الشيخ صفي الدين مع عدم تكلفه بتسمية النوع وسبكه في قالب التورية من جنس الغزل لم يأت به إلا ساذجا
وبيت العميان في بديعيتهم
( وحقهم ما نسينا عهد حبهم ... ولا طلبنا سواهم لا وحقهم )
لعمري إن بيت الشيخ عز الدين في هذا النوع أعمر من بيت الصفي ومن بيت العميان فإنه مع التصريح بتورية التسمية حلى نوع التصدير بمكررها في طرفي بيته وهو
( فهم بصدر جمال عجز عاشقه ... عن وصله ظاهر عن باحث فهم )
وبيت بديعيتي
( ألم أصرح بتصدير المديح لهم ... ألم أهدد ألم أصبر ألم ألم )
ديباجة التورية في عجز هذا البيت وصدره لا تخفى على صاحب الذوق السليم ولو استقل هذا البيت بنظم نوع التصدير مجردا لم يكن تحته كبير أمر كبيت الحلي وبيت العميان
(1/257)
________________________________________
ذكر القول بالموجب أو أسلوب الحكيم
( قولي له موجب إذ قال أشفقهم ... تسل قلت بناري يوم فقدهم )
القول بالموجب ويقال له أسلوب الحكيم وللناس فيه عبارات مختلفة منهم من قال هو أن يخصص الصفة بعد أن كان ظاهرها العموم أو يقول بالصفة الموجبة للحكم ولكن يثبتها لغير من أثبتها المتكلم
وقال ابن أبي الأصبع هو أن يخاطب المتكلم مخاطبا بكلام فيعمد المخاطب إلى كلمة مفردة من كلام المتكلم فيبني عليها من لفظه ما يوجب عكس معنى المتكلم وذلك عين القول بالموجب لأن حقيقته رد الخصم كلام خصمه من فحوى لفظه
قال صاحب التلخيص في تلخيصه وإيضاحه القول بالموجب ضربان
أحدهما أن تقع صفة من كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم فتثبت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم وانتفائه كقوله تعالى ( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) فإنهم كنوا بالأعز عن فريقهم وبالأذل عن فريق المؤمنين وأثبتوا للأعز الإخراج فأثبت الله تعالى في الرد عليهم صفة العزة لله ولرسوله وللمؤمنين من غير تعرض لثبوت حكم الإخراج للموصوفين بصفة العزة ولا لنفيه عنهم
انتهى كلام صاحب التلخيص
ومنه قول القبعثري للحجاج لما توعده فقال لأحملنك على الأدهم والمراد به
(1/258)
________________________________________
القيد فرأى القبعثري أن الأدهم يصلح للقيد والفرس فحمل كلامه إلى الفرس وقال مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب فصرف الوعيد بالهوان إلى الوعد بالإحسان وفي هذا ما لا يخفى على المتأدب من حسن التلطف وشدة الباعث على فعل الخير إذ لا يليق بمن له همة عالية أن يقال له مثلك من يفعل الخير فيقول لا بل أفعل الشر
والقسم الثاني من كلام صاحب التلخيص أن القول بالموجب هو حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه وهذا القسم الذي تداوله الناس ونظمه أصحاب البديعيات كقول ابن حجاج
( قال ثقلت إذ أتيت مرارا ... قلت ثقلت كاهلي بالأيادي )
( قال طولت قلت أوليت طولا ... قال أبرمت قلت حبل ودادي )
وحذاق البديع أخلوا هذا الباب من لفظة لكن فإنهم خصصوا بها نوع الاستدراك بحيث يفرق بينهما فرق دقيق وهذا هو الفرق
ومن أحسن ما وقع في هذا النوع قول محاسن الشواء
( ولما أتاني العاذلون عدمتهم ... وما فيهم إلا للحمى قارض )
( وقد بهتوا لما رأوني شاحبا ... وقالوا به عين فقلت وعارض )
وأورد الشهاب محمود في كتابه المسمى بحسن التوسل إلى صناعة الترسل بيت الأرجاني في الاستدراك شاهدا على هذا النوع وهو
( غالطتني إذ كست جسمي ضنى ... كسوة أعرت من اللحم العظاما )
( ثم قالت أنت في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما )
قد تقرر أن لفظه لكن خصص بها أهل البديع نوع الاستدراك لأجل الفرق بينه وبين القول بالموجب ولم يستشهدوا على نوع الاستدراك بغير بيتي الأرجاني
قال الشهاب محمود في البيتين إنه أعجبه معناهما ونظم فيه قوله وهو شاهد على القول بالموجب
(1/259)
________________________________________
( رأتني وقد نال مني النحول ... وفاضت دموعي على الخد فيضا )
( فقالت بعيني هذا السقام ... فقلت صدقت وبالخصر أيضا )
وبيت الحلي
( قالوا سلوت لبعد الإلف قلت لهم ... سلوت عن صحتي والبرء من سقمي )
فقوله سلوت عن صحتي هو حمل لفظ وقع من كلام الغير على خلاف مراده
وبيت العميان أوردوه بحرف الاستدراك وهو
( كانوا غيوثا ولكن للعفاة كما ... كانوا ليوثا ولكن في عداتهم )
رأيت ترك الكلام على هذا البيت أليق بالمقام
وبيت عز الدين الموصلي
( قالوا مدام الهوى قول بموجبه ... تسل قلت شبابي من يد الهرم )
لما قال الشيخ عز الدين بعد تسل شبابي من يد الهرم علمنا أنها الكلمة التي أشار إليها ابن أبي الأصبع وقال إن المخاطب يعكس بها معنى كلام المتكلم وهو عين القول بالموجب
وتسل هنا أحسن من سلوت في بيت الحلي فإن تسل يقبل الاشتراك ومراد المتكلم هنا داء السل فعاكسه المخاطب بسل الشباب من يد الهرم ونقله باشتراك التورية إلى الوجه الذي أراده ولم يخرج عن موضوعها في معنى السل الذي لم يخرج عن الوجهين غير أن قول الموصلي مدام الهوى قول بموجبه لم يخل من شدة العقادة وبيت بديعيتي
( قولي له موجب إذ قال أشفقهم ... تسل قلت بناري يوم فقدهم )
فلفظة تسل هي الكلمة المعتمد عليها في عكس معنى كلام المتكلم من المخاطب فإن المتكلم أراد السلو في لفظه تسل وهي فعل أمر فعاكسه المخاطب بالاشتراك ونقلها بالتورية إلى صفة التسلي بالنيران فإنه لما قال له تسل قال بناري يوم فقدهم
ورقة البيت وانسجامه لا تخفى على أهل الذوق السليم والله أعلم
(1/260)
________________________________________
ذكر الهجو في معرض المدح
( وكم بمعرض مدح قد هجوتهم ... وقلت سدتم بحمل الضيم والتهم )
هذا النوع من مستخرجات ابن أبي الأصبع وهو أن يقصد المتكلم هجاء إنسان فيأتي بألفاظ موجهة ظاهرها المدح وباطنها القدح فيوهم أنه يمدحه وهو يهجوه كقول الحماسي
( يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا )
( كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا )
فظاهر هذا الكلام المدح بالحلم والعفة والخشية والتقوى وباطنه المقصود أنهم في غاية الذل وعدم المنعة وظريف قول بعضهم في الشريف ابن الشجري
( يا سيدي والذي يعيذك من ... نظم قريض يصدى به الفكر )
( ما فيك من جدك النبي سوى ... أنك لا ينبغي لك الشعر )
ومن ملح هذا الباب قول ابن سنا الملك في قواد
( لي صاحب أفديه من صاحب ... حلو التأني حسن الاحتيال )
( لو شاء من رقة ألفاظه ... ألف ما بين الهدى والضلال )
( يكفيك منه أنه ربما ... قاد إلى المهجو طيف الخيال )
(1/261)
________________________________________
قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع لقد تشبثت بأذيال القاضي السعيد بن سنا الملك في هذا النوع بقولي فيمن ادعى الفقه والكرم
( إن فلانا أكرم الناس لا ... يمنع ذا الحاجة من فلسه )
( وهو فقيه ذو اجتهاد وقد ... نص على التقليد في درسه )
( فيحسن البحث على وجهه ... ويوجب الدخل على نفسه )
والفرق بين الهجاء في معرض المدح وبين التهكم أن التهكم لا تخلو ألفاظه من اللفظ الدال على نوع من أنواع الذم أو لفظة توهم من فحواها الهجو
وألفاظ المدح في معرض الذم لا يقع فيها شيء من ذلك ولا تزال تدل على ظاهر المدح حتى يقرن بها ما يصرفها عنه
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( من معشر يرخص الإعراض جوهرهم ... ويحملون الأذى من كل مهتضم )
فقوله ويحملون الأذى من كل مهتضم ينظر إلى قول الحماسي يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة والمراد بما أبطنه الذل وعدم المنعة
والعميان لم ينظموا هذا النوع
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( في معرض المدح تهجى من قبيلته ... أعراضهم بين معمور ومنهدم )
الذي أقوله إن الشيخ عز الدين قفل مصراعي بيته ومنع الأفهام من الدخول إليه فإني لم أجد فيه ما يدل على مجرد المدح ولا اقترن به ما يصرفه إلى صيغة الهجو بل أقول وأنا أستغفر الله إن هذا البيت أجساد ألفاظه ما دب فيها من المعاني روح وليس له بهذا النوع إلمام
وبيت بديعيتي
( وكم بمعرض مدح قد هجوتهم ... وقلت سدتم بحمل الضيم والتهم )
فحمل الضيم ينظر إلى قول الحماسي إذ ظاهره الحلم والحسن وباطنه الذل وعدم المنعة ولكن حمل التهم هو الغاية القصوى في ظاهره وباطنه والله أعلم
(1/262)
________________________________________
ذكر الاستثناء
( عفت القدود فلم أستثن بعدهم ... إلا معاطف أغصان بذي سلم )
الاستثناء استثناءان لغوي وصناعي
فاللغوي إخراج القليل من الكثير وقد فرع النحاة من ذلك في كتبهم فروعا كثيرة
والصناعي هو الذي يفيد بعد إخراج القليل من الكثير معنى يزيد على معنى الاستثناء ويكسوه بهجة وطلاوة ويميزه بما يستحق به الإثبات في أبواب البديع كقوله تعالى ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس ) فإن في هذا الكلام معنى زائدا على مقدار الاستثناء وذلك لعظم الكبيرة التي أتى بها إبليس من كونه خرق إجماع الملائكة وفارق جميع الملأ الأعلى بخروجه مما دخلوا فيه من السجود لآدم وذلك مثل قولك أمر الملك بكذا وكذا فأطاع أمره جميع الناس من أمير ووزير إلا فلانا فإن الإخبار عن معصية هذا العاصي بهذه الصيغة مما يعظم أمر معصيته ويفخم مقدار كبريائه بخلاف قولك أمر الملك بكذا فعصاه فلان
ومثاله قوله تعالى إخبارا عن نوح عليه السلام ( فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ) فإن في الإخبار عن هذه المدة بهذه الصيغة تهويلا على السامع لتمهيد عذر نوح عليه السلام في الدعاء على قومه وإن في حكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة العظيمة تعظيمها لكون أول ما يباشر السمع ذكر الألف والإيجاز في اختصار هذا اللفظ بهذه البلاغة العظيمة ظاهر فإن لفظ القرآن أخصر وأوجز من قولنا تسعمائة سنة وخمسين عاما ولفظ القرآن بتقييد حصر العدد المذكور ولا يحتمل الزيادة
(1/263)
________________________________________
عليه ومثله قوله تعالى ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ) فالله تعالى لما علم أن وصف الشقاء يعم المؤمن العاصي والكافر استثنى من خلودهم في النار بلفظ مطمع حيث أثبت الاستثناء المطلق وأكده بقوله إن ربك فعال لما يريد أي أنه لا اعتراض عليه في إخراج أهل الشقاء من النار
ولما علم أن أهل السعادة لا خروج لهم من الجنة استثنى من خلودهم ما ينفي الاستثناء حيث قال عطاء غير مجذوذ أي مقطوع وهذه المعاني في هذه الآيات الشريفة زائدة على الاستثناء اللغوي
ومن أمثال الاستثناء اللغوي في الشعر قول النميري
( فلو كنت بالعنقاء أو بأطومها ... لخلتك إلا أن تصد تراني )
هذا الاستثناء في غاية الحسن فإنه تضمن المبالغة في زيادة مدح الممدوح وذلك أن هذا الشاعر يقول إني لو كنت في حيز العدم لأن العرب تضرب المثل بالعنقاء لكل شيء متعذر الوجود لخلتك متمكنا من رؤيتي ليس لك مانع يمنعك عني فالزيادة هنا في غاية اللطف وهي قوله إلا أن تصد فأنت في القدرة علي غير ممنوع وهذا غاية المبالغة في المدح
ومن الاستثناء نوع سماه ابن أبي الأصبع استثناء الحصر وهو غير الاستثناء الذي يخرج القليل من الكثير ونظم فيه قوله
( إليك وإلا ما تحث الركائب ... وعنك وإلا فالمحدث كاذب )
فإن خلاصة هذا البيت قول الناثر للممدوح لا تحث الركائب إلا إليك ولا يصدق المحدث إلا عنك وهذا الحصر لا يحسن في الاستثناء الأول فإنه لو قال سبحانه وتعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وعاما صح لولا توخي الصدق في الخبر
وقوله تعالى ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا أبليس ) لا يمنع أن يقال ورهطه لولا مراعاة الصدق في الخبر
(1/264)
________________________________________
وعلى منوال الاستثناء الأول الذي هو العمدة في هذا الباب نظم أصحاب البديعيات وهو إخراج القليل من الكثير بزيادة معنى بديع يزيد على معنى الاستثناء فبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( فكل ما سر قلبي واستراح به ... إلا الدموع عصاني بعد بعدهم )
فبيت صفي الدين هنا غير خال من العقادة ومراده فيه أن كل شيء كان يسره قبل الفراق ويطيعه عصاه إلا الدموع فإنها أطاعته
ومعنى هذه الزيادة اللطيفة لا يخفى على أهل الذوق
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين
( الناس كل ولا استثناء لي عذروا ... إلا العذول عصاني في ولائهم )
مراد عز الدين في زيادة معناه على معنى الإستثناء أن عذوله خالف الإجماع
وبيت بديعيتي
( عفت القدود فلم أستثن بعدهم ... إلا معاطف أغصان بذي سلم )
قال الله تعالى ( كل حزب بما لديهم فرحون ) هذا البيت ما أعلم أنني إذا أطنبت في وصفه يكون الإطناب لشدة فرحي به لكونه نظمي أو لأن الأمر على حقيقته
فإن زيادة معناه على معنى الاسثتناء وغرابة أسلوبه وشرف نسيبه وحسن انسجامه وسهولة ألفاظه ومراعاة نظيره لا تخفى على المنصف من أهل الأدب
وأما ترشيح تورية الاستثناء بذكر القدود والمعاطف فإنه من النسمات التي حركت القدود والمعاطف والتكميل بذي سلم لكون القصيدة نبوية في غاية الكمال
والذي أقوله إنه ما يدخل نظر المتأمل إلى بيت أعمر منه في هذا الباب والله أعلم بالصواب
(1/265)
________________________________________
ذكر التشريع
( طاب اللقا لذ تشريع الشعور لنا ... على النقا فنعمنا في ظلالهم )
هذا النوع أعني التشريع سماه ابن أبي الأصبع التوأم
وأراد بذلك مطابقة التسمية للمسمى فإن هذا النوع شرطه أن يبني الشاعر بيته على وزنين من أوزان القريض وقافيتين فإذا أسقط من أجزاء البيت جزأ أو جزأين صار ذلك البيت من وزن آخر غير الأول كقول الحريري
( يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردي وقرارة الأكدار ) ... ( دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غدا تبا لها من دار )
وهي قصيدة كاملة معروفة في مقاماته من ثاني الكامل وتنتقل بالإسقاط إلى ثامنه فتصير
( يا خاطب الدنيا الدنية ... إنها شرك الردى )
( دار متى ما أضحكت ... في يومها أبكت غدا )
وزيادة القافيتين ظاهرة ووقع قبل كلام الحريري من كلام العرب في هذا الباب
(1/266)
________________________________________
( وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... هوج الرمال بكثبهن شمالا )
( ألفيتنا نفري الغبيط لضيفنا ... قبل القتال ونقتل الأبطالا )
فإن هذا الشاعر لو اقتصر على الرمال والقتال لكان الشعر من الضرب المجزو المرفل من الكامل وهو
( وإذا الرياح مع العشي ... ي تناوحت هوج الرمال )
( ألفيتنا نفري الغبيط ... لضيفنا قبل القتال )
فإذا أتممت البيتين صارا من الضرب التام المقطوع منه وصار لكل بيت من هذين البيتين قافيتان ولا شك أن هذا النوع لا يأتي إلا بتكلف زائد وتعسف فإنه راجع إلى الصناعة لا إلى البلاغة والبراعة إذ وقوع مثل هذا النوع في الشعر من غير قصد له نادر ولا يحسن أن يكون في النثر فإنه ما يقع فيه إلا ترصيعا ولا يظهر حسنه إلا في النظم لأن فيه الانتقال من وزن إلى وزن آخر فيحصل بذلك من الاستحسان ما لا يحسن في النثر لأن النثر على كل حال كلام مسجوع ليس فيه انتقال من وزن إلى وزن وأوسع البحور في هذا النوع الرجز فإنه قد وقع مستعملا تاما ومجزوا ومشطورا ومنهوكا فيمكن أن يعمل للبيت منه أربع قواف فإذا أسقطت ما بعد القافية الأولى بقي البيت منهوكا فإذا أسقطت ما بعد الثانية بقي البيت مشطورا فإذا أسقطت ما بعد الثالثة بقي مجزوا وإذا لم تسقط شيئا كان تاما
ولأبي عبد الله محمد بن جابر الضرير الأندلسي ناظم البديعية في غير بديعيته المذكورة هنا
( يرنو بطرف فاتر مهما رنا ... فهو المنى لا أنتهي عن حبه )
( يهفو بغصن ناضر حلو الجنى ... يشفي الضنا لا صبر لي عن قربه )
( لو كان يوما زائري زال العنا ... يحلو لنا في الحب أن نسمى به )
( أنزلته في ناظري لما دنا ... قد سرنا إذ لم يحل عن صبه )
فهذه الأبيات من الرجز التام وهو الضرب الأول منه فإذا تركتها على حالها فهي
(1/267)
________________________________________
من التام وإذا أسقطت من البيت الأول لا أنتهي عن حبه ومن الثاني لا صبر لي عن قربه ومن الثالث في الحب أن نسمى به ومن الرابع إذا لم يحل عن صبه صارت من الرجز المجزوء وإن أسقطت من البيت الأول قوله فهو المنى إلى آخره ومن الثاني يشفي الضنا إلى آخره ومن الثالث يحلو لنا إلى آخره ومن الرابع قد سرنا إلى آخره صارت من الرجز المشطور
وإن أسقطت من الأول
قوله مهما رنا ومن الثاني حلو الجنى ومن الثالث زال العنا ومن الرابع لما دنا صار من الرجز المنهوك
ولكن القوة في ذلك والمكنة في ملكة الأديب أن يأتي بالتشريع في بيت واحد وهذا هو المطلوب من نظام البديعيات لأجل الاستشهاد بأبياتهم على كل نوع لا سيما الملتزم بتسميته على الصيغة فإنه لو جاء بالتسمية والنوع في بيتين بطل حكم التورية وخرج عن شروط البديعيات
وبيت الشيخ صفي الدين
( فلو رأيت مصابي عندما رحلوا ... رثيت لي من عذابي يوم بينهم )
يخرج له من هذا البيت
( فلو رأيت مصابي ... رثيت لي من عذابي )
وهو مجزوء المجتث وبيته عند العروضيين
( البطن منها خميص ... والوجه مثل الهلال )
وقد تعين إيراد ما نظمه أبو عبد الله الضرير في البيتين لأجل المعارضة وهما
( واف كريم رحيم قد وفى ووقى ... فعم نفعا فكم ضرا شفى فقم )
( فقم بنا فلكم فقرا كفى كرما ... وجود تلك الأيادي قد صفا فقم )
أقول لو اختصر العميان هذين البيتين وأضافوهما إلى ما اختصروه من البديع لكان أجمل بهم فإنهم أسقطوا من أنواع البديع نحو السبعين وقصد الناظم فيهما أعني البيتين أنك إذا أسقطت من البيت الكلمة الموازنة لفعلن من آخر كل نصف وهما قوله ووقى وقوله فكم صار الوزن من الضرب الأول من البسيط وهو التام إلى الضرب الثالث منه وهو المجزو لأنه قد حذف منه جزءا من آخر كل نصف فصار
( واف كريم رحيم قد وفى ... وعم نفعا فكم ضرا شفى )
( فقم بنا فلكم فقرا كفى ... وجود تلك الأيادي قد صفا )
(1/268)
________________________________________
وهذا مع ركته وثقالة نظمه غير المشهور من البسيط فإنه لم يشتهر منه سوى العروض الأولى المخبونة ووزنها فعلن ولها ضربان المشهور منها الأول وهو مخبون مثلها
وبيت الشيخ عز الدين
( وفي الهوى ضل تشريع العذول لنا ... وكم هوى في مقال ذل من حكم )
أخبر أن تشريع العذول في حكم الهوى ضلال حتى يرشح بتورية التشريع في تسمية النوع ويخرج من بيت الشيخ عز الدين بيت من قافية أخرى من منهوك الرجز فنصفه في الشطر الأول وفي الهوى وفي الشطر الثاني وكم هوى وهذه عبارته في شرحه بنصها فصار باقي البيت بدون الجزأين الأولين
( ضل تشريع العذول لنا ... في مقال ذل من حكم )
وهذا البيت من العروض الثالثة المحذوفة المخبونة من المديد ووزنها فعلن وشاهدها
( للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه )
ولقد برز الشيخ عز الدين في ذلك على متقدميه فإن الشيخ صفي الدين لم يتحصل له بيتان من بيت ولا للشيخ أبي عبد الله الضرير ولكن قال الشيخ عز الدين في شرحه إن هذا النمط ما وقع للمتقدمين وهو معجز ليس لأديب عليه قدرة وبسط العبارة في الدعوى بسببه فأردت أن لا أنسج في الشرح على غير منواله فقلت
( طاب اللقا لذا تشريع الشعور لنا ... على النقا فنعمنا في ظلالهم )
فيخرج من بيتي
( طاب اللقا ... على النقا )
وهو بيت بقافية أخرى من منهوك الرجز كبيت الشيخ عز الدين ولكن شتان بين قولي ( طاب اللقا ... على النقا ) وبين قوله ( وفي الهوى ... وكم هوى ) فإن بيته لا تتم به فائدة ولا يحسن السكوت عليه وصار باقي بيتي بدون الجزأين الأولين
( لذ تشريع الشعور لنا ... فنعمنا في ظلالهم )
وهو بيت من العروض الثالثة المحذوفة المخبونة من المديد وهي التي رتب عز الدين عليها ما بقي من بيته
( ضل تشريع العذول لنا ... في مقال ذل من حكم )
(1/269)
________________________________________
ولكن الفرق في تشريع الشعور ظاهر والتورية في قوله فنعمنا في ظلالهم عند ذكر الشعور كلامها سائغ عند أهل الأدب وهذا البيت مع صعوبة مسلك هذا النوع اجتمع فيه من أنواع البديع السهولة والانسجام والتورية في موضعين والتمكين في القافية والجناس المطلق بين تشريع وشعور والتذييل البديعي فإني أتيت بجملة بعد تمام الكلام الأول زادت معناه تحقيقا وتوكيدا وجرت مجرى المثل وفيه نوع التشريع الذي هو المقصود هنا والله أعلم
(1/270)
________________________________________
ذكر التتميم
( بكل بدر بليل الشعر يحسده ... بدر السماء على التتميم في الظلم )
التتميم كان اسمه التمام وإنما سماه الحاتمي التتميم وسماه ابن المعتز اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه
والتتميم عبارة عن الإتيان في النظم والنثر بكلمة إذا طرحت من الكلام نقص حسنه ومعناه وهو على ضربين ضرب في المعاني وضرب في الألفاظ
فالذي في المعاني هو تتميم المعنى والذي في الألفاظ هو تتميم الوزن والمراد هنا تتميم المعنى ويجيء للمبالغة والاحتياط كقول طرفة
( فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمة تهمي )
فقوله غير مفسدها احتراس واحتياط ويجيء في المقاطع والحشو وأكثر مجيئه في الحشو ومثاله قوله تعالى ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) فقوله ( من ذكر أو أنثى ) تتميم وقوله ( وهو مؤمن ) تتميم ثان في غاية البلاغة التي بذكرها تم معنى الكلام وجرى على الصحة ولو حذفت الجملتان نقص معناه واختل حسن البناء
ومن هذا القسم قول النبي مما انفرد به مسلم ( ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة من غير الفرائض إلا بنى الله له بيتا في
(1/271)
________________________________________
الجنة ) فوقع التتميم في هذا الحديث في أربعة مواضع منها قوله مسلم ومنها قوله لله ومنها كل يوم ومنها قوله من غير الفرائض
ومن أناشيد قدامة على هذا القسم
( أناس إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه غاروا بالسيوف القواضب )
فقوله ويعطوه تتميم فإنه في غاية الحسن وهو شاهد على ما جاء منه للاحتياط
ومثال ما جاء منه للمبالغة قول زهير
( من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا )
فقوله على علاته تتميم للمبالغة
وغاية الغايات في التتميم للمبالغة قوله تعالى ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) فقوله على حبه هو تتميم للمبالغة التي تعجز عنها قدرة المخلوقين
وأما التتميم الذي جاء في الألفاظ فهو الذي يؤتى به لإقامة الوزن بحيث أنه لو طرحت الكلمة استقل معنى البيت بدونها وهو على ضربين أيضا كلمة لا يفيد مجيئها إلا إقامة الوزن وأخرى تفيد مع إقامة الوزن ضربا من المحاسن
فالأولى من العيوب والثانية من النعوت والمراد هنا الثانية لا الأولى ومثالها قول المتنبي
( وخفوف قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لظننت فيه جهنما )
فإنه جاء بقوله يا جنتي لإقامة الوزن فأفاد تتميم المطابقة وهو ضرب من المحاسن المشار إليها
(1/272)
________________________________________
ولقد وهم جماعة من المؤلفين وخلطوا التكميل بالتتميم وساقوا في باب التتميم شواهد التكميل وبالعكس
وتأتي شواهد التكميل في مواضعها والفرق بين التكميل والتتميم أن التتميم يرد على الناقص فيتمه والتكميل يرد على المعنى التام فيكمله إذ الكمال أمر زائد على التتميم وأيضا أن التمام يكون متمما لمعاني النقص لا لأغراض الشعر ومقاصده والتكميل يكملها
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( وكم بذلت طريفي والتليد لكم ... طوعا وأرضيت عنكم كل مختصم )
فالتتميم في قوله طوعا فإنه أراد به أنه لم يبذل ذلك كرها فتم بهذا المعنى
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين
( والبدر مذ لاح في التتميم دان له ... والشمس مذعنة طوعا لمحتكم )
قوله في التتميم هو التتميم بعينه مع زيادة التورية في التشبيه وقوله طوعا تتميم ثان لكن تقدمه الشيخ صفي الدين بقوله طوعا وأرضيت عنكم كل مختصم
وبيت بديعيتي متعلق ببيت التشريع الذي قبله وهو
( طاب اللقا لذ تشريع الشعور لنا ... على النقا فنعمنا في ظلالهم )
( بكل بدر بليل الشعر يحسده ... بدر السماء على التتميم في الظلم )
فقولي بليل الشعر هو التتميم الذي تستعار من استعارته المحاسن فإني لو قلت بكل بدر يحسده بدر السماء لصح المعنى ولكن زدت البدر الأرضي بقولي بليل الشعر تتميما وحسنا
وقولي على التتميم تتميم ثان مع زيادة التورية التي فيها تسمية النوع الملتزم بها وقولي في الظلم تتميم ثالث ليس له نظير فإن به تم المعنى وتمت رتبة اللف والنشر
(1/273)
________________________________________
ذكر تجاهل العارف
( وافتر عجبا تجاهلنا بمعرفة ... قلنا أبرق بدا أم ثغر مبتسم )
تجاهل العارف تسميته لابن المعتز وسماه السكاكي بسوق المعلوم مساق غيره لنكتة المبالغة في التشبيه
وهو عبارة عن سؤال المتكلم عما يعلم سؤال من لا يعلم ليوهم أن شدة التشبيه الواقع بين المتناسبين أحدثت عنده التباس المشبه بالمشبه به وفائدته المبالغة في المعنى نحو قولك أوجهك هذا أم بدر فإن المتكلم يعلم أن الوجه غير البدر إلا أنه لما أراد المبالغة في وصف الوجه بالحسن استفهم أهذا وجه أم بدر ففهم من ذلك شدة الشبه بين الوجه والبدر فإن كان السؤال عن الشيء الذي يعرفه المتكلم خاليا من الشبه لم يكن من هذا الباب بل يكون من باب آخر كقوله تعالى ( وما تلك بيمينك يا موسى ) فإن السؤال هنا ما وقع لأجل المبالغة في التشبيه المشار إليه في تجاهل العارف بل هو لفائدة أخرى
أما الإيناس لموسى عليه السلام لأن المقام مقام هيبة واحترام وإما إظهار المعجز الذي لم يكن موسى يعلمه
ومنه قوله لعيسى عليه السلام ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) فإن السؤال هنا لم يكن للتشبيه وإنما هو توبيخ لمن ادعى فيه ذلك
ومن الناس من جعل تجاهل العارف مطلقا سواء كان على طريق التشبيه أو على غيره إذا تقرر هذا فاعلم أن تجاهل العارف من حيث هو إنما يأتي لنكتة من نحو مبالغة
(1/274)
________________________________________
في مدح أو ذم أو تعظيم أو تحقير أو توبيخ أو تقرير أو من تدله في الحب وأنا أذكر أمثلة الجميع هنا فمنه للمبالغة في الغزل قول الشاعر
( أجفون كحيلة أم صفاح ... وقدود مهزوزة أم رماح )
ومنه للمبالغة في الشوق وطول الليل
( وشوق ما أقاسي أم حريق ... وليل ما أكابد أم زمان )
وللمبالغة في النحول
( وقفت وقد فقدت الصبر حتى ... تبين موقفي أني الفقيد )
( وشكك في عذالي فقالوا ... لرسم الدار أيكما العميد )
ومنه للمبالغة في الغزل
( في الخيف من ظبيانه سمراء ... أقوامها أم صعدة سمراء )
ومثله
( أثغرك يا هند أبدى ابتساما ... أم البرق سل عليه حساما )
ومثله قول شرف الدين راجح الحلي
( من أطلع البدر في ديجور طرته ... وأودع السحر في تكسير مقلته )
( ومن أدار يواقيت الشفاه على ... كأس من الدر يحمي خمر ريقته )
ويعجبني من هذا القصيد قوله وإن كان من غير ما نحن فيه
( يحنو النسيم عليه من لطافته ... والدهر ألين منه عند قسوته )
ومثله في اللفظ والمعنى قول ابن نباتة
( في مرشفيه سلاف الراح من عصره ... ومعطفيه قوام البان من هصره )
( وفي ابتسام ثناياه ومنطقه ... من نظم الدر أسلاكا ومن نثره )
(1/275)
________________________________________
ومن تجاهل العارف للمبالغة في تعظيم الممدوح قول ابن هانئ المغربي
( أبني العوالي السمهرية والمواضي ... المشرفية والعديد الأكبر )
( من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تبع في حمير )
قيل إنه لما تجاهل في هذا البيت عن معرفة الممدوح ترجل الجيش بكماله تعظيما للممدوح إذ هو ملكهم وهذه القصيدة سارت بها الركبان والحداة تشدو ببلاغتها وهي أحب من قفا نبك في الشهرة لفصاحتها ومطلعها
( فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدكم فلق الصباح المسفر )
وما أحلى ما قال بعده
( وجنيتم ثمر الوقائع يانعا ... بالنصر من ورق الحديد الأخضر )
أقول إن هذه الاستعارات المرشحة يرشح ندى البلاغة من بين أوراقها وتتعثر فحول الشعراء في حلبة سباقها ومنها
( في فتية صدأ الدروع عبيرهم ... وخلوقهم علق النجيع الأحمر )
( لا يأكل السرحان شلو طعينم ... مما عليه من القنا المتكسر )
( قوم يبيت على الحشايا غيرهم ... ومبيتهم فوق الجياد الضمر )
( وتظل تسبح في الدماء قبابهم ... فكأنهن سفائن في أبحر )
( حي من الأعراب إلا أنهم ... يردون ماء الأمن غير مكدر )
( لي منهم سيف إذا جردته ... يوما ضربت به رقاب الأعصر )
( صعب إذا نوب الزمان استصعبت ... متنمر للحادث المتنمر )
( وإذا عفا لم تلق غير مهلل ... وإذا سطا لم تلق غير معفر )
( فغمامه من رحمة وعراصه ... من جنة ويمينه من كوثر )
(1/276)
________________________________________
ولم أستطرد إلى هذا القدر من نظم ابن هانئ إلا لعلمي أنه عزيز الوجود وغريب في هذه البلاد
ومن تجاهل العارف للمبالغة في المدح قول إمام هذه الصناعة ومالك أزمة البلاغة والبراعة القاضي الفاضل من مديح العادل
( أهذي كفه أم غيث غوث ... ولا بلغ السحاب ولا كرامه )
( وهذا بشره أم لمع برق ... ومن للبرق فينا بالإقامه )
( وهذا الجيش أم صرف الليالي ... ولا سبقت حوادثها زحامه )
( وهذا الدهر أم عبد لديه ... يصرف عن عزيمته زمامه )
( وهذا نعل غمد أم هلال ... إذا أمسى كنون أم قلامه )
( وهذا الترب أم خد لثمنا ... فآثار الشفاه عليه شامه )
سبحان المانح هذا الأديب الذي لم ينسج الأوائل على منواله ولا تتعلق الأفاضل من المتأخرين بغبار أذياله
ومنها وليس من تجاهل العارف ولكنه من المرقص والمطرب
( وهذا الدر المنثور ولكن ... أروني غير أقلامي نظامه )
( وهذي روضة تندى وسطري ... بها غصن وقافيتي حمامه )
( وهذا الكاس روق من بناني ... وذكرك كان من مسك ختامه )
وقوله أيضا من تجاهل العارف للمبالغة في المديح
( أهذه سير في المجد أم سور ... وهذه أنجم في السعد أم غرر )
( وأنمل أم بحار والسيوف لها ... موج وإفرندها في لجها درر )
( وأنت في الأرض أم فوق السماء وفي ... يمينك البحر أم في وجهك القمر )
ومما جاء في تجاهل العارف للمبالغة في التعظيم قول سيدنا القطب الفرد الجامع عبد القادر الكيلاني قدس الله ضريحه وأعاد علينا من بركاته في الدنيا والآخرة بمحمد وآله
(1/277)
________________________________________
( أأظما وأنت العذب في كل منهل ... وأظلم في الدنيا وأنت نصيري )
( وعار على حامي الحمى وهو قادر ... إذا ضاع في البيدا عقال بعير )
ومثله
( بدا فراع فؤادي حسن صورته ... فقلت هل ملك ذا الشخص أم ملك )
ومما جاء في تجاهل العارف للمبالغة في الذم قول زهير
( وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء )
ومما جاء للتحقير قول الشاعر وتظارف إلى الغاية
( لما ادعى غصن الرياض بأنه ... في لينه مع قدها موصوف )
( قلنا له هل أنت تشبه قدها ... ما أنت هذا القد يا مقصوف )
ومما جاء منه للتوبيخ قول ليلى بنت طريف الخارجية في أخيها الوليد
( أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف )
وهذا البيت من قصيدة غريبة أثبتها بكمالها ابن خلكان في تاريخه والخابور نهر أصله من رأس عين بديار بكر يصب إلى الفرات
ومن أطرف ما وقع في تجاهل العارف على سبيل التوبيخ قول سراج الدين الوراق فإنه صرح بذكر التوبيخ في بيتيه وهما
( وا خجلتي وصحائفي مسودة ... وصحائف الأبرار في إشراق )
( وموبخ في الحشر وهو يقول لي ... أكذا تكون صحائف الوراق )
ومما وقع للتقرير قول مهيار
( سلا ظبية الوادي وما الظبي مثلها ... وإن كان مصقول الترائب أكحلا )
( أأنت أمرت الصبح أن يصدع الدجا ... وعلمت غصن البان أن يتميلا )
(1/278)
________________________________________
ومما وقع منه قول العرجي للتدله في الحب
( بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكم أم ليلى من البشر )
قد قررت هنا اختلاف أقسام هذا النوع أعني تجاهل العارف من مدح وذم وتعظيم وتحقير وتوبيخ وتقرير وغير ذلك إذا عرفت ذلك فإني أوردت هنا ما استظرفته في هذا الباب ولم أحتج فيه إلى التنبيه
وأظرف ما سمعته في هذا الباب قول عبد المحسن الصوري
( بالذي ألهم تعذيبي ... ثناياك العذابا )
( والذي صير حظي ... منك هجرا واجتنابا )
( والذي ألبس خديك ... من الورد نقابا )
( ما الذي قالته عيناك ... لقلبي فأجابا )
ومثله
( دعوه ونجدا إنها شأن نفسه ... ولو أن نجدا تلعة ما تعداها )
( وهبكم منعتم أن يراها بعينه ... فهل تمنعون القلب أن يتمناها )
وقول المتنبي
( أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي )
وقول الفاضل
( فإذا قلت أين داري وقالوا ... هي هذي أقول أين زماني )
وقال ابن الفارض
( أوميض برق بالأبيرق لاحا ... أم في ربا نجد أرى مصباحا )
( أم تلك ليلى العامرية أسفرت ... ليلا فصيرت المساء صباحا )
ويعجبني قول الشيخ علاء الدين الوداعي
( ترى يا جيرة الرمل ... يعود بقربكم شملي )
( وهل تقتص أيدينا ... من الهجران للوصل )
( وهل ينسخ لقياكم ... حديث الكتب والرسل )
(1/279)
________________________________________
ومن لطائف هذه القصيدة ولم أبعد في الاستطراد عما نحن فيه قوله
( بروحي ليلة مرت ... لنا معكم بذي الأثل )
( وساقينا وما يملا ... وشادينا وما يملي )
( وظبي من بني الأتراك ... حلو التيه والدل )
( له قد كغصن البان ... ميال إلى العدل )
( وطرف ضيق ويلاه ... من طعناته النجل )
( أقول لعاذلي فيه ... رويدك يا أبا جهل )
( فقلبي من بني تيم ... وعقلي من بني ذهل )
( وما يبري هوى المشتاق ... إلا ذلك المغلي )
لقد زاحمه الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله هنا بقوله
( حلفت بما يملا النديم وما يملي ... لقد صان ذاك الحسن سمعي عن العذل )
( من المغل أشكو نحوه ألم الهوى ... وطب الهوى عندي كما قيل بالمغلي )
ومن الذي أعجبني في هذا النوع أعني تجاهل العارف قول بعضهم
( أقول له علام تميل عجبا ... على ضعفي وقدك مستقيم )
( فقال تقول عني في ميل ... فقلت له كذا نقل النسيم )
ومليح هنا قول ابن نباتة السعدي
( فوالله ما أدري أكانت مدامة ... من الكرم تجنى أم من الشمس تعصر )
وأورد صاحب الصناعتين في هذا الباب ما كتبه إليه بعض أهل الأدب وهو سمعت بورود كتابك فاستفزني الفرح قبل رؤيته وهز عطفي المرح أمام مشاهدته فما أدري أسمعت بورود كتاب أم رجوع شباب ولم أدر أرأيت خطا مسطورا أم روضا ممطورا أو كلاما منثورا أم وشيا منشورا
(1/280)
________________________________________
وبيت الشيخ صفي الدين غاية في هذا الباب
( يا ليت شعري أسحرا كان حبكم ... أزال عقلي أم ضرب من اللمم )
وبيت العميان في بديعيتهم
( إذا بدا البدر تحت الليل قلت له ... أأنت يا بدر أم مرأى وجوههم )
هذا البيت لم يعمر بشيء من محاسن الأدب لما فيه من الركة
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( وعارف مذ بدا بدري تجاهل لي ... وقال حبك أم ذا البدر في الظلم )
الشيخ عز الدين مع التزامه بالتورية في تسمية النوع الذي استوعب كلمتين من البيت بيته أرق من بيت العميان وأعمر بالمحاسن
وبيت بديعيتي
( وافتر عجبا تجاهلنا بمعرفة ... قلنا أبرق بدا أم ثغر مبتسم )
هذا البيت شاهد في تجاهل العارف على المبالغة في التشبيه وهو القسم الذي تقرر في أول الكلام على النوع وقلنا إنه المقدم على بقية الأقسام من تجاهل العارف فإن فيه سوق المعلوم في مقام غيره لنكتة المبالغة في التشبيه كما قرره السكاكي
وقولي تجاهلنا بمعرفة لا يخفى ما فيه من الحسن على أهل الذوق السليم والله أعلم
(1/281)
________________________________________
ذكر الاكتفاء
( لما اكتفى خده القاني بحمرته ... قال العواذل بغضا إنه لدمي )
الاكتفاء هو أن يأتي الشاعر ببيت من الشعر وقافيته متعلقة بمحذوف فلم يفتقر إلى ذكر المحذوف لدلالة باقي لفظ البيت عليه ويكتفي بما هو معلوم في الذهن فيما يقتضي تمام المعنى
وهو نوع ظريف ينقسم إلى قسمين قسم يكون بجميع الكلمة وقسم يكون ببعضها
والاكتفاء بالبعض أصعب مسلكا لكنه أحلى موقعا ولم أره في كتب البديع ولا في شعر المتقدمين
فشاهد الاكتفاء بجميع الكلمة كقول ابن مطروح
( لا أنتهي لا أنثني لا أرعوي ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا )
فمن المعلوم أن باقي الكلام ولا إذا مت لما تقدم من قوله الحياة ومتى ذكر تمامه في البيت الثاني كان عيبا من عيوب الشعر مع ما يفوته من حلاوة الاكتفاء ولطفه وحسن موقعه في الأذهان ومنه قول شيخ شيوخ حماة
( أهلا بطيفكم وسهلا ... لو كنت للاغفاء أهلا )
( لكنه وافى وقد ... حلف السهاد علي أن لا )
ومنها قوله فيما نحن فيه
( راموا فطامي عن هوى ... غذيته طفلا وكهلا )
( فوضعت في طوقي يدي ... وقلت خلوني وإلا )
(1/282)
________________________________________
وما أظرف قول الصاحب بهاء الدين زهير
( يا حسن بعض الناس مهلا ... صيرت كل الناس قتلى )
( لم تبق غير حشاشة ... في مهجتي وأخاف أن لا )
وما أظرف ما قال بعده ولم يخرج عن المراد
( وكشفت فضل قناعه ... بيدي عن قمر تجلى )
( ولثمته في خده ... تسعين أو تسعين إلا )
وجمع الشيخ سراج الدين الوراق بين تضمينين واكتفاءين في بيت واحد وأجاد إلى الغاية
( يا لائمي في هواها ... أفرطت في اللوم أهلا )
( ما يعلم الشوق إلا ... ولا الصبابة إلا )
وجمع ابن نباتة بين الاكتفاء وتضمين المثل السائر
( إسقني صرفا من الراح ... تحت الهم حتا )
( ودع العذال فيها ... يضربون الماء حتى )
ومن لطائف شيخ شيوخ حماة في هذا النوع
( صلي ودعي نفارك عن محب ... بذكرك آنس والليل ساكن )
( ولا تستقبحي شيبا برأسي ... فما إن شبت من كبر ولكن )
وقول ابن سنا الملك من قصيدة
( رأيت طرفك يوم البين حين همى ... والدمع ثغر وتكحيل الجفون لما )
( فاكفف ملامك عني حين ألثمه ... فما شككت بأني قد لثمت فما )
( لو كان يعلم مع علمي بقسوته ... تألم القلب من وخز الملام لما )
(1/283)
________________________________________
وله من قصيدة
( يا عاذلين جهلتم فضل الهوى ... فعذلتمو فيه ولكني أنا )
ويعجبني قول القائل هنا من قصيدة مطلعها
( هزوا القدود فأخجلوا سمر القنا ... وتقلدوا عوض السيوف الأعينا )
( وتقدموا للعاشقين فكلهم ... طلب الأمان لقلبه إلا أنا )
وتلطف ابن سنا الملك في مطلع قصيدة بقوله
( دنوت وقد أبدى الكرى منه ما أبدى ... وقبلته في الثغر تسعين أو إحدى )
ومثله في اللطف قول الشيخ جمال الدين بن نباتة
( ولقد كملت فما يقال لقد ... حزت الجمال جميعه إلا )
ولبعضهم وأجاد
( فإن المنية من يخشها ... فسوف تصادمه أينما )
ومما يرشف الذوق حلاوته في هذا النوع قول الشيخ شرف الدين ابن الفارض من قصيدة
( ما للنوى ذنب ومن أهوى معي ... إن غاب عن إنسان عيني فهو في )
ومثله في اللطف مع الترشيح باكتفاء ثان قول الشيخ جمال الدين بن نباتة
( أفدي التي تاجها وقامتها ... كأنه همزة على ألف )
( أذكر ثغرا لها فأسكر من ... ورد خد لها فأرتع في )
(1/284)
________________________________________
ومثله قول الشيخ شمس الدين بن العفيف
( رأى رضابا عن تسليه ... أولو العشق سلوا )
( ما ذاقه وشاقه ... هذا وما كيف ولو )
ومن لطائف الصاحب بهاء الدين زهير في هذا النوع قوله من أبيات
( فما كان أحسن من مجلسي ... فحدث بما شئت عن ليلتي )
( بشمس الضحى وببدر الدجى ... على يمنتي وعلى يسرتي )
( وبت وعن خبري لا تسل ... بذاك الذي وبتلك التي )
ومن لطائفه أيضا أنه كتب إلى بعض أصحابه وكان اسمه يحيى وقد بلغه أنه شرب دواء أبياتا أولها
( سلمت من كل ألم ... ودمت موفور النعم )
( في صحة لا ينتهي ... شبابها إلى الهرم )
( يحيا بك الجود كما ... يموت يا يحيى العدم )
( وبعد ذا قل لي ما ... كان من الأمر وكم )
وأظرف منه ولم يخرج عما نحن فيه من بديع الاكتفاء وزيادة التورية ما وقع لشهاب الدين التلعفري مع شمس الدين الشيرجي بين يدي الملك الناصر وما ذاك إلا أنهما حضرا بين يديه في ليلة أنس فاتفق أن شمس الدين الشيرجي ذهب إلى ضرورة وعاد فأشار إليه الملك الناصر أن يصفع التلعفري وكان شمس الدين رجلا ألحى فلما صفع التلعفري نهض على الفور وقبض على لحية الشيرجي وأنشد ارتجالا ويده فيها
( قد صفعنا في ذا المحل الشريف ... وهو إن كنت ترتضي تشريفي )
( فارث للعبد من مصيف صفاع ... يا ربيع الندى وإلا خريفي )
وما أحلى قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في هذا النوع مع زيادة اللف والنشر والاكتفاء في البيتين
(1/285)
________________________________________
( قالت إذا غمضت جفونك فارتقب ... طيفي فقلت لها نعم ولكن إذا )
( وسمعت عن سيف ورمح قبلها ... حتى انثنت ورنت فقلت هما اللذا )
ومنه قول الشيخ صدر الدين بن عبد الحق ولم أكثر من هذا النوع إلا لأنه قليل في أيدي الناس
( جهنم حمامكم نارها ... تقطع أكبادنا بالظما )
( وفيها عصاة لهم ضجة ... وإن يستغيثوا يغاثوا بما )
ومنه قول المقر الفخري ابن مكانس مع زيادة التورية
( من شرطنا إن أسكرتنا الطلا ... صرفا تداوينا برشف اللمى )
( نعاف مزج الماء من كأسها ... لا آخذ الله السكارى بما )
ومنه قول المقر المرحومي الأميني صاحب ديوان الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة رحمه الله وهو مما أنشدنيه مرارا وكان عند عوده من أذربيجان بصحبة المقر المرحومي سيفي تنم كافل المملكة الشريفة بتاريخ كذا وقد ضل غالب العسكر في بعض الليالي عن الماء وفيه الزيادة على الاكتفاء بالاقتباس والتورية وهو
( ضلوا عن الماء لما أن سروا سحرا ... قومي فظلوا حيارى يلهثون ظما )
( والله أكرمني بالماء دونهم ... فقلت يا ليت قومي يعلمون بما )
ومثله قولي وفيه أيضا زيادة الاقتباس والتورية على الاكتفاء
( قالوا وقد فرطت في تصبري ... وما شفى بقربه سقاما )
( اصبر عسى تشفى بماء ريقه ... قلت لهم يا حسرتي على ما )
وأنشدني من لفظه لنفسه القاضي عماد الدين بن القضامي أخو شيخي قاضي القضاة علاء الدين الحنفي سقى الله من غيث الرحمة ثراه موشحا امتدح به المقر المرحومي الأوحدي صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية كان تغمده الله
(1/286)
________________________________________
برحمته ورضوانه
والموشح ما نسج ابن سنا الملك في دار الطراز على منواله منه في نوع الاكتفاء بالكل مع زيادة التضمين
( أرخت ذوائبها لنا في الأربع ... لنضل فاستغنت بها عن برقع )
( وغدوت أسهر في ليالي شعرها ... ويقول فجر الفرق هذا مطلعي )
( وتبسمت فعلاها ... نور فزاد سناها )
( فلثمت فاها آخذا مستغنما ... ورشفته رشف النزيف لبرد ما )
ومنه وفيه حسن التخلص مع الاكتفاء
( حكم الزمان بينهم وتشتتي ... وشماتة الأعداء أكبر محنتي )
( ولسيد الرؤساء رمت تخلصا ... من محنتي فشددت رحل مطيتي )
( فغدت تمد خطاها ... وأقول عند عياها )
( الأوحدي الأوحدي لتغنما ... يا ناقتي فزمامك بيدي وما )
وظريف هنا قول الشيخ زين الدين بن الوردي
( ماذا تقولون في محب ... عن غير أبوابكم تخلى )
( وجاءكم زائرا عفيفا ... عن مالكم هل يجوز أم لا )
ومنه قوله مع زيادة التضمين
( مولاي إنك محسن ... قسما وإنك ثم إنك )
( فلأشكرنك ما حييت ... وإن أمت فلتشكرنك )
ويعجبني قول الشيخ برهان الدين القيراطي هنا مع زيادة التورية والاقتباس
( حسنات الخد منه ... قد أطالت حسراتي )
( كلما ساء فعالا ... قلت إن الحسنات )
ومر سيدنا ومولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي الحنفي نور الله ضريحه وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه على حماة المحروسة سنة سبع وثمانمائة
(1/287)
________________________________________
وهو إذ ذاك صاحب ديوان الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة ومولانا السلطان الملك المؤيد خلد الله ملكه كافلها في تلك الأيام وركابه الشريف متوجه إلى حلب المحروسة والأمير حكم في خدمته بحيث يوصله إلى محل كفالته بها وكنت في تلك الأيام بحلب المحروسة أمام كافلها علان تغمده الله برحمته ورضوانه فهرب علان واختفيت بعده فلما حل ركاب قاضي القضاة صدر الدين المشار إليه بحلب المحروسة توصل بحنوه وصدق محبته وخبره إلى أن عرف أين كنت مختفيا فكتب إلي
( قصدنا حماة فلم نلق من ... أردنا فلم نر عهدا وإلا )
( وجئنا إلى حلب خلفه ... فإن كان فيها اجتمعنا وإلا )
فكتبت إليه الجواب
( أمولاي والله حال الجريض ... دون القريض الذي قد تولى )
( وأرجو وقد عفت هذي البلاد ... خلاصي بالصدر منها وإلا )
فقدر الله بالسلامة وتوجهت في خدمته متنكرا إلى دمشق المحروسة ومن نظمي في هذا النوع مع زيادة إيهام التورية
( تطلبت منه قبلة وهو نافر ... فقال وقتلى حبنا لن تقبلا )
( فقلت له بالوصل عدني إلى غد ... فبعدك مات الصبر قال نعم إلى )
وقولي أيضا مع زيادة التضمين
( صهباء ريقته رشفت سلافها ... فتغلبت فعجزت أن أتكلما )
( وإذا سئلت أقل لمن هو سائل ... إني لأعلم ما تقول وإنما )
القسم الثاني الاكتفاء بالبعض وقد تقدم أنه عزيز الوقوع جدا ولم يوجد في كتب البديع فمن ذلك قول ابن سنا الملك من قصيدة
(1/288)
________________________________________
( أهوى الغزالة والغزال وإنما ... نهنهت نفسي عفة وتدينا )
( ولقد كففت عنان عيني جاهدا ... حتى إذا أعييت أطلقت العنا )
ومنه قول شيخ شيوخ حماة
( إليكم هجرتي وقصدي ... وأنتم الموت والحياة )
( أمنت أن توحشوا فؤادي ... فآنسوا مقلتي ولاتو )
وقول ابن مكانس مع زيادة التورية
( لله ظبي زارني في الدجى ... مستوطنا ممتطيا بالخفر )
( فلم يقم إلا بمقدار أن ... قلت له أهلا وسهلا ومر )
ومنه قول العلامة بدر الدين بن الدماميني
( الدمع قاض بافتضاحي في هوى ... ظبي يغار الغصن منه إذا مشى )
( وغدا بوجدي شاهدا ووشى بما ... أخفى فيا لله من قاض وشا )
ومثله قوله
( يقول مصاحبي والروض زاه ... وقد بسط الريح بساط زهر )
( هلم نباكر الروض المفدى ... وقم نسعى إلى ورد ونسر )
ومثله قوله
( ورب نهار فيه نادمت أغيدا ... فما كان أحلاه حديثا وأحسنا )
( منادمتي فيها مناي فحبذا ... نهار تقضى بالحديث وبالمنا )
ومنه قول شهاب الدين ابن حجر
( أطيل الملام لمن لامني ... وأملأ في الروض كأس الطلا )
( وأهوى الملاهي وطيب الملاذ ... فها أنا منهمك في الملا )
(1/289)
________________________________________
وأنشدني المقر المجدي بن مكانس لنفسه
( نزل الطل بكرة ... وسروري تجددا )
( والندامى تجمعوا ... فأجل كأسي على الندا )
ومنه قول ابن حجر
( دع يا عذول رقى الملام فقد سرى ... عني الحبيب فتبت دام لك البقا )
( والطرف من فقد الرقاد بكى بما ... يحكي الغمام فليس يهدي بالرقا )
وأنشدني من لفظه لنفسه قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي الحنفي وأنا بين يديه بدمشق المحروسة ورياحين الشبيبة غضة بيتين فيهما الاكتفاء بالبعض والتورية في القافيتين مع عدم الخروج عن الوزن في البيتين إذا قصد شق التورية الثاني وهذا الباب عزيز الوقوع جدا وسبكه في هذا القالب من غير تمويه ينطلي على الحاذق في صناعة الكلام هذا مع الاتفاق البديعي وحسن المطابقة ولم أذكر الاتفاق إلا أن الذي كتب إليه القاضي صدر الدين البيتين مشهور بالحسن والأدب وصحبته المشار إليه وهو غرس الدين خليل بن بشارة وهما
( يا متهمي بالسقم كن منجدي ... ولا تطل رفضي فإني علي )
( أنت خليلي فبحق الهوى ... كن لشجوني راحما يا خلي )
وتقاضاني عند الإنشاد أن أنظم له شيئا على هذا الطريق فأنشدته في المجلس قولي
( يقولون صف أنفاسه وجبينه ... عسى للقا يصبو فقلت لهم صبا )
( وغالطت إذ قالوا أباح وصاله ... وإلا أبى قربا فقلت لهم أبا )
ونظم الشيخ جمال الدين بن نباتة هذا النوع وكساه ديباج التورية ولم يسلم له الوزن إذ جمع بين طرفي الاكتفاء كما فعلنا حيث قال
( أقول وقد جاء الغلام بصحفة ... عقيب طعام الفطر يا غاية المنا )
( بحقك قل لي جاء صحن قطايف ... وبح باسم من أهوى ودعني من الكنا )
(1/290)
________________________________________
وكتب الشيخ برهان الدين القيراطي لنور الدين ابن حجر والد قاضي القضاة شهاب الدين
( مولاي نور الدين ضيفك لم يزل ... يروي مكارمك الصحيحة عن عطا )
( صدقت قطايفك الكبار حلاوة ... بفمي وليس بمنكر صدق القطا )
انتهى ما أوردته من هذا النوع الغريب
وبيت صفي الدين
( قالوا ألم تدر أن الحب غايته ... سلب الخواطر والألباب قلت لم )
بيت صفي الدين هنا شاهد على الاكتفاء بجميع الكلمة ولكن لم ترض التورية أن تكون له سكنا لشدة برده
وعجبت للشيخ صفي الدين كيف استحسن هذا البيت ونظمه في سلك أبيات بديعيته مع ما فيه من الركة والنظم السافل وقرر موضع الاكتفاء بلفظة لم هذا مع أنه غير مكلف بتسمية النوع ولا ملتفت إلى تورية
والعميان لم ينظموا هذا النوع
وبيت الشيخ عز الدين شاهد على النوعين مع التزامه بالتورية في تسمية النوع البديعي واستجلاب الرقة ولطف المعنى وهو
( وما اكتفى الحب كسف الشمس منه إذا ... حتى انثنى يخجل الأغصان حين تمي )
فشاهد الكل قوله إذا المعروف أن بعده بدا لما تقدم من ذكر كسف الشمس وشاهد البعض قوله حين تمي فدل حرف الكلمة أنها تميل أو تميس
وبيت بديعيتي شاهد على الاكتفاء بالبعض بزيادة التورية التي تتوارى من حسنها بهجة الشموس مع سلامة الوزن في طرق الاكتفاء على مذهب الجماعة كما تقدم
وأما التورية بتسمية النوع فهي محصول الحاصل إذ لا بد منها وبيتي
( لما اكتفى خده القاني بحمرته ... قال العواذل بغضا إنه لدمي )
(1/291)
________________________________________
المعنى هنا أن الخد لما تزايدت حمرته قال العواذل بغضا في الظاهر إنه لدمي ووروا بالاكتفاء وقصدوا في الباطن أنه دميم حسدا له وهذا الاكتفاء ينظر إلى قول القائل
( كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغضا إنه لدميم )
وهو بالدال المهملة للحقارة ومن تأمل هذا البيت تأمل أهل الأدب المنصفين علم أن الحيلة في تركيب توريته حيلة دقيقة مع ما فيه من المعنى وجزالة الأسلوب
وهذا النوع على هذا النمط الغريب لا يجري في مضماره من فحول الأدب إلا كل ضامر مهزول
(1/292)
________________________________________
ذكر مراعاة النظير
( ذكرت نظم اللآلي والحباب له ... راعى النظير بثغر منه منتظم )
هذا النوع أعني مراعاة النظير يسمى التناسب والائتلاف والتوفيق والمواخاة وهو في الاصطلاح أن يجمع الناظم أو الناثر أمرا وما يناسبه مع إلغاء ذكر التضاد لتخرج المطابقة وسواء كانت المناسبة لفظا لمعنى أو لفظا للفظ أو معنى لمعنى إذ القصد جمع شيء إلى ما يناسبه من نوعه أو ما يلائمه من أحد الوجوه كقول البحتري في إبل أنحلها السير
( كالقسي المعطفات بل الأسهم ... مبرية بل الأوتار )
فإنه لما شبه الإبل بالقسي وأراد أن يكرر التشبيه كان يمكنه أن يشبهها بالعراجين أو بنون الخط لأن المعنى واحد في الانحناء والرقة ولكنه قصد المناسبة بين الأسهم والأوتار لما تقدم ذكر القسي
ولعمري لقد أصاب الغرض في هذا المرمى
وظريف هنا قول بعضهم في وصف فرس
( من جلنار ناضر خده ... وأذنه من ورق الآس )
فالمناسبة هنا بين الجلنار والآس والنضارة ومثله قول بعضهم في آل النبي
( أنتم بنو طه ونون والضحى ... وبنو تبارك في الكتاب المحكم )
(1/293)
________________________________________
( وبنو الأباطح والمشاعر والصفا ... والركن والبيت العتيق وزمزم )
هذا الناظم أحسن في مراعاة النظير وأتى في البيت الأول بحسن المناسبة بين أسماء السور وفي الثاني بحسن المناسبة بين الجهات الحجازية
انتهى
ويعجبني قول السلامي في هذا الباب
( والنقع ثوب بالسيوف مطرز ... والأرض فرش بالجياد محمل )
( وسطور خيلك إنما ألفاتها ... سمر تنقط بالدماء وتشكل )
فإنه ناسب بين الثوب والتطريز وبين الفرش والحمل وبين السطور والألفات والنقط والشكل ومثله قول أبي العلاء المعري
( دع اليراع لقوم يفخرون بها ... وبالطوال الردينيات فافتخر )
( فهن أقلامك اللاتي إذا كتبت ... مجدا أتت بمداد من دم هدر )
فأبو العلاء أيضا ناسب بين الأقلام والكتابة والمداد
وغاية الغايات في هذا الباب قول بديع الزمان الهمذاني من قصيدة يصف فيها طول السرى
( لك الله من ليل أجوب جيوبه ... كأني في عين الردى أبدا كحل )
( كأن السرى ساق كأن الكرى طلا ... كأنا له شرب كأن المنى نقل )
( كأنا جياع والمطي لنا فم ... كأن الفلا زاد كأن السرى أكل )
( كأن ينابيع الثرى ثدي مرضع ... وفي حجرها مني ومن ناقتي طفل )
( كأنا على أرجوحة في مسيرنا ... لغور بنا تهوي ونجد بنا تعلو )
(1/294)
________________________________________
ومنها في المديح ولم يخرج عما نحن فيه من حسن المناسبة
( كأني في قوس لساني له يد ... مديحي له فرع به أملي نبل )
( كأن دواتي مطفل حبشية ... بناني لها بعل ونقشي لها نسل )
( كأن يدي في الطرس غواص لجة ... له كلمي در به قيمتي تغلو )
أنظر أيها المتأمل إلى ملكة هذا الشاعر المفلق الذي ما دخل إلى بيت إلا وأسكن فيه ما يلائمه من المناسبات البديعية
نعم هذه الغايات التي تقف عندها فحول الشعراء وهذا الإمام المتقدم الذي صلى الحريري خلفه وأشار إليه بقوله في مقاماته
( فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدي شفيت النفس قبل التندم )
( ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم )
فإن البديع هو الذي سبق الحريري إلى نظم المقامات وسبك العلوم في تلك القوالب الغريبة وعلى منواله نسج الحريري واستعمل بعض أسماء مقاماته وقفى أثر عيسى بن هشام بالحرث بن همام وعارض طرح الإسكندري بما نسجه أبو زيد السروجي
وعلى كل تقدير فالبديع عرابة هذه الراية وعباس هذه السقاية
نرجع إلى ما كنا فيه من حسن المناسبة في مراعاة النظير فمن المستحسن في هذا النوع قول بعضهم في مليح معه خادم يحرسه
( ومن عجب أن يحرسوك بخادم ... وخدام هذا الحسن من ذاك أكثر )
( عذارك ريحان وثغرك جوهر ... وخدك ياقوت وخالك عنبر )
هذا الأديب المتمكن ناسب بين العذار والثغر والخد والخال إذ الوجه لمصابيح هذه المحاسن جامع وبين ريحان وجوهر وياقوت وعنبر للملاءمة في أسماء الخدام فلو ذكر شيئا عن غير تناسب كان نقصا وعيبا وإن كان جائزا فإنهم عابوا على أبي نواس قوله
( وقد حلفت يمينا ... مبرورة لا تكذب )
( برب زمزم والحوض ... والصفا والمحصب )
(1/295)
________________________________________
فالحوض هنا أجنبي من المناسبة لأنه ما يلائم المحصب والصفا وزمزم وإنما يناسب الصراط والميزان وما هو منوط بيوم القيامة
ومثله في عدم المناسبة قول الكميت
( وقد رأينا بها حوراء منعمة ... بيضا تكامل فيها الدل والشنب )
فإنهم قالوا الدلال لا يناسب الشنب وهو صحيح فإن الشنب من لوازم الثغر فلو ذكر معه اللعس وما ناسب ذلك مشى على سنن المناسبة وخلص من النقد
ويعجبني من ملاءمة التناسب في مراعاة النظير قول العلامة أبي بكر بن اللبانة في موشح
( بعض يخاصمني في بعض ... جسمي مقيم وقلبي يمضي )
( وكيف أسلو وبدري الأرضي ... يدير في الأقحوان الغض )
( وردية سرقت أنفاسه بالالتماس ... رقت فكانت مثل دمعة في جفن كاس )
أنظر إلى ما ناسب بين الأقحوان والورد وجذب القلوب وأنشا الأذواق في المناسبة بين الدمعة وجفن الكاس مع الاستعارة التي تستعار منها المحاسن
ومن أحلى ما يستحلى في الذوق من هذا النوع قول ابن مطروح
( لبسنا ثياب العناق ... مزررة بالقبل )
ومن شدة إعجابي بهذا البيت ضمنته تضمينا لو سمعه ابن مطروح لاطرح نفسه خاضعا وسلم إلي مفاتيح بيته طائعا وهو
( ولما خلعنا العذار ... فككنا طويق الخجل )
( لبسنا ثياب العناق ... مزررة بالقبل )
ولولا خوف الإطالة لتكلمت على بيت ابن مطروح وعلى التضمين وما فيهما من حسن التناسب والاستعارات بما يليق بمقامهما
وغاية الغايات قول القاضي الفاضل في هذا الباب
( في خده فخ لعطفة صدغه ... والخال حبته وقلبي الطائر )
(1/296)
________________________________________
ويعجبني في هذا الباب قول مجير الدين بن تميم
( لو كنت تشهدني وقد حمي الوغى ... في موقف ما الموت فيه بمعزل )
( لترى أنابيب القناة على يدي ... تجري دما من تحت ظل القسطل )
أنظر أيها المتأمل إلى حسن ما ناسب بين الأنابيب والقناة والجريان والقسطل مع انقياد التورية إلى طاعته وحسن تصرفه فإني أنا محقق أن الأمير مجير الدين بن تميم من فرسان هذا الميدان وممن أجاد في هذا الباب وبالغ في الإحسان إلى غريب المناسبة
وراعى جانب مراعاة النظير حسن الزغاري بقوله
( كان السحاب الغر لما تجمعت ... وقد فرقت عنا الهموم بجمعها )
( نياق ووجه الأرض قعب وثلجها ... حليب وكف الريح حالب ضرعها )
فإنه أتى بالمعنى الغريب والتشبيه البديع وحسن المناسبة في مراعاة النظير مع حلاوة الانسجام ولطف الاستعارة
وأنشدني لنفسه الشيخ عز الدين في هذا النوع قوله
( بخد الحب ريحان نضير ... لأحرفه سطور ليس تقرا )
( فراعيت النظير وقلت بدري ... عذارك أخضر والنفس خضرا )
والذي يظهر لي أن خضرة النفس هنا من إيهام المناسبة
ومما نظمته في هذا النوع قولي
( أبرزت معصما نهار وداعي ... شف بلوره فزاد حريقي )
( راح دمعي يرعى النظير ويبدي ... عند لثمي سلاسلا من عقيق )
فحسن المناسبة هنا بين المعصم والسلاسل والعقيق والبلور مع إبراز تسمية النوع البديعي والنسيب المطرب الغزلي في معنى توريته
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( تجار لفظ إلى سوق القبول بها ... من لجة الفكر تهدي جوهر الكلم )
(1/297)
________________________________________
المناسبة في بيت الشيخ صفي الدين بين التجار والسوق واللجة والجوهر وهو بيت عامر بمحاسن هذا النوع
وبيت العميان في بديعيتهم
( يروى حديث الندى والبشر عن يده ... ووجهه بين منهل ومبتسم )
هذا البيت ما رأيت له وجها يظهر به مراعاة النظير ولا بينه وبين المناسبة البديعية نسب ثابت ولكن رأيت الشيخ أبا جعفر شارح هذه البديعية أعني بديعية العميان قال إن العنعنة في البيت بعن تناسب الرواية في الحديث والندا والبشر فيهما مناسبة للكرم
ولعمري إن الشيخ رحمه الله استسمن من وجه هذا البيت ذا ورم ونفخ من نفسه في غير ضرم وهذا لعمري جهد من لا جهد له
وبيت عز الدين الموصلي
( وارع النظير من القوم الأولى سلفوا ... من الشباب ومن طفل ومن هرم )
المناسبة في بيت الشيخ عز الدين بين الشباب والطفل والهرم أظن أنه قصد بها النسبة إلى آدم عليه السلام
وبيت بديعيتي
( ذكرت نظم اللآلي والحباب له ... راعي النظير بثغر منه منتظم )
المناسبة هنا ما بين اللآلي ونظم الحباب ونظم الثغر بديعة عند أهل النظم هذا مع حسن التشبيه بالمناسبة البديعية وفي نور هذا المثال ما يمحو ظلمة الإشكال عند مراعاة النظير هذا مع رقة الانسجام ومغازلة عيون الغزل في تسمية النوع البديعي وحلاوة توريته وقد حبست عنان القلم وإن كانت المهجة في هذا المعرك الضيق قد ذابت لئلا يقال كثر فارتابت
(1/298)
________________________________________
ذكر التمثيل
( وقلت ردفك موج كي أمثله ... بالموج قال قد استسمنت ذا ورم )
التمثيل مما فرعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى وقال هو أن يريد المتكلم معنى فلا يدل عليه بلفظه الموضوع له ولا بلفظ قريب من لفظه وإنما يأتي بلفظ هو أبعد من لفظ الإرداف يصلح أن يكون مثالا للفظ المعنى المذكور كقوله تعالى ( وقضي الأمر ) وهذا التمثيل العظيم في غاية الإيجاز والحقيقة أي هلك من قضي هلاكه ونجا من قدرت نجاته وما عدل عن اللفظ الخاص إلى لفظ التمثيل إلا لأمرين أحدهما الاختصار لبلاغه الإيجاز والثاني كون الهلاك والنجاة كانا بأمر مطاع ولا يحصل ذلك من اللفظ الخاص
ومن شواهد ذلك في السنة الشريفة قول النبي حكاية عن بعض النسوة في حديث أم زرعة زوجي كليل تهامة لا حر ولا برد ولا مخافة ولا سآمة
فإنها أرادت وصفه بحسن العشرة مع نسائه
فعدلت عن اللفظ الموضوع له إلى لفظ التمثيل لما فيه من الزيادة وذلك تمثيلها الممدوح بليل تهامة المجمع على وصفه بأنه معتدل فتضمن ذلك وصف الممدوح باعتدال المزاج المستلزم حسن العشرة وكمال العقل اللذين ينتجان لين الجانب وطيب المعاشرة وخصت الليل بالذكر لما في الليل من راحة الحيوان وخصوصا الإنسان لأنه يستريح فيه من الكد والفكر ولكون الليل جعل سكنا والسكن محل الاجتماع بالحبيب لا سيما وقد جعلته معتدلا بين الحر والبرد والطول والقصر وهذه صفة ليل تهامة لأن الليل يبرد فيه الجو مطلقا بالنسبة إلى النهار لغيبة الشمس
(1/299)
________________________________________
وخلوص الهواء من اكتساب الحر فيكون في البلاد الباردة شديد البرد وفي البلاد الحارة معتدل البرد مستطابا فلهذا قالت زوجي كليل تهامة وحذفت أداة التشبيه ليقرب المشبه من المشبه به وهذا مما يبينه لفظ التمثيل لكونه لا يجيء إلا مقدرا بمثل غالبا
وقال ابن رشيق في العمدة التمثيل والاستعارة ضرب من التشبيه ولكنهما بغير أداة
والتمثيل هو المماثل عند بعضهم وذلك أن تمثل شيئا بشيء فيه إشارة منه كقول امرئ القيس
( وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل )
فمثل عينيها بالسهمين ومثل قلبه بأعشار الجزور معناه ما بكيت إلا لتقدحي في قلبي كما يقدح القادح في الأعشار فتمت له جهات التمثيل والاستعارة
وقد تقدم أن التمثيل ضرب من الاستعارة والتشبيه وهو قريب التذييل ولكن بينهما فرق دقيق وهو خلو التذييل من التشبيه
وألحقوا بهذا الباب أعني التمثيل ما يخرجه المتكلم مخرج المثل السائر وأبلغ ما سمعته من الشواهد البليغة المستوعبة لشروط هذا الباب قول أبي تمام
( أخرجتموه بكرة عن سجيته ... والنار قد تلتظي من ناضر السلم )
( أوطأتموه على جمر العقوق ولو ... لم يحرج الليث لم يخرج من الأجم )
ففي عجز كل من البيتين تمثيل حسن فإنه مثل فيهما حالته عند إخراجه كرها عن سجيته يخاطب أحبابه وقد أثروا به تلك الحالة والنار قد تلتظي من ناضر السلم
قد هنا للتقليل ومراده أن وقوع هذا منكم وأنتم أحباب عجيب
ومثل الحال بقوله والنار قد تلتظي من ناضر السلم وقال في عجز البيت الثاني عندما أوطؤوه على جمر العقوق إن الليث لو لم يخرج ما خرج من الأجم
وهذا التمثيل والذي قبله في البيت الأول غايتان في هذا الباب
وقد أخرج كلا منهما مخرج المثل السائر على مذهب من يرى ذلك
وبيت الشيخ صفي الدين
( يا غائبين لقد أضنى الهوى جسدي ... والغصن يذوي لفقد الوابل الردم )
(1/300)
________________________________________
الشيخ صفي الدين أجاد في نظم هذا النوع وأتى بشروطه كاملة فإنه مثل حاله لما أضنى الهوى جسده لغيبة أحبابه بالغصن لما يذوي لفقد المطر وأخرج كلامه مخرج المثل السائر كما تقرر ولكن لو حط موضع الهوى الجفا لكان أقرب إلى المراد ولو كانت القافية غير الردم لكانت أخف على القلوب
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين
( من التعاظم تمثيل الزمان به ... وقد يكون اتضاع القدر بالشمم )
هذا البيت غير صالح للتجريد وقد كل الفكر وعجزت أن أتوصل فيه إلى حد يتوصل به إلى فهم معناه أو إلى صورة التمثيل في تركيبه فلم أجد بدا من مطالعة الشرح فلما نظرت في شرحه وجدته قد قال فيه إن العذول يتعاظم في كلامه وأفعاله فلذلك مثل الزمان به من استهتار السامع به والتهكم وعدم الإصغاء إليه وفي ذلك تهجين له وربما استجيب فيه الدعاء ثم قال في آخر الشرح وقد أرسلت النصف الثاني من البيت مثلا فما ازدادت مرآة ذوقي بذلك إلا صدأ والله أعلم
وبيت بديعيتي
( وقلت ردفك موج كي أمثله ... بالموج قال قد استسمنت ذا ورم )
أنظر أيها المتأمل إلى التمثيل الذي مثلت فيه شيئا بشيء فيه إشارة منه كما قرره ابن رشيق في العمدة وحذفت أداة التشبيه لتقريب المشبه من المشبه به كما تقدم وتقرر أن لفظ التمثيل لا يكون إلا مقدرا يمثل غالبا وأخرجت آخر كلامي مخرج المثل السائر على مذهب من يرى ذلك وأتيت بتسمية النوع البديعي مورى به مسبوكا في أحسن القوالب والله أعلم بالصواب
(1/301)
________________________________________
ذكر التوجيه
( وأسود الخال في نعمان وجنته ... لي منذر منه بالتوجيه للعدم )
التوجيه مصدر توجه إلى ناحية كذا إذا استقبلها وسعى نحوها وفي الاصطلاح أن يحتمل الكلام وجهين من المعنى احتمالا مطلقا من غير تقييد بمدح أو غيره والتوجيه هو إبهام المتقدمين لأن الاصطلاح فيهما واحد غير أن الشواهد التي استشهدوا بها على التوجيه الإبهام أحق بها لطلوع أهلتها زاهرة في أفقه ولمطابقة التسمية فإنهم يستشهدون على التوجيه بقول الشاعر في الحسن ابن سهل عندما زوج ابنته بوران بالخليفة
( بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن )
( يا إمام الهدى ظفرت ... ولكن ببنت من )
فلم يعلم ما أراد بقوله ببنت من في الرفعة أو في الحقارة وقد تقدم قولي في شرح نوع الإبهام لما استشهدت بهذين البيتين على ما نقل ابن أبي الأصبع أن الحسن بن سهل قال له أسمعت هذا المعنى أم ابتكرته فقال لا والله نقلته من شعر شاعر مطبوع كان كثير الولوع بهذا النوع واتفق أنه فصل قباء عند خياط أعور اسمه زيد كذا نقله ابن أبي الأصبع فقال له الخياط على سبيل العبث سآتيك به لا تدري أقباء هو أم دواج فقال له الشاعر إن فعلت ذلك نظمت فيك بيتا لا يعلم من سمعه أدعوت لك أم دعوت عليك ففعل الخياط فقال الشاعر
( خاط لي زيد قباء ... ليت عينيه سواء )
فإن قيل إنه قصد التساوي في عينيه بالعمى صح وإن قيل إنه قصد التساوي في
(1/302)
________________________________________
الأبصار صح
فتسمية النوع هنا بالإبهام أليق من تسميته بالتوجيه ومطابقة التسمية فيه لا تخفى على أهل الذوق الصحيح وهذا مذهب ابن أبي الأصبع فإنه هو الذي تخير الإبهام ونزل عليه هذه الشواهد واختصر التوجيه من كتابه وقال في ديباجته وربما أبقيت اسم الباب وغيرت مسماه إذا رأيت اسمه لا يدل على معناه
وقد أجمع الناس على أن كتابه المسمى بتحبير التحرير أصح كتاب ألف في هذا الفن لأنه لم يتكل فيه على النقل دون النقد وغالب الجماعة غيروا بعض القواعد وبدلوا أكثر الأسماء والشواهد ووضعوها في غير محلها وإذا وصلت إلى بديع ابن منقذ وصلت إلى الخبط والفساد والجمع بين أسباب الخطاء وأنواعه من التداخل والتبديل
والسكاكي ومن تبعه سموا هذا النوع التوجيه ونسج الناس على منوالهم إلى أن تخير ابن أبي الأصبع نوع الإبهام وقرر له الشواهد التي هي أليق به من التوجيه
ولم أسمع من شواهد الإبهام غير البيت المنظوم في الخياط والبيتين المنظومين في الحسن ابن سهل وهذا النوع صعب المسلك في نظمه لأن المراد من الناظم أن يبهم المعنيين بحيث لا يكاد أحدهما يترجح على الآخر
ومن أظرف ما وقع في هذا الباب وقد أوردته في باب الإبهام أن القاضي زين الدين بن القرناص الحلبي غفر الله له ألف تاريخا قريبا من قباء الخياط وهاجر إلى حماة المحروسة بسبب الكتابة عليه ورسم لي بعد وقوفي عليه بالكتابة عليه فكتبت على التاريخ المذكور هذين البيتين
( تاريخ زين الدين فيه عجائب ... وبدائع وغرائب وفنون )
( فأذاب تاه مناظر في جمعه ... خبره عني إنه مجنون )
ومن أغرب ما نقل من شواهد الإبهام التي ما تليق بغيره أن أبا مسلم الخراساني قال يوما لسليمان بن كثير بلغني أنك كنت في مجلس وقد جرى ذكري فقلت اللهم سود وجهه واقطع رأسه واسقني من دمه
فقال نعم قلت ذلك ونحن جلوس بكرم حصرم فاستحسن أبو مسلم إبهامه وعفا عنه لسداد جوابه
رجع إلى ما كنا فيه من تقرير نوع التوجيه
قد تقدم أن المتقدمين نزلوه منزلة الإبهام وسموه توجيها واستشهدوا عليه بالشواهد التي تقدم ذكرها
وأما التوجيه عند المتأخرين فقد قرروا أن يوجه المتكلم بعض كلامه أو جملته إلى أسماء متلائمة اصطلاحا من أسماء الأعلام أو قواعد علوم أو غير ذلك مما يتشعب له من الفنون
(1/303)
________________________________________
توجيها مطابقا لمعنى اللفظ الثاني من غير اشتراك حقيقي بخلاف التورية وهذا هو مذهب الشيخ صفي الدين وعلى هذا المنوال نسج بديعيته وقد تقدم أن بديعيته نتيجة سبعين كتابا في هذا الفن
وعلى منواله نسجت بديعيتي لأجل المعارضة
وقد أدخل جماعة نوع التوجيه في التورية وليس منها
والفرق بينهما من وجهين
أحدهما أن التورية تكون باللفظة المشتركة والتوجيه باللفظ المصطلح عليه
والثاني أن التورية تكون باللفظة الواحدة والتوجيه لا يصح إلا بعدة ألفاظ متلائمة كقول علاء الدين الوداعي
( من أم بابك لم تبرح جوارحه ... تروي أحاديث ما أوليت من منن )
( فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والأذن عن حسن )
أقول لو بلغت ما عسى أن أبلغه لما وجدت للمتقدمين شاهدا أحسن من هذين البيتين على هذا النوع ولذلك قدمتهما
سبحان المانح لقد أظهر الشيخ علاء الدين الوادعي من محاسن الأدب في التوجيه وجوها تخجل الأقمار ويتمسك الناس بعده بطيب هذه الآثار
أما قرة فهو قرة ابن خالد السدوسي وهو ثقة يروي عن الحسن وابن سيرين وليس بتابعي
وأما صلة فهو صلة بن أشيم العدوي كان من كبار التابعين وهو زوج معاذة العدوية وهي تروي عن عائشة
وأما جابر فهو جابر بن عبد الله صاحب رسول الله وليس بجابر الجعفي لأن جابر الجعفي ضعيف وهو تابعي وإنما ضعفوه لأنه كان يؤمن بالرجعة
وأما الحسن فهو الحسن البصري كان تابعيا كبيرا رأى من أصحاب رسول الله نحوا من ثلثمائة رجل
فلله در الوداعي لقد أودع في بيته نفائس الذخائر وقال فلم يترك مقالا لشاعر وكان من المتقدمين عصرا وعلما في اقتناص شوارد النكت الأدبية والأنواع البديعية وإبراز التورية في القوالب التي لم يسبق إليها وعلى موائد معانيه ونكته تطفل الشيخ جمال الدين بن نباتة في مواضع كثيرة
وقد عن لي وإن طال الشرح أن أذكر نبذة من ذلك ليتأيد قولي ويعرف رتبة الشيخ علاء الدين من كان بها جاهلا
قال الشيخ علاء الدين من قصيدة مطولة
( أثخنت عينها الجراح ولا ... إثم عليها لأنها نعساء )
( زاد في عقشها جنوني فقالوا ... ما بهذا فقلت بي سوداء )
(1/304)
________________________________________
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة
( قام يرنو بمقلة كحلاء ... علمتني الجنون بالسوداء )
قال الشيخ علاء الدين الوداعي
( إذا رأيت عارضا مسلسلا ... في وجنة كجنة يا عاذلي )
( فاعلم يقينا أنني من أمة ... تقاد للجنة بالسلاسل )
قال الشيخ جمال الدين ولم يخرج عن الوزن والقافية
( أفدي الذي ساق إليها مهجتي ... فرع طويل تحت حسن طائل )
( قلبي بصدغيها إلى طلعتها ... يقاد للجنة بالسلاسل )
قال الشيخ علاء الدين وقد اجتمع جماعة من أصحابه لم يخرج اسم واحد منهم عن علي
( لقد سمح الزمان لنا بيوم ... غدا فيه السمي مع السمي )
( تجمعنا كأنا ضراب خيط ... علي في علي في علي )
قال الشيخ جمال الدين
( علوت اسما ومقدارا ومعنى ... فيا لله من حسن جلي )
( كأنكم الثلاثة ضرب خيط ... علي في علي في علي )
قال الشيخ علاء الدين
( من آخذ من خده ... بدم الشهيد المغرم )
( فالريح ريح المسك منه ... ولونه لون الدم )
قال الشيخ جمال الدين
( لا ينكرن الكاس من جفنه ... دم الشهيد الصابر المغرم )
( فالريح ريح المسك من خده ... كما يرى واللون لون الدم )
قال الشيخ علاء الدين من قصيدة
( يفتن بالفاتر من طرفه ... ورقه البارد يا حار )
(1/305)
________________________________________
قال الشيخ جمال الدين
( لو ذقت برد رضاب من مقبله ... يا حار ما لمت أعضائي التي ثملت )
مع أن الشيخ جمال الدين فتر عن الفاتر قال الشيخ علاء الدين
( قيل إن شئت أن تكون غنيا ... فتزوج تكن من المحصنينا )
( قلت ما يقطع الإله بحر ... لم يضع بين أظهر المسلمينا )
قال ابن نباتة
( قال لي خلي تزوج تسترح ... من أذى الفقر وتستغني يقينا )
( قلت دع نصحك واعلم أنني ... لم أضع بين ظهور المسلمينا )
قال الوداعي
( يا عاذلي في النكاريش اطرح عذلي ... واعذر فعذري فيهم واضح حسن )
( فالمرد إن حاولوا حربي بهجرهم ... إذا لقام بنصري معشر خشن )
قال ابن نباتة
( لو آذنتني عذالي بحربهم ... إذ بالنكاريش قد أصبحت حيرانا )
( إذا لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا )
قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة
( عذب مقبله وحلو لحظه ... أو ما تراه بالنعاس معسلا )
قال الشيخ جمال الدين
( معسل بنعاس في لواحظه ... أما تراها إلى كل القلوب حلت )
قال الوداعي من القصيدة المذكورة
( ألحاظه وهي السيوف كليلة ... ويكون تعذيب الكليلة أطولا )
(1/306)
________________________________________
قال ابن نباتة
( بليت به ساجي اللحاظ كليلها ... وما زال تعذيب الكليلة أطولا )
قال الوداعي من قصيدة
( والنهر كالمبرد يجلو الصدا ... ببرده عن قلب ظمآن )
قال ابن نباتة
( والنهر فيه كمبرد ... فلأجل ذا يجلوا الصدا )
لكن نقص نهره وكل مبرده عن نكتة برده في بيت الوداعي فإن الشيخ جمال الدين حط مكانها في بيته فلأجل ذا وشتان
قال الوداعي
( ما كنت أول مغرم محروم ... من باخل بادي النفار كريم )
( قال ابن نباتة مبخل يشبه ريم الفلا ... يا طول شجوي من بخيل كريم )
قال الوداعي في مليح أعمى
( بروحي غزالا راح في الحسن جنة ... تعشقته أعمى فهمت من الوجد )
( إذا ما تبدى قائدا بيمينه ... تيقنت حقا أنه جنة الخلد )
قال ابن نباتة
( أفديه أعمى مغمد الخطة ... ليرتقي في خده الوردي )
( تمكنت عيناي من وجهه ... فقلت هذي جنة الخلد )
قال الشيخ علاء الدين
( بخلت علي بدر مبسمها ... فغدت مطوقة بما بخلت )
قال ابن نباتة
( بخلت بلؤلؤ ثغرها عن لاثم ... فغدت مطوقة بما بخلت به )
قال الوداعي
( وما يبري هوى المشتاق ... إلا ذلك المغلي )
(1/307)
________________________________________
قال ابن نباتة
( من المغل أشكو نحوه ألم لجلوى ... وطب الهوى عندي كما قيل في المغلي )
قال الوداعي
( يا نديمي والذي عاهدني ... أنه عن شربها لن يقصرا )
( اسقني صرفا ودع عذالنا ... يضربون الماء حتى يخثرا )
قال ابن نباتة
( اسقني صرفا من الراح ... تحت الهم حتا )
( وجع العذال فيها ... يضربون الماء حتى )
قال الوداعي
( باللوى صعدة عليها لواء ... كل طعنات نصلها نجلاء )
وقال بعد المطلع
( لا نجد عندها سماعا لشكوى ... فلهذا قالوا لها صماء )
قال ابن نباتة
( وعدت بطيف خيالها أسماء ... إن كان يمكن ناظري إغفاء )
وقال بعد المطلع
( يا من يطيل من الجوى لقوامها ... شكواه وهي الصعدة الصماء )
وقد آن أن أختصر لئلا يطول الشرح وأكف لسان القلم فقد طال واستطال على عرض الشيخ جمال الدين
ونعود إلى ما كنا فيه من الاستشهاد ببيتي الشيخ علاء الدين الوداعي على نوع التوجيه فقد فهمت رتبته في هذا الفن وتوجيه بيته يصدق على أسماء الأعلام من رواة الحديث في هذا الفن حيث قال
( فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والأذن عن حسن )
والمعنى الآخر في حسن مناسبته بين القرة والعين والصلة والكف والجبر والقلب والكسر والسمع والحسن ظاهر
ومثله قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر الحلبي يصف نهرا صافيا في روض نزيه
(1/308)
________________________________________
( إذا فاخرته الريح ولت عليلة ... بأذيال كثبان الربا تتعثر )
( به الفضل يبدو والربيع وكم غدا ... به الروض يحيى وهو لا شك جعفر )
ومثله قول ابن الوردي
( هويت أعرابية ريقها ... عذب ولي فيها عذاب مذاب )
( رأسي بنو شيبان والطرف من ... نبهان والعذال فيها كلاب )
أما التوجيه في قواعد العلوم كما تقرر فأحسن ما رأيت فيه قول أمين الدين علي السليماني في بعض قواعد النحو
( أضيف الدجى معنى إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر )
( وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر )
ومنه قولي
( إغراء لحظك مالي منه تحذير ... ولا لتعريف وجدي فيك تنكير )
( يا نصب عيني غرامي كيف أجزمه ... والقد مرتفع والشعر مجرور )
ومن أظرف ما وقع في هذا الباب أنه كان بالعراق عاملان أحدهما اسمه عمر والآخر اسمه أحمد فعزل عمر عن عمله واستقر أحمد بسبب مال وزنه فقال بعض الشعراء في ذلك
( أيا عمر استعد لغير هذا ... فأحمد بالولاية مطمئن )
( فإنك فيك معرفة وعدل ... وأحمد فيه معرفة ووزن )
وقول ابن عنين فيمن عزل وكانت سيرته غير مشكورة
( فلا تغضبن إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفة )
(1/309)
________________________________________
وقول ابن الساعاتي وقيل لابن أبي الأصبع
( أيا قمرا من حسن وجنته لنا ... وظل عذاريه الضحى والأصائل )
( جعلتك للتمييز نصبا لناظري ... فهلا رفعت الهجر والهجر فاعل )
وظريف هنا قول بعضهم
( عرج بنا تحت طلول الحمى ... فلم تزل آهلة الأربع )
( حتى تظل اليوم وقفا على الساكن ... أو عطفا على الموضع )
وقول محمد بن العفيف
( يا ساكنا قلبي المعنى ... وليس فيه سواك ثاني )
( لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان )
ومن لطائف البهاء زهير
( يقولون لي أنت الذي سار ذكره ... فمن صادر يثني عليه ووارد )
( هبوني كما قد تزعمون أنا الذي ... فأين صلاتي منكم وعوايدي )
ونظير هذا ما اتفق لشرف الدين محمد بن عنين وذلك أنه مرض فكتب إلى الملك المعظم صاحب دمشق
( أنظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي )
( أنا كالذي أحتاج ما تحتاجه ... فاغنم دعائي والثناء الوافي )
فعاده الملك المعظم ومعه خمسمائة دينار وقال له أنت الذي وأنا العائد وهذه الصلة
وظريف هنا قول بعض المواليا
( رأيتها وهي داخل دارها في الصحن ... تنشد رمل صحنت قلبي المعنى صحن )
( يا ليتها مع تغنيها وطيب اللحن ... ترفع أجر ودع يدخل علي اللحن )
(1/310)
________________________________________
وقول بعضهم من التوجيه في قواعد الفقه
( أحجج إلى الزهر لتحظى به ... وارم جمار الهم مستنفرا )
( من لم يطف بالزهر في وقفة ... من قبل أن يحلق قد قصرا )
وقول شمس الدين بن العفيف من التوجيه في قواعد الجدل
( وما بال برهان العذار مسلما ... ويلزمه دور وفيه تسلسل )
وقول شمس الدين بن جابر الأندلسي ناظم البديعية من التوجيه في الحديث
( قالت أعندك من أهل الهوى خبر ... فقلت إني بذاك العلم معروف )
( مسلسل الدمع من عيني ومرسله ... على مديح ذاك الخد موقوف )
ومن التوجيه في علم العروض قول ابن نصر الله المصري
( وبقلبي من الهموم مديد ... وبسيط ووافر وطويل )
( لم أكن عالما بذاك إلى أن ... قطع القلب بالفراق الخليل )
ومثله قولي وهو مطلع قصيدة
( في عروض الجفا بحور دموعي ... ما أفادت قلبي سوى التقطيع )
ومن التوجيه في الكتابة قول ابن الساعاتي
( لله يوم في دمشق قطعته ... حلف الزمان بمثله لا يغلط )
( الطير تقرأ والغدير صحيفة ... والريح تكتب والسحاب ينقط )
(1/311)
________________________________________
ولبعضهم وأجاد وهو ابن القيسراني
( بوجه معذبي آيات حسن ... فقل ما شئت عنه ولا تحاشي )
( فنسخة حسنه قرئت وصحت ... وها خط الكمال على الحواشي )
وقال ابن الوردي
( رأيت فقيرا في المرقعة التي ... على حسنه دلت وحسن طباعه )
( بخديه ريحان الحواشي محقق ... إلى الثلث والفضاح تحت رقاعه )
ومثله قول القرشي الكاتب وقد طلبه السلطان بسبب خط نقل عنه أنه زور فاختفى في بيته ثلث سنة وكتب إلى ابن فضل الله يسأله النظر في جاله في رقعة أولها يقبل الأرض وينهى إن له ثلث سنة محقق مختف في حواشي البيت يخشى توقيعات الرقاع من صاحب الطومار وسؤال المملوك نسخ هذا الأمر الفضاح بحيث لا يبقى عليه غبار فإن المملوك وحق المصحف ما يحمل عود ريحان
ومن التوجيه في علم الرمل قول الصاحب بهاء الدين زهير
( تعلمت علم الرمل لما هجرتني ... لعلي أرى شكلا يدل على الوصل )
( فقالوا طريق قلت يا رب للقا ... وقالوا اجتماع قلت يا رب للشمل )
ومن التوجيه ف علم النجوم قول بعضهم في كان وكان
( لو سنبله خلف ظهره ... ناظر إليها المشتري )
( ولو ذنب ما يقارن ... حتى يرى الميزان )
ومن التوجيه في علم الهندسة
( محيط بأشكال الملاحة وجهه ... كأن بها إقليدسا يتحدث )
(1/312)
________________________________________
( فعارضه خط استواء وخاله ... به نقطة والشكل شكل مثلث )
وقول يوسف الذهبي بن لؤلؤ في توجيه علم الموسيقى
( وبمهجتي المتحملون عشية ... والركب بين تلازم وعناق )
( وحداتهم أخذت حجازا بعدما ... غنت وراء الركب في عشاق )
ومثله قول شمس الدين بن جابر الأندلسي ناظم البديعية
( يا أيها الحادي اسقني كأس السرى ... نحو الحبيب ومهجتي للساقي )
( حي العراق على النوى واحمل إلى ... أهل الحجاز رائل العشاق )
ومن التواجيه اللطيفة قول ابن نباتة في أسماء منتزهات دمشق
( يا حبذا يوما بوادي جلق ... وتنزهي مع ذا الغزال الخالي )
( من أول الجبهة قد قبلته ... مرتشفا لآخر الخلخال )
ومن التوجيه الغريب اللطيف قول ابن الوردي ود كتب إلى بعض المخاديم بسبب وظيفة القضاء وأظنه لشيخ الإسلام شرف الدين بن البارزي
( جنبتني وأخي تكاليف القضا ... وكفيتنا مرضين مختلفين )
( يا حي عالم عصرنا أحييتنا ... فلك التصرف في دم الأخوين )
وقول بعض المواليا
( لك خد يا حي عالم يا كميت الطرد ... عليه لو نفس صباره وحر وبرد )
( ناداه والعارض النمام حولو فرد ... ما فاتك الحسن ساعة يا شقيق الورد )
وقد تقدم قولي إن الشيخ شمس الدين بن الصايغ استشهد في شرحه المسمى برقم البردة بشيء من أزجال أهل عصره على بعض أنواع البديع وتقدمت ترجمة الشيخ علاء الدين بن مقاتل الحموي علأد ما أوردت له ما أوردت في أنواع الجناس ود ذكرت له هنا في باب التوجيه زجلا موجها في خياط أخبرني من أدرك الحاج علاء المذكور من أعيان أهل حماة أن هذا الرجل دخل إلى بلاد المغرب وعاد مخلقا بالزعفران ورتبة الشيخ علاء الدين بن مقاتل في هذا الفن مشهورة شرقا وغربا لم تحتج فيها إلى الإطناب ف وضعه الزجل ومطلعه
(1/313)
________________________________________
( نهوى خياط سبحان تبارك من ... بالجمال جملوا )
( بالمفصل وآية الكرسي ... نرقى شكلو الحلو )
( خاط لي ثوب سقام قصر نسجو ... طال بحكم القدر )
( حتى إن البدن لضعفي ضاع ... في عيون الإبر )
( راح عذولي يشكلو شكلو ... ويقص الخبر )
( وجا مذ بوح القلب متمزق ... ونسي إيش قلت لو )
( ولا فرج لو كرب عن قلبو ... ولا عن مرسلو )
( ذا الحسيني بلأيقة العشاق ... كم قد أخلا جيوب )
( وبزرو من العيون كم لو ... تخرجه في القلوب )
( قلت بصه ثملا لك الجيب زور ... ولا فرج كروب )
( خلا سري المكتوم مشهر فيه ... والذي يسألو )
( جيبو مقلوب وراب على غير ... الاستوا فصلو )
( بعد طيب الوصال قطع وصلي ... وأوصل الانقطاع )
( حتى خلى بيني وبين الموت ... أما باع أو ذراع )
( وترى ظاهري صحيح لكن ... باطني في النزاع )
( وإن هو طول شقة بعادي ... والانقطاع أوصلوا )
( جهزوا القطن والكفن والما ... واغسلوا وفصلوا )
( جا الفقيه ف حبيبي يعذلني ... ويرقع كلام )
( قلت دعني فقيه في تمزيقي ... بس تلفيق ملام )
( قال حبك لو ظلم سلاري ... تتري والسلام )
( وسلب إسلامي لما حذرني ... عند باب منزلو )
( وقطع عاتقي وضربني ... وإيش معو يعملو )
( ذا الخليع الجديد نهار قد قال لي ... لفظ وعقلي قمر )
( صف جبيني وشعري من تفصيل ... نظمك المبتكر )
( قلت خيط الصباح يستفتح ... ذيل الدجى في السحر )
( قال لي قصرت بل هو ستر الله ... حين علي اسبلو )
( حابك الزرقا فاتق الخضرا ... بالهلال كللو )
(1/314)
________________________________________
( قال فصفني في خدي والعارض ... فيها جمع الشتات )
( وعليها دار الطراز تنبيت ... رقم ما أحلاه نبات )
( قال ما هو إلا شرب والحمره ... دم من تقتلو )
( فيه خلات خيوط زرق لاحت ... من جفون تغزلو )
( قلت كف العتاب في ذي الصفة ... ما أنا في ذا القياس )
( وانظر في دايره تمنطقها ... بدر من غير قياس )
( واكسني ثوب وقار ولبسني ... بالفتوة لباس )
( وإن جا تخليصي غرض من يديك ... بالوصال طولوا )
( وإن قصر باعي عن صفحات مدحك ... بالوفا ذيلو )
( جاز في بستان مشهر القمصان ... من بكر صابحو )
( مثل كف المنثور في مكنونه ... حين وقف صافحو )
( وقميص الشقيق من اكمامو ... بالخجل فاتحو )
( وقضيب الخلاف وقف عراه ... فرق حين فصلو )
( وأوثق أزراره الورد في كمو ... وعليه فضلو )
( دي الكلام يتخلع ويتفرد ... ويفصل مليح )
( ويفرج ويندرج أصلو ... ويفتح صحيح )
( ويبطن من بعد تضريبو ... بالسجاف يستريح )
( ويعرى من حبكه التخريم ... ويزر رولو )
( أنو يطوى والنشر فيه موزون ... آخرو في أولو )
ومنه يعرض بذكر أضداده بدمشق
( ذا الزجل قاسيون على الأعدا ... جد ما فيه سخف )
( وعلى أرباب المعرفة من ريش ... النعامات أخف )
( للصغير والكبير فقل عني ... واحذر احذر تخف )
( كم زيادة على على وإن كان ... يشتهوا يعملوا )
( هذا الأبلق والشقرا والميدان ... اركبوا وادخلوا )
(1/315)
________________________________________
كأني بمتأمل نظر في رسم كتابة هذا الزجل فأنكره لبعده عن رسم الألفاظ المعربة الخالية من اللحن ويعذر في ذلك لأنه ليس له إلمام بمصطلح رسمه ومن رسمه على غير هذا الطريق لم ينفذ له مرسوم فإنه يؤديه إلى خطأ وزنه وإعراب لحنه
ومصنفه أبو بكر بن يحيى بن قرمان الوزير قال في خطبته وقد جردته من الإعراب تجريد السيف من القراب
ولم يطلب من الزجل غير عذوبة ألفاظه وغرابة معانية
انتهى
ومن التواجيه اللطيفة في الطب ما اتفق أن بعض الملوك خرج لقتال أعدائه فأيده الله بنصره فطلب كاتب إنشائه ليكتب على الفور حكاية الحال فتعذر وجوده في ذلك الوقت فطلب طبيبه وأمر بالكتابة بسرعة وكان الطبيب حاذقا فكتب موجها في صناعته
أما بعد فإنا كنا مع العدو في حلقة كدائرة البيمارستان حتى لو رميت مبضعا لم يقع إلا على قيفال ولم يكن إلا كجس نبضة أو نبضتين حتى لحق العدو بحران عظيم
فهلك بسعادتك يا معتدل المزاج
وكان أبو الحسين الجزار ونصير الدين الحمامي وسراج الدين الوراق لم يخرجوا عن هذا النوع في غالب نظمهم ويأتي الكلام على ذلك في مواضعه من باب التورية وأما توجيه أسماء أنواع البديع فهو نسيج وحده وواسطة عقده
وما ذاك إلا أنه رسم لي بإنشاء توقيع المقر الأخوي الزيني عبد الرحمن بن الخراط الشافعي أحد أعيان العصر في الأدب بكتابة السر بثغر طرابلس وأنا منشئ ديوان الإنشاء الشريف المؤيدي بالديار المصرية فقصدت التوجيه بالأنواع المذكورة لتحصل الملاءمة ومراعاة النظير بذلك فإن صاحب التوقيع من المتميزين على كلا الحالين بحسن الأدب فمن ذلك قولي في فصل التعدية وبعد فمنهل إنعامنا الشريف قد حلينا لأهل الأدب مورده لتصير عقود إنشائنا بجواهر منثورة منضده وتطلع كل براعة باستهلالها في أشرف المطالع وتسكن النزاهة طباق البديع للمقابلة فيتنزه الناظر والسامع ويقوم الاستخدام بما يجب عليه من واجب الخدمة ويزيل الاقتباس بنوره عن أهلته كل ظلمة وتجول خيول الاستطراد في رد العجز على صدره ويحصل لأهل الأدب في زماننا تمكين فيظهر الافتنان في نظمه ونثره ويصير لفقه المذهب الكلامي في أيامنا الشريفة ترشيح ومماثلة ومناسبة ويبرز في توشيح التسليم من غير اعتراض مناقضة ومواربة ويجنح العصيان إلى الدخول تحت الطاعة ويسمع القول بموجبه من غير مراجعة في كل براعة ويزول التجاهل بالعارف ويصير التسجيع والمواربة عند إيجازه بالمواقف
(1/316)
________________________________________
وكان المجلس العالي القضائي عبد الرحمن بن الخراط الشافعي ممن حسن بيانه إيضاح وللسر عنده حسن إيداع وللأدب إليه التفات لأنه بجواهر ترصيعه يشنف الأسماع وهو الفاضل الذي إذا نظم أزال بسهولة نظمه الإبهام والتوهيم وإذا نثر عقود الإنشاء فلا فرق بين عبد الرحمن وعبد الرحيم يحسن في المطالعة والأمثلة الشريفة طيه ونشره وهو من الشعراء فيما يبعد من القصص إذا علا في تفسيرها أمره فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت براعة المطلب منظومه في بديع زمانه بإنعامه ولا برحت أبوابه الشريفة في تصريح وتشريع لوفود أهل الأدب في أيامه أن يستقر لأنه ممن يحسن به التحبير ويحصل به الاكتفاء والتتميم ويجمع من نظمه ونثره بين التحميس والترسل فيحسن الجمع بهذا التقسيم فليباشر ذلك ويجعل الاستعانة بالله ليأمن من التنكيت والتعليل ويصير لشقة الإنشاء بعد النقص تسهيم وتكميل ويظهر لبرد الكلام بحسن تفصيله تفويت وتوشيع
ولأصول التهذيب والتأديب مبالغة وتفريع والوصايا كثيرة لا تخفى على الأديب الفاضل الاحتراس والفرق بين المستوي والمقلوب وبه يحصل النسق في جمع الفرائد وتظهر براعة التخلص في عنوان كل مطلوب لأنه الفاضل الذي إن سكن ثغرا لم يفته شنب التورية بحسن نظامه أو جاور بحرا فهو أديب والبحور في تصريف أوامره في نقضه وإبرامه والله تعالى يجعل نظم هذا الثغر بحسن أدبه في بلاغة وانسجام وكما أحسن له الابتداء يعضده بديع السموات والأرض بحسن الختام
وقد طال الشرح في نوع التوجيه ولم يبق للإطالة وجه
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع
( خلت الفضائل بين الناس ترفعني ... بالابتداء فكانت أحرف القسم )
الشيخ صفي الدين قصد في توجيه بيته بعض قواعد النحو وهو بيت عامر بالمحاسن
وقد تقدم ما أوردناه من هذا القسم
وبيت بديعيتي
( وأسود الخال في نعمان وجنته ... لي منذر منه بالتوجيه للعدم )
التوجيه في هذا البيت من القسم المقدم على التوجيه في قواعد العلوم وقد تقدم فيه أن يوجه المتكلم كلامه إلى أسماء متلائمة اصطلاحا من أسماء الأعلام
(1/317)
________________________________________
توجيها مطابقا لمعنى اللفظ الثاني من غير اشتراك حقيقة بخلاف التورية وقد تقدم ذلك وتقرر الكلام عليه وعلى التوجيه في قواعد العلوم وبقية الفنون وعلى كل تقدير فالكل راجع إلى طريق واحد والاشتراك هنا في النعمان والمنذر ظاهر ولكن في النكتة اللطيفة في الأسود فإن المتأمل ما يتخيل في أول وهلة غير سواد الخال وجل القصد في المعنى الآخر هو الملك الأسود أخو النعمان بن المنذر وهو أحد ملوك العرب والتورية ههنا في التوجيه الذي هو اسم النوع البديعي لم يفتها من المحاسن وجه وهذا هو الأفق الذي أقمر فيه الشيخ علاء الدين الوداعي والقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وغيرهما ممن أوردنا على هذا النوع نظمه وأوصلنا إلى الغرض لما أطلق فيه سهمه وما أخرت بيت العميان وبيت الشيخ عز الدين ونثرت نظم الترتيب هنا إلا لأنهم نسجوا على غير هذا المنوال وتعوضوا عن مسارح الماء الحلو بالآل
وبيت العميان
( ترى الغني لديهم والفقير وقد ... عادا سواء فلازم باب قصدهم )
هنا بحث لطيف وهو أن العميان نظموا التوجيه بين التسمية التي تحتمل وجهين من المعنى على مذهب المتقدمين وهو الإبهام وقد تقرر أن المتكلم فيه يبهم المعنيين بحيث لا يترشح أحدهما على الآخر بقرينة واستشهدوا عليه بشاهد الإبهام الذي نزلوه على التوجيه وهو قول الشاعر في الخياط وقد تقدم ليت عينيه سواء
فالشاعر أبهم المعنيين بحيث يتحير السامع والمتأمل ويعجز عن ترجيح أحدهما
ولم أر في بيت العميان غير التسوية بين الغني والفقير فإن هؤلاء الممدوحين يعطون الفقير إلى أن يصير مساويا للغني وهذا هو المعنى الواحد وهو أوضح من ضوء الشمس إذا توقدت جمرة المصيف وأما المعنى الآخر فما وجدت في بيتهم له قرينة صالحة تدلني عليه وصاحب البيت أدرى بالذي فيه
وقد تقدم أن نوع التوجيه قسمه البديعيون قسمين وذهب إلى كل منهما فريق
وبيت الشيخ عز الدين مذبذب
( بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) وهو
( نزهت طرفي وسمعي في محاسنه ... وعنك إن تقصد التوجيه في الكلم )
(1/318)
________________________________________
أصحاب الطريق الذي مشى عليها الشيخ عز الدين في نظم هذا النوع قالوا التوجيه الاصطلاحي أن يحتمل الكلام وجهين من المعنى وهذا هو الفرق بين التورية والتوجيه فإن التورية باللفظة الواحدة والتوجيه لا يصح إلا بعدة ألفاظ والشيخ عز الدين أتى بكلمة مفردة تحتمل معنيين فما نظم غير التورية والتوجيه بخلاف ذلك والكلمة التي اقتضت اشتراك المعنيين قوله نزهت فإنه قال إنه نزه طرفه في محاسن محبوبه وكأنه التفت إلى العذول وقال له وعنك وهو وبيت العميان سافلان خاليان ليس فيهما من المحاسن ساكن والله أعلم
(1/319)
________________________________________
ذكر عتاب المرء نفسه
( يا نفس ذوقي عتابي قد دنا أجلي ... مني ولم تقطعي آمال وصلهم )
هذا النوع أعني عتاب المرء نفسه لم أجد العتب مرتبا إلا على من أدخله في البديع وعده من أنواعه وليس بينهما نسبة والذوق السليم أعدل شاهد على ذلك ولولا أن الشروع في المعارضة ملزم ما نظمت حصاه مع جواهر هذه العقود ونهاية أمره أنه صفة لحال واقعة ليس تحتها كبير أمر وهو من أفراد ابن المعتز ولم يورد فيه غير بيتين ذكر أن الأسدي أنشدهما عن الجاحظ وهما
( عصاني قومي في الرشاد الذي به ... أمرت ومن يعص المجرب يندم )
( فصبرا بني بكر على الموت إنني ... أرى عارضا ينهل بالموت والدم )
قال زكي الدين بن أبي الأصبع وقوله صحيح لم أر في هذين البيتين ما يدل على عتاب المرء نفسه إلا أن هذا الشاعر لما أمر بالرشاد وبذل النصح ولم يطع ندم على بذل النصيحة لغير أهلها ويلزم من ذلك عتابه لنفسه فتكون دلالة البيتين على عتابه لنفسه دلالة إلتزامية لا دلالة المطابقة ولا يصلح أن يكون شاهدا على هذا النوع إلا قول شاعر الحماسة
( أقول لنفسي في الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلد والصبر )
انتهى كلام ابن أبي الأصبع فانظر ما أحلى ما صرح هذا الشاعر بذكر النفس واللوم لها وخاطبها بكاف الخطاب ليتمكن عتبه وتقريعه المؤلم لها
(1/320)
________________________________________
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي فيه
( أنا المفرط أطلعت العدو على ... سري وأودعت نفسي كف مجترم )
الشيخ صفي الدين حكى أنه فرط في اطلاع عدوه على سره وإيداع نفسه كف مجترم لا غير وأين هو من قول شاعر الحماسة وقد قال لنفسه على سبيل العتب والتوبيخ لك الويل ما هذا التجلد والصبر
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( عتبت نفسي إذ أتعبتها بهوى ... مجهول سبل بلادها دولا علم )
الشيخ عز الدين حكى أيضا أنه عاتب نفسه وذكر أنه هو الذي أتعبها وكلفها حمل الهوى فالعتاب هنا من كل وجه لم يترتب على غيره وما مقدار هذا النوع حتى إن الشاعر لم يأت به على صيغته لا سيما ونظام البديعيات قد التزموا أن يأتوا به شاهدا على نوعه
وبيت بديعيتي
( يا نفس ذوقي عتابي قد دنا أجلي ... مني ولم تقطعي آمال وصلهم )
أقول إن هذا البيت ينظر إلى بيت شاعر الحماسة في علو طباقه وإن كان من الفحول التي لها فضيلة السبق فقد زاحمه في حلبة سباقه مع أن عروس التسمية يضوع عطرها من أطواق الطروس ويقول مزكوم الذوق وقد عاد له الشم لا عطر بعد عروس وأين هذا النشر الواضح والرقة التي ود النسيم لو انتظم معها وانسجم من عقادة بيت الشيخ عز الدين وقد أمسى بها مجهولا بلا هاد ولا علم
(1/321)
________________________________________
ذكر القسم
( برئت من أدبي والعز من شيمي ... إن لم أبر بنأي عنهم قسمي )
القسم أيضا حكاية حال واقعة وليس تحته كبير أمر ولكن تقرر أن الشروع في المعارضة ملزم وهو أن يقصد الشاعر الحلف على شيء فيحلف بما يكون له مدحا وما يكسبه فخرا وما يكون هجاء لغيره فمثال الأول قول مالك بن الأشتر النخعي في معاوية ابن هند
( بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس )
( إن لم أشن على ابن هند غارة ... لم تخل يوما من ذهاب نفوس )
فقول ابن الأشتر تضمن المدح لنفسه والفخر الزائد والوعيد للغير ومثله قول أبي علي البصير يعرض بعلي بن الجهم
( أكذبت أحسن ما يظن مؤملي ... وهدمت ما شادته لي أسلافي )
( وعدمت عاداتي التي عودتها ... قدما من الأسلاف والأخلاف )
( وغضضت من ناري ليخفى ضوؤها ... وقريت عذرا كاذبا أضيافي )
( إن لم أشن على علي خلة ... تمسي قذى في أعين الأشراف )
وقد يقسم الشاعر بما يريده الممدوح ويختاره كقول الشاعر
( إن كان لي أمل سواك أعده ... فكفرت نعمتك التي لا تكفر )
(1/322)
________________________________________
وأحسن ما سمع في القسم على المدح قول الشاعر
( خفت بمن سوى السماء وشادها ... ومن مرج البحرين يلتقيان )
( ومن قام في المعقول من غير رؤية ... فأثبت في إدراك كل عيان )
( لما خلقت كفاك إلا لأربع ... عقائل لم تعقل لهن ثواني )
( لتقبيل أفواه وإعطاء نائل ... وتقليب هندي وحبس عنان )
والمقدم في هذا الباب وهو الذي انتهت إليه نهاية البلاغة قوله تعالى ( فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) فإنه قسم يوجب الفخر لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأكمل عظمة حاصلة من ربوبية السماء والأرض وتحقيق الوعد بالرزق وحيث أخبر سبحانه وتعالى أن الرزق في السماء وأنه رب السماء يلزم من ذلك قدرته على الرزق الموعود به دون غيره
انتهى الكلام على القسم الذي يراد به الفخر والمدح والتعظيم
وأما ما جاء من القسم في النسيب فكقول الشاعر
( جنى وتجنى والفؤاد يطيعه ... فلا ذاق من يجني عليه كما يجني )
( فإن لم يكن عندي كعيني ومسمعي ... فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني )
ومما جاء من القسم في الغزل قول ابن المعتز
( لا والذي سل من جفنيه سيف ردى ... قدت له من عذاريه حمائله )
( ما صارمت مقلتي دمعا ولا وصلت ... غمضا ولا سالمت قلبي بلابله )
الذي وقع عليه الاتفاق أن هذا أحسن ما وقع من القسم في الغزل إذ القسم والمقسم عليه كل منهما داخل في باب الغزل ولكن قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع إن الذي وقع لجميل بن معمر العذري في هذا الباب ما تحسن العبارة تفصح عن لفظه ووصفه وهو قوله على لسان محبوبته
( قالت وعيش أبي وأكبر إخوتي ... لأنبهن الحي إن لم تخرج )
( فخرجت خيفة أهلها فتبسمت ... فعلمت أن يمينها لم تلجج )
(1/323)
________________________________________
ثم قال أعني ابن أبي الأصبع رحم الله جميلا لقد تظرف في هذين البيتين ما شاء لأنه أتى بهما من باب الهزل الذي يراد به الجد وأغرب في القسم فيهما وأدمج في القسم حسن ائتلاف اللفظ مع المعنى وأتى بما لا يوفيه واصف حقه
انتهى كلام ابن أبي الأصبع
قلت وإذا وصلنا في القسم إلى باب الهزل الذي يراد به الجد فهذب الدين أحمد بن منير الطرابلسي قائد هذا العنان وفارس هذا الميدان وما ذاك إلا أنه هاجر إلى مدينة السلام بغداد والشريف الموسوي نقيب الأشراف بها وبابه حرم الوافدين وينابيع الفضل التي هي مناهل الواردين
وكان يقال إن الشريف المشار إليه من كبار الشيعة ببغداد وعلى هذا أجمع غالب الناس فجهز إليه ابن منير عند قدومه بغداد هدية مع مملوكه تتر بل معشوقه الذي اشتهر به في الخافقين غرامه وأبدع في أوصافه الجميلة نظامه فقبل الشريف هديته واستحسن المملوك فأدخله في الهدية وقصد أن يعوضه عن ذلك بأضعافه فلما شعر ابن منير بذلك التهبت أحشاؤه على مملوكه بل معشوقه تتر وكتب إلى الشريف على الفور قصيدة أولها
( عذبت قلبي يا تتر ... وأطرت نومي بالفكر )
ومنها
( بالمشعرين وبالصفا ... والبيت أقسم والحجر )
( وبمن سعى فيه وطاف ... به ولبي واعتمر )
( إن الشريف الموسوي ... بن الشريف أبي مضر )
( أبدى الجحود ولم يرد ... إلي مملوكي تتر )
( واليت آل أمية ... الطهر الميامين الغرر )
( وجحدت بيعة حيدر ... ورجعت عنه إلى عمر )
( وإذا جرى ذكر الصحابة ... بين جمع واشتهر )
( قلت المقدم شيخ ... تيم ثم صاحبه عمر )
( ما سل قط ظبا على ... آل النبي ولا شهر )
(1/324)
________________________________________
( كلا ولا صد البتول ... عن التراث ولا زجر )
( وأثابها الحسنى وما ... شق الكتاب ولا بقر )
( وبكيت عثمان الشهيد ... بكاء نسوان الحضر )
( وشرحت حسن صلاته ... جنح الظلام المعتكر )
( وقرأت من أوراق مصحفه ... براءة والزمر )
( ورثيت طلحة والزبير ... بكل شعر مبتكر )
( وأزور قبرهما وأزجر ... من لحاني أو زجر )
( وأقول أم المؤمنين ... عقوقها إحدى الكبر )
( ركبت على جمل لتصبح ... من بنيها في زمر )
( وأتت لتصلح بين جيش المسلمين على غرر )
( فأتى أبو حسن وسل ... حسامه وسطا وكر )
( وأذاق إخوته الردى ... وبعير أمهم عقر )
( ما ضره لو كان كف ... وعف عنهم إذ قدر )
( وأقول إن إمامكم ... ولى بصفين وفر )
( وأقول إن أخطا معاوية ... فما أخطا القدر )
( هذا ولم يغدر معاوية ... ولا عمرو مكر )
( بطل بسوأته يقاتل ... لا بصارمه الذكر )
( وجنيت من ثمر النواصب ... ما تتمر واختمر )
( وأقول ذنب الخارجين ... على علي يغتفر )
( لا ثائر لقتالهم ... في النهروان ولا أشر )
( والأشعري بما يؤول ... إليه أمرهما شعر )
( قال انصبوا لي منبرا ... فأنا البريء من الخطر )
(1/325)
________________________________________
( فعلا وقال خلعت صاحبكم ... وأوجز واختصر )
( وأقول إن يزيد ما ... شرب الخمور ولا فجر )
( ولجيشه بالكف عن ... أبناء فاطمة أمر )
( وحلقت في عشر المحرم ... ما استطال من الشعر )
( ونويت صوم نهاره ... وصيام أيام أخر )
( ولبست فيه أجل ثوب ... للملابس يدخر )
( وسهرت في طبخ الحبوب ... من العشاء إلى السحر )
( وغدوت مكتحلا أصافح ... من لقيت من البشر )
( ووقفت في وسط الطريق ... أقص شارب من عبر )
( وغسلت رجلي ضلة ... ومسحت خفي في السفر )
( وأمين أجهر في الصلاة ... كمن بها قبلي جهر )
( وأسن تسنيم القبور ... لكل قبر محتفر )
( وإذا جرى ذكر الغدير ... أقول ما صح الخبر )
( ولبست فيه من الملابس ... ما اضمحل وما دثر )
( وسكنت جلق واقتديت بهم ... وإن كانوا بقر )
( وأقول مثل مقالهم ... بالفاشر يا قد فشر )
( مصطيحتي مكسورة ... وفطيرتي فيها قصر )
( نفر يرى برئيسهم ... طيش الظليم إذا نفر )
( وخفيفهم مستثقل ... وصواب قولهم هدر )
( وطباعهم كجبالهم ... طبعت وقدت من حجر )
( ما يدرك التشبيب تغريد ... البلابل في السحر )
(1/326)
________________________________________
( وأقول في يوم تحار ... له البصيرة والبصر )
( والصحف ينشر طيها ... والنار ترمي بالشرر )
( هذا الشريف أصنلني ... بعد الهداية والنظر )
( فيقال خذ بيد الشريف ... فمستقر كما سقر )
( لواحة تصطو فما ... تبقي عليه ولا تذر )
( والله يغفر للمسيء ... إذا تنصل واعتذر )
( فاخش الإله بسوء فعلك ... واحتذر كل الحذر )
( وإليكها بدوية ... رقت لرقتها الحضر )
( شامية لو شامها ... قس الفصاحة لافتخر )
( ودرى وأيقن أنني ... بحر وألفاظي درر )
( وبديعتي كبديعة ... عذراء ترفل في الحبر )
( خبرتها فغدت كزهر ... الروض باكره المطر )
( وإلى الشريف بعثتها ... لما قراها فانبهر )
( رد الغلام وما استمر ... على الجحود ولا أصر )
( وأثابني وجزيته ... شكرا وقال لقد صبر )
أقول إنه يغتفر لي طول الشرح لغرابة أسلوب هذه القصيدة فإني لم أخرج بها عن القصد لأنها مبنية على القسم وجوابه من البراعة إلى الختام وأما هزلها الذي يراد به الجد فإنه غاية لا تدرك وطريق ما رأينا لغيره فيها مسلك وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع أعني القسم نسجه على المنوال الأول الذي هو مبني على المدح والفخر والتعاظم وعلو الهمة وهو قوله
( لا لقبتني المعالي بابن بجدتها ... يوم الفخار ولا بر التقى قسمي )
هذا البيت منسوج على المنوال المذكور لكن فيه نقص لأنه غير صالح للتجريد ولم يأت ناظمه بجواب القسم إلا في بيت الاستعارة الذي ترتب بعده وهو
( إن لم أحث مطايا العزم مثقلة ... من القوافي تؤم المجد عن أمم )
(1/327)
________________________________________
وأصحاب البديعيات شرطوا أن يكون كل بيت شاهدا على نوعه بمجرده وإذا كان البيت له تعلق بما بعده أو بما قبله لا يصلح أن يكون شاهدا على ذلك النوع
ولقد عجبت للشيخ صفي الدين كيف فتر عزمه وقصرت همته عن هذا القدر الذي يتطاول إلى إدراكه كل قاصر وأين هو من قول القائل في طريقته الغرامية التي حركت السواكن حيث قال
( حرمت الرضا إن كنت خنتك في الهوى ... وعوقبت بالهجران إن كنت كاذبا )
انظر ما أحلى ما أتى بالقسمين وجوابيهما في بيت واحد مع عدم التعسف والرقة التي كادت أن تسيل
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( برئت من سلفي والشم من هممي ... إن لم أدن بتقى مبرورة القسم )
بيت الشيخ عز الدين مبني على الفخر والتعاظم وعلو الهمم وهو صالح للتجريد بخلاف بيت الشيخ صفي الدين هذا مع التزام الشيخ عز الدين بتسمية النوع
وبيت بديعيتي
( برئت من أدبي والعز من شيمي ... إن لم أبر بنأي عنهم قسمي )
وهذا البيت مبني على الفخر والتعاظم وعلو الهمة
وفي قولي والعز من شيمي غاية الفخر ولكن اللطف الزائد قول الأديب في القسم برئت من أدبي مع التورية التي ترفل في حلل الحشمة وتسمية النوع والتقفية به لا تخفى على أهل الذوق من أهل الأدب والله أعلم
(1/328)
________________________________________
ذكر حسن التخلص
( ومن غدا قسمه التشبيب في غزل ... حسن التخلص بالمختار من قسمي )
حسن التخلص هو أن يستطرد الشاعر المتمكن من معنى إلى معنى آخر يتعلق بممدوحه بتخلص سهل يختلسه اختلاسا رشيقا دقيق المعنى بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع في الثاني لشدة الممازجة والالتئام والانسجام بينهما حتى كأنهما أفرغا في قالب واحد
ولا يشترط أن يتعين المتخلص منه بل يجري ذلك في أي معنى كان فإن الشاعر قد يتخلص من نسيب أو غزل أو فخر أو وصف روض أو وصف طلل بال أو ربع خال أو معنى من المعاني يؤدي إلى مدح أو هجو أو وصف في حرب أو غير ذلك ولكن الأحسن أن يتخلص الشاعر من الغزل إلى المدح
والفرق بين التخلص والاستطراد أن الاستطراد يشترط فيه الرجوع إلى الكلام الأول أو قطع الكلام فيكون المستطرد به آخر كلامه والأمران معدومان في التخلص فإنه لا يرجع إلى الأول ولا يقطع الكلام بل يستمر على ما يتخلص إليه
وهذا النوع أعني حسن التخلص اعتنى به المتأخرون دون العرب ومن جرى مجراهم من المخضرمين ولكنه لم يفتهم فإنهم أوردوا لزهير في هذا الباب قوله
( إن البخيل ملوم حيث كان ولكن ... الكريم على علاته هرم )
أنظر إلى هذا العربي القديم كيف أحسن التخلص من غير اعتناء في بيت
(1/329)
________________________________________
واحد وهذا هو الغاية القصوى عند المتأخرين الذين اعتنوا به
وعلى كل تقدير فمن كلام العرب استنبط كل فن فإنهم ولاة هذا الشأن لكنهم كانوا يؤثرون عدم التكلف ولا يرتكبون من فنون البديع إلا ما خلا من التعسف
فمن ذلك قول الفرزدق وأجاد إلى الغاية
( وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب )
( سروا يخبطون الليل وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار من كل جانب )
( إذا آنسوا نارا يقولون ليتها ... وقد حضرت أيديهم نار غالب )
ومثله قول أبي نواس
( تقول التي من بيتها خف محملي ... يعز علينا أن نراك تسير )
( أما دون مصر للغنى متطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير )
( فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى في إثرهن عبير )
( دعيني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير )
ومثله في الحسن قوله
( وإذا جلست إلى المدام وشربها ... فاجعل حديثك كله في الكاس )
( وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس )
( وإذا أردت مديح قوم لم تمن ... في مدحهم فامدح بني العباس )
أقول إن هذه الطريق التي مشى عليها أبو نواس ومن تقدمه من المتقدمين ممن أوردت نظمه في هذا الباب وهي حسن التخلص ببيت واحد باستطراد رشيق ينتقل الشاعر به من الشطر الأول إلى الشطر الثاني فاتت فحولا من الشعراء كالبحتري وأبي تمام في غالب القصائد على أنهما المقدمان في هذا الشأن
وقد تقرر أن حسن التخلص ما كان في بيت واحد يثب الشاعر من شطره الأول إلى الثاني وثبة تدل على رشاقته وقوته وتمكنه في هذا الفن
وإذا لم يكن التخلص
(1/330)
________________________________________
كذلك سمي اقتضابا وهو أن ينتقل الشاعر من معنى إلى معنى آخر من غير تعلق بينهما كأنه استهل كلاما آخر
وعلى هذه الطريقة مشى غالب العرب وغالب المخضرمين وكثير من شعراء المولدين فمن ذلك قول البحتري في قصيد وقد جرى في ميادين غزلها إلى أن قال من غير ارتباط
( وردنا إلى الفتح بن خاقان إنه ... أعم ندى فيكم وأيسر مطلبا )
وهذه النبذة التي أبرزتها هنا من نظم المتقدمين في حسن التخلص عزيزة الوجود فإنها ما تيسرت إلا بعد بذل الجهد في جمعها
وهذا النوع البديع ما اعتنى به غير حذاق المتأخرين وما نسجوه جميعه إلا على المنوال المذكور
ولعمري إنها طريقة بديعة ونوع من السحر يدل على رسوخ القدم في البلاغة وتمكن الذهن من البراعة وإن لم يكن كذلك لم يعد من أنواع البديع
والقرائح تختلف فيه وتتفاوت وقد عن لي أن أنبه على قبح المخالص التي لا تعد من أنواع البديع لينفتح ذهن المبتدئ في هذا الفن فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي وإن كانت له المخالص الفائقة
( غدا بك كل خلو مستهاما ... وأصبح كل مستور خليعا )
( أحبك أو يقولوا جر نمل ... ثبيرا وابن إبراهيم ريعا )
أنظر ما أبرد هذا المخلص وأشد تعسفه ومعناه أنه علق انقضاء حبها على غير ممكن وهو أن يجر النمل الجبل المسمى ثبيرا وأن يخاف ممدوحه فجعل خوف الممدوح نظير جر النمل لثبير ليقرر أن كلا منهما من المستحيلات ومن تخاليصه القبيحة أيضا قوله
( على الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلا )
وسبب قبح هذا المخلص كونه جعل ممدوحه ساعيا بينه وبين محبوبته في الوصال ولا خفاء في دنو هذه المرتبة وقد سبقه أبو نواس إلى ذلك ولكنه أقل شناعة مع أن الكل قبيح حيث قال
( سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا )
وقد سبقهما إلى ذلك قيس بن ذريح حين طلق لبنى وتزوجت غيره فندم على ذلك وشبب بها في كل معنى فرحمه ابن أبي عتيق فسعى في طلاقها من زوجها وأعادها إلى قيس فقال يمدحه
(1/331)
________________________________________
( جزى الرحمن أفضل ما يجازي ... على الإحسان خيرا من صديق )
( فقد جربت إخواني جميعا ... فما ألفيت كابن أبي عتيق )
( سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي حدت فيه عن الطريق )
( وأطفأ لوعة كانت بقلبي ... أغصتني حرارتها بريقي )
فلما سمعها ابن أبي عتيق قال لقيس يا حبيبي أمسك عن هذا المدح فما يسمعه أحد إلا ظنني قواد
ومن المخالص التي استحسنوها للبحتري قوله
( رباع تردت بالرياض مجودة ... بكل جديد الماء عذب الموارد )
( إذا راوحتها مزنة بكرت لها ... شآبيب مجتاز عليها وقاصد )
( كأن يد الفتح بن خاقان أقبلت ... عليها بتلك البارقات الرواعد )
ومن المخالص المستحسنة لأبي تمام قوله من قصيدة
( ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت ... نفسي على إلف سواك تحوم )
( لا والذي هو عالم أن النوى ... مر وأن أبا الحسين كريم )
هذا المخلص مقدم على مخالص البحتري من وجوه أحدها التخلص من النسيب إلى المدح والثاني حسن الانسجام والثالث وهو جل القصد الوثبة في بيت التخلص من الشطر الأول إلى الشطر الثاني بأسرع اختلاس
وهذا الذي عقد المتأخرون الخناصر عليه وصار لهم فيه اليد الطولى ومثله قوله من قصيدة
( فالأرض معروف السماء قرى لها ... وبنو الرجاء لهم بنو العباس )
ومن مخالص أبي الطيب الفائقة قوله من قصيدة يمدح بها أبا أيوب أحمد بن عمران بن ماهويه مطلعها
( سرب محاسنه حرمت ذواتها ... داني الصفات بعيد موصوفاتها )
معنى هذا المطلع في غاية الحسن والغرابة فإنه يقول هذا سرب حيل بيني وبين كل حسناء منه وهذه الحسناء صفاتها دانية عند ذكرها بالقول ولكن ذاتها الموصوفة بعيدة ولم يزل في غرابة هذا الأسلوب إلى أن قال متحمسا
(1/332)
________________________________________
( ومطالب فيها الهلاك أتيتها ... ثبت الجنان كأنني لم آتها )
( أقبلنها غرر الجياد كأنما ... أيدي بني عمران في جبهاتها )
أقول سبحان المانح هذا هو السحر الحلال والشرب الذي أمست المشارب لصافية عنده كالآل
ومثله في الغرابة التي هي من معجزات المتنبي قوله من قصيدة مدح بها علي بن عامر ويعرض بذكر أبيه عامر ومدحه بعد وفاته مطلعها
( أطاعن خيلا من فوارسها الدهر ... وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر )
وما أحلى ما قال بعده
( وأعجب من ذا كل يوم سلامتي ... وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر )
ولم يزل ينفث بصدق عزائمه في هذا السحر الذي سحر به العقول وخلب القلوب إلى أن قال
( ويوم وصلناه بليل كأنما ... على أفقه من برقه حلل حمر )
( وليل وصلناه بيوم كأنما ... على متنه من دجنة حلل خضر )
( وغيث ظننا تحته أن عامرا ... علا لم يمت أو في السحاب له قبر )
ومثله قوله من قصيدة دالية يمدح بها سيف الدولة بن حمدان مطلعها
( عواذل ذات الخال في حواسد ... وإن ضجيع الخود مني لماجد )
وما ألطف ما قال بعده
( يرد يدا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد )
ولما انتظم له هذا الدر في هذه الأسلاك البديعية قال
( خليلي إني لا أرى غير شاعر ... فكم منهم الدعوى ومني القصائد )
( فلا تعجبا أن السيوف كثيرة ... ولكن سيف الدولة اليوم واحد )
ومن مخالص أبي العلاء أحمد بن سليمان على طريق المديح فإنه لم يكن من طلاب الرفد قوله من قصيد
( ولو أن المطي لها عقول ... وحقك لم نشد لها عقالا )
(1/333)
________________________________________
( مواصلة بها رحلي كأني ... من الدنيا أريد بها انتقالا )
( سألن فقلن مقصدنا سعيد ... فكان اسم الأمير لهن فالا )
هذا المخلص أيضا من العجائب فإن الشيخ أبا العلاء سبكه في قالب التورية والاتفاق البديع وكان اسم الأمير في فالهم سعيدا والعرب ما برحوا يتفاءلون بالاسم الحسن ويتطيرون من ضده ومما استحسن لابن حجاج من المخالص قوله
( ألا يا ماء دجلة لست تدري ... بأني حاسد لك طول عمري )
( ولو أني استطعت سكرت سكرا ... عليك فلم تكن يا ماء تجري )
( فقال الماء قل لي كل هذا ... بم استوجبته يا ليت شعري )
( فقلت له لأنك كل يوم ... تمر على أبي الفضل بن بشر )
( تراه ولا أراه وذاك شيء ... يضيق عن احتمالك فيه صبري )
قال صاحب المثل السائر حين أورد هذه الأبيات ما علمت معنى في هذا المقصد أبدع ولا أعذب ولا أرق ولا أحلى من معنى هذا اللفظ ويكفي ابن حجاج من الفضيلة أن يكون له مثل هذه الأبيات
قلت ولعمري إن المخلص والأبيات بكمالها دون إطناب ابن الأثير في الوصف
ولكن قال زكي الدين بن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير لما انتهى إلى هذا النوع أعني حسن التخلص إذا وصلت إلى ابن حجاج في هذا الباب فإنك تصل إلى ما لا تدركه الألباب فمن ذلك قوله على طريقته المعهودة منه
وقد بادلتها فمبالها لي ... بمشورة استها ولها قذالي )
( كما لابن العميد جميع مدحي ... ودنيا ابن العميد جميعها لي )
ومن المخالص الفائقة قول الأستاذ أبي الحسن مهيار بن مرزويه الكاتب من قصيدة بائية يمدح بها الأمير سيف الدولة ابن مزيد مطلعها
( هب من زمانك بعض الجد للعب ... واهجر إلى راحة شيئا من التعب )
ولم يزل ماشيا على هذا السنن إلى أن قال
( تسعى السقاة علينا بين منتظر ... بلوغ كأس ووثاب بمستلب )
( كأنما قولنا للبابلي أدر ... سلافة قولنا للمزيدي هب )
(1/334)
________________________________________
ومثله قوله من قصيدة حائية يمدح بها الأستاذ أبا طالب بن أيوب
( يا من ثناياه التي ... غولطت عنها بالأقاحي )
( غلط المقايس بابن أيوب ... السحابة في السماح )
ويعجبني من مخالصة قوله من قصيدة رائية يمدح بها فخر الملك ولم يزل يرفل في حلل غزلها ونسيبها إلى أن قال
( أرى كبدي وقد بردت قليلا ... أمات الهم أم عاش السرور )
( أم الأيام خافتني لأني ... بفخر الملك منها أستجير )
ومما يعجبني أيضا إلى الغاية قوله من قصيدة عينية يمدح بها الوزير عميد الدولة مطلعها
( لو كان يرفق ظاعن بمشيع ... ردوا فؤادي يوم كاظمة معي )
ولم يزل يطلق العنان في هذه الحلبة إلى أن سبق إلى غاية قال فيها
( إن شاء بعدهم الحيا فلينسكب ... أو شاء ظل غمامه فليقلع )
( فمقيل جسمي في ذيول ربوعهم ... كاف وشربي من فواضل أدمعي )
( كرمت جفوني في الديار فأخصبت ... فغنيت أن أرد المياه وارتعي )
( فكأن دمعي مد من أيدي بني ... عبد الرحيم ومائها المستنبع )
وما أحلى ما قال بعده وهو مخلص آخر
( وكأن ليلي من تفاوت طوله ... أسيافهم موصولة بالأدرع )
ولم أكثر من محاسن مهيار هنا إلا لعلمي بغرابة شعره وعزة وجود ديوانه
ومن المخالص التي تصلح أن تكون واسطة في هذا العقد قول أفقه الشعراء وأشعر الفقهاء كما قال وهو القاضي أبو بكر أحمد الأرجاني من قصيدة يمدح بها ولي الدين الكاتب مطلعها
( وعدت باستراقة للقاء ... وبإهداء زورة في خفاء )
وما أحلى ما قال بعده
( ثم غارت من أن يماشيها الظل ... فسارت في ليلة ظلماء )
(1/335)
________________________________________
( ثم خافت لما رأت أنجم الليل ... شبيهات أعين الرقباء )
( فاستنابت طيفا يلم ومن يملك ... عينا تهم بالإغفاء )
( هكذا نيلها إذا نولتنا ... وعناء تسمح البخلاء )
( يهدم الانتهاء باليأس منها ... ما بناه الرجاء بالابتداء )
ولم يزل راتعا في هذه الحدائق الغضة إلى أن قال
( تركتني معنيا لمغان ... وأعادت أعاديا أصدقائي )
( رنقت مشربي وقد كان عين الشمس ... والماء دونه في الصفاء )
( بعد عهدي بعيشتي وهي خضرا ... تتثنى كالبانة الغناء )
( وأموري كأنها ألفات ... خطهن الولي في الاستواء )
ومن جواهر مخالصه المنتظمة في هذا السلك قوله من قصيدة رائية يمدح بها سديد الدولة محمد بن عبد الكريم الأنباري مترسل الخلافة وكاتب إنشائها مطلعها
( سلا رسوما أقامت بعدما ساروا ... أعندها من أهيل الحي أخبار )
( وروحا عاتقي من حملها مننا ... للسحب فيها وللأجفان أستار )
ولم يزل مبدرا في هذا الأفق النير إلى أن قال
( أقسمت ما كل هذا الضيم محتمل ... ولا فؤادي على ما شمت صبار )
( إلا لأنك منى اليوم نازلة ... في القلب حيث سديد الدولة الجار )
ومن مخالصه الصافية التي مازجها بسلاف التورية قوله من قصيدة بائية يمدح بها شهاب الدين أحمد بن أسعد الطغرائي مطلعها
( إذا لم يخن صب ففيم عتاب ... وإن لم يكن ذنب فمم متاب )
وما ألطف ما قال بعده
( أجل ما لنا إلا هواهم جناية ... فهل عندهم غير الصدود عقاب )
(1/336)
________________________________________
ولم يزل سائرا في سهولة هذه الجادة إلى أن قال
( فلا تكثرن شكوى الزمان فإنما ... لكل ملم جيئة وذهاب )
( وقد كان ليل الفضل في الدهر داجيا ... إلى أن بدا للناظرين شهاب )
والأرجاني أيضا نظمه غريب في هذه البلاد فلذلك أوردت منه هنا هذه النبذة اللطيفة والله أعلم
وقد آن لي أن أقدم مقدمات النتائج من أشعار المتأخرين في هذا النوع فإنهم رياحين حدائقة وأقمار مشارقه فالمقدم هنا قاضيهم الفاضل الذي ارتفع الخلاف بقضائه ونفذ حكمه بالموجب على ملوك هذه الصناعة وتقدم باستيفاء شرائط التقديم فصلى خلف إمامته الجماعة
فمن مخالصه الفاضلية قوله من قصيدة يمدح بها خليفة الفاطميين في ذلك العصر مطلعها
( ترى لحنيني أو حنين الحمائم ... جرت فحكت دمعي دموع الغمائم )
وما أحلى ما قال بعده
( وهل من ضلوع أو ربوع ترحلوا ... فكل أراها دارسات المعالم )
( دعوا نفس المقروح تحمله الصبا ... وإن كان يهفو بالغصون النواعم )
تأخرت في حمل السلام عليكم ... لديها لما قد حملت من سمائم )
( فلا تسمعوا إلا حديثا لناظري ... يعاد بألفاظ الدموع السواجم )
( فإن فؤادي بعدكم قد فطمته ... عن الشعر إلا مدحة لابن فاطم )
ومثله قول العلامة الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة من قصيدة دالية يمدح بها النبي مطلعها
( ويلاه من نومي المشرد ... وآه من شملي المبدد )
ولم يزل يدير على خصور هذه الألفاظ الرقيقة وشاحات معانيه البديعية إلى أن قال
( أكسبني نشوة بطرف ... سكرت من خمره فعربد )
(1/337)
________________________________________
( غصن نقا حل عقد صبري ... بلين خصر يكاد يعقد )
( فمن رأى ذلك الوشاح الصائم ... ثم صلى على محمد )
ومثله قوله من قصيدة يمدح بها الملك الناصر صلاح الدين يوسف مطلعها
( لنا من ربة الخالين جاره ... تواصل تارة وتصد تاره )
( تعاملني بما يحلى سلوى ... ولكن ليس في جوفي مراره )
ولم تزل أعين هذا الغزل الرقيق تغازله إلى أن قال
( وقالوا قد خسرت الروح فيها ... فقلت الربح في تلك الخسارة )
( بأيسر نظرة أسرت فؤادي ... كما نشأ اللهيب من الشراره )
( ويفتك طرفها فيقول قلبي ... أشن ترى صلاح الدين غاره )
ومثله قوله من قصيدة يمدح بها الملك الأمجد
( ظبية حكم ظبا مقلتها ... عزة الظبي وذل الأسد )
( كنت في ترك الهوى مجتهدا ... وهي كانت زلة المجتهد )
( كملت حسنا فلولا بخلها ... خلتها بعض خلال الأمجد )
ومن المخالص التي نقلتها من ناصح بن قلاقس قوله من قصيدة يمدح بها أبا المنصور نور الدين محمودا عين الأمراء بالديار المصرية
( ماذا على العيس لو عادت بربتها ... بقدر ما نتقاضاها المواعيدا )
( رد الركاب لأمر عن في خلدي ... وسمه في بديع الحب ترديدا )
( وقف أبثك ما لان الحديد له ... فإن صدقت فقل هل أبت داوودا )
( حلت عرا النوم عن أجفان ساهرة ... رد الهوى هدبها بالنجم معقودا )
( تفجرت وعصا الجوزاء تضربها ... فاذكرتني موسى والجلاميدا )
وما أحلى ما قال بعده كناية عن طول الليل
( يا ثعلب الصبح يا سرحان أوله ... كل الثريا فقد صادفت عنقودا )
(1/338)
________________________________________
ولم يزل ينثر هذه العقود الثمينة مع تفخيم هذا النظم إلى أن قال
( ما لي وما للقوافي لا أسيرها ... إلا واقعد محروما ومحسودا )
( أسكرتهم بكؤوس الراح مترعة ... ولم أنل منهم إلا العرابيدا )
( سمعت بالجود مفقودا فهل أحد ... يقول إني وجدت الجود موجودا )
( الحمد لله لا والله ما نظرت ... عيناي بعد أبي المنصور محمودا )
هذا المخلص حلاه نصر الله بن قلاقس مع زيادة حسنة بشعار التورية
ومثله قوله من قصيدة يمدح بها الشيخ سديد الدين المعروف بالحصري مطلعها
( أروه الجلنار من الخدود ... وأخفوا عنه رمان النهود )
وقال بعده
( وحلوا مقلتيه بدر دمع ... تبسم في المخانق والبرود )
( وما غرسوا نخيل العيس إلا ... وهم فيها من الطلع النضيد )
( سقى مصرا وساكنها ملث ... طليل البرق صخاب الرعود )
( موارد بي لها ظمأ شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود )
( هل الرأي السديد البعد عنها ... نعم إن كان للشيخ السديد )
ويعجبني من مخالص القاضي السعيد هبة الله بن سنا الملك قوله من قصيدة يمدح بها القاضي الفاضل أتى فيها بحسن التخلص ولم يخلص من إشراك عيون الغزل لغرابة أسلوبها
( ضنت بطرف ظل بعدي سقمه ... أرأيتم من ضن حتى بالضنى )
( يا عاذلين جهلتم فضل الهوى ... وعذلتم فيه ولكني أنا )
( إني رأيت الشمس ثم رأيتها ... ماذا علي إذا هويت الأحسنا )
( وسألت من أي المعادن ثغرها ... فوجدت من عبد الرحيم المعدنا )
وما أحلى ما قال بعد المخلص
( أبصرت جوهر ثغرها وكلامه ... فعلمت حقا أن هذا من هنا )
(1/339)
________________________________________
ومثله قوله من قصيدة يمدح بها الملك المعظم مطلعها
( تقنعت لكن بالحبيب المعمم ... وفارقت لكن كل عيش مذمم )
وما أحلى ما قال بعده
( وباتت يدي في طاعة الحب والهوى ... وشاحا لخصر أو وسادا لمعصم )
وما أبدع ما قال منها
( سعدت ببدر خده برج عقرب ... فكذب عندي قول كل منجم )
( وأقسم ما وجه الصباح إذا بدا ... بأوضح مني حجة عند لومي )
( ولا سيما لما مررت بمنزل ... كفضلة صبر في فؤاد متيم )
( وما بان لي إلا بعود أراكة ... تعلق في أطرافه ضوء مبسم )
سبحان المانح والله لقد أحرز القاضي السعيد قصبات السبق برقة هذه الألفاظ وغرابة هذه المعاني ولقد خلب القلوب وجلا ظلمة الأفهام بقوله
( وما بان لي إلا بعود أراكة ... تعلق في أطرافه ضوء مبسم )
وأظنه من المخترعات والله أعلم وما أحلى ما قال بعده
( وقفت به أعتاض عن لثم مبسم ... شهي لقلبي لثم آثار منسم )
( ولم ير طرفي قط شملا مبددا ... يقابله إلا بدمع منظم )
( ولم يسل قلبي أو فمي عن غزالة ... وعن غزل إلا بمدح المعظم )
ومن المخالص البديعة قول الصاحب بهاء الدين زهير من قصيدة يمدح بها الأمير نصير الدين اللمطي مطلعها
( لها خفر يوم اللقاء خفيرها ... فما بالها ضنت بما لا يضيرها )
وما ألطف ما قال بعده
( أعدتها أن لا يعاد مريضها ... وسيرتها أن لا يفك أسيرها )
(1/340)
________________________________________
ولم يزل هائما في طريقه الغرامية إلى أن قال
( وها أنا ذا كالطيف فيها صبابة ... لعلي إذا نامت بليل أزورها )
هذا المعنى قلبه الصاحب بهاء الدين زهير على من تقدمه فيه وسبكه في أغرب القوالب البديعية وأظنه من مخترعاته
ثم قال بعده
( من الغيد لم توقد مع الليل نارها ... ولكنها بين الضلوع تثيرها )
( تقاضي غريم الشوق مني حشاشة ... مروعة لم يبق إلا يسيرها )
( وإن الذي أبقته منها يد الهوى ... فداء يشير يوم وافى نصيرها )
هذا المخلص استعبد الصاحب بهاء الدين زهيرا رقيق ألفاظه بحشمة توريته
ومثله في الحسن قوله من قصيدة يمدح بها الملك الناصر صلاح الدين بن العزيز مطلعها
( عرف الحبيب مكانه فتدللا ... وقنعت منه بموعد فتعللا )
وما أظرف ما قال بعده
( وأرى الرسول ولم أجد في وجهه ... بشرا كما قد كنت أعهد أولا )
ولم يزل يدير كاسات صباباته الغرامية إلى أن قال
( آها لقلب ما خلا من لوعة ... أبدا يحن إلى زمان قد خلا )
( ورسوم جسم كاد يحرقه الهوى ... لو لم تبادره الدموع لأشعلا )
( ولقد كتمت حديثه وحفظته ... فوجدت دمعي قد رواه مسلسلا )
( أهوى التذلل في الغرام وإنما ... يأبى صلاح الدين أن أتذللا )
وما أحلى ما قال بعد المخلص
( مهدت بالغزل الرقيق لمدحه ... وأردت قبل الفرض أن أتنفلا )
ويعجبني أيضا من مخالص القاضي كمال الدين بن نبيه قوله من قصيدة يمدح بها الخليفة الناصر لدين الله مطلعها
( باكر صبوحك أهنى العيش باكره ... فقد ترنم فوق الأيك طائره )
(1/341)
________________________________________
ثم قال بعده
( والليل تجري الدراري في مجرته ... كالروض تطفو على نهر أزاهره )
( وكوكب الصبح نجاب على يده ... مخلق تملأ الدنيا بشائره )
ولم يزل يتلاعب بهذه المعاني المخترعة إلى أن قال
( خذ من زمانك ما أعطاك مغتنما ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره )
( فالعمر كالكأس تستحلى أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره )
( واجسر على فرص اللذات محتقرا ... عظيم ذنبك إن الله غافره )
( فليس يخذل في يوم الحساب فتى ... والناصر ابن رسول الله ناصره )
ويعجبني من مخالصه الموسويات قوله من قصيدة مطلعها
( يا نار أشواقي لا تخمدي ... لعل ضيف الطيف أن يهتدي )
ولم يزل راتعا في رياض غزلها إلى أن قال
( غازلنا من نرجس ذابل ... وافتر عن نور أقاح ندى )
( وقام يلوي صدغه قائلا ... لا تغترر بي فكذا موعدي )
( فقلت يالله مات الوفا ... فقال موسى لم يمت خذ يدي )
وقوله من المخالص الأشرفيات الموسويات في بيت المخلص الذي يستغني بتمكنه وقوته عن ذكر ما قبله
( يا طالب الرزق إن سدت مذاهبه ... قل يا أبا الفتح يا موسى وقد فتحت )
ومن مخالصه الأشرفيات أيضا قوله من قصيدة
( بتنا وقد لف العناق جسومنا ... في بردتين تكرم وتعفف )
( حتى بدا فلق الصباح كجحفل ... راياته رنك المليك الأشرف )
(1/342)
________________________________________
ويعجبني من مخالصه الأشرفيات أيضا قوله من قصيدة
( يذود شبا القنا عن وجنتيها ... كمنع الشوك للورد الجني )
( إذا ما رمت أقطفه بعيني ... يقول حذار من مرعى وبي )
( لسان السيف من أدنى وشاتي ... ومن رقباي طرف السمهري )
( كأن لجفنها في كل قلب ... فعال المشرفي الأشرفي )
ويعجبني من مخالص الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف قوله من قصيدة يمدح بها القاضي فتح الدين بن عبد الله الظاهر تحمس في غزلها وتغزل في تحمسها إلى المخلص مطلعها
( أرح يمينك مما أنت معتقل ... أمضى الأسنة ما فولاذه الكحل )
وما أحلى ما قال بعده
( يا من يريني المنايا واسمها نظر ... من السيوف المواضي واسمها مقل )
( ما بال ألحاظك المرضى تحاربني ... كأنما كل لحظ فارس بطل )
( من دونها كثب من دونها حرس ... من دونها قضب من دونها أسل )
( ومعشر لم تزل في الحرب تبصرهم ... حمر الخدود وما من شأنها الخجل )
( يثني حديث الوغى أعطافهم طربا ... كأن ذكر المنايا بينهم غزل )
( من كل ذي طرة سوداء يلبسها ... وشيبها من غبار النقع منتصل )
( ضاءت بحسنهم تلك الخيام كما ... ضاءت بوجه ابن عبد الظاهر الدول )
وطالعت تقطيف الجزار فأعجبني منه مخلص قصيدة يمدح بها الأمير جمال الدين موسى بن يغمور مطلعها
( نقلت لقلبي ما بجفنيك من كسر ... وعلمت جسمي بالضنى رقة الخصر )
(1/343)
________________________________________
ولم يزل الجزار يتقطف ما تشتهيه النفس من هذا النوع إلى أن قال
( وهيفاء تحكي الظبي جيدا ومقلة ... رنت وانثنت فارتعت بالبيض والسمر )
( جسرت على لثم الشقيق بخدها ... ورشف رضاب لم أزل منه في سكر )
( ولست أخاف السحر من لحظاتها ... لأني بموسى قد أمنت من السحر )
وما أحل ما قال بعد تخلصه بموسى
( فتى إن سطا فرعون فقر وجدته ... يغرقه من جود كفيه في بحر )
( له باليد البيضاء أعظم آية ... إذا اسودت الأيام من نوب الدهر )
ومن مخالص الشيخ جمال الدين بن نباتة التي هي أوقع في القلوب من خالص الوداد وتوريتها أنفس من خلاصة العقود في الأجياد قوله من قصيدة يمدح بها قاضي القضاة تاج الدين السبكي مطلعها
( واحيرتي بظلام الطرة الداجي ... وشقوتي بنعيم الملمس العاجي )
ولم يزل يكرر حلاوة هذا النبات إلى أن قال
( قد أسرج الحسن خديه فدونك ذا ... سراج خد على الأكباد وهاج )
( وألجم العزل فاركض في محبته ... طرف الهوى بعد إلجام وإسراج )
( وقسم الشعر فاجعل في محاسنه ... شذر القلائد واهد الدر للتاج )
ومثله قوله من قصيدة يمدح بها القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود مطلعها
( بأبي نافر كثير الدلال ... إن هذا النفار شأن الغزال )
ثم قال بعده
( حبذا منه مقلة لست أدري ... أبهدب تصول أم بنبال )
( صنفت شجونا بغزال جفن ... فقرأنا مصنف الغزالي )
(1/344)
________________________________________
( وهوينا حلو القوام فنادت ... لا عجيب حلاوة العسال )
( من معيني على هوى زاد حتى ... أهملته نصائح العذال )
( لو رأى عاذلي حقيقة أمري ... لرثاني ولا أقول رثى لي )
( في جمال الحبيب مت شجونا ... وبروحي أفدي تراب الجمال )
ومثله قول الشيخ برهان الدين القيراطي من قصيدة يمدح بها الأمير سيف الدين الكريمي مطلعها
( غرامي فيك يا قمري غريمي ... وذكرك في دجى ليلي نديمي )
وقال بعده
( وملني الحميم وصدعني ... ومالي غير دمعي من حميم )
( وكم سأل العواذل عن حديثي ... فقلت لهم على العهد القديم )
( وعم تسألون ولي دموع ... تخبرهم عن النبأ العظيم )
ولم يزل القيراطي يحرر إبريز هذه المعاني إلى أن قال
( فموعده وناظره وجسمي ... سقيم من سقيم في سقيم )
( كريم مال بخلا عن ودادي ... فملت لنحو مخدوم كريم )
المخالص بالتورية على هذا النمط طريقها مخوف وباب مسلكها مقفل لا سيما على من كفه من هذا الفن صفر ورجله حافية وليس له محمل
ومن مخالصي التي ما برحت التورية في أبواب بيوتها خادمه وكم سلكت هذا الطريق المخوف وعادت إلى بيوتها سالمه قولي من قصيدة امتدح بها شرف الدين صدقة ابن الشماع الشهير في دمشق بابن مسعود وكان من أعز الأصحاب وممن رشف معنا في ذلك العصر سلافة الآداب مطلعها
( سهام جفنيك في الحشا رشقة ... رفقا فما مهجة الشيحي درقه )
(1/345)
________________________________________
وبكر هذه القافية أنا أبو عذرتها وأول من حصل له الفتح في تحريك نكتتها وقلت بعد المطلع منها
( أنفقت عمري وصحتي شغفا ... عليك والصبر آخر النفقه )
( غصن خلاف يميس من خفر ... قلوبنا في هواه متفقه )
( قوامه في اعتداله إلف ... سبحان من مده ومن مشقه )
( عيناي بالثغر مع ذوائبه ... في أول الاصطباح مغتبقه )
( أمير حسن بقرطه ظهرت ... له جنود لكن من الحلقه )
( عامر بيت الوصال خربه ... وقال ما أنت هذه الطبقه )
( بدر منير قسا برؤيته ... لكن نرى عند خده شفقه )
( قالوا لبدر التمام منه ضيا ... قلت وعيش الهوى لقد محقه )
( وحمل الصبح من محاسنه ... أثقال نور لكنه فلقه )
( وماس في الروض كل غصن نقا ... غدا إلى الله رافعا ورقه )
( وانظر إلى الظبي كيف يرمقه ... ويأخذ الغنج منه بالسرقه )
( فقيل والظبي ما يقابله ... فقلت والله ما له حدقه )
( قلت له إن جفن مقلته ... يشبه سهما بعجبه رشقه )
( خفت من القتل رحت أملقه ... سابقني مدمعي جرى ملقه )
ولم أزل ناشرا علم التورية إلى أن وصلت إلى المخلص بها فقلت
( طرقت باب الحبيب والرقبا ... علي من خيفة اللقا حنقه )
( قالوا فما تبتغي فقلت لهم ... حتى تخلصت أبتغي صدقه )
قولي حتى تخلصت لا يخفى ما فيه من زيادة الحسن على أهل النظر من أهل الأدب ومثله قولي من قصيدة مصغرة مدحت بها قاضي القضاة شمس الدين النويري مطلعها
(1/346)
________________________________________
( طريفي من لييلات الهجير ... مقيريح الجفين من السهير )
وقلت بعد المطلع
( بعيد غزيلي وجوير قلبي ... دميعي في وجيناتي جويري )
( يديوي تريكي المحيا ... غويب عن عويشقه الحضير )
( عبيسي اللحيظ له وجيه ... ضوي نويره لبني بديري )
( حياء مقيلتيه سبا عقيلي ... ولكن الحديد غدا جميري )
( رويض وجينتيه له عنيدي ... نسيب في النظيم إلى زهير )
( مسيبل الشعير على كفيل ... يذكرنا مويجات البحير )
( بدير في الظهير له نوير ... مثيل شكيله ما في العصير )
( حويجبه القويس له سهيم ... مويض في القليب بلا وتير )
( شفيفته قفيل من عقيق ... مقيفيل على در الثغير )
( عذيره النويزل دار حتى ... تشوق للنزيل وللدوير )
( لثمت خديده فجرى دميعي ... فما أحلى الزهير على النهير )
( دنينير الوجيه له بقلبي ... نقيد ليس يصرف عن صديري )
( أتاه سويئلا يوما دميعي ... فقال أنا جعيدي الشعير )
( شهير وصيله عندي يويم ... ويوم هجيره مثل الشهير )
( تبسم لي سحيرا عن رويض ... فقلت ولي دميع كالمطير )
( نثرت دميعتي بنظيم ثغر ... فما أحلى النظيم مع النثير )
( لفيظك والمقيلة مع نظيمي ... سحير في سحير في سحير )
( شعيرك مذ أضل عويشقيه ... هدينا في الظليمة بالنوير )
ولم أستطرد إلى غالب أبيات هذه القصيدة إلا لغرابة أسلوبها فإنني لم أزل أجذب القلوب إلى تحبيب تصغيرها ومغازلة عيون أغزالها إلى أن أبدر بدر مخلصها في أفق توريته
ومثله قولي من قصيدة كتبت بها من حماة المحروسة إلى المقر المرحومي الأميني صاحب ديوان الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة
( يا نزلا لا حمى الفراديس بالشام ... وأعلاهم على قاسيونا )
(1/347)
________________________________________
( بالنسيم العليل منكم إذا ... هب على الغور والربا عللونا )
( وارحموا سائل الدموع وبالله ... عليكم لا تنهروا السائلينا )
( وإذا ما نهرتم الدمع نهرا ... لا تخوضوع فيه مع الخائضينا )
( حبكم فرضنا وسيف جفاكم ... قد غدا في بعادنا مسنونا )
( والحشا لم تخن عهود وفاكم ... وسلوا من غدا عليها أمينا )
ومثله قولي من قصيدة كتبت بها من طرابلس المحروسة إلى سيدنا قاضي القضاة تقي الدين ابن الخيثمي الحنفي بحماة المحروسة نور الله ضريحه وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه
( فيا ساكني مغنى حماة نعمتم ... صباحا ولو ألغيتم في الورى ذكري )
( فودي ودي مثل ما تعهدونه ... ولكن صبري عنكم عاد كالصبر )
( وقد كنت أخشى هجركم قبل بعدكم ... فلما بعدتم قلت آها على الهجر )
( وإن جلت في ميدان نظمي تشوقا ... تسابقني حمر المدامع بالنثر )
( وشيعي همي كلما رام بعدكم ... يحاربني ناديت يا لأبي بكر )
قد تقدم وتقرر أن مخالص التورية صعب مسلكها على كثير من الناس ولم أبرز بدورها هنا كاملة إلا ليزول عن الطالب ظلمة الالتباس
وأنشدني من لفظه لنفسه الكريمة أحد أعيان العصر المقر المجدي فضل الله بن مكانس فسح الله في أجله مخلصا من غزل إلى مديح نبوي وهو
( كم حمد السامعون وصفي ... لغادة قينة وأغيد )
( فعدت عنه تقى وعودي ... لمدح خير الأنام أحمد )
هذا المخلص حلاه المقر المجدي بشعار التورية وخفر المديح النبوي ومخلص الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( من كل معربة الألفاظ معجمة ... يزينها مدح خير العرب والعجم )
الشيخ صفي الدين تخلص في بيت واحد ووثب من شطره الأول إلى شطره الثاني على الشرط المعروف وهذا المنوال قد تقرر أنه عليه عقدت خناصر المتأخرين ولكن الشيخ صفي الدين وثب وثبة ضعيفة دلت على ضعف تخلصه فإن بيته بمفرده غير صالح للتجريد
وقد تقدم القول على بيت القسم من قصيدة أنه غير صالح للتجريد أيضا فإنه لم يأت بجواب قسمه إلا في بيت الاستعارة وعلى كل تقدير إن لم يؤت ببيت القسم
(1/348)
________________________________________
وبيت الاستعارة قبل بيت التخلص لم يحصل به فائدة ولا يصير على مخلصه طلاوة الأدب ويصير بينه وبين الأذواق السليمة مباينة وقد تعين أن أورد بيت القسم وبيت الاستعارة هنا ليصيراه لمخلصه الضعيف تكأتين وهما
( لا لقبتني المعالي بابن بجدتها ... يوم الفخار ولا بر التقى قسمي )
( إن لم أحث مطايا العزم مثقلة ... من القوافي تؤم المجد عن أمم )
( من كل معربة الألفاظ معجمة ... يزينها مدح خير العرب والعجم )
وأين الشيخ صفي الدين الحلي من قول كمال الدين بن نبيه وقد تقدم
( يا طالب الرزق إن سدت مذاهبه ... قل يا أبا الفتح يا موسى وقد فتحت )
هذا المخلص لحسن تجريده يستغنى به عن قصيدة
وقد تقرر أن نظام البديعيات التزموا أن يكون كل بيت منها شاهدا على نوعه بمجرده ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده
ومخلص العميان مثل مخلص الشيخ صفي الدين الحلي أيضا فإنه غير صالح للتجريد وما تتم به الفائدة إن لم يأت ناظمه بما قبله وعلى مذهب أصحاب البديعيات ما يصلح أن يكون شاهدا وهو
( يمم بنا البحر إن الركب في ظمإ ... فقلت سيروا فهذا البحر عن أمم )
وقد تقدم قولي إن العميان أتوا في براعة الاستهلال بصريح المدح وهو قولهم فيها
( بطيبة انزل ويمم سيد الأمم ... وانشر له المدح وانثر طيب الكلم )
فإذا حصل التصريح بالمدح في المطلع الذي هو براعة الاستهلال لم يبق لحسن التخلص موقع فإن حسن التخلص من شرطه أن يخلص الشاعر من الغزل إلى المديح لا من المديح إلى المديح وأيضا فإن النبي لم يكن له في المخلص ذكر ولكنه استغنى بذكر البحر فإنه جعله كناية عن كرم النبي
ومخلص الشيخ عز الدين في بديعيته
( حسن التخلص من ذنبي العظيم غدا ... بمدح أكرم خلق الله كلهم )
(1/349)
________________________________________
الشيخ عز الدين صرح بذكر حسن التخلص في أول البيت هنا وجل القصد أن يكون التصريح به في الشطر الثاني مع أنه لم يأت بحسن التخلص على الشروط المقررة فإنه انتقل من معنى إلى معنى آخر من غير تعلق بينهما كأنه استبدأ كلاما آخر
وقد تقدم القول في أول الباب إن هذا النوع إذا نسج على هذا المنوال سمي اقتضابا ولم يكن له حظ في حسن التخلص فإن الشيخ عز الدين قال قبل مخلصه
( وارع النظير من القوم الأولى سلفوا ... من الشباب ومن طفل ومن هرم )
ثم قال بعده
( حسن التخلص من ذنبي العظيم غدا ... بمدح أكرم خلق الله كلهم )
الشيخ عز الدين استبدأ هنا كلاما آخر وليس بين بيت التخلص وبين ما قبله علاقة ولا أدنى مناسبة
وبيت بديعيتي
( ومن غدا قسمه التشبيب في غزل ... حسن التخلص بالمختار من قسمي )
هذا البيت ما يشك متأدب أنه أعمر بيوت البديعيات وهو في غنية عن الإطناب في وصفه
(1/350)
________________________________________
ذكر الاطراد
( محمد بن الذبيحين الأمين أبو البتول ... خير نبي في اطرادهم )
الاطراد في اللغة مصدر اطرد الماء وغيره إذا جرى من غير توقف وفي الاصطلاح أن يذكر الشاعر اسم الممدوح واسم من أمكنه من آبائه في بيت واحد على الترتيب ولا يخرج عن طرق السهولة ومتى تكلف أو تعسف في بناء بيته لم يعد اطرادا فإن المقصود من هذا النوع أن يكون كلام الناظم في سهولة جريانه واطراده كجريان الماء في اطراده فمتى جاء كذلك دل على قوة الشاعر وتمكنه وحسن تصرفه
وقد تقدم القول إن الشيخ صفي الدين ما نظم بديعيته حتى جمع عنده سبعين كتابا في هذا الفن يجتني من أوراقها كل ثمرة شهية ورأيته في شرح بديعيته قد أورد لهذا المعنى حدا فيه زيادة على الجماعة فإنهم لم يزيدوا على اسم الممدوح واسم من أمكن من آبائه شيئا والشيخ صفي الدين نقل في شرح بديعيته أن الاطراد عبارة عن اسم الممدوح ولقبه وكنيته وصفته اللائقة به واسم من أمكن من أبيه وجده وقبيلته ليزداد الممدوح تعريفا وشرط أن يكون ذلك في بيت واحد من غير تعسف ولا تكلف ولا انقطاع بألفاظ أجنبية وأورد على ذلك قول بعضهم
( مؤيد الدين أبو جعفر ... محمد بن العلقمي الوزير )
هذا البيت جمع ناظمه فيه بين اللقب والكنية واسم الممدوح واسم أبيه والصفة اللائقة به وهو القدر الذي قرره الشيخ صفي الدين في الحد الذي أورده في شرحه
وعلى هذا المنوال نسجت بيت بديعيتي لأجل المعارضة
ومثله قول بعض المتأخرين في زكي الدين بن أبي الأصبع
( عبد العظيم الذكي ابن أبي ... الأصبع رب القريض والخطب )
(1/351)
________________________________________
هذا البيت اشتمل أيضا على اسم الممدوح واسم أبيه والصفة اللائقة به وهو صالح لمجرد المدح ولكن عقبه الناظم بأبيات مشتملة على صريح الهجو كان الأوجب عدم إيرادها هنا حفظا لمقام الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع ولكن جراءة ظرفها ركبت صهوة القلم وأطلقت عنانه فإنه قال بعده
( يزعم أني بالهجو أذكره ... تعصبا منه ساعة الغضب )
( لكنني والطلاق يلزمني ... ما ملت فيه يوما إلى الكذب )
( نكت ابنه وأخته وخالته ... ونكت قدما أخاه وهو صبي )
( ولست فيما أتيت مبتدعا ... قد كان هذا في سالف الحقب )
( ناك أبي أمه وجدته ... وعمتيه لله در أبي )
( ونحن في بيته على دعة ... النيك ما بيننا إلى الركب )
وأما شواهد هذا النوع المشتمل على اسم الممدوح واسم أبيه وجده من غير كنية ولقب وصفة فمنها قول الشاعر
( من يكن رام حاجة بعدت عنه ... وأعيت عليه كل العياء )
( فلها أحمد المرجى بن يحيى بن ... معاذ بن مسلم بن رجاء )
قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع لقد أربى هذا الشاعر في هذا النوع على من تقدمه ولو سلم بيته من الفصل بلفظة المرجى لكان غاية لا تدرك وعقيلة لا تملك
انتهى كلام الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( محمد المصطفى الهادي النبي أجل ... المرسلين ابن عبد الله ذي الكرم )
الشيخ صفي الدين أتى في هذا البيت باسم الممدوح والصفات اللائقة به واسم أبيه
وبيت العميان في بديعيتهم
( قد أورث الجد عبد الله شيبة عن ... عمرو بن عبد مناف عن قصيهم )
الذي أقوله إن بيت العميان في غاية التكلف والتعسف ولعمري إن ناظمه خالف أمر مشايخ البديع في المشي على طريق السهولة والانسجام وأيضا فإن النبي هو
(1/352)
________________________________________
الممدوح في هذه القصيدة بكمالها وليس له ذكر في هذا البيت فعلى هذا التقدير هو غير صالح للتجريد مع ما فيه من العقادة
وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته
( محمد بن عبد الله شيبة جده ... ابن عمرو كرام في اطرادهم )
أقول إن بيت العميان في غاية السهولة عند هذا البيت وهذا القدر أليق من إطلاق لسان القلم في الكلام عليه
وبيت بديعيتي
( محمد بن الذبيحين الأمين أبو البتول ... خير نبي في اطرادهم )
هذا البيت أيضا فيه اسم الممدوح وذكر أبيه وهو أحد الذبيحين لأن أباه عبد المطلب كان قد نذر ذبح أحد أولاده إذا صاروا عشرة فلما كملت له العشرة أقرع بينهم فوقعت على عبد الله فوداه بمائة من الإبل وهو أول من ودي بذلك وكانت الدية قبل ذلك عشرا وفي البيت إشارة إلى جده إسماعيل عليه السلام وتفسير هذا الاسم مطيع الله الذبيح وقال أنا ابن الذبيحين وفيه الصفة المعدودة من أسمائه الشريف والصفة اللائقة بمقامه العالي واسم النوع البديعي في القافية مورى به من جنس المديح
والذي يظهر لي أنه أرق من بيت العميان وبيت الشيخ عز الدين وأكثر معاني من بيت الشيخ صفي الدين والله أعلم
(1/353)
________________________________________
ذكر العكس
( عين الكمال كمال العين رؤيته ... يا عكس طرف من الكفار عنه عمي )
العكس في اللغة رد آخر الشيء على أوله ويقال له التبديل
وفي الاصطلاح تقديم لفظ من الكلام ثم تأخيره ويقع على وجوه كثيرة ولكن المراد هنا ما استعمل منها وكثر استعماله فالمقدم في هذا الباب قوله تعالى ( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ) العكس هنا مميز بعلو طباقه وبشرف القدرة الإلهية التي لا تصدر إلا عن عظمة الخالق جلت قدرته وبلاغة القرآن وإيجازه وفصاحته
وعلى كل تقدير فالعكس نوع رخيص بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع الغالية وإن لم يصوب البليغ عكسه بنكتة بديعية تنظمه في سلك أنواع البديع فهو مستمر على عكسه كقول القائل
( زعموا أني خؤون في الهوى ... في الهوى أني خؤون زعموا )
هذا البيت ليس فيه نكتة تزيل عنه العكس وتحليه بشعار البديع ولو أراد الشاعر أن يرتجل مثله ما شاء في مجلس واحد لكان ذلك قدرا يسيرا وأين هذا الناظم من أبي تمام وقد قال له بعض حساده لم لا تقول ما يفهم فقال له على الفور لم لا تفهم ما يقال وأين هو من قول الحكيم الذي قيل له لم تمنع من يسألك فقال لئلا أسأل من يمنعني وأين هو من كلام الحكيم الذي قال إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون
وقيل إنه ورد في الحديث جار الدار أحق بدار الجار
وما أبلغ قول الحسن بن سهل هنا
(1/354)
________________________________________
وقد قيل له لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير
ويروى لأمير المؤمنين هارون الرشيد من النظم في هذا الباب
( لساني كتوم لأسرارهم ... ودمعي بسري نموم مذيع )
( فلولا دموعي كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم يكن لي دموع )
وبديع هنا قول الصاحب ابن عباد وقد بالغ في وصف الزجاج والشراب وهو
( رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر )
( فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر )
ومثله
( ألست ترى أطباق ورد وحولها ... من النرجس الغض الطري قدود )
( فتلك خدود ما عليهن أعين ... وتلك عيون ما لهن خدود )
ويعجبني إلى الغاية في هذا الباب قول الأضبط الشاعر
( قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه ) ( ويقطع الثوب غير لابسه ... ويلبس الثوب غير من قطعه )
ومثله في الحكمة قول ابن نباتة السعدي
( ألا فاخش ما يرجى وجدك هابط ... ولا ترج ما يخشى وجدك رافع )
( فلا نافع إلا مع النحس ضائر ... ولا ضائر إلا مع السعد نافع )
ومن حكم أبي الطيب المتنبي قوله في هذا الباب
( فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده )
ومثله في الحسن والبلاغة قوله
( إن الليالي للأنام مناهل ... تطوى وتنشر دونها الأعمار )
( فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار )
(1/355)
________________________________________
حذف
(1/0)
________________________________________
واستشهدوا على نوع الطباق بقول الشاعر
( رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا )
( فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا )
والعكس هنا أحق من المطابقة وأولى فما فيه من عكس مطابقة عجزه لصدره وتبديل الطباق في العجز والصدر ومن الذي يستظرف هنا إلى الغاية قول الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة
( أفنيت عمري في دهر مكاسبه ... نطيع أهواءنا فيها وتعصينا )
( تسعا وعشرين مد الهم شقتها ... حتى توهمتها عشرا وتسعينا )
وتلطف الشيخ جمال الدين بن نباتة بقوله هنا
( مسألة الدور غدت ... بيني وبين من أحب )
( لولا مشيبي ما جفت ... لولا جفاها لم أشب )
أنظر ما أليق ما حصر الشيخ جمال الدين مسألة الدور في هذا النوع مع قصر البحر
ويعجبني أيضا قول الشيخ علاء الدين علي بن مقاتل الحموي في مطلع من مطالع أزجاله وهو
( حبي عودني الوصال ... وعوايد وقطع )
( وامتنع لما حلي ... وحلا لما امتنع )
وأنشدني من لفظه لنفسه الكريمة قاضي القضاة عماد الدين أخو شيخي قاضي القضاة علاء الدين بن القضامي تغمدهما الله برحمته ورضوانه مطلعا يناظر مطلع ابن مقاتل بحسنه في هذا الباب وهو
( قلت يوما لمن هويت ... فيه اعدل عملك )
( قال بجوري ترتضي ... وإلا اعمل عدلك )
(1/356)
________________________________________
وزاد الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع هذا النوع أعني عكس الألفاظ صنفا معنويا وهو أن يأتي الشاعر إلى معنى لنفسه أو لغيره فيعكسه
فمثال ما عكس الشاعر من المعاني لغيره
قال الأول
( قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل )
قال الثاني الذي عكس الأول
( وربما فات بعض الناس أمرهم ... مع التأني وكان الحزم لو عجلوا )
وقد تقدم قول الناس في المثل السائر ما في السويدا رجال فعكست هذا المعنى على أصحابه وقلت
( في سويدا مقيلة الحب نادى ... جفنه وهو يقنص الأسد صيدا )
( لا تقولوا ما في السويدا رجال ... فأنا اليوم من رجال السويدا )
ومن القسم الثاني وهو عكس الشاعر معنى نفسه قول بعضهم
( وإذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا )
ومثله قول الشاعر وتلطف ما شاء
( ها قد غدا من ثياب الشعر في كفن ... وقد تعفت معاني وجهه الحسن )
( وكان يعرض عني حين أبصره ... فصرت أعرض عنه حين يبصرني )
وأظرف منه قول الشيخ جمال الدين ابن نباتة
( وصديق قوى يدي بنوال ... وأراه من بعد حاول وهني )
( كان مثل البستان آخذ منه ... صار مثل الحمام يأخذ مني )
انتهى ما أوردته في هذا الباب من عكس الألفاظ والمعاني وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته شاهد في هذا الباب على عكس الألفاظ وهو قوله عن النبي
(1/357)
________________________________________
( أبدى العجائب فالأعمى بنفثته ... غدا بصيرا وفي الحرب البصير عمي )
الشيخ صفي الدين أتى في هذا الباب بالغرض من نظم النوع المذكور ولكن لم يخل بيته من بعض عقادة هذا مع عدم تكلفه بتسمية النوع على الشرط المقرر
وبيت العميان
( فاتبع رجال السرى في البيد واسر له ... سرى الرجال ذوي الألباب والهمم )
بيت العميان لم يخلص من العكس هنا إذ ليس فيه نكتة تلم له مع البديع شملا وليس فيه غير رجال السرى وسرى الرجال
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( خير المقال مقال الخير فاصغ ودع ... عكس الصواب مع التبديل تستقم )
الشيخ عز الدين أتى في هذا النوع بالمقصود من نظم النوع البديعي وتسميته على الشرط المقرر ولكنه أجنبي من مديح النبي وليس له أدنى تعلق ببيت المديح الذي قبله وهو
( تمت محاسنه والله كمله ... فقدره في الورى في غاية العظم )
وأعجب من هذا أنه قال بعد هذا البيت عن النبي
( له الجميل من الرب الجميل على الوجه ... الجميل بترديد من النعم )
وغالب مديحه النبوي في هذه القصيدة على هذا النمط فإنها ما انسجمت معه إلا في مواضع قليلة والظاهر أن ثقل تسمية النوع على الشرط المعلوم كلما أثقل كاهله فر إلى جهة يستند إلى ركنها
وبيت العميان كاد أن يكون أجنبيا من المديح ولكن اتكلوا على عود الضمير على الممدوح وهو النبي
وبيت بديعيتي وهو قولي عن النبي
( عين الكمال كمال العين رؤيته ... يا عكس طرف من الكفار عنه عمي )
أقول إنه في سهولته وانسجامه وحسن تركيبه وبديع تسميته وتمكين قافيته بيت عامر بالمحاسن والله أعلم
(1/358)
________________________________________
ذكر الترديد
( أبدى البديع له الوصف البديع وفي ... نظم البديع حلا ترديده بفمي )
الترديد هو أن يعلق الشاعر لفظة في بيت واحد ثم يرددها فيه بعينها ويعلقها بمعنى آخر كقوله تعالى ( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ) واستشهدوا على هذا النوع من النظم بقول أبي نواس
( صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء )
والذي أقوله إن الترديد والتكرار ليس تحتهما كبير أمر ولا بينهما وبين أنواع البديع قرب ولا نسبة لانحطاط قدرهما عن ذلك ولولا المعارضة ما تعرضت لهما في بديعيتي ولكن ذكر زكي الدين ابن أبي الأصبع بينهما فرقا فيه بعض إشراق وهو أن اللفظة التي تكرر في البيت ولا تفيد معنى زائدا بل الثانية عين الأولى هي التكرار واللفظة التي يرددها الناظم في بيته تفيد معنى غير معنى الأولى هي الترديد وعلى هذا التقدير صار للترديد بعض مزية يتميز بها إلى التكرار ويتحلى بشعارها وعلى هذا الطريق نظم أصحاب البديعيات هذا النوع أعني الترديد
فبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( له السلام من الله السلام وفي ... دار السلام تراه شافع الأمم )
(1/359)
________________________________________
لفظة السلام متعلقة في كل موضع بغير الآخر لاشتراكها
والعميان لم ينظموا هذا النوع
وبيت الشيخ عز الدين
( له الجميل من الرب الجميل على الوجه ... الجميل بترديد من النعم )
وبيت بديعيتي
( أبدى البديع له الوصف البديع وفي ... نظم البديع حلا ترديده بفمي )
أقول إن حلاوة الترديد بالفم أحلى من قول الشيخ عز الدين بترديد من النعم وأحسن موقعا لكونها في القافية والله أعلم
(1/360)
________________________________________
ذكر التكرار
( كررت مدحي حلا في الزائد الكرم ابن ... الزائد الكرم ابن الزائد الكرم )
المديح للكريم مليح هنا
وقد تقدم قولي إن التكرار هو أن يكرر المتكلم اللفظة الواحدة باللفظ والمعنى والمراد بذلك تأكيد الوصف أو المدح أو الذم أو التهويل أو الوعيد أو الإنكار أو التوبيخ أو الاستبعاد أو الغرض من الأغراض
فأما ما جاء منه للذم فكقول مهلهل بن ربيعة أخي كليب
( يا لبكر أنشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرار )
وأما ما جاء منه للمدح فكقول كثير في عمر بن عبد العزيز
( فأربح بها من صفقة لمبايع ... وأعظم بها وأعظم بها ثم أعظم )
وكقول أبي تمام
( بالصريح الصريح والأروع الأروع ... منهم باللباب اللباب )
وأما ما جاء منه للتهويل فكقوله تعالى ( القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة ) وكقوله ( الحاقة ما الحاقة )
(1/361)
________________________________________
وأما ما جاء منه للإنكار والتوبيخ فهو تكرار قوله تعالى في سورة الرحمن ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) فإن الرحمن جل جلاله ما عدد آلاءه هنا إلا ليبكت بها من أنكرها على سبيل التقريع والتوبيخ كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها له
وأما ما جاء منه للاستبعاد فكقوله تعالى ( هيهات هيهات لما توعدون )
وأما ما جاء منه في النسيب وهو في غاية اللطف فقول بعضهم
( يقلن وقد قيل إني هجعت ... عسى أن يلم بروحي الخيال )
( حقيق حقيق وجدت السلو ... فقلت لهن محال محال )
وألطف منه قول القاضي
( ماذا تقول اللواحي ضل سعيهم ... وما تقول الأعادي زاد معناه )
( هل غير أني أهواه وقد صدقوا ... نعم نعم أنا أهواه وأهواه )
وما أحلى ما قال بعده
( حسب البرية أجرا فضل رؤيته ... فما رئي قط إلا سبح الله )
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( الطاهر الشيم ابن الطاهر الشيم ابن ... الطاهر الشيم ابن الطاهر الشيم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( تكرار مدحي هدى في الشامل النعم ابن ... الشامل النعم ابن الشامل النعم )
وبيت بديعيتي
( كررت مدحي حلا في الزائد الكرم ابن ... الزائد الكرم ابن الزائد الكرم )
(1/362)
________________________________________
كاد بيت الشيخ صفي الدين وبيت الشيخ عز الدين وبيت بديعيتي أن يكونوا بيتا واحدا لمناسبة التركيب وإن كان بيت الشيخ صفي الدين مميزا بزيادة واحدة في التكرار فقد جاء موضعها التورية في تسمية النوع كما قيل وأين الثريا من يد المتناول
والذي يظهر أن مكرر بيتي حلاوته ظاهرة على بيت الشيخ عز الدين فإن مكرره ناقص الحلاوة والله تعالى أعلم
(1/363)
________________________________________
ذكر المذهب الكلامي
( ومذهبي في كلامي أن بعثته ... لو لم تكن ما تميزنا على الأمم )
المذهب الكلامي نوع كبير نسبت تسميته إلى الجاحظ وهو في الاصطلاح أن يأتي البليغ على صحة دعواه وإبطال دعوى خصمه بحجة قاطعة عقلية تصح نسبتها إلى علم الكلام إذ علم الكلام عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية القاطعة
وقيل إن ابن المعتز قال لا أعلم ذلك في القرآن أعني المذهب الكلامي وليس عدم علمه مانعا علم غيره ولم يستشهد على المذهب الكلامي بأعظم من شواهد القرآن وأوضح الأدلة في شواهد هذا النوع وأبلغها قوله تعالى ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا )
هذا دليل قاطع على وحدانيته جل جلاله وتمام الدليل أن تقول لكنهما لم تفسدا فليس فيهما آلهة غير الله
ومنه قوله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا
وتمام الدليل أن يقال لكنكم ضحكتم كثيرا وبكيتم قليلا فلم تعلموا ما أعلم فهذان قياسان شرطيان من كلام الله وكلام نبيه ومثله قول مالك بن المرجل الأندلسي
( لو يكون الحب وصلا كله ... لم تكن غايته إلا الملل )
( أو يكون الحب هجرا كله ... لم تكن غايته إلا الأجل )
( إنما الوصل كمثل الماء لا ... يستطاب الماء إلا بالعلل )
فالبيتان الأولان قياس شرطي والثالث قياس فقهي فإنه قاس الوصل على الماء
(1/364)
________________________________________
فكما أن الماء لا يستطاب إلا بعد العطش فالوصل مثله لا يستطاب إلا بعد حرارة الهجر
وأما الأقيسة الحملية فقد استنبطوها على صور منها ما يروى أن أبا دلف قصده شاعر تميمي فقال له ممن أنت فقال من تميم
فقال أبو دلف
( تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل الهداية ضلت )
فقال له التميمي نعم بتلك الهداية جئت إليك
فأفحمه بدليل حملي ألزمه فيه أن المجيء إليه ضلال
ولعمري إن القياس الشرطي أوضح دلالة في هذا الباب من غيره وأعذب في الذوق وأسهل في التركيب فإنه جملة واقعة بعد لو وجوابها وهذه الجملة على اصطلاحهم مقدمة شرطية متصلة يستدل بها على ما تقدم من الحكم وعلى هذه الطريقة نظمت بيت البديعية وكذلك العميان ويأتي ذلك في موضعه فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي
( كم بين من أقسم الله العلي به ... وبين من جاء باسم الله في القسم )
بيت الشيخ صفي الدين الحلي ليس لنور المذهب الكلامي فيه إشراق ولكنه ملحق بالأقيسة الحملية
وبيت العميان قد تقدم أنه من الأقيسة الشرطية وهو قولهم في مديح النبي
( لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وأروت قلب كل ظمي )
جملة هذا البيت هي الجملة الواقعة بعد لو وجوابها فإنهم استدلوا بها على ما تقدم من الحكم وهو أن كفه محيط بالبحر وبيان صحة ذلك أنها بلغت أن تشمل كل الأنام وتعمهم بالري وهذا دليل واضح على أنها محيطة بالبحر
وقد تعين أن أقدم بيت بديعيتي هنا على بيت الشيخ عز الدين وأفرط سبحة الترتيب لوجهين أحدهما أن بيتي وبيت العميان أقرا ببهجة هذا النوع في مطلع واحد وهو القياس الشرطي والثاني أن الشيخ عز الدين لم يتمسك في المذهب الكلامي إلا بالقول الضعيف وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( ومذهبي في كلامي أن بعثته ... لو لم تكن ما تميزنا على الأمم )
(1/365)
________________________________________
دليل هذا القياس الشرطي في بعثة النبي وأن هذه الأمة تميزت بها على سائر الأمم أوضح من النهار الذي لم يحتج عند ظهوره إلى إقامة دليل
وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله
( بمذهب من كلام الله ينسخ شرع ... الأولين ببشرى من كلامهم )
كأن الشيخ عز الدين غفر الله له يقول عن النبي إنه بمذهب من كلام الله أي القرآن ينسخ شرع الأولين وكأنه جعل حجته القاطعة في المذهب الكلامي والله أعلم قوله ببشرى من كلامهم أي من كلام الأولين
ولم أر في هذا البيت للمذهب كلاما ولا للكلام مذهبا غير ما ذكرته وفوق كل ذي علم عليم
(1/366)
________________________________________
ذكر المناسبة
( فعلمه وافر والزهد ناسبه ... وحلمه ظاهر عن كل مجترم )
المناسبة على ضربين مناسبة في المعاني ومناسبة في الألفاظ
فالمعنوية هي أن يبتدئ المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ
وهذا النوع أعني المناسبة المعنوية كثير في الكتاب العزيز فمنه قوله تعالى ( أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون )
فانظر إلى قوله سبحانه وتعالى في صدر الآية التي هي للموعظة أولم يهد لهم ولم يقل أولم يروا لأن الموعظة سمعية وقد قال بعدها أفلا يسمعون
وانظر كيف قال في صدر الآية التي موعظتها مرئية أولم يروا وقال بعد الموعظة البصرية أفلا يبصرون
ومن أظرف ما أنقله هنا من النقد اللطيف في هذا الباب أن قاضي القضاة عماد الدين ابن القضامي أخا شيخنا قاضي القضاة علاء الدين الحنفي نور الله ضريحه وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه نظم قصيدة امتدح بها المقر المرحومي السيفي أرغون الأسعردي كافل المملكة الشريفة الحموية وعرضها قبل إنشادها للمدح على أخيه المشار إليه فانتهى منها في المديح إلى بيت يقول فيه
( خبير بتدبير الأمور فمن يرى ... سوى ما يراه فهو في هذه أعمى )
(1/367)
________________________________________
فقال له شيخنا قاضي القضاة علاء الدين يجب أن تقول لأجل المناسبة المعنوية موضع خبير بصير
وقد عدوا من محاسن الأمثلة المعنوية قول أبي الطيب المتنبي
( على سابح موج المنايا بنحره ... غداة كان النبل في صدره وبل )
فإن بين لفظة السباحة ولفظتي الموج والوبل تناسبا معنويا صار البيت به متلاحما
والذي عقد الناس عليه الخناصر في هذا الباب قول ابن رشيق القيرواني
( أصح وأقوى ما رويناه في الندا ... من الخبر المأثور منذ قديم )
( أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن جود الأمير تميم )
قال زكي الدين بن أبي الأصبع هذا أحسن شعر سمعته في المناسبة المعنوية فإنه وفي المناسبة حقها وناسب في البيت الأول بين الصحة والقوة والرواية والخبر المأثور وناسب في البيت الثاني بين الأحاديث والرواية والعنعنة هذا مع صحة ترتيب العنعنة من حيث أنها جاءت صاغرا عن كابر وآخرا عن أول كما يقع في سند الأحاديث لأن السيول فرع الحيا أصله وكذلك الحيا فرع البحر أصله ثم نزل البحر منزلة الفرع وجود الممدوح منزلة الأصل للمبالغة في المدح وهذا غاية الغايات في هذا الباب
أقول إنني زاحمت ابن رشيق القيرواني هنا بالمناكب وأبطلت موانع التعقيد لما دخلت معه إلى هذه المطالب وما ذاك إلا أنني امتدحت شيخي المشار إليه أولا مولانا قاضي القضاة ابن القضامي الحنفي بموشح بيت مخلصه تحفة في هذا الباب لأن مناسباته المعنوية رفعت عن محاسنها الحجاب وهو
( رقم السوالف يروي لي بمسنده ... عن رقتي حيهم يا طيب مورده )
( وثغرها قد روى لي قبل ما احتجبت ... عن برق ذاك النقا أيام معهده )
( والريق أمسى عن المبرد ... يروي حديث العذيب مسند )
( عن الصفا عن مذاق الشهد والعسل ... عن ذوق سيدنا قاضي القضاة علي )
(1/368)
________________________________________
وقد حبست عنان القلم عن الاستطراد إلى وصف محاسن هذا البيت ومناسباته المعنويه فإن برهانه غير محتاج إلى إقامة دليل
وهذا الموشح نظمته بحماه المحروسة في مبادي العمر ورياحين الشبيبة غضة
ولما طلبت إلى الأبواب الشريفة المؤيدية سنة خمس عشرة وثمانمائة ووصلت إلى الديار المصرية في التاريخ المذكور وجدته ملحنا وأهل مصر يلهجون به وبتلحينه كثيرا فتعين علي أن أثبت هنا منه شيئا ليحلو تكريره بمصر وتعرف رتبة قوافيه لأجل بيت المخلص الذي أوردته مثالا على نوع المناسبة المعنوية
فمن غزل الموشح المذكور
( ماست بقامتها يوما بذي سلم ... والشعر كالعلم المنشور للأمم )
( فقلت يا قلب أعلام الهنا نصبت ... ها أنت تخطر بين البان والعلم )
( وأسود الخال مذ تبدى ... في خدها همت فيه وجدا )
( قالت وطلعتها كالشمس في الحمل ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل )
( سألتها برد ما عندي من الكمد ... وقلت نار الجوى قد أضعفت جلدي )
( قالت بريقي أطفئها إذا التهبت ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي )
( وغرقتني بدمع طرفي ... وقالت اسمع كفيت خلفي )
( ألم تخف بللا ناديت يا أملي ... أنا الغريق فما خوفي من البلل )
منه
( بالله يا برق إن أومضت في الثغر ... وحارس اللحظ في شك من الخبر )
( قف بالثنيات واذكرني إذا عذبت ... تلك النهيلات للوراد في السحر )
( وأرسل عليل النسيم خلفي ... فإنه قوة لضعفي )
( عسى تصحح جسما بالفراق بلي ... وربما صحت الأجسام بالعلل )
منه
( إنسان مقلتها لما رأى كلفي ... بسيفه قد أقام الحد في تلفي )
( فمت بالسيف قهرا والحشا نهبت ... لكنني عند موتي مذ قرى شغفي )
( ناديته والدموع طوفان ... وقلت هذا فعال إنسان )
( إلام تعجل في قتلي بلا زلل ... فقال لي خلق الإنسان من عجل )
(1/369)
________________________________________
وقد طال الشرح وخرجنا عما كنا فيه من المناسبة المعنوية وحسن ختامها بما أوردناه من كلام ابن رشيق القيرواني والبيت الذي أوردته من هذا الموشح
وأما المناسبة اللفظية وهي دون رتبة المعنوية فهي الإتيان بكلمات متزنات وهي على ضربين تامة وغير تامة
فالتامة أن تكون الكلمات مع الاتزان مقفاة والناقصة موزونة غير مقفاة
فمن شواهد التامة قوله سبحانه وتعالى ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون ) ومن شواهده التامة في السنة الشريفة قول النبي مما كان يرقي به الحسنين عليهما السلام أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامه ومن كل عين لامه ولم يقل عليه السلام ملمة وهي القياس لمكان المناسبة اللفظية
ومن أمثلة المناسبتين الناقصة والتامة قول أبي تمام حبيب بن أوس
( مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل )
فناسب بين مها وقنا مناسبة تامة وبين الوحش والخط وأوانس وذوابل مناسبة غير تامة
قال زكي الدين بن أبي الأصبع هذا البيت من أفضل بيوت المناسبة لما انضم إليه فيها من المحاسن فإن فيه مع المناسبتين التشبيه بغير أداة والمساواة والاستثناء والطباق اللفظي وائتلاف اللفظ مع المعنى والتمكين فأما المناسبة فيه فقد عرفت وأما التشبيه ففي قوله مها وقنا فإن التقدير كمها وكقنا وحذف الأداة ليدل على قرب المشبه من المشبه به وأما الاستثناء البديعي ففي قوله إلا أن هاتا أوانس وقوله إلا أن تلك ذوابل ليثبت للموصوفات التأنيس وينفي عنهن النفار والتوحش وكذلك فعل في الاستثناء الثاني فإنه أثبت لهن اللين ونفى عنهن اليبس والصلابة
وأما المطابقة ففي قوله الوحش وأوانس وهاتا وتلك فإن هاتا للقريب وتلك للبعيد وأما المساواة فلفظ البيت لا يفضل عن معناه ولا يقصر عنه
وأما الائتلاف فلكون ألفاظه من واد واحد متوسطة بين الغرابة والاستعمال وكل لفظة منها لائقة بمعناها لا يكاد يصلح موضعها غيرها
وأما التمكين فاستقرار قافية البيت في موضعها وعدم نفارها عن محلها
انتهى الكلام على المناسبة اللفظية والمعنوية وتقرير التامة والناقصة من اللفظية
فبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( مؤيد العزم والأبطال في قلق ... مؤمل الصفح والهيجاء في ضرم )
(1/370)
________________________________________
الشيخ صفي الدين لم يحتج في بيته إلى المناسبة المعنوية بل أتى باللفظية
وعجبت منه كيف رضي لنفسه بقول القائل
( إذا كنت ما تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنا وزان وما أنا شاعر )
وليته أتى بالمناسبة اللفظية تامة فإنه في عالم الإطلاق غير مقيد بتسمية ومناسبته اللفظية الناقصة ظاهرة فقوله مؤيد العزم في وزن مؤمل الصفح وقوله والأبطال في قلق موازن والهيجاء في ضرم
ولم ينظم العميان هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين الموصلي يقول فيه عن النبي
( ألم تر الجود يجري في يديه ألم ... تسمع مناسبة في قوله نعم )
الشيخ عز الدين غفر الله له لم يثبت له مع المناسبة المعنوية واللفظية نسبة ولكنه قال لمن يخاطبه ألم تر الجود يجري من أيادي النبي ألم تسمع مناسبة من لفظ نعم ولفظ الشيخ عز الدين الموضوع في بيته ليس فيه مناسبة لفظية أتى فيها بوزن وقافية ولا مناسبة معنوية ابتدأ فيها بمعنى وتمم كلامه بما يناسبه
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( فعلمه وافر والزهد ناسبه ... وحلمه ظاهر عن كل مجترم )
هذا البيت جمعت فيه ببركة ممدوحه بين المناسبة المعنوية واللفظية التامة المشتملة على الوزن والتقفية
فقولي علمه يناسبه حلمه وزنا وقافية ووافر مثله ظاهر وزنا وقافية والمناسبة المعنوية ابتدأ بها في أول الشطر الثاني من البيت بذكر الحلم ثم تممت كلامي بقولي عن كل مجترم فحصلت المناسبة المعنوية بين الحلم وذكر الاجترام الذي هو الذنب مع تمكين القافية فإنه قيل عن المأمون إنه كان يقول لو علم الناس محبتي للعفو لتقربوا إلي بالجرائم وهذه هي المناسبة المعنوية بعينها ولكن النبي أحق بهذا المدح وأولى بهذه الصفات
(1/371)
________________________________________
ذكر التوشيع
( ووشع العدل منه الأرض فاتشحت ... بحلة الأمجدين العهد والذمم )
التوشيع مأخوذ من الوشيعة وهي الطريقة الواحدة في البرد المطلق فكأن الشاعر أهمل البيت إلا آخره فإنه أتى فيه بطريقة تعد من المحاسن وهو عند أهل هذه الصناعة عبارة عن أن يتكلم المتكلم أو الشاعر باسم مثنى في حشو العجز يأتي بعده باسمين مفردين هما عين ذلك المثنى يكون الآخر منهما قافية بيته أو سجعة كلامه كأنهما تفسير له
وقد جاء من ذلك في السنة الشريفة ما لا يلحق بلاغته وهو قوله ( يشيب المرء وتشب معه خصلتان الحرص وطول الأمل ومن أمثلة هذا الباب في النظم قول الشاعر
( أمسي وأصبح من تذكاركم وصبا ... يرثي لي المشفقان الأهل والولد )
( قد خدد الدمع خدي من تذكركم ... واعتادني المضنيان الوجد والكمد )
( وغاب عن مقلتي نومي لغيبتكم ... وخانني المسعدان الصبر والجلد )
( لا غرو للدمع أن تجري غواربه ... وتحته المظلمان القلب والكبد )
( كأنما مهجتي شلو بمسبعة ... ينتابها الضاريان الذئب والأسد )
( لم يبق غير خفي الروح في جسدي ... فدى لك الباقيان الروح والجسد )
هذه الأبيات عامرة بالمحاسن في هذا الباب غير أن أهل النقد الصحيح ما سكتوا عن تقصيره في البيت الأول حيث قال فيه يرثي لي المشفقان الأهل والولد
فإن
(1/372)
________________________________________
شفقة الأهل والولد معروفة والمشفق إذا رثى لشكوى أهله أو الولد إذا رثى لشكوى والده كان ذلك تحصيل الحاصل والمراد هنا أن يقون رثى لي العدو ورق لي الصخر وأشباه ذلك
قال ابن أبي الأصبع وما بشعر قلته هنا من بأس
( بي محنتان ملام في هوى بهما ... يرثي لي القاسيان الحب والحجر )
( لولا الشفيقان من أمنية وأسى ... أودى بي المرديان الشوق والفكر )
رأيت في حاشية على هذين البيتين بخط رفيع رحم الله الشيخ لو قال الشوق والسهر كان أتم وأحسن وبيت الشيخ صفي الدين في هذا الباب غاية فإنه يقول في وصف النبي
( أمي خط أبان الله معجزه ... بطاعة الماضيين السيف والقلم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله
( ومن عطاياه روض وشعه يد ... تغني عن الأجودين البحر والديم )
الشيخ عز الدين أتى بالتوشيع على الوضع ولكنه شن الغارة على ابن الرومي وفك قواعد بيته وهو
( أبو سليمان إن جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان البحر والمطر )
أخذ الأجودين والبحر ورادف المطر بالديم
وهذا ما يليق بأهل الأدب
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( ووسع العدل منه الأرض فاتشحت ... بحلة الأمجدين العهد والذمم )
وأنا على مذهب زكي الدين بن أبي الأصبع في قوله وما بشعر قلته هنا من بأس
انتهى
(1/373)
________________________________________
ذكر التكميل
( آدابه تممت لا نقص يدخلها ... والوجه تكميله في غاية العظم )
التكميل هو أن يأتي المتكلم أو الشاعر بمعنى تام من مدح أو ذم أو وصف أو غيره من الأغراض الشعرية وفنونها ثم يرى الاقتصار على الوصف بذلك المعنى فقط غير كامل فيأتي بمعنى آخر يزيده تكميلا كمن أراد مدح إنسان بالشجاعة ثم رأى الاقتصار عليها دون مدحه بالكرم غير كامل فيكمله بذكر الكرم أو بالبأس دون الحلم وما أشبه ذلك من الأغراض
وقد جاء منه في الكتاب العزيز قوله تعالى ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) فانظر إلى هذه البلاغة فإنه سبحانه وتعالى علم وهو أعلم أنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة للمؤمنين لكان مدحا تاما مشتملا على الرياضة والانقياد لإخوانهم ولكن زاده تكميلا ووصفهم بعد ذلتهم لإخوانهم المؤمنين بالعزة على الكافرين وهذا هو التكميل الذي يتطفل البدر على كماله
ومثاله في الشعر قول كعب بن سعيد الغنوي
( حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب )
قوله إذا ما الحلم زين أهله احتراس لولاه لكان المعنى في المدح مدخولا إذ بعض التغاضي قد يكون عن عجز يوهم أنه حلم فإن التجاوز لا يكون حلما محققا إلا عن قدرة وهو الذي قصده الشاعر بقوله إذا ما الحلم زين أهله
فإن الحلم ما يزين
(1/374)
________________________________________
أهله إلا إذا كان عن قدرة وهذا القدر غاية في باب التكميل ثم رأى أن مدحه بالحلم وحده غير كامل فإنه إذا لم يعرف منه إلا الحلم طمع فيه عدوه فقال مع الحلم في عين العدو مهيب قلت ومما يؤيد هذا التقرير قول الشاعر
( وحلم ذي العجز أنت عارفه ... والحلم عن قدرة ضرب من الكرم )
ومن التكميل الحسن قول كثير عزة
( لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها )
فقوله عند موفق تكميل حسن فإنه لو قال عند محكم لتم المعنى لكن في قوله عند موفق زيادة تكميل بها حسن البيت والسامع يجد لهذه اللفظة من الموقع الحلو في النفس ما ليس للأولى إذ ليس كل محكم موفقا فإن الموفق من الحكام من قضى بالحق لأهله
وقد غلط غالب المؤلفين في هذا الباب وخلطوا التكميل بالتتميم وساقوا في باب التتميم شواهد التكميل فمن ذلك قول عوف السعدي
( إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان )
هذا البيت ساقوه من شواهد التتميم وهو أبلغ شواهد التكميل فإن معنى البيت تام بدون لفظة وبلغتها وإذا لم يكن المعنى ناقصا فكيف يسمى هذا تتميما وإنما هو تكميل حسن
قال ابن أبي الأصبع وما غلطهم إلا أنهم لم يفرقوا بين تتميم الألفاظ وتتميم المعاني فلو سمي مثل هذا تتميما للوزن لكان قريبا ولما ساقوه على أنه من تتميم المعاني وهذا غلط والفرق بين التتميم والتكميل أن التتميم يرد على المعنى الناقص فيتممه والتكميل يرد على المعنى التام فيكمله إذ الكمال أمر زائد على التمام وقد تقدم هذا الكلام على التتميم في موضعه ولكن أردت هنا تفصيل التكميل عن التتميم لتنجلي عن الطالب ظلمة الإشكال بصبح هذا الفرق الدقيق ومن أحسن التكميل قول شاعر الحماسة
( لو قيل للمجد خذ عنهم وخلهم ... بما احتكمت من الدنيا لما حادا )
(1/375)
________________________________________
فقوله بما احتكمت من الدنيا تكميل في غاية الكمال
ويعجبني من هذا الباب قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في بعض مطالعه المقمرة
( نفس عن الحب ما حادت ولا غفلت ... بأي ذنب وقاك الله قد قتلت )
معنى بيت الشيخ جمال الدين أيضا تام بدون قوله وقاك الله ولكن التكميل بوقاك الله قبل قتلت لا يصدر إلا من مثل الشيخ جمال الدين وما أحقه هنا بقول القائل
( قالوا فهل يسمح الدهر الكريم لنا ... بمثله قلت لا والله قد حلفا )
ومثله قولي في مطلع قصيدة
( قد مال غصن النقا عن صبه هيفا ... يا ليته بنسيم العتب لو عطفا )
معنى البيت تام بدون نسيم العتب ولكن استعارة نسيم العتب هنا بعد ميل الغصن وذكر انعطافه غاية في باب التكميل وفيه مع التكميل المناسبة المعنوية والاستعارة اللطيفة وناهيك بلطف نسيم العتب وفيه التمكين والانسجام ومثله قولي في مطلع قصيدة
( جردت سيف اللحظ عند تهددي ... يا قاتلي فسلبتني بمجرد )
معنى البيت تام بدون قولي يا قاتلي وقولي يا قاتلي بعد تجريد سيف اللحظ أكمل من بدور الكمال وقلت بعد المطلع ولم أخرج عن التكميل
( وأردت أن تسقى بماء حشاشتي ... حاشاك ما يسقى الصقيل من الصدي )
معنى البيت أيضا تام بدون قولي حاشاك ولكنها زادت البيت تكميلا رفعت به قواعده ومثله قولي من قصيدة
( وأفردتموني للغرام لأنكم ... أخذتم كما شاء الهوى بمجامعي )
معنى البيت تام بدون قولي كما شاء الهوى ولكن التكميل بها تكملت به محاسن البيت ومثله قولي من قصيدة
( أذابت القلب في نار الهوى عبثا ... ومذ سلته وقالت إنه قالي )
( قالت سلوت لحاك الله قلت لها ... الله أعلم يا أسما من السالي )
(1/376)
________________________________________
فلفظة عبثا في البيت الأول تكميلها ظاهر ولكن لحى الله من لا ينظر إلى محاسن لحاك الله في البيت الثاني
ومثله قوله من قصيدة
( ورب غصن لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجد تغريد )
والمعنى أيضا تام في هذا البيت بدون قولي في رياض الوجد ولكن مناسبة التكميل برياض الوجد بين الغصن والأطيار والتغريد غاية في هذا الباب
وقد طال الشرح ولكن مثل التكميل ما ينقص من قدره ويختصر من أمثلته وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( نفس مؤيدة بالحق تعضدها ... عناية صدرت عن بارئ النسم )
بيت الشيخ صفي الدين لم يظهر لبدور التكميل في أفقه إشراق ومعنى البيت تام ولكن لم يأت فيه الناظم بنكتة تزيده تكميلا
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته
( تمت محاسنه والله كمله ... فقدره في الورى في غاية العظم )
بيت الشيخ عز الدين أمثل من بيت الشيخ صفي الدين وتكميله ظاهر فإن معنى بيته تام بدون قوله والله كمله ولكن قوله هنا والله كمله في غاية الكمال فإنها اشتملت على تورية التسمية ونكتة النوع وبيت بديعيتي
( آدابه تممت لا نقص يدخلها ... والوجه تكميله في غاية العظم )
معنى هذا البيت أيضا تام بدون قولي لا نقص يدخلها ولكن هذا النقص هو عين التكميل والله أعلم
(1/377)
________________________________________
ذكر التفريق
( قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم )
التفريق في اللغة ضد الاجتماع وفي الاصطلاح أن يأتي المتكلم أو الناظم إلى شيئين من نوع واحد فيوقع بينهما تباينا وتفريقا بفرق يفيد زيادة وترجيحا فيما هو بصدده من مدح أو ذم أو نسيب أو غيره من الأغراض الأدبية كقول الشاعر في المديح
( ما نوال الغمام وقت ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء )
( فنوال الأمير بدرة مال ... ونوال الغمام قطرة ماء )
ومثله
( من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين شكلين )
( أنت إذا جدت ضاحك أبدا ... وهو إذا جاد دامع العين )
قال بدر الدين بن النحوية في غير المدح
( حسبت جماله بدرا منيرا ... وأين البدر من ذاك الجمال )
قلت وأحسن منه قول القائل
( قاسوك بالغصن في التثني ... قياس جهل بلا انتصاف )
( هذاك غصن الخلاف يدعى ... وأنت غصن بلا خلاف )
(1/378)
________________________________________
حذف
(1/0)
________________________________________
فالتفريق في الجميع فرقه ظاهر مثل الصبح ولكن هذا النوع ما هو غاية في البديع فما يحتمل إطلاق عنان القلم في الكلام عليه أكثر من ذلك وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( فجود كفيه لم تقلع سحائبه ... عن العباد وجود السحب لم يدم )
بيت الشيخ صفي الدين الحلي حسن في هذا الباب والتفريق فيه جمع المحاسن في مدح النبي
وبيت العميان في بديعيتهم
( لا يستوي الغيث مع كفيه نائل ذا ... ماء ونائله مال فلا تهم )
العميان غفر الله لهم مسخوا قول الشاعر
( ما نوال الغمام وقت ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء )
( فنوال الأمير بدرة مال ... ونوال الغمام قطرة ماء )
والظاهر أن نوال الغمام وقت الربيع محجب عن العميان ولكن أين هم من موقع التفريق وعظم المباينة بين بدرة المال وقطرة الماء هذا مع ما تجشموه من مشاق التعقيد وثقل التركيب والجميع يخف على النفس بالنسبة إلى قولهم في القافية فلاتهم
نعم ما يحط هذه القافية هنا على هذه الصيغة من شم للأدب رائحة وأين هم من تمكين قافية الشيخ صفي الدين في قوله
( فجود كفيه لم تقلع سحائبه ... عن العباد وجود السحب لم يدم )
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( قالوا هو البحر والتفريق بينهما ... إذ ذاك غم وهذا فارج الغمم )
بيت الشيخ عز الدين في هذا الباب عامر بالمحاسن وحشمة المديح النبوي مشرقة على أركانه ونوع التفريق فيه أحلى من ليالي الوصال فإنه مشتمل على تورية التسمية ونكتة النوع البديعي ولطف الانسجام والسهولة وليس في بديعيته بيت يناظره في علو طباقه
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
(1/379)
________________________________________
( قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم )
قد أطلقت لسان القلم في وصف بيت الشيخ عز الدين ولعمري إنه يستحق فوق ذلك فإن التكلف بتسمية النوع مورى به من جنس المديح يثقل كاهل كل فحل
وقد حبست عنان القلم عن الاستطراد إلى وصف هذا البيت فإن في إنصاف أهل الذوق ما يغني عن الإطناب في وصفه
انتهى
(1/380)
________________________________________
ذكر التشطير
( وانشق من أدب له بلا كذب ... شطرين في قسم تشطير ملتزم )
التشطير هو أن يقسم الشاعر بيته شطرين ثم يصرع كل شطر منهما لكنه يأتي بكل شطر من بيته مخالفا لقافية الآخر كل شطر عن أخيه فمن ذلك قول مسلم بن الوليد
( موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل )
هذا البيت تصريعه صحيح ولكن تصريع الشطر الثاني قافيته الأولى مرفوعة والثانية مجرورة وهذا عيب في تصريع التشطير وقول أبي تمام في هذا الباب خالص من ذلك وهو
( تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتعب في الله مرتقب )
وعلى جادته الواضحة مشى الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته وبيته
( بكل منتصر للفتح منتظر ... وكل معتزم بالحق ملتزم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وأنا أقول يا ليتني كنت معهم فإنه نوع مبني على قعاقع ليس تحتها طائل ولكن الشروع في معارضة البديعيات أوجب نظمه وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته
(1/381)
________________________________________
( تشطير معتدل بالسيف مشتمل ... في جحفل لهم كالأسد في الأجم )
وبيت بديعيتي أشير فيه إلى انشقاق القمر في مديح النبي وتقدم قولي في نوع التفريق
( قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم )
وقلت بعده في التشطير
( وانشق من أدب له بلا كذب ... شطرين في قسم تشطير ملتزم )
كان الشيخ صفي الدين الحلي يكثر من هذا النوع في غالب قصائده ولعمري إنه استسمن ذا ورم وما خطر لي يوما أنني أدخله إلى بيت من بيوت قصائدي
انتهى
(1/382)
________________________________________
ذكر التشبيه
( والبدر في التم كالعرجون صار له ... فقل لهم يتركوا تشبيه بدرهم )
التشبيه ضروب متشعبة وهو والاستعارة يخرجان الأغمض إلى الأوضح ويقربان البعيد وقال الجرجاني التشبيه والتكميل كل منهما بالصورة والصفة وتارة بالحالة وهذه صفة التمثيل
والتشبيه ركن من أركان البلاغة وأركانه أربعة كقولك زيد في الحسن كالقمر فالأول المشبه وهو زيد والثاني المشبه به وهو القمر والثالث المشبه وهو المتكلم والرابع التشبيه وهو الإلحاق المذكور في الشبه وأدوات التشبيه خمسة الكاف وكأن وشبه ومثل والمصدر بتقدير الأداة كقوله تعالى ( وهي تمر مر السحاب ) ومن الشعر كقول حسان
( بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل )
ومن الشروط اللازمة في التشبيه أن يشبه البليغ الأدون بالأعلى إذا أراد المدح اللهم إلا إذا أراد الهجو فالبلاغة أن يشبه الأعلى بالأدون كقول ابن الرومي سامحه الله في هجو الورد
( كأنه سرم بغل حين سكرجه ... عند البراز وباقي الروث في وسطه )
(1/383)
________________________________________
الظاهر أنه كان جعليا وإلا مثله ما يخالف الإجماع ويبالغ في مثل هذه المغايرة ولعمري إنه في بابه من التشابيه البليغة مع نفور الطباع عن صيغته
ومثله قول أبي العلاء السروي في هجو النرجس وتشبيه أعلاه بدونه
( كراثة ركبت عليها ... صفرة بيض على رقاقه )
وأصحاب المعاني والبيان أطلقوا أعنة الكلام في ميادين حدود التشبيه وتقاريرها وهو عندهم الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى
وقال الرماني التشبيه هو العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حال وهذا هو التشبيه العام الذي يدخل تحته التشبيه البليغ وغيره والتشبيه البليغ هو إخراج الأغمض إلى الأوضح مع حسن التأليف
ومنهم من قال التشبيه هو الدلالة على اشتراك شيئين في وصف هو من أوصاف الشيء الواحد
وقال ابن رشيق في العمدة التشبيه صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة لأنه لو ناسبه مناسبة كلية كان إياه ألا ترى إلى قولهم خد كالورد إنما مرادهم احمرار أوراقه وطراوتها لا ما سوى ذلك من صفرة وسطه وخضرة كمائمه
انتهى حد ابن رشيق
وقيل التشبيه إلحاق أدنى الشيئين بأعلاهما في صفة اشتركا في أصلها واختلفا في كيفيتها قوة وضعفا
قلت وهذا حد مفيد
وأورد ابن أبي الأصبع في كتابه تحرير التحبير للرماني حدا زاد في حسنه على الحد وهو أن التشبيه تشبيهان
الأول منهما تشبيه شيئين متفقين بأنفسهما كتشبيه الجوهر بالجوهر مثل قولك ماء النيل كماء الفرات وتشبيه العرض بالعرض كقولك حمرة الخد كحمرة الورد وتشبيه الجسم بالجسم كقولك الزبرجد مثل الزمرد
والثاني تشبيه شيئين مختلفين بالذات لجمعهما معنى واحدا مشتركا كقولك حاتم كالغمام وعنترة كالضرغام
وتشبيه الاتفاق وهو الأول تشبيه حقيقي وتشبيه الاختلاف وهو الثاني تشبيه مجازي والمراد المبالغة انتهى
ووقوع حسن البيان والمبالغة في التشبيه على وجوه منها إخراج ما لا تقع عليه
(1/384)
________________________________________
الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة وقد عن لي أن أوضح هنا للطالب ما وقع من النظم البديع من تشبيه المحسوس بالمحسوس وتشبيه المعقول بالمعقول وتشبيه المعقول بالمحسوس وتشبيه المحسوس بالمعقول
وهذا القسم الرابع عند أصحاب المعاني والبيان غير جائز ويأتي الكلام عليه في موضعه
وقد تعين تقديم ما وعدت به أولا من تشبيه المحسوس بالمحسوس فإن الذي تقع عليه الحاسة في التشبيه أوضح مما لا تقع عليه الحاسة والشاهد أوضح من الغائب
وقال قدامة أفضل التشبيه ما وقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما حتى يدلى بهما إلى الاتحاد
انتهى
ولم يخطر لي أن أورد هنا من التشبيهات البديعية التي اخترتها أمثلة لهذا النوع إلا ما خف على السمع وعذب في الذوق وارتاحت الأنفس إلى حسن صفاته فإن التشابيه التي تقادم عهدها للعرب رغب المولدون عنها فإنها مع عقادة التركيب لم تسفر عن بديع معنى ما اقل وندر فمن ذلك قول امرئ القيس
( وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك اسحل )
فغاية امرئ القيس هنا أنه شبه أنامل محبوبته بأساريع وهي دواب تكون في الرمل ظهورها ملس وبمساويك اسحل والاسحل شجر له أغصان ناعمة أين هذا من قول الراضي بالله في هذا الباب
( قالوا الرحيل فأنشبت أظفارها ... في خدها وقد اعتلقن خضابا )
( فكأنها بأنامل من فضة ... غرست بأرض بنفسج عنابا )
ومثله قول القائل
( قبلته فبكى وأعرض نافرا ... يذري المدامع من كحيل أدعج )
( فكأن سقط الدمع من أجفانه ... لما بدا في خده المتضرج )
( برد تساقط فوق ورد أحمر ... من نرجس فسقى رياض بنفسج )
(1/385)
________________________________________
أنظر أيها المتأمل إلى هذه التشابيه التي يرشفها السمع مداما وتهيم الأذواق السليمة في محاسنها غراما ومن ذلك قول ابن حاجب النعمان
( ثغر وخد ونهد واحمرار يد ... كالطلع والورد والرمان والبلح )
ومثله قول ابن رشيق
( بفرع ووجه وقد وردف ... كليل وبدر وغصن وحقف )
المراد هنا من حسن التشبيه وبليغه غير كثرة العدد في الصفات فإن قاضي القضاة نجم الدين بن البارزي نور الله ضريحه وصل فيه من العدد إلى سبعة وأوردت ذلك في باب اللف والنشر وأوصله الناس إلى أكثر من ذلك ولكن جل القصد هنا غير كثرة العدد فإن المراد من التشبيه غرابة أسلوبه وسلامة اختراعه كقول القائل
( وتحدث الماء الزلال مع الحصى ... فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى )
( فكأن فوق الماء وشيا ظاهرا ... وكأن تحت الماء درا مضمرا )
أقول إن تشبيه هذا الدر المضمر هنا أغلى قيمة من الدر الظاهر في عقود الأجياد ومثله في الغرابة وسلامة الاختراع قول ابن المعتز
( كأنه وكأن الكأس في فمه ... هلال أول شهر غاب في الشفق )
ومن ذلك قوله
( على عقار صفراء تحسبها ... شيبت بمسك في الدن مفتوت )
( للماء فيها كتابة عجب ... كمثل نقش في فص ياقوت )
ومثله قول ابن حجاج وهو بديع
( هذي المجرة والنجوم كأنها ... نهر تدفق في حديقة نرجس )
ومن مخترعات ابن المعتز في تشبيه الهلال قوله
( أنظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الحندسا )
( كمنجل قد صيغ من عسجد ... يحصد من زهر الدجى نرجسا )
(1/386)
________________________________________
ومن مخترعاته أيضا في الهلال
( قد انقضت دولة الصيام وقد ... بشر سقم الهلال بالعيد )
( يتلو الثريا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود )
ومثله قوله فيه
( وجاءني في قميص الليل مستترا ... يستعجل الخطر من خوف ومن حذر )
( ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدت من الظفر )
هذا التشبيه ذكروا أنه من مخترعات ابن المعتز ولكن زاده القاضي الفاضل بهجة ونقله من الأعلى إلى الأدنى فإن رتبة الهلال وعلوها في التشبيه على قلامة الظفر ما برحت مقررة في الخواطر إلى أن نقلها القاضي الفاضل بطريق بديعية اقتضتها الحال وهي قوله مبالغا في وصف قلعة نجم بالعلو
وأما قلعة نجم فهي نجم في سحاب وعقاب في عقاب وهامة لها الغمامة عمامة وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة
فخضاب الأصيل لهذه الأنملة حسن أن يكون الهلال لها قلامة وهذي غاية فاضلية لا تدرك وقد وصلوا في تشبيه الهلال إلى السبعين ولكن ما أوردت هنا إلا أبلغ ما وقع في تشبيهه
ويعجبني من التشابيه البليغة في هذا الباب قول ابن طباطبا
( أما والثريا والهلال جلتهما ... لي الشمس إذ ودعت كرها نهارها )
( كأسماء إذ زارت عشاء وغادرت ... دلالا لدينا قرطها وسوارها )
ومثله في الحسن والغرابة قول أبي نواس
( ويمين الجوزاء تبسط باعا ... لعناق الدجى بغير بنان )
( وكأن النجوم أحداق روم ... ركبت في محاجر السودان )
ومثله قول القائل
( كأن نجوم الليل مزهرة لنا ... ثغور بني حام بدت للتثاؤب )
(1/387)
________________________________________
ويعجبني من التشابيه الغريبة قول ابن نباتة السعدي في جواد أدهم أغر محجل
( تختال منه على أغر محجل ... ماء الدياجي قطرة من مائه )
( وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه )
ومن التشابيه اللطيفة البديعية قول القاضي التنوخي من قصيدة
( وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نضار )
( كأن المدير لها باليمين ... إذا مال للشرب أو باليسار )
( تدرع ثوبا من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار )
ومثله في اللطف والغرابة قول القائل
( كم وردة تحكي بسبق الورد ... طليعة تسرعت من جند )
( قد ضمها في الغصن قرص البرد ... ضم فم لقبلة من بعد )
ودخل مجير الدين بن تميم إلى حديقة هذه الوردة فزاد بعدها تقريبا بقوله
( سبقت إليك من الحدائق وردة ... وأتتك قبل أوانها تطفيلا )
( طمعت بلثمك إذ رأتك فجمعت ... فمها إليك كطالب تقبيلا )
وظرف من قال في الوردة
( كأنها وجنة الحبيب وقد ... نقطها عاشق بدينار )
ومثله في الظرف قول أيدمر المحيوي في النرجس
( وكأن نرجسه المضاعف خائض ... في الماء لف ثيابه في رأسه )
ويعجبني في تشبيه النرجس قول شهاب الدين أحمد القماح راجح رجاح الديار المصرية في فن الزجل في بعض أزجاله
( وفي الأزاهير قم ترى شي تذهب ... وشي تصيبوا قد زها وتفضض )
( النرجس أحداقو الشهل نعسانه ... إلا أنها من الندى ليس تغمض )
( وحين فتح عينو في وجهي شبهت ... أصفر ولما بدا في الأبيض )
(1/388)
________________________________________
( ما زعفران على نصافي مطبوع ... وإلا فصوص كهرب في بلار يوجد )
( وإلا تخل شمسات لجين مبرودات ... قد سمروا فيها مسامير عسجد )
وتلطف ابن المعتز في تشبيه حباب الراح بقوله
( يجول حباب الماء في جنباتها ... كما جال دمع فوق خد مورد )
ومثله في اللطف قول ديك الجن الحمصي
( موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها )
ومن المستغرب في وصف البنفسج ما نسب إلى ابن المعتز وهو
( ولا زوردية أوفت بزرقتها ... بين الرياض على زرق اليواقيت )
( كأنها فوق طاقات نهضن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت )
أوردوا على هذا التشبيه نقدا ولكن ما يحمل البنفسج هنا نقله ومن التشابيه الغريبة قول بعضهم في تشبيه النار
( أنظر إلى النار وهي مضرمة ... وجمرها بالرماد مستور )
( شبه دم من فواخت ذبحت ... وفوقه ريشهن منشور )
ومثله في الغرابة والحسن قول ابن الخلال في تشبيه الشمعة
( وصحيحة بيضاء تطلع في الدجى ... صبحا وتشفي الناظرين بدائها )
( شابت ذوائبها أوان شبابها ... وأسود مفرقها أوان فنائها )
( كالعين في طبقاتها ودموعها ... وسوادها وبياضها وضيائها )
أقول إنها أنور من شمعة الأرجاني وإن مشى غالب الناس على ضوئها
ومن التشابيه الغريبة المنسوبة إلى ابن المعتز أو ابن الرومي تشبيه أرباع الجوز الأخضر وهو
( جاءت بجوز أخضر مكسر مقشر ... كأنما أرباعه مضغة علك كندر )
(1/389)
________________________________________
ومن التشابيه العقم التي لم يسبق صاحبها إليها قول القائل في أحدب
( قصرت أخادعه وغاب قذاله ... فكأنه مترقب أن يصفعا )
( وكأنه قد ذاق أول صفعة ... وأحس ثانية لها فتجمعا )
ومما ينسب إلى إمام هذه الصناعة القاضي الفاضل قوله في نفسه وهو في غاية الظرف
( ما كان يكمل حر ذا ... الإيوان حتى ازداد قبه )
( فكأنني فيه خروف ... شوي ومن فوقي مكبه )
ويعجبني من التشابيه البليغة قول القائل
( أأميم لو شاهدت يوم نزالنا ... والخيل تحت النقع كالأشباح )
( تطفو وترسب في الدماء كأنها ... صور الفوارس في كؤوس الراح )
ومثله في الحسن قول الناشئ
( في كأسها صور تظن لحسنها ... عربا برزن من الحجال وغيدا )
( وإذا المزاج أثارها فتقسمت ... ذهبا ودرا توأما وفريدا )
( فكأنهن لبسن ذاك مجاسدا ... وجعلن ذا لنحورهن عقودا )
هذا المعنى ولده الناشئ من قول أبي نواس في التصوير
( بنينا على كسرى سماء مدامة ... مكللة حافاتها بنجوم )
( فلو رد في كسرى بن ساسان روحه ... إذا لاصطفاني دون كل نديم )
(1/390)
________________________________________
وألم به ابن قلاقس فيما بعد وسبكه في قالب حسن بقوله
( دارت زجاجتها وفي جنباتها ... كسرى أنوشروان في إيوانه )
( فخلعت عن عطفيه حلة قهوة ... وشربتها فغدوت في سلطانه )
وألم به الشيخ صلاح الدين الصفدي وأجاد إلى الغاية مع حسن التضمين بقوله
( ومشمولة قد هام كسرى بكأسها ... فأضحى ينادي وهو فيها مصور )
( وقفت لشوقي من وراء زجاجة ... إلى الدار من فرط الصبابة أنظر )
وألم به بعده الصاحب فخر الدين بن مكانس رحمه الله تعالى بقوله
( إذا ما أديرت في حشا عسجدية ... بها كل ذي تاج وقصر تصورا )
( فحسبك نبلا في السيادة أن ترى ... نديميك في الكاسات كسرى وقيصرا )
لم أورد هذه الأبيات التي ولدها المتأخرون في معنى التصوير خالية من التشبيه وأداته إلا لفائدة عن لي إيرادها هنا وهي معرفة الموجب لنقش هذه الصورة على ظاهر الكاسات
ذكر الفقيه أبو مروان الكاتب ابن بدرون في شرحه لقصيدة الوزير عبد المجيد بن عبدون أن سابور بن هرمز الملقب بذي الأكتاف لما رجع من قتال بني تميم قصد الروم والدخول إلى القسطنطينية متنكرا واستشار قومه قبل ذلك فحذروه فلم يقبل قولهم وصار إليها فصادف وليمة لقيصر قد اجتمع فيها الخاص والعام فدخل في جملتهم وجلس على بعض موائدهم وكان قيصر قد أحكم تصوير سابور على آنية شرابه فانتهت الكأس في المجلس إلى يد بعض ندماء الملك وكان ذكيا حاذقا ومن الاتفاق العجيب جلوس سابور في مقابلته فصار النديم ينظر إلى الصورة وإلى سابور ويتعجب من تقارب الشبهين فلم يسعه غير القيام إلى الملك والإسرار إليه بما شاهده فقبض في الحال على سابور ولما مثل بين يدي قيصر سأله عن خبره فقال أنا من أساورة سابور هربت منه لأمر خفته
فلم يقبل ذلك منه وقدم إلى السيف فأقر بنفسه وجعل في جلد بقرة
وتمام أمره إلى أن خلص وعاد إلى ملكه يطول شرحه هنا ومن أراد ذلك ينظر من سلوان المطاع في السلوانة الثانية فإنها مشتملة على أنواع من الحكمة
(1/391)
________________________________________
رجع إلى فتح باب ما كنا فيه من تشبيه المحسوس بالمحسوس فمن التشابيه الملوكية التي لا يقع مثلها للسوقة تشبيه سيف الدولة بن حمدان في قوس قزح وهو
( وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض )
( يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منفض لدينا ومنقض )
( وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا ... على الجود كنا والحواشي على الأرض )
( يطرزها قوس السحاب بأصفر ... على أحمر في أخضر أثر مبيض )
( كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض )
ومن تشابيه سيف الدولة الغريبة أيضا قوله
( أقبله على جزع ... كشرب الطائر الفزع )
ومن التشابيه اللطيفة ما نسب إلى إبليس فإن القاضي شمس الدين بن خلكان ذكر في تاريخه عند ترجمة ابن دريد أنه قال سهرت ذات ليلة فلما كان آخر الليل غمضت عيني فرأيت رجلا طويلا أصفر اللون كوسجا دخل علي وأخذ بعضادتي الباب فقال أنشدني أحسن ما قلت في الخمر
فقلت ما ترك أبو نواس لأحد دخولا في هذا الباب
فقال أنا أشعر منه
فقلت ومن أنت فقال أنا أبو ناجية من أهل الشام وأنشدني
( وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق )
( حكت وجنة المعشوق صرفا فسلطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق )
ومن بليغ التشبيهات وبديعها قول أبي محمد عبد الله بن قاضي ميلة في قصيدته الفائية التي امتدح بها ثقة الدولة القضاعي صاحب صقلية الروم وسارت له بها الركبان وأثبتها القاضي شمس الدين بن خلكان بكمالها في تاريخه وقد تقدم ذكر مطلعها في حسن الابتداء والتشبيه الموعود بإيراده هنا قوله من القصيدة المذكورة
(1/392)
________________________________________
( وجؤجؤ مزن الرعد يستل ودقه ... ترى برقه كالحية الصل يطرف )
( ذكرت بها ريا وما كنت ناسيا ... فأذكر لكن لوعة تتضعف )
( كأني إذا ما لاح والرعد معول ... وجفن السحاب الجون بالماء يذرف )
( سليم وصوت الرعد راق وودقه ... كنفث الرقى من عظم ما أتلهف )
ومن لطائف التشبيهات البليغة قول القاضي الفاضل من قصيدة
( كأن ضلوعي والزفير وأدمعي ... طلول وريح عاصف وسيول )
ومثله في اللطف قوله
( لو لم يعطل خاطري من سلوة ... ما كان خدي بالمدامع حالي )
( أودعته قلبي فخان وديعتي ... فسواده في خده كالخال )
ومن التشابيه الغريبة البديعة قوله أيضا من قصيدة أخرى
( وقد تهادت سيوف الهند إذ خضبت ... كالشرب حين تهادى بالزجاجات )
ويعجبني من لطائف التشبيه قول محيي الدين بن قرناص الحموي
( من لقلبي من جور ظبي هواه ... لي شغل عن حاجر والقويق )
( خصره تحت أحمر البند يحكي ... خنصرا فيه خاتم من عقيق )
ومن التشابيه البديعة قول مجير الدين بن تميم
( ونهر إذا ما الشمس حان غروبها ... ولاحت عليه في غلائلها الصفر )
( رأينا الذي أبقت به من شعاعها ... كأنا أرقنا فيه كأسا من الخمر )
ومثله قوله
( وناعورة قد ألبست لحيائها ... من الشمس ثوبا فوق أثوابها الخضر )
( كطاووس بستان تدور وتنجلي ... وتنفض عن أرياشها بلل القطر )
(1/393)
________________________________________
ومن التشابيه البليغة الرافلة في حلل التورية قوله أيضا
( أبدى السنان جراحة في خده ... تحت العذار فعال قلب قاسي )
( وتطلبوا الآسي فما ظفروا به ... معهم وعز وجوده في الناس )
( شبهت سوسنة أبانت وردة ... تحت البنفسج ما لها من آس )
ومثله قوله
( لو كنت حين علوت ظهر مطية ... لم يعتلقها للمطي عيون )
( وتوسطت بحر السراب حسبتني ... من فوقها ألفا وتحتي نون )
ومثله قوله
( شبهت خدك يا حبيبي عندما ... أبدى الجمال به عذارا أشقرا )
( تفاحة حمراء قد كتبوا بها ... خطا رقيقا بالنضار مشعرا )
ويعجبني قوله مع التشبيه البليغ وحسن التضمين الذي ما تضمن مثله ديوان
( غدير دار نرجسه عليه ... ورق نسيمه وصفا وراقا )
( تراه إذا حللت به لورد ... كأن عليه من حدق نطاقا )
ويعجبني من لطائف التشبيه تخيل محيي الدين بن قرناص الحموي بقوله
( لقد عقد الربيع نطاق زهر ... يضم لغصنه خصرا نحيلا )
( ودب مع العشي عذار طل ... على نهر حكى خدا أسيلا )
تشبه النهر هنا بالخد الأسيل ليس له في الحسن مثيل
ومثله قوله
( لما تبدى النهر عند عشية ... والروض يخضع للصبا والشمأل )
( عاينته مثل الحسام وظله ... يحكي الصدا والريح مثل الصيقل )
ومن التشابيه البليغة التي جمعت بحسن التورية بين الصورة والمعنى وشبب
(1/394)
________________________________________
بمحاسنها الرواة في كل مغنى قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في وصف قوس البندق بعد تغزله في الرامي
( قد حمد القوم به عقبى السفر ... عند اقتران القوس منه بالقمر )
( لولا حذار القوس من يديه ... لغنت الورق على عطفيه )
( في كفه محنية الأوصال ... قاطعة الأعمار كالهلال )
ثم قال منها وهي الطردية الموسومة بنظم السلوك في مصائد الملوك ولم يخرج عن تشبيه القوس مع اشتراك التورية
( كأنها حول المياه نون ... أو حاجب بما نشا مقرون )
ويعجبني منها قوله في وصف التم مع حسن التضمين
( تخاله من تحت عنق قد سجا ... طرة صبح تحت أذيال الدجا )
ومنها يشبه الطيور الواقعة على قسي الرماة
( كأنها وهي لدينا وقع ... لدى محاريب القسي ركع )
ومن التشابيه الغريبة التي لم يسبق الشيخ جمال الدين بن نباتة إليها قوله
( أشكو السقام وتشكو مثله امرأتي ... فنحن في الفرش والأعضاء ترتج )
( نفسان والعظم في نطع يجمعنا ... كأنما نحن في التمثيل شطرنج )
ومثله في الغرابة قوله من قصيدته اللامية التي عارض بها كعب بن زهير في مديح النبي مع التضمين الفائق
( ما يمسك الهدب دمعي حين أذكركم ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل )
ومن لطائف التشبيهات قول بدر الدين حسن الزغاري في وصف زهر الزنبق
( وزهرة من زنبق ... أنوارها وهاجه )
( صفراء في مبيضة ... كالراح في الزجاجة )
(1/395)
________________________________________
ويعجبني من التشبيه البديع قول الشيخ عز الدين الموصلي مع حسن التضمين
( وسامري أعار البدر منه سنا ... سموه نجما وهذا النجم عرار )
( تهتز قامته من تحت عمته ... كأنه علم في رأسه نار )
وأما التشبيه الذي ولده الشيخ برهان الدين القيراطي فإنه من غايات هذا الباب وهو قوله من قصيدة
( والبدر يستر بالغيوم وينجلي ... كتنفس الحسناء في مرآتها )
وقال أبو حفص برد
( والبدر كالمرآة غير صقلها ... عبث الغواني فيه بالأنفاس )
والمضمن الربع الأخير من البيت وهو من شعر أبي بكر محمد بن هاشم
ومن لطيف التشبيه قول الشيخ علاء الدين علي بن أيبك الدمشقي
( منمنم العارض غنى لنا ... أشياء في السمع حلا ذوقها )
( كأنما في فيه قمرية ... تشدو ومن عارضه طوقها )
ومن التشابيه البديعية التي لم تدرك في هذا الباب تشابيه الصاحب فخر الدين بن مكانس في قصيدته المشهورة المشتملة على وصف شجرة السرح
( مالت على النهر إذ جاش الخرير به ... كأنها أذن مالت لإصغاء )
( كأن صمغتها الحمرا بقشرتها الدكناء ... قرص على أعكان سمراء )
ومنها في وصف سواد السفينة على بحر النيل
( نسعى إليها على جرداء جارية ... من آلة كهلال الأفق حدباء )
( سوداء تحكي على الماء المصندل شامة ... على شفة كالشهد لعساء )
وتظرف الشيخ عز الدين الموصلي بقوله في هذا النوع وإن لم يأت ببليغ التشبيه
(1/396)
________________________________________
( قيل صف هذا الذي همت به ... قلت في وصفي مع حسن المسالك )
( هو كالغصن وكالظبي وكالشمس ... وكالبدر وما أشبه ذلك ) لطف التشبيه في قوله وما أشبه ذلك
ومن التشابيه التي لم أسبق إليها قولي من قصيدة
( حين قابلت خده بدموع ... أثرت خلت ثوب خز مختم )
ومثله قولي من قصيدة
( والغصن يحكي النون في ميلانه ... وخياله في الماء كالتنوين )
ومثله قولي من المدائح المؤيدية
( يا حامي الحرمين والأقصى ومن ... لولاه لم يسمر بمكة سامر )
( والله إن الله نحوك ناظر ... هذا وما في العالمين مناظر )
( فرج على الملحون نظم عسكرا ... وأطاعه في النظم بحر وافر )
( فأنبت منه زحافه في وقفه ... يا من بأحوال الوقائع شاعر )
( وجميع هاتيك البغاة بأسرهم ... دارت عليهم من سطاك دوائر )
( وعلى ظهور الخيل ماتوا خيفة ... فكأن هاتيك السروج مقابر )
تالله لقد وقع هذا التشبيه من مولانا السلطان خلد الله ملكه بموقع وأعجبه غاية الإعجاب واستعاده منه مرارا
ومن التشابيه العقم قولي في وصف حمائم البطائق من الرسالة التي عارضت بها الفاضل كم زاحمت النجوم بالمناكب حتى ظفرت بكف خضيب وانحدرت كأنها دمعة سقطت على خد الشفيق لأمر مريب وكم لمع في أصيل الشمس خصاب كفها الوضاح فصارت بسموها وفرط البهجة كمشكاة فيها مصباح
انتهى ما أوردته نظما ونثرا من بليغ التشبيه في باب المحسوس بالمحسوس
(1/397)
________________________________________
وقد تعين أن أورد هنا ما وقع في النظم من التشبيه الذي هو غير بليغ لينفتح هن الطالب وتصفوا مرآة ذوقه فقد عاب الأصمعي بين يدي الرشيد قول النابغة
( نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر المريض إلى وجوه العود )
فقال يكره تشبيه المحبوب بالمريض ومثله قول أبي محجن الثقفي في وصف قينة
( ترجع العود أحيانا وتخفضه ... كما يطير ذباب الروضة الغرد )
قد تقدم القول وتقرر أن المولدين ومن تبعهم رغبوا عن تشابيه العرب لأنها مع عقادة التركيب لم تسفر عن كبير أمر
وقال ابن رشيق في العمدة إن طريق العرب خولفت في كثير من الشعر إلى ما هو أليق بالوقت وأمس بأهله فإن القينة الجميلة لم ترض أن تشبه نفسها بالذباب كما قال أبو محجن
ومثل ذلك قول ابن عون الكاتب
( يلاعبها كف المزاج محبة ... لها وليجري الآن بينهما الأنس )
( فتزبد من تيه عليه كأنها ... عزيزة خدر قد تخبطها المس )
بشاعة هذا التشبيه تمجها الأذواق الصحيحة وتنفر منها الطباع السليمة فإن أهل الذوق ما يطيب لهم أن يشربوا شيئا يشبه زبد المصروع
ومن التشابيه الغريبة التي جمعت بين عدم البلاغة وعقادة التركيب قول الشاعر
( فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرا رسومها قلما )
التقدير فأصبحت بعد بهجتها قفرا كان قلما خط رسومها
وعدوا من التشابيه التي هي غير بليغة قول الشاعر في وصف الروض
( كأن شقائق النعمان فيه ... ثياب قد روين من الدماء )
فهذا وإن كان تشبيها مضيئا فإن فيه بشاعة كثرة الدماء التي تعاف الأنفس اللطيفة رؤيتها وثبوت هذا النقد اتصل بالمتأخرين ونقدوه على الحاجري في قوله
( وما اخضر ذاك الخد نبتا وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر )
(1/398)
________________________________________
وقالوا ما زاد الحاجري على أن جعل خد محبوبه مسلخا
فالتشبيه أيضا وإن كان مضيئا فإن فيه بشاعة شق المرائر على خد المحبوب
وبعضهم ما اكتفى بشق المرائر على خد محبوبه حتى سفك عليه الدماء بقوله
( وما أحمر ذاك الخد واخضر فوقه ... عذارك إلا من دم ومرائر )
ومثل ذلك ما عابوه على ابن قلاقس في قوله
( أما ترى الصبح يخفى في دجنته ... كأنما هو سقط بين أحشائي )
لا شك أن بهجة الصبح في أواخر الليل أبهج من السقط بين الأحشاء والمشبه أعلى وأغلى من المشبه به وعلى كل تقدير فالسقط بين الأحشاء وسفك الدماء وشق المرائر على خدود الأحباب تنفر منها الأمزجة اللطيفة اللهم إلا أن يكون ذلك ليس له تعلق بشيء من أوصاف المحبوب بل يكون تعلقه بحكاية حال واقعة كقول الشاعر
( نزلنا بنعمان الأراك وللندى ... سقيط به ابتلت علينا المطارف )
( وقفت بها والدمع أكثره دم ... كأني من جفني بنعمان راعف )
هذه الحالة لا ينكر لها جريان الدمع دما فإنها حالة لائقة بجريانه على هذه الصفة لأن هذا الشاعر لما أن نزل بنعمان التي هي منازل أحبابه ووجدها مقفرة منهم لاق بحاله أن يجري الدمع لشدة الأسف دما
( ومثله قول ابن قاضي ميلة من قصيدته التي تقدم ذكرها
( ولما التقينا محرمين وسيرنا ... بلبيك ربا والركائب تعسف )
( نظرت إليها والمطي كأنما ... غواربها منها معاطس رعف )
هذا التشبيه غاية في هذا الباب وجريان الدماء من غوارب المطي لائق بحكاية حاله فإن هذه الحالة فيها لطف الكنايات عن التعسف في شدة السرى
قلت وإن سبكت هذه الحالة في قوالب الهجو ورصعها الشاعر في صفات من هجاه كانت أحسن موقعا وأبلغ موضعا كقول مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري
(1/399)
________________________________________
البارزي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية عظم الله تعالى شأنه في هجو من لا يمكن ذكره هنا من قصيدة
( وقد علت أسنانه صفرة ... تكدر العيش المريء المريع )
( ولحمها من ورم فاسد ... كالرئة المحبوس فيها نجيع )
هذا التشبيه لم أجد له شبيها في هذا الباب إلا تشبيه ابن الرومي في هجو الورد وقد تقدم ذكره فلو جمع المتأمل بين المشبه المهجو وبين المشبه به وشاهد هذا التخييل الغريب عيانا صدق صحة دعواي في ذلك
ومن التشابيه التي هي غير بليغة قول ابن وزير في تشبيه الماء على الرخام
( لله يوم بحمام نعمت به ... والماء من حوضه ما بيننا جاري )
( كأنه فوق شقات الرخام ضحى ... ماء يسيل على أثواب قصار )
وتلطف ابن الدوري في هجاء هذا الشاعر حيث قال
( وشاعر أوقد الطبع الذكاء له ... فكاد يحرقه من فرط إذكاء )
( أقام يجهد أياما قريحته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء )
ذكرت هنا من التشابيه التي هي غير بليغة قول الشيخ صلاح الدين الصفدي في تشبيه القمر في خلال الأغصان لما انثنت
( كأنما الأغصان لما انثنت ... أمام بدر التم في غيهبه )
( بنت مليك خلف شباكها ... تفرجت منه على موكبه )
وقد أورد عليه علامة عصرنا القاضي بدر الدين الدماميني فسح الله تعالى في أجله في كتابه المسمى بنزول الغيث الذي انسجم في شرح لامية العجم نقدا كشف به القناع عن عدم بلاغة هذا التشبيه
فإن الشيخ بدر الدين المشار إليه قال وقوله صحيح إن ظاهر عبارة الشيخ صلاح الدين تشبيه الأغصان في حالة انثنائها أمام البدر
(1/400)
________________________________________
في الدجى ببنت مليك تطل من شباكها للنظر في موكب أبيها
وذلك عن مظان التشبيه بمعزل
ومقصوده أن البدر في حالة ظهوره من خلال الأغصان المتثنية على الصفة المذكورة يشبه بنت مليك على تلك الحالة تمثيلا للهيئة الاجتماعية لكن اللفظ لا يساعده على ذلك المطلوب فإنه جعل الأغصان مبتدأ وأخبر عنه بقوله بنت مليك فلم يتم له المراد
على أن مقطوع الشيخ صلاح الدين مع ما فيه من عدم بلاغة التشبيه مأخوذ من قول محيي الدين بن قرناص الحموي
( وحديقة غناء ينتظم الندى ... بفروعها كالدر في الأسلاك )
( والبدر يشرق من خلال غصونها ... مثل المليح يطل من شباك )
قلت ليس لأهل النقد مدخل في هذا الشباك
انتهى ما أوردته هنا من التشبيه الذي هو غير بليغ في باب المحسوس بالمحسوس وقد تقدم القول على موجب تقديمه في باب التشبيه وتقرر أن مدركات السمع والبصر والذوق والشم واللمس التي هي الحواس الخمس أوضح في الجملة مما لا تقع عليه الحواس انتهى
القسم الثاني وهو تشبيه المعقول بالمعقول أقول إن هذا النوع في هذا الباب ليس له مواقع المحسوسات وقد تكرر قولي في ذلك
وأحسن ما وجدت فيه أعني تشبيه المعقول بالمعقول قول أبي الطيب المتنبي
( كأن الهم مشغوف بقلبي ... فساعة هجرها يجد الوصالا )
وظريف هنا قول القائل من أبيات مع بديع الاستطراد
( لفظ طويل تحت معنى قاصر ... كالعقل في عبد اللطيف الناظر )
القسم الثالث تشبيه المعقول بالمحسوس وهو إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة كقوله تعالى ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا )
فتشبيه أعمال الكفار بالسراب من أبلغ التشابيه وأبدعها
ومثله قوله تعالى ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف )
ومن النظم قول أبي علي ابن سينا
( إنما النفس كالزجاجة والعلم ... سراج وحكمة الله زيت )
(1/401)
________________________________________
ويعجبني في هذا الباب أعني تشبيه المعقول بالمحسوس قول ابن منير الطرابلسي
( زعم كمنبلج الصباح وراءه ... عزم كحد السيف صادف مقتلا )
القسم الرابع تشبيه المحسوس بالمعقول قد تقدم أن هذا القسم عند أهل المعاني والبيان غير جائز وما ذاك إلا أن العلوم العقلية مستفادة من الحواس ومنتهية إليها ولذلك قيل من فقد حسا فقد علما
ووجه الصواب في تشبيه المحسوس بالمعقول أن يقدر البليغ المعقول محسوسا ويجعل أصل المحسوس على طريق المبالغة فرعا فيصبح التشبيه حينئذ كقول الشاعر
( وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع )
فإنه لما شاع وصف السنة بالبياض والإشراق لقول النبي أتيتكم بالحنيفية البيضاء ليلها كنهارها
واشتهرت البدعة وكل ما ليس بحق بالظلمة والسواد كقولهم ليل الشرك أقام هذا الشاعر السنن مقام الأجناس التي لها إشراق وبياض والبدع مقام أجناس السواد والظلمة فصار ذلك عنده كتشبيه محسوس بمحسوس فجاز له التشبيه على هذا التقدير كقول أبي طالب الرقي
( ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق )
فإنه لما كانت الأوقات التي تحدث فيها المكاره توصف بالسواد كقول من يغتاله مكروه اسودت الدنيا في عيني جعل هذا الشاعر يوم النوى أشهر بالسواد من الظلام فشبهه وعرفه به ثم عطف عليه بفؤاد من لم يعشق تظرفا لأن ظريف العشاق يدعي قسوة قلب من لم يعشق والقلب القاسي يوصف بشدة السواد فصار هذا القلب عنده أصلا في السواد على هذا التقدير فقس على ذلك
ومثله قول القائل
( أسفر ضوء الصبح من وجهه ... فقام خال الخد فيه بلال )
( كأنما الخال على خده ... ساعة هجر في ليالي الوصال )
سواد ساعة الهجر وبياض زمان الوصل قد فهم على ما تقرر وتكرر
(1/402)
________________________________________
ومن ذلك قول الشاعر
( كأن انتضاء البدر من تحت غيمه ... نجاة من البأساء بعد وقوع )
ومن البديع الغريب في هذا الباب قول القاضي التنوخي
( أما ترى البرد قد وافت عساكره ... وعسكر الحر كيف انساب منطلقا )
( فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا )
( جاءت ونحن كقلب الصب حين سلا ... بردا فصرنا كقلب الصب إذ عشقا )
ويعجبني هنا قول الصاحب بن عباد وقد أهدى إلى القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني عطرا
( أهديت عطرا مثل طيب ثنائه ... فكأنما أهدى له أخلاقه )
ومن التشابيه البليغة في هذا الباب قول الشهاب محمود في تشبيه بعض الحصون والمبالغة في علوه
( كأنه وكأن الجو يكنفه ... وهم تكنفه في طيها الفكر )
وغاية الغايات في هذا الباب أعني تشبيه المحسوس بالمعقول قول أبي نواس رحمه الله
( معتقة صاغ المزاج لرأسها ... أكاليل در ما لناظمها سلك )
( جرت حركات الدهر فوق سكونها ... فذابت كذوب التبر أخلصه السبك )
( وأدرك منها الفائزون بقية ... من الروح في جسم أضر به النهك )
( وقد خفيت من لطفها فكأنها ... بقايا يقين كاد يذهبه الشك )
ومثله قوله وأجاد فيه إلى الغاية
( وندمان سقيت الراح صرفا ... وستر الليل منسدل السجوف )
( صفت وصفت زجاجتها عليها ... كمعنى دق في ذهن لطيف )
(1/403)
________________________________________
والذي سارت له به الركبان في هذا الباب قوله
( فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم )
انتهى ما أوردته من تشبيه المحسوس بالمعقول وتقرير صوابه وإيراد بديعه وغريبه
وقد تقرر وتكرر أن تشبيه المحسوس بالمحسوس هو المقدم في باب التشبيه وعلى أسه شيد أصحاب البديعيات بيوتهم
ولكن بيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته غير صالح للتجرد فإنه متعلق بالبيت المشتمل على ائتلاف اللفظ مع المعنى فتعين إيراد البيتين هنا لتظهر نتيجة التشبيه
فبيت ائتلاف اللفظ مع المعنى في بديعيته قوله
( كأنما حلق السعدي منتثرا ... على الثرى بين منقض ومنفصم )
وأتبعه بقوله في التشبيه
( حروف خط على طرس مقطعة ... جاءت بها يد غمر غير مفتهم )
قلت الكمال لله كل من البيتين فيه نقص لافتقاره إلى الآخر ولو تجرد أحدهما عن أخيه ما حسن السكوت عليه ولا تمت به فائدة وكيف يصح التشبيه في بيت واحد وجل القصد به أن يكون بمجرده مثالا للنوع المذكور والمشبه في البيت الأول والمشبه به في البيت الثاني والذي أقوله إنني لم أر في البيت الأول المشتمل على ائتلاف اللفظ مع المعنى معنى ولا على بيت التشبيه الذي بعده للبلاغة بهجة لافتقاره إلى الأول والله أعلم
ومن غرائب ما ينقل هنا أن العميان ما نظموا نوع التشبيه في بديعيتهم ونظموا رد العجز على الصدر وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله في مديح النبي
( وقيل للبدر تشبيه إليه نعم ... نجم الثريا له كالنعل في القدم )
بيت الشيخ عز الدين هنا صالح للتجريد بخلاف بيت الشيخ صفي الدين إذ المراد به أن يكون بمجرده شاهدا على نوع التشبيه ولكن معناه مأخوذ من بيت الفاضل في قصيدته الطائية المشهورة والبيت المأخوذ منه هذا المعنى قوله منها
( أما الثريا فنعل تحت أخمصه ... وكل قافية قالت لذلك طا )
(1/404)
________________________________________
من أين لعقادة الشيخ عز الدين أو لغيره أن يقول في الشطر الأول من بيت قافيته طائية
( أما الثريا فنعل تحت أخمصه )
ويقول في الشطر الثاني
( وكل قافية قالت لذلك طا )
انتهى
وبيت بديعيتي جمعت فيه بين شرف المديح النبوي وشرف تشبيه القرآن إذ هو المقدم في هذا الباب على كل تشبيه فإنني قلت في البيت المشتمل على نوع التفريق البديعي
( قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم )
ولم أزل أظهر في أفق البلاغة كماله إلى أن قلت في التشبيه
( والبدر في التم كالعرجون صار له ... فقل لهم يتركوا تشبيه بدرهم )
(1/405)
________________________________________
التشبيه بالتلميح
ثم إني قلت بعده في التلميح الذي ما يلمح في صفات النبي أحسن منه
( ورد شمس الضحى للقوم خاضعة ... وما ليوشع تلميح بركبهم )
التلميح هو في الاصطلاح أن يشير ناظم هذا النوع في بيت أو قرينة سجع إلى قصة معلومة أو نكتة مشهورة أو بيت شعر حفظ لتواتره أو إلى مثل سائر يجريه في كلامه على جهة التمثيل
وأحسنه وأبلغه ما حصل به زيادة في المعنى المقصود
وسماه قوم التمليح بتقديم الميم كأن الناظم أتى في بيته بنكتة زادته ملاحة كقول ابن المعتز
( أترى الجيرة الذين تداعوا ... عند سير الحبيب وقت الزوال )
( علموا أنني مقيم وقلبي ... راحل فيهم أمام الجمال )
( مثل صاع العزيز في أرحل القوم ... ولا يعلمون ما في الرحال )
هذا التلميح فيه إشارة إلى قصة يوسف عليه السلام حين جعل الصاع في رحل أخيه وإخوته لم يشعروا بذلك
ومن لطائف التلميح قول أبي فراس
(1/406)
________________________________________
( فلا خير في رد الأذى بمذلة ... كما رده يوما بسوأته عمرو )
هذا التلميح فيه إشارة إلى قصة عمرو بن العاص مع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم صفين حين حمل عليه الإمام ورأى عمرو أن لا مخلص له منه فلم يسعه غير كشف العورة
ومن الحديث على جهة التورية قول بعضهم في مليح اسمه بدر
( يا بدر أهلك جاروا ... وعلموك التجري )
( وقبحوا لك وصلي ... وحسنوا لك هجري )
( فليفعلوا ما أرادوا ... فإنهم أهل بدر )
هذا التلميح فيه إشارة إلى قول النبي لعمر حين سأل قتل حاطب لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
ومن ذلك قول الشاعر
( لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي ... أرق وأحنى منك في ساعة الهجر )
هذا الشاعر أشار بتلميحه في هذا البيت إلى البيت المشهور الذي ما برح الناس يتمثلون به عند من هو موصوف بالقسوة وهو
( المستجير بعمرو عند كرمته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار )
ومن ذلك قول بعضهم
( يقولون كافات الشتاء كثيرة ... وما هي إلا واحد غير مفترى )
( إذا كان كاف الكيس فالكل حاصل ... لديك وكل الصيد يوجد في الفرا )
(1/407)
________________________________________
هذا الشاعر أشار في تلميح نيته إلى قول ابن سكرة
( جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا )
( كن وكيس وكانون وكأس طلا ... بعد الكباب وكس ناعم وكسا )
ومن أظرف ما وقع هنا أن امرأة من أهل الحذق والظرافة قيل لها من أنت وكانت ملتفة في كساء فقالت أنا السادس في السابع أشارت في تلميحها اللطيف إلى السادس والسابع من قول ابن سكرة فكأنها قالت أنا الكس الناعم في الكساء
ونظم بعضهم هذا المعنى في بيتين فقال
( رأيتها ملفوفة في كسا ... خوفا من الكاشح والطامع )
قلت لها من أنت يا هذه ... قالت أنا السادس في السابع )
وهذا غاية لا تدرك في باب التلميح
ومن هذا القبيل قول الحريري في المقامات وإني والله لطالما تلقيت الشتاء بكافاته وأعددت له أهبا قبل موافاته ومثله قوله في المقامات أيضا فبت بليلة نابغية
يشير إلى قول النابغة
( فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع )
والضيئلة هي الحية الدقيقة
ومن لطائف التلميح قصة الهذلي مع منصور بني العباس فإنه حكي أن المنصور وعد الهذلي بجائزة ونسي فحجا معا ومرا في المدينة النبوية ببيت عاتكة فقال الهذلي يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص
( يا بيت عاتكة التي أتغزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل )
فأنكر عليه أمير المؤمنين لأنه تكلم من غير أن يسأل
فلما رجع الخليفة نظر في القصيدة إلى آخرها ليعلم ما أراد الهذلي بإنشاد ذلك البيت من غير استدعاء فإذا فيها
( وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل )
(1/408)
________________________________________
فعلم أنه أشار إلى هذا البيت بتلميحه الغريب فتذكر ما وعده به وأنجزه له واعتذر إليه من النسيان
ومثله ما حكي أن أبا العلاء المعري كان يتعصب للمتنبي فحضر يوما مجلس الشريف المرتضى فجرى ذكر أبي الطيب فهضم المرتضى من جانبه فقال أبو العلاء لو لم يكن له من الشعر إلا قوله لك يا منازل في القلوب منازل لكفاه
فغضب المرتضى وأمر به فسحب وأخرج وبعد إخراجه قال المرتضى هل تدرون ما عنى بذكر البيت فقالوا لا والله فقال عنى به قول أبي الطيب في القصيدة
( وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل )
ومن هذا القبيل قصة السري الرفاء مع سيف الدولة بسبب المتنبي أيضا فإن السري الرفاء كان من مداح سيف الدولة وجرى يوما في مجلسه ذكر أبي الطيب فبالغ سيف الدولة في الثناء عليه فقال له السري أشتهي أن الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده لأعارضها له ويتحقق بذلك أنه أركب المتنبي في غير سرجه
فقال له سيف الدولة على الفور عارض لنا قصيدته القافية التي مطلعها
( لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقى ... وللحب ما لم يبق منه وما بقى )
قال السري فكتبت القصيدة واعتبرتها في تلك الليلة فلم أجدها من مختارات أبي الطيب لكن رأيته يقول في آخرها عن ممدوحه
( إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له الحق )
فقلت والله ما أشار سيف الدولة إلا إلى هذا البيت وأحجمت عن معارضة القصيدة
وألطف من هذا ما حكاه ابن الجوزي في كتاب الأذكياء فإنه من غرائب التلميح
قال قعد رجل على جسر بغداد فأقبلت امرأة بارعة في الجمال من جهة الرصافة إلى الجانب الغربي فاستقبلها شاب فقال لها رحم الله علي بن الجهم
فقالت له رحم الله أبا العلاء المعري
وما وقفا بل سارا مغربا ومشرقا
قال الرجل فتبعت المرأة فقلت لها والله إن لم تقولي لي ما أراد بابن الجهم فضحتك قالت أراد به
( عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري )
(1/409)
________________________________________
وأردت أنا بأبي العلاء قوله
( فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال )
ورسالة الوزير أبي الوليد بن زيدون المخزومي الأندلسي غالبها مبني على نوع التلميح ولا بد أن أذكر الموجب لإنشائها بحيث يتلمح المتأمل تلميحها
وسبب إنشاء هذه الرسالة البديعة أنه كان بقرطبة امرأة ظريفة متأدبة من بنات خلفاء العرب المنسوبين إلى عبد الرحمن بن الحكم المعروف بالداخل
في بني عبد الملك بن مروان تسمى ولادة بنت المستكفي بالله ابتذل حجابها بعد نكبة أبيها وقتله فصارت تجلس للشعراء والكتاب وتحاضرهم وتطارحهم
وكانت ذات جمال بارع وأدب غض ودماثة أخلاق وكان لها ميل إلى ابن زيدون بخلاف غيره من أهل العصر
فمما كتبت إليه وهي راضية عنه
( ترقب إذا جن الظلام زيارتي ... فإني رأيت الليل أكتم للسر )
( وبي منك ما لو كان بالبدر لم ينر ... وبالليل لم يظلم وبالنجم لم يسر )
وكتبت إليه وهي غضبى
( إن ابن زيدون على فضله ... يلهج بي شتما ولا ذنب لي )
( يلحظني شزرا إذا جئته ... كأنما جئت لأخصي علي )
تشير في تلميحها اللطيف إلى غلام كان متهما به
ومن غض شعرها قولها
( أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه تيها )
( وأمكن عاشقي من صحن خدي ... وأعطي قبلتي من يشتهيها )
ومما ينسب إليها
( لحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود )
( جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود )
(1/410)
________________________________________
وكان ابن زيدون كثير الشغف بها والميل إليها وأكثر غزل شعره فيها وقد تقدم ذكر ميلها إليه بخلاف أهل عصره من أهل الأدب لحسن أدبه ولطائف شمائله وتقدمه على أهل زمانه
وكان الوزير أبو عامر بن عبدوس كثير الهيمان بها واجتهد في التوصل إليها والاجتماع بها والاقتطاف من ثمار آدابها الغضة والتمتع بجمالها البارع فعجز عن ذلك لكثرة ميلها إلى ابن زيدون وتوصل إلى أن أرسل إليها امرأة من خواصه لتستميلها إليه وتعرفها عظم مقامه وسمو رتبته على غيره وتبالغ في التوصل إلى رغبتها فيه فبلغ ذلك ابن زيدون فأنشأ هذه الرسالة على لسان ولادة تتضمن سب الوزير أبي عامر والتهكم به وبنى غالبها على نوع التلميح وجعلها جوابا عنها فاشتهر ذكر الرسالة في الآفاق وأمسك الوزير ابن عبدوس عن التعرض إلى ولادة
فمن سجعات الرسالة المبنية على التلميح قوله منها على لسان ولادة يخاطب الوزير ابن عبدوس حتى قالت إن باقلا موصوف بالبلاغة إذا قرن بك
هذا التلميح فيه إشارة إلى عمرو بن ثعلبة الأيادي الذي يضرب به المثل في العي فيقال فلان أعيى من باقل
قال أبو عبيدة بلغ من عيه أنه اشترى ظبيا بأحد عشر درهما فلقيه شخص والظبي معه فقال له بكم اشتريته ففتح كفيه وفرق أصابعه وأخرج لسانه يشير إلى أحد عشر فهرب الظبي
ومنها وهبنقة مستوجب لاسم العقل إذا أضيف إليك
هذا التلميح يشير فيه ابن زيدون إلى يزيد ابن ثروان أحد بني قيس ابن ثعلبة الملقب بهبنقة المكنى بأبي الودعات لأنه نظم ودعا في سلك وجعله في عنقه علامة لنفسه لئلا يضيع وهو جاهلي يضرب به المثل في الحمق
قيل إنه كان إذا رعى غنما أو إبلا جعل مختار المراعي للسمان ونحى المهازيل عنها وقال لا أصلح ما أفسد الله
واختصم بنو راسب وبنو طفاوة في شخص يدعونه وأطلعوا هبنقة على أمرهم فقال ألقوه في البحر فإن رسب فهو من بني راسب وإن طفى فهو من بني طفاوة
واشترى أخوه بقرة بأربعة أعنز فركبها فأعجبه عدوها فالتفت إلى أخيه وقال زدهم عنزا
فضرب بها المثل للمعطي بعد إمضاء البيع ثم سار فرأى أرنبا تحت شجرة ففزع منها وهمز البقرة وقال
( الله نجاني ونجا البقرة ... من جاحظ العينين تحت الشجره )
(1/411)
________________________________________
ومنها وطويسا ما نور عنه يمن الطائر إذا قيس عليك
هذا التلميح يشير به إلى عيسى بن عبد الله مولى بني مخزوم وكنيته أبو النعيم كان مخنثا ماجنا ظريفا يسكن المدينة وهو أول من غنى على الدف بالعربية ولكن ضرب في شؤمه المثل
فإنه ولد يوم قبض رسول الله وفطم يوم مات أبو بكر وختن يوم قتل عمر وزوج يوم قتل عثمان وكانت أمه تمشي بالنميمة بين نساء الأنصار
ومن تلميح هذه الرسالة التي هي غاية في هذا الباب قوله منها يشير إلى ابن عبدوس والله لو كساك محرق البردين وحلتك مارية بالقرطين وقلدك عمرو الصمصامة وحملك الحرث على النعامة ما شككت في إياك ولا كنت إلا ذاك
السجعة الأولى تشير في تلميحها إلى عمرو بن المنذر بن ماء السماء كان يسمى من شدة بأسه محرقا وقصة هذه التسمية استوفى أبو الفرج صاحب الأغاني شرحها في كتابه وأما قصة البردين فحكي أن الوفود اجتمعت عند محرق فأخرج من لباسه بردين وقال ليقم أعز العرب قبيلة فليأخذهما
فقام عامر بن أحيمر فأخذهما فائتزر بواحدة وارتدى بالأخرى فقال له محرق أنت أعز العرب قبيلة فقال نعم لأن العز كله في معد والعدد في معد ثم في نزار ثم في مضر ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب فمن أنكر ذلك فليناظرني
فسكت الناس
فقال هذه عشيرتك كما تزعم فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك فقال أنا أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة وخال عشرة وها أنا في نفسي وشاهد العز شاهدي ثم وضع قدمه على الأرض وقال من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل
فلم يقم إليه أحد فخرج بالبردين وضرب المثل بعزه وببرديه
والسجعة الثانية تشير في تلميحها إلى مارية وقصتها المشهورة بالقرطين
وهي مارية ابنة ظالم بن وهب الكندي زوج الحرث الأكبر الغساني ملك العرب بالشام وهي أم الحرث الأصغر وأمها هند الهنود وكان في قرطيها درتان عجيبتان كبيضتي الحمام ولم ير مثلهما توارثتهما الملوك إلى أن وصلتا إلى عبد الملك بن مروان فوهبهما لابنته فاطمة لما زوجها بعمر بن عبد العزيز فلما ولي عمر الخلافة قال لها إن أحببت المقام عندي فضعي القرطين والحلي في بيت مال المسلمين فأجابته إلى سؤاله فلما مات وولي يزيد بن عبد الملك أرسل إليها يقول لها خذي القرطين والحلى فقالت لا والله ما أوافقه في حال حياته وأخالفه بعد وفاته
والسجعة الثالثة تشير في تلميحها إلى عمر بن معد يكرب الزبيدي الفارس المشهور بكثرة الغارات والوقائع بين العرب في الجاهلية قبل إسلامه وكان يكنى أبا ثور والصمصامة سيفه المشهور
قال عبد الملك بن عمر أهدت بلقيس إلى سليمان
(1/412)
________________________________________
عليه السلام خمسة أسياف وهم ذو الفقار وذو النون ومخذم ورسوب والصمصامة
فأما ذو الفقار فكان لرسول الله أخذه من منبه بن الحجاج يوم بدر
ومخذم ورسوب كانا للحرث بن جبلة الغساني
وذو النون والصمصامة لعمرو بن معد يكرب
وانتقلت الصمصامة إلى سعيد بن العاص ولم تزل إلى أن صعد المهدي البصرة فلما كان بواسط أرسل إلي بني العاص يطلب الصمصامة منهم فقالوا إنه قد صار محتسبا في السبيل فقال خمسون سيفا في السبيل أغنى من سيف واحد وأعطاهم خمسين سيفا وأخذه ثم وصل إلى المتوكل فدفعه إلى بعض مماليكه الأتراك فقتله به
والسجعة الرابعة تشير في تلميحها إلى فرس الحرث بن عباد التغلبي سيد بني وائل سمتها العرب لخفتها وسرعة جريها بالنعامة وضربت بها الأمثال
وكان الحرث يكرر قوله في كل وقت بإنشاده قربا مربط النعامة مني
انتهى
ولولا خوف الإطالة لأوردت من هذه الرسالة غالب تلميحها فإنه نسيج وحدها على هذا المنوال أعني التلميح
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على هذا النوع قوله
( أن ألقها تتلقف كل ما صنعوا ... إذا أتيت بسحر من كلامهم )
بيت الشيخ صفي الدين هنا أيضا متعلق بما قبله والضمير في ألقها عائد على العصا فإنه قال في بيت الاقتباس
( هذي عصاي التي فيها مآرب لي ... وقد أهش بها طورا على غنمي )
وقال بعده في بيت التلميح أن ألقها
البيت
ورأيته يسلك هذا المسلك في غالب بديعيته وهو غير لايق به إذ المراد من كل بيت أن يكون شاهدا على ذلك النوع بمجرده والتلميح في بيته هو الإشارة إلى قصة موسى عليه السلام مع السحرة لما ألقى العصا
وبيت العميان في بديعيتهم
( ويقرع السمع عن حق زواجره ... قرع الرماح ببدر ظهر منهزم )
(1/413)
________________________________________
العميان أشاروا في تلميحهم إلى قصة يوم بدر ولكن ليس على شمائل بيتهم من رونق التلميح لمحة
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( وبان في كتب التاريخ من قدم ... تلميح قصة موسى مع معدهم )
لم ألمح من خلال بيت الشيخ عز الدين غفر الله له لمحة تدلني على نور التلميح لكنه حكى حكاية مضمونها أن كتب التاريخ القديمة بان فيها تلميح قصة موسى عليه السلام مع معد
والله أعلم
وبيت بديعيتي تقدمني في تلميحه أبو تمام بقوله متغزلا في بعض قصائده وقد سفرت محبوبته من جانب الخدر ليلا
( فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع
( فوالله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع )
فلما انتهيت في نظم بديعيتي إلى هذا النوع أعني التلميح رأيت النبي أحق به وأنا أحق به من أبي تمام فإني نظمته في سلك المعجزات النبوية فهامت عيون الأذواق إلى بهجة تلميحه وقد تقدم قولي في بيت التشبيه عن النبي
( والبدر في التم كالعرجون صار له ... فقل لهم يتركوا تشبيه بدرهم )
ثم قلت بعده في التلميح
( ورد شمس الضحى للقوم خاضعة ... وما ليوشع تلميح بركبهم )
أنظر أيها المتأمل إلى انسجام هذا البيت مع الذي قبله وإلى ظهور النقص في بيت أبي تمام بانتقال نور التلميح إلى شرف هذا البيت النبوي
والله أعلم
(1/414)
________________________________________
ذكر تشبيه شيئين بشيئين
( شيآن قد أشبها شيئين فيه لنا ... تبسم وعطا كالبرق في الديم )
هذا النوع أعني تشبيه شيئين بشيئين من المحاسن العزيزة الوقوع بخلاف كبيرة العدد في التشبيه فإن ذلك نوع اللف والنشر أحق به وهو في الاصطلاح أن يقابل الشاعر بين الأربعة ويلتزم أن كل واحد من المشبه يسد مسد المشبه به
ومما حكي عن بشار بن برد أنه قال ما زلت منذ سمعت قول امرئ القيس في وصف العقاب
( كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي )
لا يأخذني الهجوع حسدا له إلى أن قلت في وصف الحرب
( كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه )
ومما يعجبني في هذا الباب إلى الغاية قول إبراهيم بن سهل الإشبيلي
( كأن القلب والسلوان ذهن ... يحوم عليه معنى مستحيل )
ومن الغايات التي لا تدرك في هذا الباب وأنا أستغفر الله قولي من قصيدة
( وحمرة الخد أبدت خيط عارضه ... فخلت كأس مدام وهو مشعور )
(1/415)
________________________________________
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( تلاعبوا تحت ظل السمر من مرح ... كما تلاعبت الأشبال في الأجم )
بيت الشيخ صفي الدين في هذا النوع عامر بالمحاسن رافل في حلل الانسجام والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( شيئان تشبيه شيئين انتبه لهما ... حلم وجهل هما كالبرء والسقم )
نعوذ بالله من آفة الغفلة ممدوح هذا البيت هو النبي وقد تقدمه قوله في مديحه
( هل من مقاربة في السير بعد نوى ... بأطيب التمر بين العرب والعجم )
وقال بعده هذا البيت الداثر
وقد سلمنا أنه قابل فيه حلم النبي بالبرء وأما ذكر الجهل في هذا البيت فهو في غاية الجهل وليس له ما يقابله غير التأديب على قلة أدبه وقد قابل به السقم ولا أعلم ما مراده به
وطالعت شرحه فوجدته قد قرر حد النوع وفر من الكلام على معنى البيت بخلاف أبيات القصيدة
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( شيئان قد أشبها شيئين فيه لنا ... تبسم وعطا كالبرق في الديم )
هذا البيت البديع في لفظه ومعناه ما أشك أن أبا بكر مقدم فيه على الحلي والموصلي فإنه وضعه في محله والنبي أحق به من كل ممدوح وقد جمع فيه بين حسن اللف والنشر وبليغ التشبيه
وأما مراعاة النظير في مديحه بين البرق والديم فليس لها نظير
والله أعلم
(1/416)
________________________________________
ذكر الانسجام
( له انسجام دموعي في مدائحه ... بالله شنف بها يا طيب النغم )
المراد من الانسجام أن يأتي لخلوه من العقادة كانسجام الماء في انحداره ويكاد لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسيل رقة
ولعمري إن طيور القلوب ما برحت على أفنان هذا النوع واقعة وبمحاسنه الغضة بين الأوراق ساجعة وأهل الطريق الغرامية هم بدور مطالعه وسكان مرابعه فإنهم ما أثقلوا كاهل سهولته بنوع من أنواع البديع اللهم إلا أن يأتي عفوا من غير قصد وعلى هذا أجمع علماء البديع في حد هذا النوع فإنهم قرروا أن يكون بعيدا من التصنع خاليا من الأنواع البديعية إلا أن يأتي في ضمن السهولة من غير قصد
وغالب شعر الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماه سقى الله من غيث الرحمة ثراه ماش على هذا التقرير ويأتي التمثيل به في مكانه إن شاء الله تعالى
الانسجام في النثر
وإن كان الانسجام في النثر يكون غالب فقراته موزونة من غير قصد لقوة انسجامه وأعظم الشواهد على هذا ما جاء في القرآن العظيم من الموزون بغير قصد في بيوت وأشطار بيوت فمن الطويل الذي جاء على أصل الدائرة في القرآن العظيم
(1/417)
________________________________________
( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) وتفعيله القياسي فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
كقول الشاعر
( ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... فقد زادني مسراك وجدا على وجدي )
وجاء في بحر المديد من العروض الثانية المحذوفة قوله تعالى ( واصنع الفلك بأعيننا ) كقول الشاعر
( اعلموا أني لكم حافظ ... شاهدا ما دمت أو غائبا )
ومن مصرعه
( زعم النعمان ملك العرب ... ليس ينجي من عصاه الهرب )
وجاء في بحر البسيط من العروض الأولى المخبونة قوله تعالى ( فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ) كقول الشاعر
( ما بال عينيك منها الماء ينسكب ... )
وجاء في الوافر من العروض الأولى المقطوفة والضرب المقطوف قوله تعالى ( ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ) كقول الشاعر
( ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا )
وجاء في الكامل من العروض الصحيحة المجزوة والضرب والمجزو المذال قوله تعالى ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) كقول الشاعر
( أبني لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير ... )
وجاء في الهزج من عروضه المجزوة وضربها المحذوف قوله تعالى ( فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ) كقول الشاعر
( وما ظهري لباغي الضيم ... بالظهر الذلول )
(1/418)
________________________________________
وجاء في الرجز قوله تعالى ( وذللت قطوفها تذليلا ) كقول الشاعر
( شالوا على جمالهم جمالهم ... وسار حادي عيسهم يغني )
وجاء في الرمل من العروض الثانية المجزوة والضرب الثاني المجزو قوله تعالى ( وجفان كالجواب وقدور راسيات ) كقول الشاعر
( مقفرات دارسات ... مثل آيات الزبور )
ومن مصرعه
( أي شخص كأبان ... عند ضرب وطحان )
وجاء في السريع من العروض الأولى المطوية المكسوفة قوله تعالى ( قال فما خطبك يا سامري ) ومنه ( أو كالذي مر على قرية ) كقول الشاعر
( يا هند يا أخت بني عامر ... لست على هجرك بالصابر )
وجاء من المنسرح من العروض الأولى الوافية قوله تعالى ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة ) كقول الشاعر
( زموا المطايا بالواد ما ودعوا ... )
وجاء من الخفيف من العروض التامة الصحيحة قوله تعالى ( أرأيت الذي يكذب بالدين )
كذا أورده صاحب المفتاح ومنه ( لا يكادون يفقهون حديثا )
وهذا من مستخرجات المصنف فسح الله في أجله كقول الشاعر
( ليت ما فات من شبابي يعود ... كيف والشيب كل يوم يزيد )
وجاء من المضارع وهو بحر قليل الاستعمال جدا ومنهم من لم يعده بحرا ولا
(1/419)
________________________________________
جاء فيه شعر معروف
وقيل إنه لم يسمع من العرب
وقال أبو العباس العتابي في كتابه المسمى بنزهة الأبصار في أوزان الأشعار إن الخليل جعله جنسا وأحسبه قاسه وما أدري ما روي في كتب العروض أمصنوع هو أم مسموع من العرب
انتهى كلام العتابي
وتفاعيله في الأصل مفاعيلن فاع لاتن مفاعيلن ومثلها ولكنه ما استعمل إلا مجزوا فبقي مربعا
فمما وقع من مخرومه في الكتاب العزيز قوله تعالى ( يوم التناد يوم تولون مدبرين ) والخرم هنا حذف الأول من مفاعيلن
فعاد فاعيلن فنقل إلى مفعولن فتفاعيل هذه الآية الشريفة مفعول فاعلات مفاعيل فاعلات كقول الشاعر
( قلنا لهم وقالوا ... وكل له مقال )
وجاء في المقتضب من العروض المجزوة المطوية قوله تعالى و ( في قلوبهم مرض ) وتفعيل ذلك فاعلات مستعلن
وجاء فيه من الشعر
( أقبلت فلاح لها ... عارضان كالسبج )
ومن مصرعه
( غننا على الدرج ... بالخفيف والهزج )
وهذا البحر في القلة كبحر المضارع إلا أنه سمع منه أبيات على عهد رسول الله منها
( هل علي ويحكما ... إن عشقت من حرج )
وجاء في المجتث من العروض الصحيحة المجزوة والضرب المجزو قوله تعالى ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ) كقول الشاعر
( البطن منها خميص ... والوجه مثل الهلال )
وجاء في المتقارب من العروض الأولى الوافية قوله تعالى ( وأملي لهم إن كيدي متين ) فعولن فعولن فعولن فعولن كقول الشاعر
(1/420)
________________________________________
( فأما تميم تميم بن مر ... فألفاهم القوم روبى نياما )
ولولا الإطالة لذكرت ما دخل فيما أوردته من الزحاف وقد أوردت هنا خمسة عشر بحرا ولم أذكر المتدارك إذ هو محدث اخترعه المتأخرون ولم تعرفه العرب في الزمن المتقدم وهو خارج عن الخمسة عشر بحرا وقال ابن الحاجب في عروضه
( وخمسة عشر دون ما متدارك ... وما عده منها الخليل فعدلا )
الانسجام في الشعر
انتهى ما أوردته من الانسجام المنثور وأما الانسجام في النظم فقد تقدم وتقرر أن أصحاب المذهب الغرامي هم سكان بيوته العامرة وكناس آرامه التي هي غير نافرة
ولكن العرب على كل تقدير ملوك هذا الشان وقلائد هذا العقيان
وقد عن لي أن أذكر هنا ما فروا به من وعر التركيب وشرعوه في أبياتهم على سهل الانسجام وأركض في أثر هذه الأبيات بسوابق الفحول فإنها أبيات لها حرمة وذمام وأعرج بعد ذلك على البيوت الغرامية وأتنسم أخبار الهوى العذري من بين تلك الخيام فمن الانسجام الذي وقع للعرب وكاد أن يسيل رقة لسهولته قول امرئ القيس في معلقته
( أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل )
وقوله من غير المعلقة
( أجارتنا إنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب )
ومثله في الانسجام والرقة قول طرفة بن العبد في معلقته
( فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي )
ومثله قوله منها
( وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على الحر من وقع الحسام المهند )
ومثله قوله منها
( فإن مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا أم معبد )
(1/421)
________________________________________
ومثله قوله منها
( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود )
( ويأتيك بالأنباء من لم تبع له ... بتاتا ولم تضرب له وقت موعد )
( لعمرك ما الأيام إلا مفازة ... فما اسطعت من معروفها فتزود )
( عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي )
ومثله في لطف الانسجام قول زهير بن أبي سلمى في معلقته
( ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم )
( ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم )
( ومن يغترر يحسب عدوا صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم )
( ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم )
( ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم )
( ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم )
( سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم )
وأحسن ختامها في الانسجام بقوله
( وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي )
ومثله قول لبيد بن ربيعة من معلقته
( فاقنع بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلائق بيننا علامها )
( وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأعظم حظنا قسامها )
ومن الغايات في باب الانسجام قول عنترة في معلقته
( فإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم )
( وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمايلي وتكرمي )
ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم في معلقته
( لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حين نبطش قادرينا )
(1/422)
________________________________________
( إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن يقر الخسف فينا )
( إذا بلغ الفطام الطفل منا ... تخر له الجبابر ساجدينا )
( ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وظهر البحر نملؤه سفينا )
( ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا )
ومثله قول الحرث بن حلزة في معلقته وهي المعلقة السابعة
( لا يقيم العزيز في البلد السهل ... ولا ينفع الذليل النجاء )
ومن الانسجامات التي عدها صاحب المرقص والمطرب من المطرب قول زهير
( تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك معطيه الذي أنت سائله )
ومن الانسجامات المعدودة من المرقص قول النابغة الذبياني
( وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع )
ومن الانسجام المعدود من المطرب قول حسان بن ثابت رضي الله عنه
( أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال )
( أحتال للمال أن أودى فأكسبه ... ولست للعرض إن أودى بمحتال )
وعدوا من الانسجام المرقص قول كعب بن زهير
( ولا تمسك بالعهد الذي وعدت ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل )
ومن المطرب قول الشماخ
( إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عراته باليمين )
ويعجبني من لامية العرب قول الشنفري بن مالك
( وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول )
(1/423)
________________________________________
ومثله من لامية العجم وإن تأخر عصرها
( إن العلى حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل )
( لو أن في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل )
وعدوا من الانسجام المطرب قول مجنون ليلى في قصيدته المشهورة
( وقد خبروني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا )
( فهذي شهور الصيف عنا ستنقضي ... فما للنوى ترمي بليلى المراميا )
( أعد الليالي ليلة بعد ليلة ... وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا )
( وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس يا ليل خاليا )
( ألا أيها الركب اليمانون عرجوا ... علينا فقد أمسى هوانا يمانيا )
( يمينا إذا كانت يمينا فإن تكن ... شمالا ينازعني الهوى من شماليا )
( أصلي فما أدري إذا ما ذكرتها ... اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا )
( خليلي لا والله لا أملك الذي ... قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا )
( قضاها لغيري وابتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا )
( ولو أن واش باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا )
( وماذا لهم لا أحسن الله حالهم ... من الحظ في تصريم ليلى حباليا )
( وددت على حبي الحياة لو أنه ... يزاد لها في عمرها من حياتينا )
( على أنني راض بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا علي ولا ليا )
( إذا ما شكوت الحب قالت كذبتني ... فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا )
فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشا ... وتذهل حتى لا تجيب المناديا )
ومن المرقص في باب الانسجام قول كثير عزة
( ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح )
( أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح )
(1/424)
________________________________________
وعدوا من المطرب في باب الانسجام قول جرير
( إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا )
( يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا )
وعدوا من المطرب قول بشار بن برد
( إذا جئته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين )
ومن انسجامات نسيبه التي ليس لها مناسب قوله
( هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدني إليك فإن الحب أقصاني )
ومثله قوله
( أنا والله أشتهي سحر عينيك ... وأخشى مصارع العشاق )
ومثله قوله
( وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها والأذن كالعين تعشق )
ويعجبني من لطيف الانسجام قول العباس بن الأحنف
( أفدي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا )
( واستنهضوني فلما قمت منتصبا ... بثقل ما حملوني منهم قعدوا )
ومثله قوله
( لولا محبتكم لما عاتبتكم ... ولكنتم عندي كبعض الناس )
ومثله قوله
( طاف الهوى في عباد الله كلهم ... حتى إذا مر بي من بينهم وقفا )
ومثله قوله
( وسعى بنا واش فقالوا إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد )
( فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد )
تقدم لهذين البيتين نكتة لطيفة تؤيد تأكيد انسجامهما وعذوبة ألفاظهما وهي أنه رفع للرشيد موت العباس وإبراهيم الموصلي المعروف بالنديم والكسائي وهشيمة الخمارة في يوم واحد فأمر المأمون أن يصلى عليهم فخرج فصفوا بين يديه فقال
(1/425)
________________________________________
من الأول
فقالوا إبراهيم الموصلي
فقال أخروه وقدموا العباس بن الأحنف
فقدم وصلى عليه
فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله الخزاعي فقال يا سيدي كيف آثرت العباس بالتقديم على من حضر فقال بقوله وسعى بنا واش
البيتين ثم قال أتحفظهما فقلت نعم
فقال أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقديم فقلت بلى والله يا سيدي
انتهى
وقد تقدم قولي وتكرر إن أصحاب الطريق الغرامية هم موالي رقيق الانسجام وتجار سوقه ولولا نسمات أنفاسهم ما تنسمنا أخبار الحمى وتغزلنا في سفحه وعقيقه
وقد ألجأتني ضرورة الجنسية إلى ضم المتقدمين مع المتأخرين لئلا ينفرط لعقودها نظام وإذا أخرت من تقدم وأوردت له غير الطريق الغرامي كان جل القصد من ذلك معرفة أنواع الانسجام
فمن الانسجام الغرامي قول الشريف الرضي وهو الذي قال في حقه الثعالبي في كتاب اليتيمة هو أشعر الطالبيين قديما وحديثا على كثرة شعرائهم المفلقين
ولو قلت إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق والقول الموعود بإيراده قوله
( نسرق الدمع في الجيوب حياء ... وبنا ما بنا من الأشواق )
( لا أذم السراء في طلب العز ... ولكن في فرقة العشاق )
( يوم لا غير زفرة من فؤاد ... ذي قروح ورشقة من مآق )
( والثرى منتش يعاقره السير ... دما جاريا بأيدي النياق )
( أمعيني على بلوغ الأماني ... وشفائي من علتي واشتياقي )
( أينعت بيننا المودة حتى ... جللتنا والزهر بالأوراق )
( كم مقام خضنا حشاه إلى اللهو ... جميعا والليل ملقى الرواق )
( ومزجنا خمر الرضابين في الرشف ... برغم المدام تحت العناق )
( قم نبادر رمي الظلام ببين ... بسهام الخطوب في الاتفاق )
( واغتنمها قبل الفراق فما نعلم ... يوما حتى يكون التلاقي )
( نحن غصنان ضمنا عاطف الوجد ... جميعا في الحب ضم النطاق )
( في جبين الزمان منك ومني ... غرة كوكبية الائتلاق )
(1/426)
________________________________________
( كلما كرت الليالي علينا ... شق منا الوفاء جيب الشقاق )
( أيها الرائح المغذ تحمل ... حاجة للمتيم المشتاق )
( أقر مني السلام أهل المصلى ... فبلاغ السلام بعض التلاقي )
( وإذا ما مررت بالخيف فاشهد ... أن قلبي إليه بالأشواق )
( وإذا ما سئت عني فقل نضو ... هوى ما أظنه اليوم باقي )
( وابك عني فطالما كنت من قبل ... أعير الدموع للعشاق )
ومثله قوله من أبيات
( سهمك مدلول على مقتلي ... فمن يرى سهمك يا قاتل )
( ليس لقتلي ثائر يتقي ... وليس في سفك دمي طائل )
( قد رضا المقتول كل الرضا ... واعجبا لم سخط القاتل )
ومثله قوله من أبيات
( نكست لحظ العين حين خطا ... والبين يرمقني ويرمقه )
( أذبت دمعي يوم ودعني ... في صحن خد ذاب رونقه )
( واللثم يركض في سوالفه ... يكاد خيل الدمع يسبقه )
ومثله قوله
( خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى ... فلاقي به ليلا نسيم ربي نجد )
( فإن بذاك الحي حبا عهدته ... وبالرغم مني أن يطول به عهدي )
( ولولا تداوي القلب من ألم الجوى ... بذكر تلاقينا قضيت من الوجد )
ومثله قوله من أبيات
( عارضا بي ركب الحجاز أسائله ... متى عهده بسكان سلع )
( واستملا حديث من سكن الجزع ... ولا تكتباه إلا بدمعي )
( عزني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي )
(1/427)
________________________________________
ومن الانسجامات التي ينسجم الدمع لرقتها قول تلميذه مهيار الديملي
( ظن غداة البين أن قد سلما ... لما رمى سهما وما أجرى دما )
( فعاد يستقري حشاه فإذا ... فؤاده من بينهم قد عدما )
( يا قاتل الله العيون خلقت ... لو أخطا فكيف صارت أسهما )
( أودعني السقم وولى هازئا ... يقول قم واستشف ماء زمزما )
( ولو أباح ما حمى من ريقه ... لكان أشفى لي من الماء اللما )
( وا بأبي ومن يبيع بأبي ... على الظما ذاك الزلال الشبما )
( كأنما الصهباء في كافورة ... قد مزجت وجل عن كأنما )
ومثله قوله
( أستنجد الصبر فيكم وهو مغلوب ... وأسأل النوم عنكم وهو مسلوب )
( وأبتغي عندكم قلبا سمحت به ... وكيف يرجع شيء وهو موهوب )
( ما كنت أعلم ما مقدار وصلكم ... حتى هجرت وبعض الهجر تأديب )
ومثله قوله وهو في غاية اللطف
( بطرفك والمسحور يقسم بالسحر ... أعمدا رماني أم أصاب ولا يدري )
( رنا اللحظة الأولى فقلت مجرب ... وكررها أخرى فأحسست بالشر )
ومثله قوله في اللطف
( من عذيري يوم شرفي الحمى ... من هوى جد بقلبي مرحا )
( الصبا إن كان لا بد الصبا ... إنها كانت لقلبي أروحا )
( يا نداماي بسلع هل أرى ... ذلك المغبق والمصطبحا )
(1/428)
________________________________________
( اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رب ذكرى قربت من نزحا )
( وارحموا صبا إذا غنى بكم ... شرب الدمع وعاف القدحا )
منها
( وعرفت الهم مذ فارقتكم ... فكأني ما عرفت الفرحا )
ومثله قوله من قصيدة
( بكر العارض يحدوه النعامن ... فسقاك الري يا دار أماما )
( وتمشت فيك أرواح الصبا ... يتأرجن بأنفاس الخزامى )
( قد قضى حفظ الهوى أن تصبحي ... للمحبين مناخا ومقاما )
( وبجرعاء الحمى قلبي فعج ... بالحمى واقر على قلبي السلاما )
( وترحل فتحدث عجبا ... إن قلبا سار عن جسم أقاما )
( قل لجيران الغضى آها على ... طيب عيش بالغضى لو كان داما )
( حملوا ريح الصبا من نشركم ... قبل أن تحمل شيحا أو ثماما )
( وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما )
ومن الغايات في باب الانسجام قول الوأواء الدمشقي
( بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه )
( وحدثاه وقولا في حديثكما ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه )
( فإن تبسم قولا في ملاطفة ... ما ضر لو بوصال منك تسعفه )
( وإن بدا لكما في وجهه غضب ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه )
(1/429)
________________________________________
ومثله في اللطف ورقة الانسجام قول الأرجاني
( حيتك غادية الهوى من مربع ... رجعت عهودي فيك أم لم ترجع )
( ما أسأروا في كأس دمعي فضلة ... عنهم فأجعلها نصيب المربع )
( لم يبكني إلا حديث فراقهم ... لما أسر به إلي مودعي )
( هو ذلك الدر الذي ألقيتم ... في مسمعي ألقيته من أدمعي )
ومثله قوله
( عوجا عليها أيها الركب ... لا عار أن يتساعد الصحب )
( قد كان لي قلب ولا ألم ... واليوم لي ألم ولا قلب )
ومثله قوله
( أما الفؤاد فإنهم ذهبوا به ... يوم النوى فبقيت صفر الأضلع )
( فكأننا لما عقدنا للنوى ... حلفا بغير رهائن لم يقنع )
( فرهينتي معهم فؤادي دائما ... والطيف من سلمى رهينتهم معي )
ومثله في اللطف قول الطغرائي
( خبروها أني مرضت فقالت ... أضنى طارفا شكا أم تليدا )
( وأشاروا بأن تعود وسادي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا )
( وأتتني في خفية وهي تشكو ... ألم البعد والمزار البعيدا )
( ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت علي عطفا وجيدا )
وألطف منه بل من النسيم قوله
( بالله يا ريح إن مكنت ثانية ... من صدغه فأقيمي فيه واستتري )
( وراقبي غفلة منه لتنتهزي ... لي فرصة وتعودي منه بالظفر )
( وباكري ورد عذب من مقبله ... مقابل الطعم بين الطيب والخصر )
( ولا تمسي عذاريه فتفتضحي ... بنفحة المسك بين الورد والصدر )
(1/430)
________________________________________
( وأن قدرت على تشويش طرته ... فشوشيها ولا تبقي ولا تذري )
( ثم اسلكي بين برديه على مهل ... واستبضعي وانثني منه على قدر )
( ونبهيني دون القوم وانتفضي ... علي والليل في شك من السحر )
( لعل نفحة طيب منك نائبة ... تقضي لبانة قلب عاقر الوطر )
وممن برع في الطريق الغرامية وأينع زهر نظمه في حدائق الانسجام بها الشيخ تقي الدين السروجي رحمه الله تعالى
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله
كان الشيخ تقي الدين مع زهده وعفته مغرما بحب الجمال وكان يغني بشعره الغرامي في عصره لرقة انسجامه وعذوبة ألفاظه
وقال الشهاب محمود كان الشيخ تفي الدين يكره مكانا يكون فيه امرأة ومن دعاه من أصحابه قال شرطي معروف وهو أن لا يحضر في المجلس امرأة
وكنا يوما في دعوة فأحضر صاحب الدعوة شواء وأمر بإدخاله إلى النساء يقطعنه ويجعلنه في الصحون فلما حضر بعد ذلك تقرف منه وقال كيف يؤكل وقد لمسنه بأيديهن
وذكر أبو حيان أنه لما توفي بالقاهرة رابع رمضان المعظم سنة ثلاث وتسعين وستمائة قال أبو محبوبه والله ما أدفنه إلا في قبر ولدي فإنه كان يهواه في الحياة وما أفرق بينهما في الممات
هذا لما كان يعهده من دينه وعفافه فمن انسجاماته الغرامية
( أنعم بوصلك لي فهذا وقته ... يكفي من الهجران ما قد ذقته )
( أنفقت عمري في هواك وليتني ... أعطي وصولا بالذي أنفقته )
( يا من شغلت بحبه عن غيره ... وسلوت كل الناس حين عشقته )
( كم جال في ميدان حبك فارس ... بالصدق فيك إلى رضاك سبقته )
( أنت الذي جمع المحاسن وجهه ... لكن عليه تصبري فرقته )
( قال الوشاة قد ادعى بك نسبة ... فسررت لما قلت قد صدقته )
( بالله إن سألوك عني قل لهم ... عبدي وملك يدي وما أعتقته )
( أو قيل مشتاق إليك فقل لهم ... أدري بذا وأنا الذي شوقته )
وما ألطف ما قال منها
( يا حسن طيف من خيالك زارني ... من عظم وجدي فيه ما حققته )
( فمضى وفي قلبي عليه حسرة ... لو كان يمكنني الرقاد لحقته )
(1/431)
________________________________________
قلت ما نفثات السحر إذا صدقت عزائمها بأوصل إلى القلوب من هذه النفثات ولا لسلاف ظلم الحبائب مع حلاوة التقبيل عذوبة هذه الرشفات
وعدوا من المرقص الغرامي في باب الانسجام قول ابن الخياط الدمشقي
( أغار إذا آنست في الحي أنه ... حذارا وخوفا أن تكون لحبه )
ومثله قول ظافر الحداد وقد عدوه من المرقص
( ونفر صبح الشيب ليل شبيبتي ... كذا عادني في الصبح مع من أحبه )
ومثله قول خالد الكاتب وعدوه له من المطرب
( رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر )
ومثله قول راجح الحلي وعدوه من المرقص
( يا ليل طلت ولم ترق لمغرم ... لم يظلموا إذ لقبوك بكافر )
ومثله قول ابن تقي وهو معدود من المرقص
( باعدته عن أضلع تشتاقه ... كي لا ينام على فراش خافق )
ويعجبني في هذا الباب قول النجيب بن الدباغ وهو معدود من المرقص
( يا رب إن قدرته لمقبل ... غيري فللمسواك أو للأكؤس )
( ولئن قضيت لنا بصحبة ثالث ... يا رب فليك شمعة في المجلس )
( وإذا حكمت لنا بعين مراقب ... في الحب فلتك من عيون النرجس )
وعدوا من مرقصات الطريق الغرامية قول القائل
( أستغفر الله إلا من محبتكم ... فإنها حسناتي حين ألقاه )
( فإن يقولوا بأن العشق معصية ... فالعشق أحسن ما يعصى به الله )
ومن مطرب الانسجام الغرامي قول علية بنت المهدي
( وأحسن أيام الهوى يومك الذي ... تروع بالهجران فيه وبالعتب )
( إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب )
(1/432)
________________________________________
ومثله من المطرب قول الحسين بن الضحاك
( له عبثات عند كل تحية ... بعينيه تستدعي الحليم إلى الوجد )
( رعى الله عصرا لم نبت فيه ليلة ... خليا ولكن من حبيب على وعد )
ومن الغايات في هذا الباب أعني الانسجام الغرامي ما كان يكثر من الترنم به أبو القاسم القشيري وهو
( لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت حين نكرر التوديعا )
( أيقنت أن من الدموع محدثا ... وعلمت أن من الحديث دموعا )
ومثله قول خالد الكاتب
( بكى عاذلي من رحمتي فرحمته ... وكم مثله من مسعد ومعين )
( ورقت دموع العين حتى كأنها ... دموع دموعي لا دموع جفوني )
ويعجبني من هذا الباب قول إسحاق بن إبراهيم الموصلي
( على عصر أيام الصبابة والصبا ... ووصل الغواني والتذاذي بالشرب )
( سلام امرئ لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب )
ومن غراميات القاضي الفاضل في باب الانسجام قوله
( ترى لحنيني أو حنين الحمائم ... جرت فحكت دمعي دموع الغمائم )
( وهل من ضلوع أو ربوع ترحلوا ... فكل أراها دارسات المعالم )
( لقد ضعفت ريح الصبا فوصلتها ... فمني لا منها هبوب السمائم )
( دعوا نفس المقروح يحمله الصبا ... وإن كان يهفو بالغصون النواعم )
( تأخرت في حمل السلام عليكم ... لدينا لما قد حملت من سمائم )
( فلا تسمعوا إلا حديثا لناظري ... يعاد بألفاظ الدموع السواجم )
(1/433)
________________________________________
ومثله قوله
( يا طرف مالك ساهد في راقد ... يا قلب مالك راغب في زاهد )
( من يشتري عمري الرخيص جميعه ... من وصلك الغالي بيوم واحد )
( عاتبته فتوردت وجناته ... والقلب صخر لا يلين لقاصد )
( فنظرت من ذي في حرير ناعم ... وضربت من ذا في حديد بارد )
ويعجبني من غراميات البها زهير قوله
( عتبتكم عتب المحب حبيبه ... وقلت بإدلال فقولوا بإصغاء )
( لعلكم قد صدكم عن زيارتي ... مخافة أمواه لدمعي وأنواء )
( فلو صدق الحب الذي تدعونه ... وأخلصتم فيه مشيتم على الماء )
( وإن تك أنفاسي خشيتم لهيبها ... وهالتكم نيران وجد بأحشائي )
( فكونوا رفاعيين في الحب مرة ... وخوضوا لظى نار لشوقي حمراء )
وألطف منه وأسجم قوله
( تعيش أنت وتبقى ... أنا الذي مت عشقا )
( حاشاك يا نور عيني ... تلقي الذي أنا ألقى )
( ولم أجد بين موتي ... وبين هجرك فرقا )
( يا أنعم الناس بالا ... إلى متى فيك أشقى )
( سمعت عنك حديثا ... يا رب لا كان صدقا )
( وما عهدتك إلا ... من أكرم الناس خلقا )
( لك الحياة فإني ... أموت لا شك حقا )
( يا ألف مولاي مهلا ... يا ألف مولاي رفقا )
( قد كان ما كان مني ... والله خير وأبقى )
ومثله قوله
( أنت الحبيب الأول ... ولك الهوى المستقبل )
( عندي لك الود الذي ... هو ما عهدت وأكمل )
(1/434)
________________________________________
( القلب فيك مقيد ... والدمع منك مسلسل )
( يا من يهدد بالصدود ... نعم تقول وتفعل )
( قد صح عذرك في الهوى ... لكنني أتعلل )
( نفدت معاذيري التي ... ألقى بها من يسأل )
( حتام أكذب للورى ... وإلى متى أتحمل )
( قل للعذول لقد أطلت ... لمن تقول وتعذل )
( عاتبت من لا يرعوي ... وعذلت من لا يقبل )
( غضب العذول أخف من ... غضب الحبيب وأسهل )
ومن انسجاماته التي تكاد أن لا تكون موزونة
( إن شكا القلب هجركم ... مهد الحب عذركم )
( لو رأيتم محلكم ... من فؤادي لسركم )
( لو أمرتم بما عسى ... ما تعديت أمركم )
( قصروا مدة الجفا ... طول الله عمركم )
( شرفوني بزورة ... شرف الله قدركم )
( كنت أرجو بأنكم ... شهركم لي ودهركم )
( قد نسيتم وإنما ... أنا لم أنس ذكركم )
( وصبرتم وليتني ... كنت أعطيت صبركم )
( ورأيتم تجلدي ... في هواكم فسركم )
( لو وصلتم محبكم ... ما الذي كان ضركم )
ومن انسجاماته التي هي في غاية الظرف
( يا قلب بعض الناس هل ... للضيف عندك زاويه )
( إني ببابك قد وقفت ... عسى ترد جوابيه )
( يا ملبسي ثوب الضنا ... يهنأك ثوب العافيه )
( لم يبق مني في القميص ... سوى رسوم باليه )
( وحشاشة ما أبقت الأشواق ... منها باقيه )
(1/435)
________________________________________
( يا من إليه المشتكى ... أنت العليم بحاليه )
( وإليك عني يا غرام ... فقد عرفت مكانيه )
( فكأنما لك قد قعدت ... على طريق القافيه )
( من لي بقلب اشتريه ... من القلوب القاسيه )
( مولاي يا قلبي العزيز ... ويا حياتي الغاليه )
( إني لأطلب حاجة ... ليست عليك بخافيه )
( أنعم علي بقبلة ... هبة وإلا عارية )
( وأعيدها لك لا عدمت ... بعينها وكما هيه )
( وإذا أردت زيادة ... خذها ونفسي راضيه )
ومثله قوله في هذا الروي
( قالوا كبرت عن الصبا ... وقطعت تلك الناحية )
( فدع الصبا لرجاله ... واخلع ثياب العاريه )
( ونعم كبرت وإنما ... تلك الشمائل باقيه )
( وتفوح من عطفي أنفاس ... الشباب كما هيه )
( ويميل بي نحو الصبا ... قلب رقيق الحاشيه )
( فيه من الطرب القديم ... بقية في الزاوية )
ومن غراميات الحاجري في هذا الباب
( لك أن تشوقني إلى الأوطان ... وعلي أن أبكي بدمع قان )
( إن الذي رحلوا غداة المنحنى ... ملؤوا القلوب لواعج الأشجان )
( فلا بعثن من النسيم إليهم ... ما حل بالأغصان والغزلان )
( نزلوا برامة قاطنين فلا تسل ... ما حل بالأغصان والغزلان )
وقد تقدم قولي إن الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماه سقى الله من غيث الرحمة ثراه هو غيث هذا الانسجام وغريم هذا الغرام
فمن انسجاماته الغرامية الموعود بإيرادها قوله
( حديثي في المحبة ليس يشرح ... فدعني من حديث اللوم واسرح )
(1/436)
________________________________________
( فما لك مطمع ببراح قلبي ... عن الحب الذي أعيا وبرح )
( فكم من لائم أنحى إلى أن ... تأمل من هويت فما تنحنح )
( فيا لله ما أشهى وأبهى ... ويا لله ما أحلى وأملح )
( له طرف يقول الحرب أحرى ... ولي قلب يقول الصلح أصلح )
( سألت سواره المثري فنادى ... فقير وشاحه الله يفتح )
( وماس من القوام بغصن بان ... إذا أنشدت أغزالي ترنح )
( وحياني بألحاظ مراض ... صحيحات فأمرضني وصحح )
( أعاتبه فلا يصغي لعتبي ... ولا أسلو فاتركه وأربح )
ومن غايات انسجامه قوله
( كم شرحت من وجد ... كم سفحت من دمعه )
( كم بعثت من رسل ... دفعة على دفعه )
( بنتم وأعرضتم ... ما أمرها جرعه )
( هل عليكم باس ... في المقال بالرجعة )
( قد حججت مغناكم ... لا تحرموا المتعه )
( ترك سنتي فيكم ... سادتي من البدعه )
( هذه صباباتي ... والوصال في منعه )
( كيف لو تعلمتم ... غير هذه الصنعه )
(1/437)
________________________________________
( يا مليك قلبي خذ ... ما يليه بالشفعه )
( واس بيننا أو لا ... ردنا إلى القرعه )
( لا تحل عني قلبي ... ليس فيه من نجعه )
( قد تركت أرداني ... من مدامعي نقعه )
( ما لناظري كحل ... غير هذه الطلعه )
ومثله قوله
( خبروه تفصيل حالي جمله ... فعساه يرق لي ولعله )
( كم تنحنحت إذ تبدى حذارا ... من رقيبي وكم تكلفت سعله )
( ليس لي عن هدى هواه ضلال ... أكثر اللوم عاذلي أو أقله )
( ركبت في جبلتي نشوة العشق ... وصعب تغيير ما في الجبله )
( سادتي عادوا رضاكم وعودا ... عن جفاكم فما بقي في فضله )
( ذبت شوقا فعالجوني بقرب ... مت عشقا فحنطوني بقبله )
( وأشغلوني عن لائم ما أتاني ... برشاد أتته آفة غفله )
( قلت بالله خلني فتمادى ... وقليل من يترك الشر لله )
ومثله قوله
( صب أخذ الهوى زمامه ... قد صار جمالكم أمامه )
( في حسنكم البديع شغل ... عن علوة لي وعن إمامه )
( من لي بمحجب أراه ... بالفكر ولا أرى خيامه )
( أشدو بتغزلي لديه ... فيه فيحد لي خصامه )
( يزهو ويقول كان ماذا ... لو يترك جاهل كلامه )
( شبهت بطلعتي هلالا ... ما كنت رضيته قلامه )
( والغصن حسبته شبيها ... مني بتعطف وقامه )
(1/438)
________________________________________
( والظبي إذا رنت لحاظي ... لا كيد له ولا كرامه )
( أفديه بمهجتي وإني ... لا حسرة لي ولا ندامه )
( كم دعوة موعد لوصل ... قامت لحضورها القيامة )
( أخبرت بها العذول لكن ... ما قلت له كم الغرامه )
ومثله قوله
( لا تعاتبني فلا عتب علي ... خرج الأمر وعقلي من يدي )
( ليس للنصح قبول يرتجى ... عند شيخ هام وجدا بصبي )
( وأرى لومك يغريني به ... لا تزدني أو فزدني يا أخي )
( أنا في الحب إمام فإذا ... صرت من أبنائه فاخضع لدي )
( لا تسل غيري في شرع الهوى ... وخذ التنزيل فيه عن أبي )
( خلقي أني شحيح بهم ... وبروحي لهم حاتم طي )
( فاختصر في شرح أشواقي فإن ... رمت إسهابا فوكل مقلتي )
( سادتي فارقتكم فاستلبت ... بنوا كم راحتي من راحتي )
( فاجبروا قلبي بشيء منكم ... فلقد أوتيتم من كل شي )
( صادني منكم غرير أغيد ... فيه ما يشغل عن هند ومي )
( قلت قد أضنيت جسمي قال قد ... قلت كي تذهب روحي قال كي )
( قلت أفديك بنفسي قال مه ... ما إليك الأمر فيها بل إلي )
ومثله قوله من أبيات يخاطب العذول
( أراك بخيلا بعوني فهبني ... سكوتك عني إذا لم تعني )
( ذممت الهوى ورجوت السلو ... فأبكيت عيني وأضحكت سني )
( فإن عفت شربي من خمرتي ... فدعني ما بين كأسي ودني )
( وإياك عربدتي فاخشها ... فإني قد أخذ السكر مني )
(1/439)
________________________________________
ويعجبني من انسجامات ابن سنا الملك قوله
( دنوت وقد أبدى الكرى منه ما أبدى ... فقبلته في الثغر تسعين أو إحدى )
( وأبصرت في خديه ماء وخضرة ... فما أملح المرعى وما أعذب الوردا )
( تلهب ماء الخد أو سال جمره ... فيا ماء ما أذكى ويا جمر ما أندى )
( أقول لناه قد أشار بتركه ... لقد زدتني فيما أشرت به زهدا )
( فلم لا نهيت الثغر أن يعذب اللمى ... ولم لا أمرت الصبر أن يكتم النهدا )
( وأقسم ما عندي إليه صبابة ... وكيف وجور الشوق لم يبق لي عندا )
( وفي القلب نيران الخليل توقدت ... وما ذقت منها لا سلاما ولا بردا )
ومثله قوله ويعجبني إلى الغاية
( نعم المشوق وأنعم المعشوق ... فالعيش كالخصر الرقيق رقيق )
( خصر أدير عليه معصم قبلة ... فكأن تقبيلي له تعنيق )
( ونعم لقد طرق الحبيب وماله ... إلا خدود العاشقين طريق )
( فرشوا الخدود طريقه فكأنما ... زفراتهم لقدومه تطريق )
( وافى وصبح جبينه متنفس ... وأتى وجيد رقيبه مخنوق )
( فصنعت فيه صناعة شعرية ... فالصدر يرحب والعناق يضيق )
ومثله قوله وهو في غاية الظرف
( لا أجازي حبيب قلبي بجرمه ... أنا أحنى عليه من قلب أمه )
( ضن عني بريقه فتحيلت ... إلى أن سرقته عند لثمه )
( وإلى اليوم من ثلاثين يوما ... لم تزل من فمي حلاوة طعمه )
( إن قلبي لصدره ورقادي ... ملك أجفانه وروحي لجسمه )
( يكسر الجفن بالفتور ومالي ... عمل وقت كسره غير ضمه )
(1/440)
________________________________________
ومن غراميات الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف قوله في باب الانسجام
( عفا الله عن قوم عفا الصبر منهم ... فلو رمت ذكرى غيرهم خانني الفم )
( تجنوا كأن لا ود بيني وبينهم ... قديما وحتى ما كأنهم هم )
( وبالجزع أحباب إذا ما ذكرتهم ... شرقت بدمع في أواخره دم )
( ومشبوب ناري وجنة وجناية ... تعلمه ألحاظه كيف يظلم )
( ألم وما في الركب منا متيم ... وعاد وما في الركب إلا متيم )
( وليس الهوى إلا التفاتة طامح ... يروق لعينيه الجمال المنعم )
( خليلي ما للقلب هاجت شجونه ... وعاوده داء من الشوق مؤلم )
( أظن ديار الحي منا قريبة ... وإلا فمنها نفحة تتنسم )
ومثله قوله
( لا تخف ما فعلت بك الأشواق ... واشرح هواك فكلنا عشاق )
( فعسى يعينك من شكوت له الهوى ... في حمله فالعاشقون رفاق )
( لا تجزعن فلست أول مغرم ... فتكت به الوجنات والأحداق )
( واصبر على هجر الحبيب فربما ... عاد الوصول وللهوى أخلاق )
( كم ليلة أسهرت أحداقي بها ... وجدا وللأفكار بي إحداق )
( يا رب قد بعد الذين أحبهم ... عني وقد ألف الفراق فراق )
( واسود حظي عندهم لما سرى ... فيه بنار صبابتي إحراق )
( عرب رأيت أصح ميثاق لهم ... أن لا يصح لديهم ميثاق )
ومثله قوله
( بتثني قوامك الممشوق ... وبأنوار وجهك المعشوق )
( وبمعنى للحسن مبتكر فيك ... وقلب كقلبي المحروق )
( جد بوصل أو زورة أو بوعد ... أو كلام أو وقفة في الطريق )
( أو بإرسالك السلام مع الريح ... وإلا فبالخيال الطروق )
(1/441)
________________________________________
ويعجبني في هذا المعنى على هذا الطريق قول بعض المواليا
( زر شهر في عام يا من قد غلا في السوم ... أو يوم في شهر أحلى من صدودك )
( وإن عز هذا وهذا يا عزيز القوم ... في الدهر ساعة وإن لم ترتض في النوم )
ومن ألطف انسجامات ابن العفيف قوله أيضا
( لي من هواك بعيده وقريبه ... ولك الجمال بديعه وغريبه )
( يا من أعيذ جماله بجلاله ... حذرا عليه من العيون تصيبه )
( إن لم تكن عيني فإنك نورها ... أو لم تكن قلبي فأنت حبيبه )
( هل حرمة أو رحمة لمتيم ... قد قل فيك نصيره ونصيبه )
( ألف القصائد في هواك تغزلا ... حتى كأن بك النسيب نسيبه )
( لم يبق لي سر أقول تذيعه ... عني ولا قلب أقول تذيبه )
( دع لي فؤادا بالغرام تشبه ... واستبق فودا بالصدود تشيبه )
( كم ليلة قضيتها متسهدا ... والدمع يجرح مقلتي مسكوبه )
( والنجم أقرب من لقاك مناله ... عندي وأبعد من رضاك مغيبه )
ومثله قوله
( رشيق القامة النضره ... لقد أصميت بالنظره )
( وقد سودت حظي منك ... يا أبهى الورى غره )
( سواد الخال والمقله ... مع العارض والطره )
( قديم الهجر هل لفتى ... قديم في الهوى هجره )
( وكم تلقاه بالإيعاد ... والأبعاد والنفره )
( وكم يشكو ولا تطرح ... في قفته كسره )
( رأينا من جفا وجنى ... ولكن زدت في كره )
( فهل تمنح أو تسمح ... بالوصل ولو مره )
(1/442)
________________________________________
( فقد أصبحت لا أملك ... من صبري ولا ذره )
( وقد صيرني هجرك ... في كس أخت من أكره )
ومن انسجاماته الرقيقة قوله
( حتام حظي لديك حرمان ... وكم كذا لوعه وهجران )
( أين ليال مضت ونحن بها ... أحبة في الهوى وجيران )
( وأين ود عهدت صحته ... وأين عهد وأين أيمان )
( قد رضي الدهر والعواذل والحساد ... عنا وأنت غضبان )
( فاسلم ولا تلتفت إلى مهج ... بها جوى قاتل وأشجان )
( ونم خليا وقل كذا وكذا ... من كل من أطلعت تلمسان )
ومثله قوله
( أعز الله أنصار العيون ... وخلد ملك هاتيك الجفون )
( وضاعف بالفتور لها اقتدارا ... وإن تك أضعفت عقلي وديني )
( وأبقى دولة الأعطاف فينا ... وإن جارت على قلبي الطعين )
( واسبغ ظل ذاك الشعر منه ... على قد به هيف الغصون )
( وصان حجاب هاتيك الثنايا ... وإن ثنت الفؤاد إلى الشجون )
( حملت تسهدي والشيب هذا ... على رأسي وذاك على عيون )
ومن غراميات ابن النبيه في باب الانسجام
( تعالى الله ما أحسن ... شقيقا حف بالسوسن )
( خدود لثمها يبري ... من الأسقام لو أمكن )
( فما تجني وحارسها ... بقفل الصدغ قد زرفن )
( غزال ضيق العينين ... ينسيني الرشا الأعين )
(1/443)
________________________________________
( له قلب وأعطاف ... فما أقسى وما ألين )
( ولم أر قبل مبسمه ... صغير الجوهر المثمن )
( أبث هواه من خوف ... لنجم الليل لما جن )
( وما ينفع كتماني ... ودمع العين قد أعلن )
( وقد أسكنته قلبي ... فسار وأحرق المسكن )
ومما كتبه القاضي الفاضل بخطه وهو غاية في باب الانسجام الغرامي وكان كثيرا ما يترنم به قصيدة القاضي المهذب ابن الزبير ووجدت بخط الفاضل غير تامة وقد أثبت هنا منها ما وجد بخط الفاضل من غراميها واختصرت المديح وهو
( بالله يا ريح الشمال ... إذا اشتملت الروح بردا )
( وحملت من نشر الخزامي ... ما اغتدى للند ندا )
( ونسجت ما بين الغصون ... إذا اعتنقن هوى وودا )
( وهززت عند الصبح من ... أعطافها قدا فقدا )
( ونثرت فوق الماء من ... أجيادها للزهر عقدا )
( فملأت صفحة وجهه ... حتى اكتسى آسا ووردا )
( فكأنما ألفت فيه ... منهما صدغا وخدا )
( مري على برد عساه ... يزيد في مسراك بردا )
( نهر كنصل السيف تكسو ... متنه الأزهار غمدا )
( صقلته أنفاس النسيم ... بمرهن فليس يصدا )
( أحبابنا ما بالكم ... فينا من الأعداء أعدى )
( وحياة حبكم بتربة ... وصلكم ما خنت عهدا )
وغاية الغايات في باب الانسجام الغرامي ما كتبه القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر إلى والده القاضي محيي الدين وقد توجه صحبة الركاب الشريف الظاهري في مهم شريف فحصل له ضعف بدمشق المحروسة وهو
( إن شئت تبصرني وتبصر حالتي ... قابل إذا هب النسيم قبولا )
(1/444)
________________________________________
( تلقاه مثلي رقة ونحافة ... ولأجل قلبك لا أقول عليلا )
( فهو الرسول إليك مني ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا )
خطاب مثل هذا الولد لمثل هذا الوالد بقوله ولأجل قلبك لا أقول عليلا فيه ما يفتت الأكباد ويحرك الجماد
سبحان المانح إن من البيان لسحرا
ومن غراميات والده القاضي محيي الدين في باب الانسجام
( لا آخذ الله بندك ... فكم وشى بي عندك )
( وقال عني بأني ... شبهت بالغصن قدك )
( وأنت تعظم عندي ... أن يمسي البدر عبدك )
( ولست والله أرضى ... أن يحكي الورد خدك )
( فقاتل الله طرفي ... فكم به نلت قصدك )
( ولا رعى الله قلبي ... فكم رعى لك عهدك )
( فمن ترى أنا حتى ... جعلت صدري وكدك )
( وما عشقتك وحدك ... بلى عشقتك وحدك )
( وكم أطعتك جهدي ... وكم تجنيت جهدك )
( وبعد هذا وهذا ... وذاك لا ذقت فقدك )
ويعجبني في هذا الباب رشاقة ناصر الدين بن النقيب بقوله
( سلك الشوق بقلبي ... بعدكم صعب المسالك )
( ورمى قلبي بنيران ... ولا نيران مالك )
( هذه بعض صفاتي ... طالع العبد بذلك )
وأظرف ما رأيت في باب الانسجام الغرامي المترجل ما أورده صاحب روضة الجليس ونزهة الأنيس
ذكر أنه كان بأفريقية رجل نبيه شاعر مفلق وكان يهوى غلاما من غلمانها جميلا فاشتد كلفه به وكان الغلام يتجنى عليه ويعرض عنه كثيرا فانفرد بنفسه ليلة جمع فيها بين سلاف الراح وسلاف الذكر فتزايد به الوجد وقام على الفور وقد غلب عليه السكر ومشى إلى أن انتهى إلى باب محبوبه ومعه قبس نار فوضعه عند باب الغلام فلما دارت النار بالباب بادر الناس بإطفائها واعتقلوه
فلما أصبحوا نهضوا به إلى القاضي فأعلموه بفعله
فقال له القاضي لأي شيء أحرقت باب هذا الغلام فقال مرتجلا
(1/445)
________________________________________
( لما تمادى على بعادي ... وأضرم النار في فؤادي )
( ولم أجد من هواه بدا ... ولا معينا على السهاد )
( حملت نفسي على وقوفي ... ببابه حملة الجواد )
( فطار من بعض نار قلبي ... أقل في الوصف من زناد )
( فأحرق الباب دون علمي ... ولم يكن ذاك من مرادي )
فرق القاضي لارتجاله الغرامي وتحمل عنه جناية الباب
وقد انتهت الغاية بنا إلى غراميات العارفين وابن الفارض هو قائد زمامها وقتيل غرامها
فمن قوله في هذا الباب الذي ليس لغيره فيه مدخل ما ألفته من تائيته وجعلته قصيدا غراميا ينتظم بها شمل الانسجام وإذا هب نسيمها العذري تنسمت العشاق منه أخبار الغرام وهو قوله
( نعم بالصبا قلبي صبا لأحبتي ... فيا حبذا ذاك الشذا حين هبت )
( تذكرني العهد القديم لأنها ... حديثة عهد عن أهيل مودتي )
( فلي بين هاتيك الخيام ضنينة ... علي بجمعي سمحة بتشتتي )
( محجبة بين الأسنة والظبا ... إليها انثنت ألبابنا إذ تثنت )
( تتيح المنايا إذ تبيح لنا المنى ... وذاك رخيص منيتي بمنيتي )
( متى أوعدت أولت وإن وعدت لوت ... وإن أقسمت لا تبرى السقم برت )
( وإن عرضت أطرق حياء وهيبة ... وإن أعرضت أشفق فلم أتلفت )
( وقد سخنت عيني عليها كأنها ... بها لم تكن يوما من الدهر قرت )
( فإنسانها ميت ودمعي غسله ... وأكفانه ما أبيض حزنا لفرقتي )
( خرجت بها عني إليها فلم أعد ... إلي ومثلي لا يقول برجعة )
( فوصلي قطعي واقترابي تباعدي ... وودي صدي وابتدائي نهايتي )
(1/446)
________________________________________
( وفيها تلاف الجسم بالسقم صحة ... له وتلاف النفس عين الفتوة )
( ولما تلاقينا عشاء وضمنا ... سواء سبيلي ذي طوى والثنية )
( وضنت وما منت علي بوقفة ... تعادل عندي بالمعرف وقفتي )
( عتبت فلم تعتب كأن لم يكن لقا ... وما كان إلا أن أشرت وأومت )
( وبانت فأما حسن صبري فخانني ... وأما جفوني بالبكاء فوفت )
( أغار عليها أن أهيم بحبها ... وأعرف مقداري فأنكر غيرتي )
وكنت بها صبا فلما تركت ما ... أريد أرادتني لها وأحبت )
( بها قيس لبنى هام بل كل عاشق ... كمجنون ليلى أو كثير عزة )
( بدت فرأيت الحزم في نقض توبتي ... وقام بها عند النهى عذر محنتي )
( فموتي بها وجدا حياة هنيئة ... وإن لم أمت في الحب عشت بغصتي )
( تجمعت الأهواء فيها فلا ترى ... بها غير صب لا يرى غير صبوتي )
( وعندي عيدي كل يوم أرى به ... جمال محياها بعين قريرة )
( وكل الليالي ليلة القدر إن دنت ... كما كل أيام اللقا يوم جمعة )
( وأي بلاد الله حلت بها فما ... أراها وفي عيني حلت غير مكة )
( وما سكنته فهو بيت مقدس ... بقرة عيني فيه أحشاي قرت )
( ومسجد الأقصى مساحب بردها ... وطيبي ثرى أرض عليها تمشت )
( مواطن أفراحي ومربى مآربي ... وأطوار أوطاري ومأمن خيفتي )
( مغان بها لم يدخل الدهر بيننا ... ولا كادنا صرف الزمان بفرقة )
( ولا صحبتنا النائبات بنبوة ... ولا حدثتنا الحادثات بنكبة )
( ولا اختص وقت دون وقت بطيبة ... بها كل أوقاتي مواسم لذتي )
( فإن رضيت عني فعمري كله ... زمان الصبا طيبا وعصر الشبيبة )
( وإن قربت داري فعامي كله ... ربيع اعتدال في رياض أريضة )
(1/447)
________________________________________
( بها مثل ما أمسيت أصبحت مغرما ... وما أصبحت فيه من الحسن أمست )
( فلو بسطت جسمي رأت كل جوهر ... به كل قلب فيه كل محبة )
( وقد جمعت أحشاي كل صبابة ... بها وجوى ينبيك عن كل صبوة )
( وكنت أرى أن التعشق منحة ... لقلبي فما إن كان إلا لمحنتي )
( ألا في سبيل الحب حالي وما عسى ... بكم أن ألاقي لو دريتم أحبتي )
( أخذتم فؤادي وهو بعضي عندكم ... فما ضركم لو كان بعضي جملتي )
( وهي جسدي مما وهي جلدي لدى ... تحمله يبلى وتبقى بليتي )
( ومنذ عفار سمي وهمت وهمت في ... وجودي فلم تظفر بكوني فكرتي )
( وبالي أبلى من ثياب تجلدي ... بل الذات في الإعدام نيطت بلذتي )
( كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي )
( وقالوا جرت حمرا دموعك قلت عن ... أمور جرت في كثرة الشوق قلت )
( نحرت لضيف السهد في جفني الكرى ... قرى فجرى دمعي دما فوق وجنتي )
( فطوفان نوح عند نوحي كأدمعي ... وإيقاد نيران الخليل كلوعتي )
( ولولا زفيري أغرقتني أدمعي ... ولولا دموعي أحرقتني زفرتي )
( وحزني ما يعقوب بث أقله ... وكل بلا أيوب بعض بليتي )
( وكل أذى في الحب منك إذا بدا ... جعلت له شكري مكان شكيتي )
( نعم وتباريح الصبابة إن عدت ... علي من النعماء في الحب عدت )
( وعنوان ما بي ما أبثك بعضه ... وما تحته إظهاره فوق قدرتي )
( وأسكت عجزا عن أمور كثيرة ... بنطقي إن تحصى ولو قلت قلت )
(1/448)
________________________________________
( وعن مذهبي في الحب ما لي مذهب ... وإن ملت يوما عنه فارقت ملتي )
( هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا ... من الوصل فاختر ذاك أو خل خلتي )
( ودع عنك دعوى الحب واختر لغيره ... فؤادك وادفع عنه غيك بالتي )
( وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن ... وها أنت حي إن تكن صادقا مت )
( وقالوا تلاف ما بقي منك قلت لا ... أراني إلا للتلاف تلفتي )
( غرامي أقم صبري انصرم دمعي انسجم ... عدوي انتقم دهري احتكم حاسدي اشمت )
( ويا نار أحشائي أقيمي من الجوى ... حنايا ضلوعي فهي غير قويمة )
( ويا جسدي المضنى تسل عن الشقا ... ويا كبدي من لي بأن تتفتتي )
( ويا كلما أبقى الضنى مني ارتحل ... فما لك مأوى في عظام رميمة )
( وماذا عسى عني أناجي توهما ... بياء الندا أونست منك بوحشتي )
( فنفسي لم تجزع بإتلافها أسى ... ولو جزعت كانت بغيري تأست )
( فيا سقمي لا تبق لي رمقا فقد ... أبيت لبقيا العز ذل البقية )
ومن غرامياته التي خلبت القلوب وعرف العارفون بها طريق التوصل إلى معرفة المحبوب قوله من قصيدة
( أهفو إلى كل قلب بالغرام له ... شغل وكل لسان بالهوى لهج )
( وكل سمع عن اللاحي به صمم ... وكل جفن إلى الإغفاء لم يعج )
( لا كان وجد به الآماق جامدة ... ولا غرام به الأشواق لم تهج )
( عذب بما شئت غير البعد عنك تجد ... أوفى محب بما يرضيك مبتهج )
( وخذ بقية ما أبقيت من رمق ... لا خير في الحب إن أبقى على المهج )
( من لي بإتلاف روحي في هوى رشإ ... حلو الشمائل بالأرواح ممتزج )
( من مات فيه غراما عاش مرتقيا ... ما بين أهل الهوى في أرفع الدرج )
وما أحلى ما قال منها
( قل للذي لامني فيه وعنفني ... دعني وشأني وعد عن نصحك السمج )
(1/449)
________________________________________
( فاللوم لؤم ولم يمدح به أحد ... فهل رأيت محبا بالغرام هجي )
منها
( لم أدر ما غربة الأوطان وهو معي ... وخاطري أين كنا غير منزعج )
( فالدار داري وحبي حاضر ومتى ... بدا فمنعرج الجرعاء منعرجي )
منها
( ليهن ركب سروا ليلا وأنت بهم ... فسيرهم في صباح منك منبلج )
( فليصنع الركب ما شاؤوا لأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرج )
وما ألطف ما قال منها
( أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه ... قول المبشر بعد اليأس بالفرج )
( لك النشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج )
ومثله في الرقة والانسجام قوله من قصيدة
( ابق لي مقلة لعلي يوما ... قبل موتي أرى بها من رآكا )
( أين مني ما رمت هيهات بل أين ... لعيني باللحظ لثم ثراكا )
( وبشيري لو جاء منك بعطف ... ووجودي في قبضتي قلت هاكا )
( قد كفى ما جرى دما من جفون ... لي قرحي فهل جرى ما كفاكا )
( فأجر من قلاك فيك معنى ... قبل أن يعرف الهوى يهواكا )
( بانكساري بذلتي بخضوعي ... بافتقاري بفاقتي لغناكا )
( لا تكلني إلى قوي جلد خان ... فإني أصبحت من ضعفاكا )
( كنت تجفو وكان لي بعض صبر ... أحسن الله في اصطباري عزاكا )
( كم صدود عساك ترحم شكواي ... ولو باستماع قولي عساكا )
( شنع المرجفون عنك بهجري ... وأشاعوا أني سلوت هواكا )
( ما بأحشائهم عشقت فأسلو ... عنك يوما دع يهجروا حاشاكا )
(1/450)
________________________________________
( كيف أسلو ومقلتي كلما لاح ... بريق تلتفت للقاكا )
( كل من في حماك يهواك لكن ... أنا وحدي بكل من في حماكا )
( ومن كاساته الغرامية التي سكر العشاق بقديمها وحديثها قوله
( أدر ذكر من أهوى ولو بملام ... فإن أحاديث الحبيب مدامي )
( فلي ذكرها يحلو على كل صيغة ... ولو مزجوه عذلي بخصام )
( كأن عذولي بالوصال مبشري ... وإن كنت لم أطمع برد سلام )
وما أبدع وأرق ما قال منها
( يشف عن الأسرار جسمي من الضنا ... فنوجي بها معنى نحول عظامي )
( طريح جوى حب جريح جوارح ... قريح جفون بالدوام دوامي )
( صحيح عليل فاطلبوني من الضنى ... ففيها كما شاء النحول مقامي )
منها
( فلي كل عضو فيه كل حشا بها ... إذا نظرت أغراض كل سهام )
( ولو بسطت جسمي رأت كل جوهر ... به كل قلب فيه كل غرام )
ومن غرامياته التي يتحرك الجماد لرقتها قوله من قصيدة
( ما لي سوى روحي وباذل نفسه ... في حب من يهواه ليس بمسرف )
( فلئن رضيت بها لقد أسعفتني ... يا خيبة المسعى إذا لم تسعف )
وما أسجم ما قال منها
( يا أهل ودي أنتم أملي ومن ... ناداكم يا أهل ودي قد كفي )
( عودوا لما كنتم عليه من الوفا ... كرما فإني ذلك الخل الوفي )
( وحياتكم وحياتكم قسما وفي ... عمري بغير حياتكم لم أحلف )
( لو أن روحي في يدي ووهبتها ... لمبشري بوصالكم لم أنصف )
(1/451)
________________________________________
( لا تحسبوني في الهوى متصنعا ... كلفي بكم خلق بغير تكلف )
( أخفيت حبكم فأخفاني أسى ... حتى لعمري كدت عني أختفي )
( وكتمته عني فلو أبديته ... لوجدته أخفى من اللطف الخفي )
وما أحلى ما خاطب العذول منها بقوله
( دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا عشقت فبعد ذلك عنف )
وما أعذب ما قال منها
( يا ما أميلح كلما يرضي ... ورضابه يا ما أحيلاه بفي )
ولقد أحسن الله خاتمته فيها بقوله
( ما للنوى ذنب ومن أهوى معي ... إن غاب عن إنسان عيني فهو في )
ولقد أقام القواعد الغرامية بقوله من قصيدة
( تعرض قوم للغرام وأعرضوا ... بجانبهم عن صحة فيه واعتلوا )
( رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم ... وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا )
( فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم ... وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا )
وعن مذهبي لما استحبوا العمى على الهدى حسدا من عند أنفسهم ضلوا وما أحلى ما قال بعده
( أحبة قلبي والمحبة شافعي ... لديكم إذا شئتم بها اتصل الحبل )
( عسى عطفة منكم علي بنظرة ... فقد تعبت بيني وبينكم الرسل )
( أحباي أنتم أحسن الدهر أم أسا ... فكونوا كما شئتم أنا ذلك الخل )
( إذا كان حظي الهجر منكم ولم يكن ... بعاد فذاك الهجر عندي هو الوصل )
(1/452)
________________________________________
وما ألطف ما قال منها
( وماذا عسى عني يقال سوى غدا ... بنعم له شغل نعم لي بها شغل )
( أخذتم فؤادي وهو بعضي وما الذي ... يضركم لو كان عندكم الكل )
وما أظرف ما قال منها
( تبا له قومي إذ رأوني متيما ... وقالوا بمن هذا الفتى مسه الخبل )
( وقال نساء الحي عنا بذكر من ... جفانا وبعد العز لذ له الذل )
( إذا أنعمت نعم علي بنظرة ... فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل )
وما أرق ما قال منها
( خفيت ضني حتى لقد ضل عائدي ... وكيف يرى العواد من لا له ظل )
( وما عثرت عيني على أثري ولم ... تدع لي رسما في الهوى الأعين النجل )
( ولي همة تعلو إذا ما ذكرتها ... وروح بذكراها إذا رخصت تغلو )
( فنافس ببذل النفس فيها أخا الهوى ... فإن قبلتها منك يا حبذا البذل )
( فمن لم يجد في حب نعم بنفسه ... وإن جاد بالدنيا إليه انتهى البخل )
ومن الغراميات التي تهيج الأشواق ولواعج الغرام وتنتظم بها عقود الانسجام قول أحد المشايخ العارفين الشيخ عفيف الدين التلمساني
( لذ بالغرام ولذة الأشواق ... واختر فناءك في الجمال الباقي )
( واخلع سلوك فهو ثوب مخلق ... والبس جديد مكارم الأخلاق )
( وتوق من نار الصدود بشربة ... من ماء دمعك فهو نعم الواقي )
( وإذا دعاك إلى الصبا نفس الصبا ... فأجب رسول نسيمه الخفاق )
( وإذا شربت الصرف من خمر الهوى ... إياك تغفل عن جمال الساقي )
( والق الأحبة إن أردت وصالهم ... متلذذا بالذل والإملاق )
( أوليس من أحلى المطامع في الهوى ... عز الحبيب وذلة العشاق )
(1/453)
________________________________________
ويطربني من رقائق انسجاماته الغرامية قوله
( تعلم في مرافقة النديم ... مطاوعة الأراكة للنسيم )
( وعاشره بأخلاق فإني ... وحقك عبد رق للنديم )
( أعاطيه أحاديثي وكأسي ... فأسكر بالحديث وبالقديم )
( ولي عند الأحبة قلب صب ... صحيح الود في جسد سقيم )
( أقام وسافر السلوان عنه ... فلا اجتمع المسافر بالمقيم )
وقد أوردت هنا ما أمكن من جهد الطاقة في باب الانسجام الغرامي وبديع بيوته وقد تقدم قولي أني أخرت فيه المتقدم وقدمت المتأخر عصرا لئلا ينفرط سلكه وتذهب لذته فإن الانسجام يدخل في الأبواب الغرامية وفي غيرها ولكنه يوجد فيها أكثر لعذوبتها وارتياح الخواطر إليها لا سيما غراميات العارفين مثل الشيخ شرف الدين بن الفارض وغيره
ومما يستظرف في باب الانسجام من الطرائق الغرامية الغريبة قول عبد المحسن الصوري
( وأخ مسه نزولي بقرح ... مثل ما مسني من الجوع قرح )
( بت ضيفا له كما حكم الدهر ... وفي حكمه على الحر قبح )
( فابتداني يقول وهو من السكرة ... بالهم طافح ليس يصحو )
( لم تغربت قلت قال رسول الله ... والقول منه نصح ونجح )
( سافروا تغنموا فقال وقد قال ... تمام الحديث صوموا تصحوا )
ومن الانسجام المطرب قول مروان بن أبي حفصة
( مسحت ربيعة وجه معن سابقا ... لما جرى وجرى ذوو الأحساب )
ومن الانسجام المرقص قول أبي نواس
( فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم )
(1/454)
________________________________________
ومثله قوله
( دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء )
( صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء )
( من كف ذات حر في زي ذي ذكر ... لها محبان لوطي وزناء )
( قامت بإبريقها والليل معتكر ... فلاح من وجهها في البيت لألاء )
( وأرسلت من فم الإبريق صافية ... كأنما أخذها للعقل إغفاء )
( رقت عن الماء حتى ما يلائمها ... لطافة وخفى عن شكلها الماء )
ومن الانسجام المطرب قول محمد بن صالح الحسني
( وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهنا لمعانه )
( يبدو كحاشية الرداء وصوته ... صعب الذرا متمنع أردانه )
( فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سحت به أجفانه )
وعدوا من الانسجام المطرب قول عبد الرحمن العطوي في رثاء أحمد بن أبي دؤاد
( وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصف )
( وليس فتيق المسك ما تجدونه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف )
(1/455)
________________________________________
وعدوا من الانسجام المرقص قول العكوك في أبي دلف
( إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره )
( فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره )
ومن الانسجام المرقص قول بكر بن النطاح
( من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا )
ومن الانسجام المطرب قول أبي تمام
( ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله )
ومثله قوله
( ظبي تقنصته لما نصبت له ... في آخر الليل أشراكا من الحلم )
ومن الانسجام المرقص قول ديك الجن
( بها غير مغذول فداوي خمارها ... وصل بعشيات الغبوق ابتكارها )
( موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها )
ومن الانسجام المطرب قول دعبل
( إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في الموطن الخشن )
ومن الانسجام المرقص قول أبي علي البصير
( لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم )
وعدوا من الانسجام المطرب قول يزيد بن خالد المهلبي
( ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلا أن تعد معايبه )
ومن الانسجام المرقص قول البحتري
( تخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناء )
ومثله قوله
( متعتب في غير ما متعتب ... إن لم يجد جرما علي تجرما )
(1/456)
________________________________________
( ألف الصدود فلو يمر خياله ... بالصب في سنة الكرى ما سلما )
ومن الانسجام المرقص قول ابن الرومي
( فالموت إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم )
ومثله قوله يخاطب بني طاهر
( علوتم علينا علو النجوم ... فجودوا علينا بأنوائها )
وعدوا من المطرب قول أبي العتاهية
( أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها )
( فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها )
ومثله في المطرب قول سلم الخاسر
( لا تسأل المرء عن خلائقه ... في وجهه شاهد من الخبر )
وعدوا من الانسجام المرقص قول عبد الله بن المعتز
( أهلا بفطر قد أنار هلاله ... فالآن فاغد إلى المدام وبكر )
( فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر )
وعدوا من مرقصات المتنبي قوله
( وأصبح شعري منهما في مكانة ... وفي عنق الحسناء قد يحسن العقد )
ومثله قوله
( والهجر أقتل لي مما أراقبه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل )
ومثله قوله
( فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال )
(1/457)
________________________________________
ومن الانسجام المرقص قول أبي نصر بن نباتة
( لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل )
ومن الانسجام قول الوأواء الدمشقي
( وأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد )
ومثله قوله
( متى أرعى رياض الحسن منه ... وعيني قد تضمنها غدير )
ومن الانسجام المرقص قول أبي العباس الضبي
( زعم البنفسج أنه كعذاره ... حسنا فسلوا من قفاه لسانه )
ومن الانسجام المرقص قول أبي الحسن اللحام
( يا سائلي عن خالد عهدي به ... رطب العجان وكفه كالجلمد )
( كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي )
وعدوا من الانسجام المطرب قول أبي نصر العتبي
( الله يعلم أني لست ذا بخل ... ولست ملتمسا في البخل لي عللا )
لكن طاقة مثلي غير خافية ... والذر يعذر في القدر الذي حملا )
وعدوا من الانسجام المرقص المطرب قول أبي الفرج بن هند
( عابوه لما التحى فقلنا ... عبتم وغبتم عن الجمال )
( هذا غزال ولا عجيب ... تولد المسك في الغزال )
ومثله قول الأمير شمس المعالي قابوس
( وفي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الحجاج
( كأن أيري شمع في رخاوته ... فكلما لمسته راحتي لانا )
(1/458)
________________________________________
ومثله قوله
( فأصبح الدهر به هيضة ... فنحن غرقى في خرا الدهر )
وعدوا من المرقص قول أبي العلاء المعري
( والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر )
وعدوا من الانسجام المرقص قول المنازي الذي لا يوجد في معناه مثله
( وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم )
( نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم )
( وأرشفنا على ظمإ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم )
( يصد الشمس أني واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم )
( تروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الشحناء العسقلاني
( ومهفهف علق السقام بطرفه ... وسرى فخيم في معاقد خصره ) ( مزقت أثواب الظلام بثغره ... ثم انثنيت أحوكها من شعره )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الخياط الدمشقي وهو من شعراء المائة السادسة
( ومحتجب بين الأسنة معرض ... وفي القلب من إعراضه مثل حجبه )
( أغار إذا آنست في الحي أنة ... حذارا وخوفا أن تكون لحبه )
وهذا الانسجام غرامي وعدوا من الانسجام المرقص قول القاضي الأرجاني
( وما ينزل الغيث إلا لأن ... يقبل بين يديك الثرى )
ومثله قول ابن الهبارية
( ولولا نداه خفت نار ذكائه ... عليه ولكن الندى مانع الوقد )
(1/459)
________________________________________
وعدوا من المرقص قول أبي عبد الله النقاش البغدادي
( إذا وجد الشيخ من نفسه ... نشاطا فذلك موت خفي )
( ألست ترى أن ضوء السراج ... له لهب عندما ينطفي )
ومن الانسجام المرقص قول ابن المفضل البغدادي
( خطرت فكاد الورق يسجع فوقها ... إن الحمام لمغرم بالبان )
( من معشر نشروا على هام الربا ... للطارقين ذوائب النيران )
ومثله قول سبط التعاويذي
( بين السيوف وعينيه مشاركة ... من أجلها قيل للأغماد أجفان )
ومن الانسجام المرقص قول القاضي الفاضل في وكيله الشريف الكحال
( رجل توكل لي وكحلني ... فأصبت في عيني وفي عيني )
ومثله قوله فيه
( عادى بني العباس حتى أنه ... خلع السواد من العيون بكحله )
ومثله قول ابن الساعاتي
( والطير يقرأ والغدير صحيفة ... والريح تكتب والغمام ينقط )
ومثله قوله في النهر
( صدأ الظلام يزيد رونق حسنه ... أرأيت سيفا قط يصقل بالصدا )
وعدوا من الانسجام المرقص قول عبد الملك بن مازة البخاري وقد دخل عليه مملوك وفي يده قوس
( نهاني لما بدا عقرب ... على خده أن أروم السفر )
( فقلت وفي يده قوسه ... أسير ففي القوس حل القمر )
(1/460)
________________________________________
ومثله قول ابن أردخل التكريتي
( ألفي القوام عني أمالوه ... فقلبي مكسور تلك الإماله )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن عنين
( دمشق فبي شوق إليها مبرح ... وإن لج واش أو ألح عذول )
( بلاد بها الحصباء در وتربها ... عبير وأنفاس الشمال شمول )
( تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق ... وصح نسيم الروض وهو عليل )
ومن الانسجام المرقص قول الحاجري
( إني لأعذر في الأراك حمامه الشادي ... كذلك تفعل العشاق )
( حكم الغرام الحاجري بأسرها ... فغدت وفي أعناقها الأطواق )
وعدوا من الانسجام المرقص قول الصاحب بهاء الدين زهير
( فيا ظبي هلا كان منك التفاتة ... ويا غصن هلا كان منك تعطف )
( ويا حرم الحسن الذي هو آمن ... وألبابنا من حوله تتخطف )
( عسى عطفة بالوصل يا واو صدغه ... علي فإني أعرف الواو تعطف )
وعدوا من المرقص قول محيي الدين بن زيلاق
( ومن عجبي أن يحرسوك بخادم ... وخدام هذا الحسن من ذاك أكثر )
( عذارك ريحان وثغرك جوهر ... وخدك كافور وخالك عنبر )
ومثله قول ابن عربي الموصلي في المرقص
( أنا صب وماء عيني صب ... وأسير من الضنى في قيود )
( وشهودي على الهوى أدمع العين ... ولكنني قذفت شهودي )
ومثله قول ابن الحلاوي الموصلي
( كتبت فلولا أن هذا محلل ... وذاك حرام قست لفظك بالسحر )
(1/461)
________________________________________
( فوالله ما أدري أزهر خميلة ... بطرسك أم در يلوح على نحر )
( فإن كان زهرا فهو صنع سحابة ... وإن كان درا فهو من لجة البحر )
ومثله قول ابن ظهير الأزبكي
( طرفي وقلبي ذا يسيل دما وذا ... دون الورى أنت العليم بقرحه )
( وهما بحبك شاهدان وإنما ... تعديل كل منهما في جرحه )
( والقلب منزلك القديم فإن تجد ... فيه سواك من الأنام فنحه )
أنظر هذه القافية ما أحلاها وأمكنها
ومثله قوله
( غارت مناطقة وأنجد ردفه ... يا بعد شقة غوره من نجده )
ومن الانسجام المرقص قول تاج الدين بن الحواري
( فوالله ما أخرت عنك مدائحي ... لأمر سوى أني عجزت عن الشكر )
( وقد رضت فكري مرة بعد مرة ... فما ساغ أن أهدي إلى مثلكم شعري )
( فإن لم يكن درا فتلك نقيصة ... وإن كان درا كيف يهدى إلى البحر )
ويعجبني من الانسجام المرقص قول النجم القمراوي
( وحاكمت النسيم على مرور ... بعطفيه فمال مع النسيم )
ومثله قول عبد الكردي
( إذا ما اشتقت يوما أن أراكم ... وحال البعد بينكم وبيني )
( بعثت لكم سوادا في بياض ... لأبصركم بشيء مثل عيني )
وعدوا من الانسجام المطرب قول المهذب بن الخيمي الحلي وقد كتب إلى والده
( جننت فعوذني بكتبك أن لي ... شياطين شوق لا يفارقن مضجعي )
( إذا استرقت أسرار وجدي تمردا ... بعثت إليها في الدجا شهب أدمعي )
(1/462)
________________________________________
ومن الانسجام المرقص قول ابن عبد ربه
( يا ذا الذي خط العذار بخده ... خطين هاجا لوعة وبلابلا )
( ما كنت أقطع أن لحظك صارم ... حتى رأيت من العذار حمائلا )
ومن أغرب ما رأيت من الانسجام المرقص قول جعفر بن عثمان المصحفي
( خفيت على شرابها فكأنما ... يجدون ريا في إناء فارغ )
ومن الانسجام المرقص قول إدريس بن السمان
( ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح )
( خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح )
ومثله قول المعتمد بن عباد
( سميدع يهب الآلاف مبتدئا ... وبعد ذلك يلفى وهو معتذر )
( له يد كل جبار يقبلها ... لولا نداها لقلنا إنها الحجر )
ويعجبني قول الفضل بن شرف في المرقص
( لم يبق للجور في أيامكم أثر ... إلا الذي في عيون الغيد من حور )
ومثله قوله
( تقلدتني الليالي وهي مدبرة ... كأنني صارم في كف منهزم )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن رشيق صاحب العمدة في المعز بن باديس سلطان أفريقية وقد غاب يوم العيد وكان يوما ماطرا
( تجهم العيد وانهلت بوادره ... وكان يعهد منك البشر والضحكا )
( كأنه جاء يطوي الأرض من بعد ... شوقا إليك فلما لم يجدك بكى )
وعدوا من الانسجام المرقص قول عبد الله بن محمد العطار
( وكأس ترينا آية الصبح والدجا ... فأولها شمس وآخرها بدر )
(1/463)
________________________________________
( مقطبة ما لم يزرها مزاجها ... فإن زارها جاء التبسم والبشر )
( فواعجبا للدهر لم يخل مهجة ... من العشق حتى الماء يعشقه الخمر )
ومثله قول القاضي الجليس بن الجناب المصري
( ومن عجب أن الصوارم في الوغى ... تحيض بأيدي القوم وهي ذكور )
( وأعجب من ذا أنها في أكفهم ... تأجج نارا والأكف بحور )
وظريف من الانسجام المرقص قول ابن مكنسة
( والسكر في وجنته وطرفه ... يفتح وردا ويغض نرجسا )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ظافر الحداد
( ونفر صبح الشيب ليل شبيبتي ... كذا عادتي في الصبح مع من أحبه )
ومثله قول أبي إسحاق بن خفاجة
( ونمت بأسرار الرياض خميلة ... بها الزهر ثغر والنسيم لسان )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن اللبانة
( بروحي وأهلي جيرة ما استعنتهم ... على الدهر إلا وانثنيت معانا )
( أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى ... فلم أستطع من أرضهم طيرانا )
وعدوا أيضا من الانسجام المرقص قول ابن الرقاق
( وأغيد طاف بالكؤوس ضحى ... وحثها والصباح قد وضحا )
( والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا )
( قلنا وأين الأقاح قال لنا ... أودعته ثغر من سقى القدحا )
( فظل ساقي المدام يجحد ما ... قال فلا تبسم افتضحا )
(1/464)
________________________________________
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن سنا الملك
( لا تخش مني فإني كالنسيم ضنى ... وما النسيم بمخشي على الغصن )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الدباغ وقد تقدم
( يا رب إن قدرته لمقبل ... غيري فللمسواك أو للأكؤس )
( ولئن قضيت لنا بصحبة ثالث ... يا رب فلتك شمعة في المجلس )
( وإذا قضيت لنا بعين مراقب ... يا رب فلتك من عيون النرجس )
ومثله قوله
( وأشكو إلى ليل الغدائر غدرها ... وأملي عليه وهو في الأرض يكتب )
هذه الأبيات تقدمت في باب الانسجام الغرامي ولكن لم يظهر من مكررها غير الحلاوة
وعدوا من الانسجام المرقص قول كمال الدين بن النبيه
( وكوكب الصبح نجاب على يده ... مخلق تملأ الدنيا بشائره )
وعدوا من الانسجام المرقص قول الصاحب جمال الدين بن مطروح
( إذا ما اشتهى الخلخال أخبار قرطها ... فيا طيب ما تملي عليه الضفائر )
وعدوا من الانسجام المرقص قول البرهان بن الفقيه نصر الله
( أقتطف السوداء من لمتي ... أخذا مع البيضاء إذ تسرف )
( فتخلف البيضاء أمثالها ... وتغضب السوداء فما تخلف )
( حماقة السودان من ههنا ... يعرفها من لم يكن يعرف )
وعدوا من الانسجام المرقص قول أمين الدين التلمساني
( ساروا فيا وحشة الوادي لبعدهم ... منهم ولا سيما الأغصان والكثب )
(1/465)
________________________________________
ومن الانسجامات المرجزة التي لو أدركها الشريف تطفل على نسيم أبياتها واعترف أن ما للصادح والباغم تغريد صادحاتها أرجوزة الشيخ جمال الدين بن نباتة الموسومة بنظم السلوك في مصايد الملوك التي امتدح بها الملك الأفضل بن الملك المؤيد صاحب حماة وكان قد لقب قبل الأفضل بالمنصور وهي
( أثنى شذا الروض على فضل السحب ... واشتملت بالوشي أرداف الكتب )
( ما بين نور مسفر اللثام ... وزهر يضحك في الأكمام )
( إن كانت الأرض لها ذخائر ... فهي لعمري هذه الأزاهر )
( قد بسطتها راحة الغمائم ... بسط الدنانير على الدراهم )
( أحسن بوجه الزمن الوسيم ... تعرف فيه نضرة النعيم )
( وحبذا وادي حماة الرحب ... حيث زها العيش به والعشب )
( أرض الهناء والسناء والمرح ... والأمن واليمن ورايات الفرح )
( ذات النواعير سقات الترب ... وأمهات عصفه والأب )
( تعلمت نوح الحمام الهتف ... أيام كانت ذات فرع أهيف )
( فكلها من الحنين قلب ... فكيف لا والما عليها صب )
( لله ذاك السفح والوادي الغرد ... والماء معسول الرضاب مضطرد )
( يصبو بها الرائي فكيف السامع ... ويحمد العاصي فكيف الطائع )
( إذا نظرت للربا والنهر ... فارو عن الربيع أو عن جعفر )
( محاسنا تلهى العيون والفكر ... ربيع روضات وشحرور صفر )
( أمام كل منزل بستان ... وبين كل قرية ميدان )
( أما رأيت الورق في الأوراق ... جاذبة القلوب بالأطواق )
( فبادر اللذة يا فلان ... واغنم متى أمكنك الزمان )
( ولا تقل مشتى ولا مصيف ... فكل أوقات الهنا خريف )
( كل زمان يتقضى بالجدل ... زمان عيش كلما دار اعتدل )
(1/466)
________________________________________
( أحسن ما أذكر من أوقاته ... وخير ما أنعت من لذاته )
( بروزنا للصيد فيه والقنص ... وحوزنا من مره أحلى الفرص )
( وأخذنا الوحش من المسارب ... وفعلنا في الطير فوق الواجب )
( لما دنا زمان رمي البندق ... سرنا على وجه السرور المشرق )
( في عصبة عادلة في الحكم ... وغلمة مثل بدور التم )
( من كل مبعوث إلى الأطيار ... تظله غمامة الغبار )
( قد حمد القوم به عقب السفر ... عند اقتران القوس منه بالقمر )
( لولا حذار القوس من يديه ... لغنت الورق على عطفيه )
( في كفه محنية الأوصال ... قاطعة الأعمار كالهلال )
( زهراء خضراء الإهاب معجبه ... مما ثوت بين الرياض المعشبه )
( فاغرة الأفواه للأطيار ... طالبة لهن بالأوتار )
( كأنها بين المياه نون ... أو حاجب بما تشا مقرون )
( لها بنات بالمنى معذوقه ... من طينة واحدة مخلوقه )
( سامعة لما تشير الأم ... مع أنها مثل الحجار صم )
( كأنها والطير منها هارب ... خلف الشياطين شهاب ثاقب )
( واها لها شبه كرات تخطف ... شاهدة بالعزم وهي تقذف )
( حتى نزلنا بمكان مونق ... إخوان صدق أحدقوا بالملق )
( فيا له في الحسن من محل ... مراد جد ومراد هزل )
( للطير في مياهه مواقع ... كأنها من حولها فواقع )
( فلم نزل في منزل كريم ... نروي حديث الرمي عن قديم )
( حتى طوى الأفق رداء الورس ... والتهم المغرب قرص الشمس )
( وابتدر القوم إلى المراصد ... من ساهر ليل التمام ساهد )
( كالليث يسطو كفه بأرقم ... والبدر يرمي في الدجا بأسهم )
(1/467)
________________________________________
( بينا الطيور في مداها ساهره ... إذا هم من عينه بالساهره )
( وأقبلت مواكب الطيور ... على طروس الجو كالسطور )
( فحبذا السطور في المهارق ... منظومة الأحرف بالبنادق )
( من كل تم حق أن نسمي ... ضياءه المشرق بدر التم )
( تخاله من تحت عنق قد سجا ... طرة صبح تحت أذيال الدجا )
( وكل ذي حسن من الوسامه ... تخاله في أفقه غمامه )
( تتبعه أوزة دكناء ... من دونها لقلقة غراء )
( تقدمها أنيسة ملونه ... تابعة من كل وصف أحسنه )
( يجنى بها الأكل خير ما جنى ... وأحسن المأكول ما تلونا )
( وربما مر لديها حبرج ... كأنه على نضار يدرج )
( وانقض من بعض الجبال نسر ... له بأبراج النجوم وكر )
( مغير الخلق شديد الأيدي ... يبني على الكسر حروف الصيد )
( تحث مسراه عقاب كاسبه ... خافضة لحظ الطيور ناصبه )
( إذا مضت جملتها المعترضه ... تواصلت خيوطها المنقرضه )
( بكل كركي عجيب السير ... كأنه طيف خيال الطير )
( يحث غرنوقا شهي المجتلى ... مقدما على الغرانيق العلا )
( وأبيض كالغيم يسمى مرزما ... كم بات مثل نورة مبتسما )
( يحثه سبيطر قوي ... معجزة في الطير موسوي )
( كم حاش ثعبانا وكم حواه ... كأنه في يده عصاه )
( هذا وكم ذي نظر ممتاز ... ينعت في الواجب بالعناز )
(1/468)
________________________________________
( أسود إلا لمعة في الصدر ... كأنها نور الهدى في الكفر )
( فلم تزل قسينا الضواري ... تصيبها بأعين الأوتار )
( حتى غدت دامية النحور ... ساقطة منها على الخبير )
( كأنها وهي لدينا وقع ... لدى محاريب القسي ركع )
( وأصبحت أطيارنا قد حصلت ... ولم تسل بأي ذنب قتلت )
( مستتبعا وجه العشا وجه السحر ... وكل وجه منهما وجه أغر )
( يا لك من صيد مقر العين ... مرضي الصحاب وهو ذو الوجهين )
( لم نرض ما وفى من الأماني ... حتى شفعناه بصيد ثاني )
( صيد الملوك الصيد بالكواسر ... والخيل في وجه الصباح السافر )
( ذاك الذي تصبو له الجوارح ... فهي إلى طلابه طوامح )
( واثقة بالرزق حيث كانا ... تغدو خماصا وتجي بطانا )
( سرنا على اسم الله والمناجح ... نعوم في الأقطار بالسوابح )
( خيل تحاذي الصيد حيث مالا ... كأنها أضحت له ظلالا )
( تسعى بها قوائم لا تتبع ... وكيف لا وهي الرياح الأربع )
( تحفنا من فوقها غلمان ... كأنهم لدوحنا أغصان )
( ترك تريك في سماء الملبس ... كواكبا طالعة في الأطلس )
( منظومة الأوساط بالسلاح ... من كل سهم زجل الجناح )
( وكل عضب ذرب المقاطع ... يحرف الهام عن المواضع )
( على يد السائر منهم زاده ... من كل باز قرم فؤاده )
( قد كتبت في صدره حروف ... تقرا بما تقرى به الضيوف )
( وكل شاهين شهي المرتمى ... كبارق طار وصوب قد همى )
( بينا تراه ذاهبا لصيده ... معتصما بأيده وكيده )
(1/469)
________________________________________
( حتى تراه عائدا من أفقه ... ملتزما طائره في عنقه )
( أفلح من كان على يسراه ... حتى غدت حاسده يمناه )
( تلك يد لا تعرف الإعسارا ... لأجل هذا سميت يسارا )
( وكل صقر مسبل الجناح ... مواصل الغدو والرواح )
( ذي مقلة لها ضرام واقد ... يكاد يشوي ما يصيد الصائد )
( كأنما المخلب منه منجل ... لحصد أعمار الطيور مرسل )
( يا حبذا طيور جد ولعب ... تهوي إلى الأرض وللأفق تشب )
( من سنقر عالي المدى والشان ... معظم الأخبار والعيان )
( يصعد خلف الرزق ليس يمهله ... كأنه من السما يستعجله )
( ومن عقاب بأسها مروع ... كأنها للطير جن يصرع )
( كم جلبت لطائر من وهن ... وكم وكم قد أهلكت من قرن )
( وحبذا كواسر الكواهي ... عديمة الأنظار والأشباه )
( مخصوصة بالطرد القويم ... حدباء ظهر الذنب الرقيم )
( ذاك لعمري حدب للرائي ... يعدل ملك القلعة الحدباء )
( هذا وقد تجهزت أعداد ... يجمعها الكلاب والفهاد )
( من كل فهد عنتري الحمله ... إذا رأى شخص مهاة عبله )
( مبارك الإقبال والإعراض ... مستقبل الحال بناب ماض )
( كأنه من حسدة اكتسابه ... قد أحرق الأنجم في إهابه )
( له على مسايل الجفون ... خط كخط الألفات الجون )
( ما أبصر المبصر خطا مثله ... وكيف لا والخط لابن مقله )
( وكل منسوب إلى سلوق ... أهرت وثاب الخطا ممشوق )
( طاوي الفؤاد ناشر الأظافر ... يا عجبا منه لطاو ناشر )
(1/470)
________________________________________
( يعض بالبيض ويخطو بالقنا ... ويسبق الوهم لإدراك المنى )
( كالقوس إلا أنه كالسهم ... والغيم يجلو عن شهاب الرجم )
( إذا تراءى بقر الوحش اندفع ... كأنه المريخ في الثور طلع )
( قاصرة عن يده عيناه ... مشروطة برجله أذناه )
( يشفعه كل عزيز عاري ... مغالب الصيد على الأوكار )
( واها لها من أكلب طوارد ... معربة عن مضمر المصايد )
( قد بالغت من طمع في كسبها ... ففتشت عن أنفس لم تخبها )
( حتى إذا تمت بها الأمور ... حفت بنا لصيدها الطيور )
( ما بين روضات مددنا نحوها ... وحول آفاق ملكنا جوها )
( واستقبلت أطيارها البزاة ... معلمة كأنها الغزاة )
( فلم تزل تسطو سطا الحجاج ... على الكراكي إلى الدراج )
( حتى غدت تلك البزاة صرعى ... مجموعة على التراب جمعا )
( على الربا من دمها خلوق ... كأن كل نبتها شقيق )
( ثم عطفنا للوحوش السانحة ... واستبقت تلك الضواري الطامحه )
( كلاب صيد بينها سناقر ... تفعل في الوحش بها الفواقر )
( تخشى بها العقر على نفوسها ... فالطير لا شك على رؤوسها )
( وللكلاب حولها مغار ... يكاد أن تقدح منه النار )
( من نمر لسانه يلوب ... تقول هذا كوسج مخضوب )
( يعانق الظبي عناق الوامق ... ما كان أغنى الظبي عن معانق )
( والفهد يشتد على الآجال ... شد وصي السوء في الأموال )
( لا يهمل القصد ولا يخون ... كأن كل جسمه عيون )
( وللزعاريات خلف الأرنب ... حقائق تبطل كيد الثعلب )
( كم برحت بالهارب المكدود ... وطوحت بصاحب الأخدود )
( وربما مرت ظباء ومها ... للنبل في أكل حشاها مشتهى )
( قد نسجت ملاءة من عنبر ... تخاط من قرونها بالإبر )
(1/471)
________________________________________
( فابتدرت أجنحة السهام ... صائبة الأغراض والمرامي )
( تجرح كل سانح نفور ... كأنه بعض شهود الزور )
( كأن أقطار الفلاة مجزره ... أو روضة من الدماء مزهره )
( كأن صرعى وحشها كفار ... الموت عقبى أمرها والنار )
( للمرء فيها منظر أحبه ... يملأ من لحم وشحم قلبه )
( لله ذاك المنظر المهنا ... أي معاد عن ذراه عدنا )
( قد ملئت من ظفر أيدينا ... وقد شكرنا فضل ما حبينا )
( نسير حول الملك المنصور ... كالشهب حول القمر المنير )
( محمد ناصر دين أحمد ... الملك ابن الملك المؤيد )
( يا حبذا من والد ومن ولد ... وحبذا من شبل ملك وأسد )
( فرع زها بأصله أيوب ... فأثمرت بحبه القلوب )
( قال الأنام حظه جلي ... قلت نعم وجده علي )
( ذاك الذي سام العلا صبيا ... وجاءها من مهده مهديا )
( محكم السطوة سحاح الديم ... يأخذ بالسيف ويعطي بالقلم )
( لو لمس الصخر لفاض نهرا ... أو صحب النجم لعاد بدرا )
( لا ظلم يلفى في حماه العالي ... إلا على العداة والأموال )
( أما ترى الدينار منه خائفا ... أصفر من كف الهبات ناشفا )
( كالبدر في سنائه وتمه ... والطود في وقاره وحلمه )
( مرأى يشف عن فخار أصل ... ونسخة قد قوبلت بالأصل )
( ما ضر من خيم في جنابه ... أن لا تكون الشهب من أطنابه )
( جناب عز جاره لا ينكب ... وباب نجح للغنى مجرب )
( غنيت في ظلاله عن الورى ... غنى نزيل المدن عن قصد القرى )
( ورحت من نعماه بالتواتر ... أروي أحاديث عطا عن جابر )
( يزداد لفظي بهجة ورونقا ... كأنه الخمر إذا تعتقا )
( إن لم أرم ذاك الحمى العالي فمن ... ينصرني على تصاريف الزمن )
( يا ناصر الدين دعاء مادح ... ما بين روضات السطور صادح )
( حسبك مثلي في الأنام شاعرا ... وحسب شعري قوة وناصرا )
(1/472)
________________________________________
ومن الأراجيز المرتجلة التي سارت الركبان ببلاغة ارتجالها ولطف انسجامها أرجوزة الشيخ زين الدين عمر بن المظفر الوردي سقى الله ثراه التي ارتجلها بدمشق المحروسة عند الامتحان المفحم
فقد ذكر الشيخ الإمام العلامة إمام المحدثين أبو الفداء إسماعيل بن كثير أن الشيخ زين الدين المشار إليه قدم دمشق المحروسة في أيام القاضي نجم الدين بن صصري تغمده الله برحمته ورضوانه فأجلسه في الصفة المعروفة بالشباك في جملة الشهود وكان يومئذ زري الحال فاستخف به الشهود
فحضر يوما كتابة مشترى ملك فقال بعضهم أعطوا المعري يكتبه على سبيل الاستهزاء
فقال الشيخ ارسموا لي أكتبه نظما أو نثرا
فزاد استهزاؤهم به فقالوا بل نظما
فأخذ الطرس وكتب ارتجالا ما صورته
( باسم إله الخلق هذا ما اشترى ... محمد بن يونس بن سنقرا )
( من مالك بن أحمد بن الأزرق ... كلاهما قد عرفا من جلق )
( فباعه قطعة أرض واقعة ... بكورة الغوطة وهي جامعه )
( لشجر مختلف الأجناس ... والأرض في البيع مع الغراس )
( وذرع هذي الأرض بالذراع ... عشرون في الطول بلا نزاع )
( وذرعها في العرض أيضا عشره ... وهو ذراع باليد المعتبره )
( وحدها من قبلة ملك التقي ... وحائز الرومي حد المشرق )
( ومن شمال ملك أولاد علي ... والغرب ملك عامر بن جهبل )
( وهذه تعرف من قديم ... بأنها قطعة بنت الرومي )
( بيعت صحيحا لازما شرعيا ... ثم شراء قاطعا مرعيا )
( بثمن مبلغه من فضه ... وازنة جيدة مبيضه )
( جارية للناس في المعامله ... ألفان منها النصف ألف كاملة )
( قبضها البائع منه وافيه ... فعادت الذمة منها خاليه )
( وسلم الأرض إلى من اشترى ... فقبض القطعة منه وجرى )
( بينهما بالبدن التفرق ... طوعا فما لأحد تعلق )
(1/473)
________________________________________
( ثم ضمان الدرك المشهور ... فيه على بائعه المذكور )
( وأشهدا عليهما بذاك في ... رابع عشر رمضان الأشرف )
( من عام سبعمائة وعشره ... من بعد خمسة تليها الهجره )
( والحمد لله وصلى ربي ... على النبي وآله والصحب )
( يشهد بالمضمون من هذا عمر ... ابن المظفر المعري إذ حضر )
فلما فرغ الشيخ من نظمه وتأمل الجماعة ارتجاله وسرعة بديهته اتفق أنه لم يكن فيهم من يحسن النظم فقالوا وقد اعترفوا بفضل الشيخ وعجزوا عن رسم الشهادة لعل الشيخ يسد عن أحد منا برسم شهادته
فكتب عن شخص منهم إلى جانبه يدعى ابن رسول
( وقد حضر العقد الصحيح أحمد ... ابن رسول وبذاك يشهد )
ومما استعذب من انسجامات الشيخ برهان الدين القيراطي قوله من قصيدة تائية
( أخذت بابل عنه ... بعض تلك النفثات )
( فهو غصن في انعطاف ... وغزال في التفات )
( حسنات الخد منه ... قد أطالت حسراتي )
( كلما ساء فعالا ... قلت إن الحسنات )
( ولسوء الحظ صارت ... حسناتي سيئاتي )
( أعشق الشامات منه ... وهي أسباب مماتي )
ويعجبني قوله منها
( بأبي لحظ غزال ... قائل في الخلوات )
( إن للموت بأقداح ... جفوني سكرات )
( قلت قد مت غراما ... قال لي مت بحياتي )
ومنها
( قلت إذ حرك عودا ... عازفا بالنغمات )
( أنت مفتاح سروري ... يا سعيد الحركات )
ومن انسجاماتي الغرامية الموجزة التي تقدمني فيها الشيخ جمال الدين بن نباتة والشيخ زين الدين بن الوردي قصيدتي الدالية التي كتبت بها قديما من حماة المحروسة إلى
(1/474)
________________________________________
القاضي فخر الدين بن مكانس وولده القاضي مجد الدين تغمدهما الله برحمته وهي
( ما لمعت بارقة من نجد ... إلا وهزتني وعود وجدي )
( ولا سرت سحابة مغدقة ... إلا وكان مثلها في خدي )
( فيا رعى الله زمانا بالحمى ... فإن لي فيه بقايا عهد )
( ويا ربى مصر مراضع الحيا ... يرضعك الغيث بذاك المهد )
( كم ليلة قضيتها وأنجم الجوزاء ... فوق صدرها كالعقد )
( والأرض قد حاكت برود وشيها ... يحار في صفاتها ابن برد )
( وكوثر النيل يروق منظرا ... حتى كأني في جنان الخلد )
( وهند ما تخطر في برودها ... إلا أمالت عذبات الرند )
( مضرية لكن يماني لحظها ... منتسب في فتكه للهند )
( آه له من سيف لحظ باتر ... زاد على عشاقه في الحد )
( عبد مناف جدها وإنما ... قلبي لها قد صار عبدود )
( يا لأمير النحل قرص وجهها ... يشهد أن ريقها من شهد )
( وثغرها يقول في نظامه ... يا يتم أبكار اللآلي بعدي )
( وشعرها الطائل قد قلنا له ... أنت لنا نابغة يا جعدي )
( وريقها قال النباتي أنا ... وخدها قال أنا ابن الوردي )
( والغصن حاكى قدها قالت له ... ما أنت يا غصن الرياد قدي )
( يا قدها وردفها لولاكما ... ما اشتقت بانات الكثيب الفرد )
( سألتها لم صرفت عن ناظري ... وكلفت قلبي بطول النقد )
( قالت تركت الفخر من بين الورى ... وقد قعدت عن طلاب المجد )
لعمري إن الشرح قد طال في نوع الانسجام ولكن ما استطردت بخيوله إلا إلى كل مهيع بديع وغريب
فبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على نوع الانسجام يقول فيه عن النبي
( فذكره قد أتى في هل أتى وسبا ... وفضله ظاهر في نون والقلم )
(1/475)
________________________________________
انسجام الشيخ صفي الدين في بيته ظاهر
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( بان انسجام كلام منزل عجب ... يهدي ويخبرنا عن سالف الأمم )
بيت الشيخ عز الدين لم يكن له تعلق بما قبله من المديح النبوي والذي يظهر لي منه أنه أشار به إلى القرآن بأنه كلام منزل وانسجامه عجب يهدي ويخبرنا عن سالف الأمم
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( له انسجام دموعي في مدائحه ... بالله شنف بها يا طيب الكلم )
ولقد عجبت من الشيخ عز الدين كيف عقد بيت انسجامه مع سهولة هذا النوع وقرب مأخذه ولطف تسميته وقبولها للاشتراك انتهى
(1/476)
________________________________________
ذكر التفصيل
( وإن ذكرت زمانا ضاع من عمري ... في غير تفصيل مدح صحت يا ندمي )
التفصيل بصاد مهملة نوع رخيص بالنسبة إلى فن البديع والمغالاة في نظمه
وقد نبهت قبله على عدة أنواع سافلة ولكن المعارضة أوجبت الشروع في نظمه كالتصدير وعتاب المرء نفسه وتشابه الأطراف وما أشبه ذلك
والتفصيل هو أن يأتي الشاعر بشطر بيت له متقدم صدرا كان أو عجزا ليفصل به كلامه بعد حسن التصريف في التوطئة الملايمة
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم وغالب علماء البديع لم يذكروه في مصنفاتهم غير أن الشيخ صفي الدين الحلي أورده في بديعيته فدعت المعارضة إلى نظمه
وبيته في بديعيته
( صلى عليه إله العرش ما طلعت ... شمس النهار ولاحت أنجم الظلم )
فصدر هذا البيت ذكر أنه تقدم له في قصيدة قافية امتدح بها النبي مطلعها
( فيروزج الصبح أم ياقوتة الشفق ... بدت فهيجت الورقاء في الورق )
والبيت الذي أتى بصدره منها وأثبته في بديعيته على حاله لأجل نوع التفصيل هو
( صلى عليه إله العرش ما طلعت ... شمس النهار ولاحت أنجم الغسق )
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( تفصيل مدحك تجميل لذي أدب ... أوصاله كفت البلوى من الرقم )
فصدر بيت الشيخ عز الدين كان عجزا في قصيدة تقدمت له بائية مطلعها
( لو أن وجه رضائي غير منتقب ... ما سر قلبي بلوغي غاية الأرب )
(1/477)
________________________________________
الذي جعل صدره عجزا وأبقاه على حاله في بديعيته لأجل نوع التفصيل
( كسوتني حللا بين الأنام بها ... تفصيل مدحك تجميل لذي أدب )
هذا البيت كان تفصيل حلله كاملا في موضعه
ولما نقل الشيخ عز الدين عجزه وجعله صدرا في بديعيته ظهر في تفصيله نقص بقوله مع العقادة في العجز كفت البلوى من الرقم
فإن الرقم بفتح الراء وكسر القاف الداهية
قلت والداهية إذا دخلت بيتا تركته خرابا
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( وإن ذكرت زمانا ضاع من عمري ... في غير تفصيل مدح صحت يا ندمي )
فصدر هذا البيت تقدم لي في قصيدة فائية مطلعها
( قد مال غصن النقا عن صبه هيفا ... يا ليته بنسيم العتب لو عطفا )
والبيت الذي نقلت صدره منها وأثبته في بديعيتي وأبقيته على حاله لأجل نوع التفصيل هو
( وإن ذكرت زمانا ضاع من عمري ... ولم أهاجر إليه صحت يا أسفا )
وهذه القصيدة من غرر قصائدي بل من غرر القصائد منها
( مزاج خمرة فيه جاء معتدلا ... فراح منه مزاج الراح منحرفا )
( ومذ غدا جسمه ماء برقته ... علمت والله أن القلب منه صفا )
( منه الغزالة غارت عينها حسدا ... والبدر قد لازم التسهيد والكلفا )
( والظبي قال أنا أحكي لواحظه ... فصح عندي أن الظبي قد خرفا )
ومنها
( مذ صار لي قبلة محراب حاجبه ... صيرت عابد طرفي فيه معتكفا )
( ولام فيه عذول قلت من كلفي ... قلبي رأى منه قدا في الهوى ألفا )
( ما ضره لو عفا عني وأظهر لي ... عطفا وعاين ربع الصبر كيف عفا )
( أراد مني وكف الدمع قلت له ... حسيبك الله يا بدر الدجى وكفى )
لم أستطرد إلى ذكر هذه الأبيات هنا إلا لأن نوع التفصيل لم يحتمل إطلاق عنان القلم في الكلام عليه إلى أكثر من ذلك
(1/478)
________________________________________
الكتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
الجزء الثاني
ذكر النوادر
( نوادر المدح في أوصافه نشقت ... منها الصبا فأتتنا وهي في شمم )
هذا النوع أعني النوادر سماه قوم الإغراب والطرفة وهو أن يأتي الشاعر بمعنى يستغرب لقلة استعماله لا لأنه لم يسمع بمثله وهذا مما اختاره قدامة دون غيره ولكن غالب علماء البديع اختاروا غير رأي قدامة في هذا النوع فإنهم قالوا لا يكون المعنى غريبا إلا إذا لم يسمع بمثله
وأورد زكي الدين ابن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير لنوع النوادر حدا أقرب إليه من اختيار قدامة وأبلغ وأوقع في النفوس وهو أن يعمد الشاعر إلى معنى مشهور ليس بغريب في بابه فيغرب فيه بزيادة لم تقع لغيره ليصير بها ذلك المعنى المشهور غريبا وينفرد به دون كل من نطق به وبيان ذلك أن تشبيه الحسان بالشمس والبدر مبذول معروف قد ذهبت طلاوته لكثرة ابتذاله وكان سابق المتقدمين وقبلة المتأخرين القاضي الفاضل أنفت نفسه من المثابرة على هذا الابتذال وكثرة تشبيه الحسان بالبدور فقال
( تراءى ومرآة السماء صقيلة ... فأثر فيها وجهه صورة البدر )
سبحان المانح حاصل كلامه تشبيه محسوبه بالبدر ولكن زيادة هذه النادرة اللطيفة لا تخفى إلا على أكمه لا يعرف القمر وعلى هذا المنوال نسجت بيت بديعيتي
(2/3)
________________________________________
ويعجبني في باب النوادر قول القائل
( عرض المشيب بعارضيه فأعرضوا ... وتقوضت خيم الشباب فقوضوا )
( ولقد سمعت وما سمعت بمثله ... بين غراب البين فيه أبيض ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( كأنما قلب معن ملء فيه فلم ... يقل لسائله يوما سوى نعم )
هذا البيت ذكر الشيخ صفي الدين في شرحه أن النادرة فيه قلب معن بنعم قلت قلب معن بنعم لم يعد من نوع النوادر بل من أنواع الجناس المسمى بالقلب والعكس وجناس القلب وغيره من أنواع الجناس ليس فيه غير خدمة الألفاظ فإنه نوع لفظي والذي قرره قدامة وغيره فى هذا النوع أن الغرابة تكون في المعنى بحيث يعد ذلك المعنى من النوادر
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته هو
( نوادر من جناني كالجنان زهت ... أم هل بدت واضحات الحسن من إرم )
قلت إن بيت الشيخ صفي الدين الحلي مع ما فيه من النقد والمؤاخذة معدود من النوادر بالنسبة إلى هذا البيت وما أشبهه بالبيت الذي أخبر عنه الحريري في مقاماته وقال إنه أخرج من التابوت وأوهن من بيت العنكبوت وما ذاك إلا أنني كررت النظر في أركان هذا البيت فلم أجد فيه مقرا لنادرة من النوادر التي تقدم تقريرها فلم يسعني غير النظر في شرحه فوجدته قال إن جناني ظهر منه محاسن مدهشة أم بدت محاسن إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ويحكى أنها جنة بناها عاد قلت وما أحق اختراع الخراع بهذه العبارة وهي بشهادة الله عبارته بنصها والذي أعده من النوادر إبراز الشيخ عز الدين مثل هذا البيت في بديعيته ورضاه به وتنزيل مثل هذه العبارة عليه انتهى
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( نوادر المدح في أوصافه نشقت ... منها الصبا فأتتنا وهي في شمم )
النادرة في معنى هذا البيت عرفها ضائع لمن شمه من أهل الأدب وما ذاك إلا أن
(2/4)
________________________________________
النسيم أكثر الشعراء من استعماله في تحمل الرسائل
وغاية ما أغربوا فيه أنه ينشق منه عرف الأحبة إذا هب من نحوهم والنادرة التي أغربت بها هذا المعنى أن نسيم الصبا لما نشقت عرف مديح النبي وتعرفت به تزايد شممها والشمم للنسيم نادرة بل نكتة لم أسبق إليها فإن النسيم أحق باشتراك هذه التورية من غيره لأن الشمم لائق به وهذا الذي أشار إليه ابن أبي الأصبع في أن الشاعر يعمد إلى معنى مبذول معروف ليس بغريب في بابه فيغربه بزيادة لم تقع لغيره ويصير بها ذلك المعنى المعروف غريبا ومثل ذلك حتى يزداد نوع النوادر إيضاحا قول أبي نواس
( هبت لنا ريح شمالية ... متت إلى القلب بأسباب )
( أدت رسالات الهوى بيننا ... عرفتها من بين أصحابي ) قوله عرفتها من بين أصحابي نادرة لم يسبق إليها وقد جاراه مجير الدين الخياط في بديع هذا النوع ونادرة هذ المعنى لولا الحياء لقلت إنه أحرز قصبات السبق عليه بقوله
( يا نسيم الصبا الولوع بوجدي ... حبذا أنت لو مررت بهند )
( ولقد رابني شذاك فبالله ... متى عهده بأطلال نجد )
بين ولقد رابني شذاك في بيت مجير الدين وبين عرفتها من بين أصحابي معرك ذوقي ما يدركه إلا من صفت مرآت ذوقه في علم الأدب ولعمري إن النادرتين يتجمل بهما هذا النوع ومثله قول القائل ويعجبني إلى الغاية
( ويد الشمال عشية مذ أرعشت ... دلت على ضعف النسيم بخطها )
( كتبت سقيما في صحيفة جدول ... فيد الغمامة صححته بنقطها )
النوادر في هذين البيتين لم يحتج برهانها إلى إقامة دليل وقد فهمت الزيادات في غرابة المعاني المبتذلة
ومثله ولم يخرج عما نحن فيه من لطف النسيم ونوادر النوع قول القائل
( هبت صبا من قاسيون فسكنت ... بهبوبها وصب الفؤاد البالي )
( خاضت مياه النيرين عشية ... وأتتك وهي بليلة الأذيال )
(2/5)
________________________________________
ويعجبني في هذا الباب قول ناصر الدين بن المشد
( مسكية الأنفاس تملي الصبا ... عنها حديثا قط لم يملل )
( جننت لما أن سرى عرفها ... وما نرى من جن بالمندل )
وألطف منه وأكثر نوادر قول بدر الدين حسن الغزي الشهير بالزغاري
( سرت من بعيد الدار لي نسمة الصبا ... وقد أصبحت حسرى من السير ضائعه )
( ومن عرق مبلولة الجيب بالندى ... ومن تعب أنفاسها متتابعه )
ومن العجائب في هذا النوع
( حبذا ليلة رأيت دجاها ... زاهيا عطفه بحلة فجر )
( بشرت باللقاء وهي غراب ... ونفى الفجر حسنها وهي قمري )
ومن النوادر اللطيفة في هذا الباب قول علاء الدين الجويني صاحب الديوان ببغداد من دو بيت
( مذ صار مبيتنا بضوء القمر ... والحب نديمنا وصوت الوتر )
( نادى بفراقنا نسيم سحرا ... ما أبرد ما جاءت نسيم السحر )
ومن نادر ما اتفق لي قولي من قصيدة رائية
( ومذ سرت نسمات الثغر باردة ... بدا بأعضاء ذاك الجفن تكسير )
قد تقدم تقرير حد ابن أبي الأصبع في نوع النوادر وتكرر وهو أن يعمد الشاعر إلى معنى مشهور كثير الاستعمال فيغرب فيه بزيادة نكتة لم تقع لغيره ليصير المعنى المستعمل بها غريبا وقد فهم ما أوردته هنا من تلاعب الشعراء بالنسيم وما أظهروا فيه من النوادر التي تركت رخيصه غاليا وتكسير الجفن أيضا ونسبة التكسير إليه أكثر أهل الأدب استعماله في تغزلهم ونسيبهم ولكن استعارة النسمات الباردة للثغر وهبوبها على أعضاء ذاك الجفن السقيم حتى ظهر فيه التكسير نادرة النوادر في هذا النوع والله أعلم
(2/6)
________________________________________
ذكر المبالغة
( بالغ وقل كم جلا بالنور ليل وغى ... والشهب قد رمدت من عثير الدهم )
المبالغة نوع معدود من محاسن هذا الفن عند الجمهور واستدلوا على ذلك بقول من قال أحسن الشعر أكذبه وبقول النابغة الذيباني أشعر الناس من استجيد كذبه وضحك من رديئه واستدلوا أيضا برد النابغة المذكور على مثل حسان بن ثابت في قوله
( لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما )
والرد الذي رده النابغة على هذا البيت في ثلاثة مواضع الأول منها أنه قال له قلت لنا الجفنات والجفنات تدل على قليل فلا فخر لك ولا مبالغة إذا كان في ساحتك ثلاث جفان أو اربع والثاني أنك قلت يلمعن واللمعة بياض قليل ليس فيه كبير شان والثالث أنك قلت في السيوف يقطرن والقطرة تكون للقليل فلا تدل على فرط نجدة ولا مبالغة
وترشيح جانب المبالغة مذهب ابن رشيق في العمدة ومنهم من لم يعد المبالغة من حسنات الكلام ومشى في ذلك على مذهب حسان بن ثابت رضي الله عنه فإنه قال
( وإنما الشعر عقل المرء يعرضه ... على الأنام فإن كيسا وإن حمقا )
(2/7)
________________________________________
( وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا )
وعند أهل هذا المذهب أن المبالغة لم تسفر عن غير التهويل على السامع ولم يفر الناظم إلى التخييم عليها إلا لعجزه وقصور همته عن اختراع المعاني المبتكرة لأنها في صناعة الشعر كالاستراحة من الشاعر إذا أعياه إيراد المعاني الغريبة فيشغل الأسماع بما هو محال وتهويل وقالوا ربما أنها أحالت المعاني فأخرجتها عن حد الكلام الممكن إلى حد الامتناع والمبالغة تعاب في بابها إذا خرجت عن حد الإمكان إلى الاستحالة ويأتي الكلام على حدها في موضعه والذي أقوله إن المبالغة من محاسن أنواع البديع ولم يستطرد في حلبات سبقها إلا فحول هذه الصناعة ولولا سمو رتبتها ما وردت في القرآن العظيم والسنة النبوية ولو سلمنا إلى من يهضم جانبها ولم يعدها من حسنات الكلام بطلت بلاغة الاستعارة وانحطت رتبة التشبيه
وتسمية المبالغة منسوبة إلى قدامة ومنهم من سمى هذا النوع التبليغ وسماه ابن المعتز الإفراط في الصفة وهذه التسمية طابقت المسمى ولكن أكثر الناس رغبوا في تسمية قدامة لخفتها
وهذا النوع أعني المبالغة شركه قوم مع الإغراق والغلو لعدم معرفة الفرق وهو مثل الصبح ظاهر
والمبالغة في الاصطلاح هي إفراط وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة
والإغراق وصف الشيء الممكن البعيد وقوعه عادة
والغلو وصفه بما يستحيل وقوعه
ويأتي الكلام على كل واحد من الثلاثة في موضعه وقد تقرر أولا أن المبالغة نوعها مبني على وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه
وحد قدامة المبالغة فقال هي أن يذكر المتكلم حالا من الأحوال لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره ما يكون أبلغ من معنى قصده كقول عمير بن كريم التغلبي
( ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا )
وقال إن هذا البيت من أحسن المبالغة عند الحذاق فإن الشاعر بلغ فيه إلى أقصى ما يمكن من وصف الشيء وتوصل إلى أكثر ما يقدر عليه فتعاطاه
ولخص بعضهم عبارة الحد الذي حده قدامة وقال المعنى إذا زاد على التمام سمي مبالغة
(2/8)
________________________________________
وقال ابن رشيق في العمدة المبالغة بلوغ الشاعر أقصى ما يمكن في وصف الشيء
قلت وعلى هذا التقرير فجل القصد في المبالغة الإمكان والخروج عن المستحيل والمذهب الصحيح فيها أنها ضرب من المحاسن إذا بعدت عن الإغراق والغلو وإن كان الإغراق والغلو ضربين من المحاسن ونوعين من أنواع البديع فقد شرط علماؤه أن النوع لا يتجاوز حده بحيث يزول الالتباس ويعجبني من أمثلة المبالغة في المديح قول القائل
( أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه )
فالمعنى تم للناظم لما انتهى في بيته إلى قوله دجى الليل ولكن زاد بما هو أبلغ وأبدع وأغرب في قوله حتى نظم الجزع ثاقبة
ومثله قول أبي الطيب المتنبي في وصف جواد
( وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب )
قال زكي الدين بن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير أبلغ شعر سمعته في باب المبالغة قول شاعر الحماسة إذ بالغ في مدح ممدوحه بقوله
( رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد )
( ولو كان مما يستطاع استطعته ... ولكن ما لا يستطاع شديد )
فانظر ما أحلى احتراسه عن ذلك بقوله وما فوق شكري للشكور مزيد وانظر كيف أظهر عذره في عجزه مع قدرته بأن قال في البيت الثاني ولو كان مما يستطاع استطعته ثم أخرج بقية البيت للمبالغة مخرج المثل السائر حيث قال ولكن ما لا يستطاع شديد ومن هنا قال أبو نواس
( لا تسدين إلي عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا )
ومن معجز المبالغة في القرآن العظيم قوله تعالى ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) فجعل كل واحد منهم أشد
(2/9)
________________________________________
مبالغة في معناه وأتم صفة وجاء من المبالغة في السنة النبوية قوله مخبرا عن ربه كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به وقوله في بقية هذا الحديث والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ففي الحديث الشريف مبالغتان إحداهما كون الحق سبحانه وتعالى أضاف الصيام إلى نفسه دون سائر الأعمال لقصد المبالغة في تعظيمه وشرفه وأخبر أنه عز و جل يتولى مجازاة الصائم بنفسه مبالغة في تعظيم الجزاء وشرفه ونحن نعلم أن الأعمال كلها لله سبحانه وتعالى ولعبده باعتبارين أما كونها للعبد فلأنه يثاب عليها وأما كونها لله فلأنها عملت لوجهه الكريم ومن أجله فتخصيص الصائم بالإضافة للرب سبحانه وتخصيص ثوابه بما خصص به إنما كان للمبالغة في تعظيمه والمبالغة الثانية إخبار النبي بعد تقديم القسم لتأكيد الخبر بأن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ففضل تغير فم الصائم بالإمساك عن الطعام والشراب على ريح المسك الذي هو أعطر الطيب على مقتضى ما يفهم من ريح المسك وأتى بصيغة أفعل للمبالغة فجمع هذا الكلام بين قسمي المبالغة المجازي والحقيقي ولذلك ورد أن دم الشهيد كريح المسك للمبالغة
وهذا النوع أعني المبالغة ممكن الناظم منه في المدائح النبوية والصفات المحمدية فإن المادح إذا بالغ في وصفه كانت تلك المبالغة ممكنة قريبة من معجزاته وعظمه عند ربه فمن ذلك قولي من قصيدة نبوية أقول فيها عن النبي
( إذا ما سرى فردا لفرط جلاله ... يقول الورى قد سار جيش عرمرم )
فالمبالغة تمت لما انتهيت إلى قولي سار جيش وزدت بعد ذلك بما هو أبلغ منه وأعظم لقولي عرمرم
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( كم قد جلت جنح ليل النقع طلعته ... والشهب أحلك ألوانا من الدهم )
المبالغة تمت للشيخ صفي الدين في الشطر الأول بقوله كم قد جلت جنح ليل النقع طلعته ولكن زاد بما هو أبلغ منها حيث قال والشهب أحلك ألوانا من الدهم
(2/10)
________________________________________
وبيت العميان في بديعيتهم
( يمم نبيا تباري الريح أنمله ... والمزن من كل هامي الودق مرتكم )
المجمع عليه أن المبالغة في الأوصاف المحمدية ممكنة عقلا وعادة ولكن الأبلغ في مبالغة العميان أن الريح والمزن كان يحب كل منهما أن يتطفل على أنامل النبي في المباراة لعلو رتبته وعظم مقامه
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( امدح وجز كل حد في مبالغة ... حقا ولا تطر تقبل غير متهم )
هذا البيت لم ينتظم في سلك ما قبله من أبيات المديح النبوي ولا بينه وبين المبالغة أدنى وصلة ولم يظهر لي في بيته غفر الله له إلا وصيته للمادح أنه إذا مدح يتجاوز كل حد وأنه لا يطري فيقبل وما أحقه هنا بقول القائل
( تمنيتهم بالرقمتين ودارهم ... بوادي الغضى يا بعد ما أتمناه )
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( بالغ وقل كم جلا بالنور ليل وغى ... والشهب قد رمدت من عثير الدهم )
فالمبالغة تمت في شطر البيت الأول بقولي بالغ وقل كم جلا بالنور ليل وغى والزيادة بما هو أبلغ منها قولي والشهب قد رمدت من عثير الدهم وتسمية النوع هنا هي ديباجة المبالغتين على هذه الصيغة والله أعلم
(2/11)
________________________________________
ذكر الإغراق
( لو شاء إغراق من ناواه مد له ... في البر بحرا بموج فيه ملتطم )
قد تقرر في نوع المبالغة أنها إفراط وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة وهذا النوع أعني الإغراق فوق المبالغة ولكنه دون الغلو وهو في الاصطلاح إفراط وصف الشيء بالممكن البعيد وقوعه عادة وقل من فرق بينهما وغالب الناس عندهم المبالغة والإغراق والغلو نوع واحد وهنا لم يعمل بقول الحريري سامح أخاك إذا خلط
وكل من الإغراق والغلو لا يعد من المحاسن إلا إذا اقترن بما يقربه إلى القبول كقد للاحتمال ولولا للامتناع وكاد للمقاربة وما أشبه ذلك من أنواع التقريب
وما وقع شيء من الإغراق والغلو في الكتاب العزيز ولا في الكلام الفصيح إلا مقرونا بما يخرجه من باب الاستحالة ويدخله في باب الإمكان مثل كاد ولو وما يجري مجراهما كقوله تعالى ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) إذ لا يستحيل في العقل أن البرق يخطف الأبصار لكنه يمتنع عادة وما زاد وجه الإغراق هنا جمالا إلا تقريبه بكاد واقتران هذه الجملة بها هو الذي صرفها إلى الحقيقة فقلبت من الامتناع إلى الإمكان
ومن شواهد تقريب نوع الإغراق بلو قول زهير
( لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا )
(2/12)
________________________________________
فاقتران هذه الجملة أيضا بامتناع قعود القوم فوق الشمس المستفاد بلو هو الذي أظهر بهجة شمسها في باب الإغراق
ومما استشهدوا به على هذا النوع بغير أداة التقريب قول امرىء القيس
( تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي )
وبين المكانين بعد تام فإن أذرعات من الشام والنار التي تنورها من أذرعات كانت بيثرب مدينة النبي وقد أثبتوا هذا الشاهد في باب الإغراق لأنهم قالوا لا يمتنع عقلا أن ترى النار من بعد هذه المسافة وأن لا يكون ثم حائل من جبل أو غيره من عظم جرم النار ولكن ذلك ممتنع عادة هذا إن جعلنا تنورتها نظرت إلى نارها حقيقة وأما إن جعلناه بمعنى توهمت نارها وتخيلتها في فكري فلا يكون في البيت إغراق
ومثله قول أبي الطيب المتنبي في صباه
( روح تردد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن )
( كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني )
وقالوا هنا لا يمتنع عقلا أن ينحل الشخص حتى يصير مثل الخلال ولا يستدل عليه إلا بالكلام إذ الشيء الدقيق إذا كان بعيدا لا يرى بخلاف الصوت ولكن صيرورة الشخص في النحول إلى مثل هذه الحال ممتنع عادة ولعمري إن الشيخ شرف الدين بن الفارض ضم خصر هذا المعنى الرقيق ورشحه بنفائس العقود حيث قال
( كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي )
قلت إذا قابلنا نحول المتنبي بهلال الشك الذي أبرزه ابن الفارض لم تبعد المقارنة لكن من قابل قول المتنبي انني رجل لولا مخاطبتي بقول الشيخ شرف الدين ابن الفارض في بيته كأني هلال الشك لولا تأوهي لا بد أن يقابله الله على ذلك وأين لطف لولا تأوهي من ثقل لولا مخاطبتي فالفرق بين خطاب الرجل وتأوه هلال الشك لا يخفى على حذاق أهل الأدب
(2/13)
________________________________________
ومنه قول بعضهم
( قد سمعتم أنينه من بعيد ... فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين )
قلت ما برح طائر فكري يحوم على ورد هذا المعنى الذي حصلت فيه المواردة على أن الشخص لا يرى لشدة نحوله إلا بأنين أو تأوه وأريد أن أرشحه بنكتة إلى أن قلت من قصيدتي التي عارضت بها كعب بن زهير وامتدحت بها النبي
( وفوق طرس مشيبي أرخوا تلفي ... وذلك الطرس فوق الرأس محمول )
( وقد تجاوز جسمي حد كل ضنى ... وها أنا اليوم في الأوهام تخييل )
وقد تقدم وتقرر أن أداة المقاربة ما استعملت في الإغراق إلا لتنقله من الامتناع إلى الإمكان وهذا الذي أوردته بغير أداة المقاربة هنا إن كان يبعد عادة لا يبعد عقلا
ومما استشهدوا به على نوع الإغراق بلو التي يمكن الإغراق بها عقلا ويمتنع عادة قول القائل
( ولو أن ما بي من جوى وصبابة ... على جمل لم يبق في النار كافر )
يريد أنه لو كان ما به من الحب بجمل لنحل حتى يدخل في سم الخياط وذلك لا يستحيل عقلا إذ القدرة قابلة لذلك لكنه ممتنع عادة وهذا غاية في الإغراق
وأورد الشيخ شهاب الدين ابن جعفر المغربي الأندلسي في شرحه الذي كتبه على بديعية صاحبه شمس الدين محمد بن جابر الأندلسي على هذا البيت حكاية لطيفة وهي أن إبليس تعرض لبعض الأولياء فلم ينل منه غرضا فقال له الولي من أشد عليك العابد الجاهل أو العالم المسرف على نفسه فقال العالم المسرف وأما العابد الجاهل فهو في قبضتي أدخل عليه في دينه من حيث شئت وأنا أريك ذلك فانطلق به إلى أعبد الجهال في ذلك الزمان فطرق عليه الباب فخرج إليهما فقال له إبليس جئت أستفتيك هل الله قادر على أن يدخل الجمل في سم الخياط أو لا فتوقف وتحير وغلق الباب فقال إبليس للولي ها هو قد كفر بالشك في قدرة الله تعالى ثم انطلق به إلى عالم مسرف على نفسه وطرق عليه الباب وكان في القائلة فقال الرجل العالم من هذا الشيطان الذي يضرب بابي في القائلة وقد قال عليه الصلاة و السلام
(2/14)
________________________________________
قيلوا فإن الشياطين لا تقيل فقال إبليس ها هو قد عرفني قبل رؤيتي فلما خرج قال له إبليس هل في قدرة الله تعالى أن يدخل الجمل في سم الخياط فقال له أتشك في قدرة الله تعالى على أن يوسع سم الخياط حتى يدخل فيه الجمل أو يرقق الجمل حتى يصير كالخيط فيدخل في سم الخياط فانصرفا وقال إبليس لرفيقه معرفة هذا بالله تمحو ذنوبه وحاله خير من حال العابد الجاهل بالله انتهى
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على نوع الإغراق
( فى معرك لا تثير الخيل عثيره ... مما تروي المواضي تربه بدم )
بيت الشيخ صفي الدين الحلي على هذا النوع أبرزه بغير أداة التقريب وهو بيت عامر قريب من العقل بعيد من الوقوع عادة على شرط الإغراق لكنه غير صالح للتجريد وقد تقرر وتكرر أن بيوت البديعيات شواهد على الأنواع فلا ينبغي أن يكون البيت متعلقا بما قبله ولا بما بعده
وبيت بديعية العميان يقولون فيه عن النبي وقد أتوا فيه بأداة التقريب حيث قالوا
( لو قابل الشهب ليلا في مطالعها ... خرت حياء وأبدت بر محترم )
( لو شا إغراق وجه الأرض أجمعه ... ندى يديه لأحياها ولم يضم )
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( لو شاء إغراق من ناواه مد له ... في البر بحرا بموج فيه ملتطم )
على كل تقدير مقام النبي صالح للمغالاة بالإغراق في مديحه والله أعلم
(2/15)
________________________________________
ذكر الغلو
( بلا غلو إلى السبع الطباق سرى ... وعاد والليل لم يجفل بصبحهم )
وقد تقدم القول على المبالغة وتقرر أنها في الاصطلاح إفراط وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة وتقرر أن الإغراق فوقها في الرتبة وهو في الاصطلاح إفراط وصف الشيء بالممكن البعيد وقوعه عادة
والغلو فوقهما فإنه الإفراط في وصف الشيء بالمستحيل وقوعه عقلا وعادة وهو ينقسم إلى قسمين مقبول وغير مقبول
فالمقبول لا بد أن يقربه الناظم إلى القبول بأداة التقريب اللهم إلا أن يكون الغلو في مديح النبي فلا غلو
ويجب على ناظم الغلو أن يسبكه في قوالب التخيلات الحسنة التي يدعو العقل إلى قبولها في أول وهلة كقوله تعالى ( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) فإن إضاءة الزيت من غير مس نار مستحيلة عقلا ولكن لفظة يكاد قربته فصار مقبولا ومنه قول أبي العلاء المعري
( تكاد قسيه من غير رام ... تمكن في قلوبهم النبالا )
( تكاد سيوفه من غير سل ... تجد إلى رقابهم انسلالا )
ويعجبني هنا قول ابن حمديس الصقلي في وصف فرس
( ويكاد يخرج سرعة من ظله ... لو كان يرغب في فراق رفيق )
(2/16)
________________________________________
ومنه قول الفرزدق في علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين
( يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم ) ومن الغلو المقبول بغير أداة التقريب قول أبي الطيب المتنبي في ممدوحه
( عقدت سنابكها عليه عثيرا ... فلو ابتغى عنقا عليه أمكنا )
معنى هذا البيت أن سنابك الخيل وهي أطراف الحوافر عقدت على هذا الممدوح عثيرا وهو الغبار حتى لو أراد أنه يمشي عليه عنقا لأمكن والعنق هو المشي السريع وانعقاد الغبار في الهواء حتى يمكن المشي عليه مستحيل عقلا وعادة إلا أنه تخيل حسن مقبول
وقد وقع للقاضي الأرجاني جمع فيه بين الشيئين الموجبين للقبول والتقريب وهما ما جرى بهما مجرى كاد والتخيل الحسن وذلك قوله
( يخيل لي أن سمر الشهب في الدجا ... وشدت بأهدابي إليهن أجفاني )
فقوله يخيل لي هو الجاري مجرى كاد فإنه جعل الأمر توهما لا حقيقة وأما التخيل الحسن فهو ما ذكر من تسمير الشهب ود أجفانه إليها بأهدابه وجعل الأهداب بمنزلة الحبال ولا يخفى ما في هذا من التخييل الحسن
وأما الغلو الذي هو غير مقبول فكقول أبي نواس
( فلما شربناها ودب دبيبها ... إلى موضع الأسرار قلت لها قفي )
( مخافة أن يسطو علي شعاعها ... فيطلع ندماني على سري الخفي )
قالوا إن سطوة شعاع الخمر عليه بحيث يصير جسمه شفافا يظهر لنديمه ما في باطنه لا يمكن عقلا ولا عادة
ومنه قول بعضهم
( أسكر بالأمس إن عزمت على ... الشرب غدا إن ذا من العجب )
(2/17)
________________________________________
فسكره بالأمس بسبب عزمه على الشرب غدا مما لا يمكن عقلا ولا عادة أيضا ومنه قول أبي نواس
( وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق )
وهذا الذي قاله أبو نواس أيضا أمر مستحيل فإن قيام العرض الموجود وهو الخوف بالمعدوم وهي النطف التي لم تخلق لا يمكن عقلا ولا عادة ومن ألطف ما يحكى هنا أن العتابي الشاعر لقي أبا نواس فقال له أما تستحي من الله بقولك وأخفت أهل الشرك البيت فقال له أبو نواس وأنت أيضا ما استحيت من الله بقولك
( ما زلت في غمرات الموت مطرحا ... يضيق عني وسيع الرأي من حيل )
( فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي )
فقال العتابي قد علم الله وعلمت أن هذا ليس مثل قولك ولكنك أعددت لكل سؤال جوابا
ومنه قول بعضهم
( قد كان لي فيما مضى خاتم ... واليوم لو شئت تمنطقت به )
( وذبت حتى صرت لو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه )
ومثل هذا أيضا لا يقبله العقل ولا عليه رونق القبول
قلت ومراتب الغلو تتفاوت إلى أن تؤول بقائلها إلى الكفر فمن ذلك قول ابن دريد
( مارست من لو هوت الأفلاك من ... جوانب الجو عليه ما شكا )
قيل إنه لأجل هذا البيت والادعاء العظيم الذي ادعى فيه ابتلي بمرض كان فيه يخاف من الذباب أن يقع عليه
(2/18)
________________________________________
ومنه قوله
( ولو حمى المقدار عنه مهجة ... لرامها أو تستبيح ما حمى )
( تغدو المنايا طائعات أمره ... ترضى الذي يرضى وتأبى ما أبى )
ومثله قول أبي الطيب
( كأني دحوت الأرض من خبرتي بها ... وكأن بنى الإسكندر السد من عزمي )
هذا أيضا من الغلو الذي يؤدي إلى سخافة العقل مع ما فيه من قبح التركيب وبعده عن البلاغة
وأقبح من هذا كله قول عضد الدولة
( ليس شرب الراح إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر )
( غانيات سالبات للنهى ... ناغمات من تضاعيف الوتر )
( مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر )
( عضد الدولة بان ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر )
روي أنه لم يفلح بعد هذا القول وكان لا ينطق إلا بقوله تعالى ( ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه )
ولولا الإطالة وهو نظم غير مقبول لأوردت كثيرا من نظم الذين كانوا يتساهلون في هذا النوع كأبي نواس وابن هانىء الأندلسي والمتنبي وأبي العلاء المعري وغيرهم من المتأخرين كابن نبيه ومن جرى مجراه وكنت من المبادىء أستقبح قول الشيخ صفي الدين الحلي وأستقل أدبه بقوله في موشحه الذي أوله دارت على الدوح سلاف القطر وذلك قوله في ممدوحه
( لو قابل الأعمى غدا بصيرا ... ولو رأى ميتا غدا منشورا )
( ولو يشا كان الظلام نورا ... ولو أتاه الليل مستجيرا )
( آمنه من سطوات الفجر ... )
(2/19)
________________________________________
وبيته في بديعيته على هذا النوع أعني الغلو قوله
( عزيز جار لو الليل استجار به ... من الصباح لعاش الناس في الظلم )
قلت هذا الغلو هنا مقبول في مديح النبي غير لائق بممدوحه الذي أشار إليه في موشحه بقوله
( ولو أتاه الليل مستجيرا ... آمنه من سطوات الفجر )
فقد تقرر أن الناظم إذا قصد الغلو في مديح النبي فلا غلو
وبيت العميان في بديعيتهم يقولون فيه عن النبي
( تكاد تشهد أن الله أرسله ... إلى الورى نطف الأبناء في الرحم )
فنسبة الشهادة إلى النطف وهي في الأرحام لا تمكن عقلا وما استحال عقلا استحال عادة وهذا الغلو هنا مقبول في مديح النبي وقد زاد الناظم تقريبه بكاد ولكن ذكر الأرحام والنطف في المدائح النبوية ما يخلو من قلة أدب
وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته يقول فيه عن النبي
( في مدحه نفحات لا غلو بها ... يكاد يحيي شذاها بالي الرمم )
نفحات هذا البيت عطرت الوجود بالمديح النبوي وغلوها فيه ملحوظ بعين القبول وتقريبها بكاد أحرز قصبات السبق ولا أقول كاد وهذا البيت عندي مقدم على بيت الشيخ صفي الدين وبيت العميان لالتزامه بتسمية النوع البديعي مورى به من جنس المديح مع انسجامه ورقته
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( بلا غلو إلى السبع الطباق سرى ... وعاد والليل لم يجفل بصبحهم )
هذا الغلو يرخص عنده بانتظامه في سلك المدائح النبوية كل غلو فإنه لو كان في غير النبي استحال عقلا وعادة ونعوذ بالله من نسبته إلى غيره فإنها تؤدي إلى الكفر المحض وحصره في النبي متفق عليه عقلا ونقلا وقولي عند نظم هذا النوع بلا غلو ويعلم طالب هذا العلم طريق سلوك الأدب وهذا البيت من خلاصات المدائح النبوية فنرجو الله أن تشملنا بركة ممدوحه والله أعلم
(2/20)
________________________________________
ذكر ائتلاف المعنى مع المعنى
( سهل شديد له بالمعنيين بدا ... تألف في العطا والدين للعظم )
هذا النوع وهو ائتلاف المعنى مع المعنى ضربان فالأول في الاصطلاح هو أن يشتمل الكلام على معنى معه أمران أحدهما ملائم والآخر بخلافه فيقرنه بالملائم واستشهدوا عليه بقول أبي الطيب المتنبي
( فالعرب منه مع الكدري طائرة ... والروم طائرة منه مع الحجل )
وقالوا إن تقوية المعنى الأول مناسبة القطا الكدري مع العرب لأنه يلائمهم بنزوله في السهل من الأرض وينفر من العمران ويستأنس بالمهمه ولا يقرب العمران إلا إذا زاد به العطش وقل الماء في البر ومناسبة الحجل مع الروم أنها تسكن الجبال وتنزل في المواضع المعروفة بالشجر
والضرب الثاني هو أن يشتمل الكلام على معنى وملائمين له فيقرن بهما ما لاقترانه مزية واستشهدوا على هذا الضرب الثاني بقول أبي الطيب المتنبي أيضا
( وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم )
( تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم )
وقالوا إن عجز كل من البيتين يلائم كلا من الصدرين وما اختار ذلك الترتيب إلا
(2/21)
________________________________________
لأمرين أحدهما أن قوله كأنك في جفن الردى وهو نائم تمثيل السلامة في مقام العطب ولهذا قرر له الوقوف والبقاء في موضع يقطع على صاحبه فيه بالهلاك أنسب من جعله مقررا لثباته في حال هزيمة الأبطال والثاني أن في تأخير التتميم بقوله ووجهك وضاح وثغرك باسم عن وصف الممدوح بوقوفه ذلك الموقف وبمرور أبطاله كلمى بين يديه ما يفوت بالتقديم ولعمري إن الضرب الثاني من ائتلاف المعنى مع المعنى أبدع من الضرب الأول وأوقع في القلوب وأقرب إلى مواقع الذوق وعليه نظمت بيت بديعيتي ويأتي الكلام عليه في موضعه ولكن هنا نكتة تزيد بديع الضرب الثاني إيضاحا وترشح قصد المتنبي في ترتيبه الذي تقدم عليه الكلام
حكي أن سيف الدولة بن حمدان ممدوح المتنبي قال عند إنشاده إياه هذين البيتين يا أبا الطيب قد انتقدنا عليك كما انتقد على امرىء القيس في قوله
( كأني لم أركب جوادا لغارة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال )
( ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال )
فقال المتنبي أيها الأمير إن صح أن البزاز أعلم بالثوب من حائكة فقد صح ما انتقد على امرىء القيس وعلي فإن امرأ القيس أحب أن يقرن الشجاعة باللذة في بيت واحد وهو الأول وقد وقع مثل هذا في الكتاب العزيز وهو قوله تعالى ( إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) فإنه تعالى لم يراع فيه مناسبة الري بالشبع والاستظلال باللبس في تحصيل نوع المنفعة بل راعى مناسبة اللبس للشبع في حاجة الإنسان إليه وعدم استغنائه عنه ومناسبة الاستظلال للري في كونهما تابعين اللبس والشبع
قلت وأما جواب المتنبي عن قول امرىء القيس
( كأني لم أركب جوادا لغارة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال ) فهو الافتنان بعينه وهو نوع من أنواع البديع العالية وقد تقدم وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على هذا النوع قوله
( من مفرد بغرار السيف منتثر ... ومروج بسنان الرمح منتظم )
(2/22)
________________________________________
قد كثر تكرار القول بأن المراد من بيت البديعية أن يكون شاهدا على نوعه وإن لم يكن صالحا للتجريد لم يصح الاستشهاد به على ذلك النوع وبيت الشيخ صفي الدين الحلي هنا غير صالح للتجريد وعدم صلاحه للتجريد هو الذي عقده وحجب إيضاح معناه عن مواقع الذوق
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( ذو معنيين بصحب والعدا ائتلفا ... للخلف ما أشهب البازي كالرخم )
قلت إن هذين المعنيين لشدة العقادة أتعبت الفكر فيهما على أن يتضح لي منهما معنى فعجزت عن ذلك والله أعلم وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( سهل شديد له بالمعنيين بدا ... تألف في العطا والدين للعظم )
وقد تقدم قولي إن بيت بديعيتي منظوم في سلك الضرب الثاني لكونه أبدع وأوقع في الذوق من الضرب الأول وهو أن يشتمل الكلام على معنى وملائمين فيقرن بهما ما يلائم ويظهر باقترانه مزية فسهولة النبي قرنتها بالعطاء وناهيك بهذه الملاءمة وشدته قرنتها بالدين لعظمه فأكرم بها ملاءمة وشرف قران وقد ورد نص الكتاب بذلك في قوله تعالى ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) وقولي في القافية للعظم بعد ثبوت الشدة للدين في غاية التمكين والله أعلم
(2/23)
________________________________________
ذكر نفي الشيء بإيجابه
( لا ينتفى الخير من إيجابه أبدا ... ولا يشين العطا بالمن والسأم )
نفي الشيء بإيجابه هو أن يثبت المتكلم شيئا في ظاهر كلامه وينفي ما هو من سببه مجازا والمنفي في باطن الكلام حقيقة هو الذي أثبته كقوله تعالى ( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) فإن ظاهر الكلام نفي الذي يطاع من الشفعاء والمراد نفي الشفيع مطلقا وكقوله تعالى ( لا يسألون الناس إلحافا ) فإن ظاهر الكلام نفي الإلحاف في المسألة والباطن نفي المسألة بتة وعليه إجماع المفسرين
وذكر ابن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير أنه منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وهذا هو الحد الذي قرره ابن رشيق في العمدة فإنه قال نفي الشيء بإيجابه إذا تأملته وجدت باطنه نفيا وظاهره إيجابا واستشهد عليه بقول زهير
( بأرض خلاء لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر )
فأثبت لها في الظاهر وصيدا ومراده في الباطن أن ليس لها وصيد فيسد
وألطف ما رأيت من شواهد هذا النوع أعني نفي الشيء بإيجابه قول مسلم بن الوليد
(2/24)
________________________________________
( لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل )
فإن ظاهر الكلام نفي عبق الطيب ومسح الكحل والمراد نفي الطيب والكحل مطلقا
ومثله قول أبي الطيب المتنبي
( أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب )
( ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب )
فظاهر الكلام عدم بروزهن من الحمام على تلك الهيئات والمراد في باطن الكلام عدم الحمام مطلقا فإنهن عربيات كظباء الفلاة ولهذا قال ذو الرمة ( بالله يا ظبيات قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر )
والقصد أن حسنهن لم يفتقر إلى تصنع ولا إلى نظرية بدخول الحمام
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على هذا النوع أعني نفي الشيء بإيجابه يقول فيه عن النبي
( لا يهدم المن منه عمر مكرمة ... ولا يسوء أذاه نفس متهم )
فظاهر الكلام في بيت الشيخ صفي الدين الحلي أن النبي لا يتبع المكرمة بمن وحاشاه من ذلك ولا يصدر منه لنفس متهم إساءة والمراد في الباطن نفي المن والإساءة مطلقا فإن مقام النبي في الكرم والحلم فوق ذلك
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين غفر الله له يقول فيه عن النبي
( لم ينف ذما بإيجاب المديح فتى ... إلا وعاقدت فيه الدهر بالسلم )
هذا البيت ليس له تعلق بهذا النوع فإن مشايخ البديع تواردوا في حده على عبارة واحدة لم تختلف بحرف بل الجميع قالوا نفي الشيء بإيجابه هو أن يثبت المتكلم شيئا في ظاهر كلامه وينفي ما هو من سببه مجازا والمنفي في باطن الكلام حقيقة هو
(2/25)
________________________________________
الذي أثبته وأوردوا على ذلك ما تقدم من شواهد القرآن العظيم والشواهد الشعرية التي زادت النوع إيضاحا ولم يتضح لي في بيت الشيخ عز الدين غفر الله له لمعة استضيء بها في ظلمة هذه العقادة إلى تقرير هذا النوع في البيت المذكور فلم يسعني غير النظر في شرحه فوجدته قد قال ما نفي الذم بإيجاب المديح كريم إلا وكان النبي قد عاقد الدهر بالسلم على ذلك المعنى قبل الذي فعل هذا الفعل المحمود فإنه هو الأصل في الأسباب الخيرية جميعها فما علمت ما مراده في النظم ولا في الشرح ولا أين استقر نفي الشيء بإيجابه والله أعلم
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( لا ينتفي الخير من إيجابه أبدا ... ولا يشين العطا بالمن والسأم )
الذي أقوله إن محاسن هذا البيت ببركة ممدوحه تغني عن التطويل في شرحه وسهولة مأخذ النوع منه لم تفتقر إلى زيادة إيضاح وما أحقه هنا بقول القائل
( وقد ظهرت فلا تخفى على أحد ... إلا على أكمه لا يعرف القمرا )
(2/26)
________________________________________
ذكر الإيغال
( للجود في السير إيغال إليه وكم ... حبا الأنام بود غير منصرم )
هذا النوع مأخوذ من إيغال السير فإنه يقال أوغل في المسير إذا بلغ غاية قصده بسرعة ولهذا قلت للجود في السير إيغال إليه ومعنى ذلك أن المتكلم أو الشاعر إذا انتهى إلى آخر القرينة أو البيت استخرج سجعة أو قافية يريد معنى زائدا أو كلا منهما فكأن المتكلم أو الشاعر قد تجاوز حد المعنى الذي هو آخذ فيه وبلغ مراده فيه إلى زيادة عن الحد
وهذا النوع مما فرعه قدامة وفسره بأن قال هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتي بقافيته فإذا أراد الإتيان بها ليكون الكلام شعرا أفاد بها معنى زائدا على معنى البيت كقول ذي الرمة
( قف العيس في اثار مية واسأل ... رسوما كأخلاق الرداء المسلسل )
فتم كلامه قبل القافية فلما احتاج إليها أفاد بها معنى زائدا وكذلك صنع في البيت الذي بعده حيث قال
( أظن التي يجدي عليك سؤالها ... دموعا كتبديد الجمان المفصل )
فإنه تم كلامه بقوله كتبديد الجمان واحتاج إلى القافية فأتى بما يفيد معنى زائدا ولو لم يأت بها لم يحصل انتهى
(2/27)
________________________________________
والفرق بين الإيغال والتتميم أن التتميم يأتي إلى المحتاج فيتممه كقول الشاعر وقد تقدم
( أناس إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه غاروا بالسيوف القواضب )
فإن المعنى بدون قوله ويعطوه ناقص والإيغال لا يرد إلا على المعنى التام فيزيده كمالا ويفيد فيه معنى زائدا غير أن بين الإيغال والتكميل تجاذبا يكاد أن ينتظم كل منهما في سلك الآخر ولكن رأيت الناس قد سلموا إلى قدامة ما اختاره وفرعه هنا فمشيت مع الناس واستشهدوا على الإيغال بقوله تعالى ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) فإن الكلام تم بقوله تعالى ( ومن أحسن من الله حكما ) ثم احتاج الكلام إلى فاصلة تناسب القرينة الأولى فلما أتى بها أفاد معنى زائدا قلت ولعمري لو طلب التكميل حقه من هذا الشاهد لم يمنعه الذوق السليم ومثله قوله تعالى ( ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ) فإن المعنى تم بقوله تعالى ( ولا تسمع الصم الدعاء ) ثم أراد وهو أعلم إتمام الكلام بالفاصلة فقال ( إذا ولوا مدبرين )
وقد حكي عن الأصمعي أنه سئل من أشعر الناس فقال الذي يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كثيرا وينقضي كلامه قبل القافية فإن احتاج إليها أفاد معنى زائدا فقيل له نحو من فقال نحو الفاتح لأبواب المعاني وهو امرؤ القيس حيث قال
( كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب ) ومثله قول زهير
( كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم )
فكلام امرىء القيس انتهى إلى وله الجزع وزيادة المعنى في قوله الذي لم يثقب ولا يخفى على حذاق الأدب ما فيها من المحاسن ومعنى قول زهير انتهى في
(2/28)
________________________________________
كلامه إلى قوله حب الفنا وزيادة المعنى في قوله لم يحطم فيها نكتة بديعية غريبة وأنا أذكرها هنا تنبيها على ما قرره الأصمعي وما ذاك إلا أن زهيرا شبه ما تفتت من العهن بحب الفنا والفنا شجر ثمره حب أحمر وفيه نقط سود وقال الفراء هو عنب الثعلب فلما قال زهير بعد تمام معنى بيته لم يحطم أراد أن يكون حب الفنا صحيحا لأنه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة
وقال ابن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير ولقد أحسن ابن المعتز في إيغاله بقوله لابن طباطبا العلوي
( فأنتم بنو بنته دوننا ... ونحن بنو عمه المسلم )
فإنه تحيل على المساواة بأن قال ونحن بنو عمه المسلم والكلام تم قبل الإتيان بالقافية فلما أتى بها أفادت معنى إذ لا طريق له إلى التفضيل بزيادة في حسن الجد
والذي وقع اتفاق البديعيين عليه أن أعظم ما وقع في هذا الباب وأبلغ قول الخنساء أخت صخر
( وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار )
فإن معنى جملة البيت كامل دون القافية فوجودها زيادة لم تكن له قبلها وهذه المرأة لم ترض لأخيها أن يأتم به جهال الناس حتى جعلته يأتم به أئمة الناس وهذا تتميم ولم ترض تشبيهه بالعلم وهو الجبل المرتفع المعروف بالهداية حتى جعلت في رأسه نارا
ويعجبني من أمثلة هذا النوع في شعر المتأخرين قول الباخرزي من قصيدة
( أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترني فقلت لها وأين فؤادي ) ومثله قول الآخر
( تعجبت من ضنى جسمي فقلت لها ... على هواك فقالت عندي الخبر ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( كأن مرآه بدر غير مستتر ... وطيب رياه مسك غير مكتتم )
(2/29)
________________________________________
الإيغال مع الشيخ صفي الدين في غير مستتر وغير مكتتم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( أضحت أعاديه في الأقطار طائرة ... وأوغلت في الهوى خوفا مع العصم )
قال الشيخ عز الدين غفر الله له في شرحه إن الإيغال الذي أفاد في بيته معنى زائدا بعد تمامه قوله خوفا مع العصم وذكر أن العصم هي الجوارح من الطيور التي تفرخ في العوالي والله أعلم
وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي بقولي
( للجود في السير إيغال إليه وكم ... حبا الأنام بود غير منصرم )
فمعنى بيتي انتهى إلى قولي عنه حبا الأنام بود ولما قلت بعد ذلك غير منصرم إشارة إلى ود النبي ظهر لي من زيادة المعنى ما أقام قواعد بيتي وملأ الدنيا بهجة بمحاسن الصفات النبوية والله أعلم
(2/30)
________________________________________
ذكر التهذيب والتأديب
( تهذيب تأديبه قد زاده عظما ... في مهده وهو طفل غير منفطم )
نوع التهذيب والتأديب ما قرروا له شاهدا يخصه لأنه وصف يعم كل كلام منقح محرر وهو عبارة عن ترداد النظر في الكلام بعد عمله والشروع في تهذيبه وتنقيحه نظما كان أو نثرا وتغيير ما يجب تغييره وحذف ما ينبغي حذفه وإصلاح ما يتعين إصلاحه وكشف ما يشكل من غريبه وإعرابه وتحرير ما يدق من معانيه وإطراح ما يتجافى عن مضاجع الرقة من غليظ ألفاظه لتشرق شموس التهذيب في سماء بلاغته وترشف الأسماع على الطرب رقيق سلافته فإن الكلام إذا كان موصوفا بالمهذب منعوتا بالمنقح علت رتبته وإن كانت معانيه غير مبتكرة وكل كلام قيل فيه لو كان موضع هذه الكلمة غيرها أولو تقدم هذا المتأخر وتأخر هذا المتقدم أو لو تمم هذا النقص بكذا أو لو تكمل هذا الوصف بكذا أو لو حذفت هذه اللفظة أو لو اتضح هذا المقصد وسهل هذا المطلب لكان الكلام أحسن والمعنى أبين كان ذلك الكلام غير منتظم في سلك نوع التهذيب والتأديب
وكان زهير بن أبي سلمى معروفا بالتنقيح والتهذيب وله قصائد تعرف بالحوليات قيل إنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر ويهذبها وينقحها في أربعة أشهر ويعرضها على علماء قبيلته في أربعة أشهر ويروى أنه كان يعمل القصيدة في شهر وينقحها ويهذبها في أحد عشر شهرا ولا جرم أنه قلما يسقط منه شيء ولهذا كان الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع جلالته في العلم وتقدمه في النقد يقدمه على سائر الفحول من طبقته وما أحسن ما أشار أبو تمام إلى التهذيب بقوله
(2/31)
________________________________________
( خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب )
فإنه خص تهذيب الفكر بالدجى لكون الليل تهدأ فيه الأصوات وتسكن الحركات فيكون الفكر فيه مجتمعا ومرآة التهذيب فيه صقيلة لخلو الخاطر وصفاء القريحة لا سيما وسط الليل والنفس قد أخذت حظها من الراحة بعد نيل قسطها من النوم وخف عليها ثقل الغذاء وصح ذهنها وصار صدرها منشرحا وقلبها بالتأليف منبسطا وما قدموا وسط الليل في التأليف على السحر مع ما فيه من رقة الهواء وخفة الغذاء وأخذ النفس سهمها من الراحة إلا لما يكون فيه من انتباه أكثر الحيوان الناطق وارتفاع معظم الأصوات وجرس الحركات وتقشع الظلماء بطلائع الأضواء وبدون ذلك ينقسم الفكر ويشتغل القلب ووسط الليل خال مما ذكرناه ولهذا خص أبو تمام تهذيب الفكر بالدجى عادلا عن الطرفين لما فيهما من الشواغل المذكورة
وحكت الثقات عن أبي عبادة البحتري الشاعر قال كنت في حداثتي أروم الشعر وكنت أرجع فيه إلى طبع سليم ولم أكن وقفت له على تسهيل مأخذ ووجوه اقتضاب حتى قصدت أبا تمام وانقطعت إليه واتكلت في تعريفه عليه فكان أول ما قال لي يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السحر وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم وخف عنها ثقل الغذاء وصفا من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء وسكنت الغماغم ورقت النسائم وتغنت الحمائم
وإذا شرعت في التأليف تغن بالشعر فإن الغناء مضماره الذي يجري فيه واجتهد في إيضاح معانيه فإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقا والمعنى رشيقا وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق والتعلل باستنشاق النسائم وغناء الحمائم والبروق اللامعة والنجوم الطالعة والتبرم من العذال والوقوف على الأطلال
وإذا أخذت في مدح سيد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأرهب من عزائمه ورغب في مكارمه واحذر المجهول من المعاني وإياك أن تشين شعرك بالعبارة الردية والألفاظ الوحشية وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام وكن كأنك خياط تقدر الثياب على مقادير الأجسام وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل إلا وأنت فارغ
(2/32)
________________________________________
القلب ولا تنظم إلا بشهوة فإن الشهوة نعم المعين على حسن النظم وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من أشعار الماضين فما استحسن العلماء فاقصده وما استقبحوه فاجتنبه انتهت وصية أبي تمام
وأورد العلامة زكي الدين بن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير وصية لنفسه أوردها أيضا على نوع التهذيب والتأديب فاخترت منها ما هو اللائق بالحال وأولها ينبغي لك أيها الراغب في العمل السائل عن أوضح السبل أن تحصل المعنى قبل الشروع في النظم والقوافي قبل الأبيات قلت وهذا مذهبنا ثم قال ابن أبي الأصبع ولا تكره الخاطر على وزن مخصوص وروي مقصود وتوخ الكلام الجزل دون الرذل والسهل دون الصعب والعذب دون المستكره والمستحسن دون المستهجن ولا تعمل نظما ولا نثرا عند الملل فإن الكثير معه قليل والنفيس معه خسيس والخواطر ينابيع إذا رفق بها جمت وإذا كثر استعمالها نزحت واكتب كل معنى يسنح وقيد كل فائدة تعرض فإن نتائج الأفكار كلمعة البرق ولمحة الطرف إن لم تقيدها شردت وندت وإن لم تستعطف بالتكرار عليها صدت والترنم بالشعر مما يعين عليه فقد قال الشاعر
( وتغن بالشعر إما كنت قائله ... إن الغناء لقول الشعر مضمار )
وقد يكل خاطر الشاعر ويعصى عليه الشعر زمانا كما روي عن الفرزدق أنه قال لقد يمر علي زمان وقلع ضرس من أضراسي أهون علي من أن أقول بيتا واحدا وإذا كان كذلك فاتركه حتى يأتيك عفوا وينقاد إليك طوعا وإياك وتعقيد المعاني وتقصير الألفاظ وتوخ حسن النسق عند التهذيب ليكون كلامك بعضه آخذ بأعناق بعض وكرر التنقيح وعاود التهذيب ولا يخرج عنك ما نظمته إلا بعد تدقيق النقد وإمعان النظر انتهى
قلت وهذا لعمري هو المراد من النوع الذي نحن في شرحه أعني نوع التهذيب والتأديب لا كقول الفرزدق
( وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه )
(2/33)
________________________________________
فإن الممدوح إبراهيم بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد الملك وأما التقديم والتأخير ففي قوله وما مثله البيت فإن تقديره وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه وسلوك طريق التعقيد في قوله أبو أمه أبوه وكان يجزيه قوله جده وهذا لعمري هو التعقيد الذي بينه وبين التهذيب والتأديب الذي قررناه بعد المشرقين وقد تقدم قولي إن البديعيين أجمعوا على أن هذا النوع ليس له شاهد يخصه لأنه وصف يعم كل كلام منقح فاختصرت الشواهد ليظهر للمتأمل من أحرز قصبات السبق من نظام البديعيات في هذا النوع أعني التهذيب والتأديب
ولكن رأيت العلامة زكي الدين بن أبي الأصبع قد استحسن من الشواهد اللائقة بهذا النوع قول القاضي السعيد بن سنا الملك
( تغنى عليها حليها طربا بها ... وفاحت فقلنا هذه الروضة الغنا )
قال وقوله صحيح لو لم تقدم في صدر البيت لفظة مشتقة من الغناء حصل بها في البيت من الرونق ما لا يحسن بدونها وكان البيت خاليا من التهذيب فإن بوجودها حصل في بيته تصدير وتجنيس وائتلاف وتهذيب وانتفى عنه من العيوب عدم الائتلاف وقلق القافية وبذلك تقدم التهذيب فإنه لو قال
( زهت بأزاهير الجمال وحسنها ... وفاحت فقلنا هذه الروضة الغنا )
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على هذا النوع يقول فيه عن النبي
( هو النبي الذي آياته ظهرت ... من قبل مظهره للناس في القدم )
قد تكرر قولي أنني لم أكثر من شواهد هذا النوع إلا ليظهر فيه من أحرز قصبات السبق من نظام البديعيات
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( والله هذبه طفلا وأدبه ... فلم يحل هديه الزاكي ولم يرم )
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( تهذيب تأديبه قد زاده عظما ... في مهده وهو طفل غير منفطم )
(2/34)
________________________________________
هذا البيت يشتمل ببركة من أدبه ربه فأحسن تأديبه وهو الممدوح على عشرة أنواع من البديع أولها النوع الذي هو شاهد عليه وهو التهذيب والتأديب والانسجام والسهولة والتورية بتسمية النوع والتتميم والتكميل والتمكين والإيغال والائتلاف والمبالغة ولولا الخوف من الإطالة لذكرت كل نوع في موضعه ولكن في نظر أصحاب الذوق السليم من علماء هذا الفن ما يغني عن ذلك والله أعلم
(2/35)
________________________________________
ذكر ما لا يستحيل بالانعكاس
( بحر وذو أدب بدا وذو رحب ... لم يستحل بانعكاس ثابت القدم )
هذا النوع سماه قوم المقلوب والمستوي وسماه السكاكي مقلوب الكل وعرفه الحريري في مقاماته بما لا يستحيل بالانعكاس وهو أن يكون عكس البيت أو عكس شطره كطرده
وهذا النوع أعني ما لا يستحيل بالانعكاس غايته أن يكون رقيق الألفاظ سهل التركيب منسجما في حالتي النثر والنظم وجاء منه في الكتاب العزيز ( كل في فلك ) و ( وربك فكبر ) ومن الكلام الذي رق لفظه أرض خضرا وأورد الحريري في مقاماته ساكب كاس وزاد في العدة كبر رجاء أجر ربك وزاد في العدة أيضا فقال لذ بكل مؤمل إذا لم وملك بذل قلت هذا الكلام الذي زاد الحريري في عدة كلماته صحيح التركيب في طرده وعكسه ولكن لم يخف على الحذاق وأصحاب السجايا الرقيقة أن التكلف طوق جيده بطوق العقادة
وذكروا أن العلامة القاضي فتح الدين بن الشهيد صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالشام المحروس تغمده الله برحمته ورضوانه وصل في تركيب هذا النوع إلى أكثر من هذه العدة ولكن ما وقفت له على شيء من ذلك وإنما مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك المحروسة الإسلامية عظم الله تعالى شأنه أخبر المملوك أنه وقف على ما نثره القاضي
(2/36)
________________________________________
فتح الدين المشار إليه في هذا النوع قبل تيمورلنك وذكر أنه في غاية العقادة وقد تقدم القول وتقرر أن المراد من تركيب هذا النوع نثرا كان أو نظما غير كثرة العدد والمبرز فيه هو الذي يأتي به رقيق الألفاظ سهل التركيب رافلا في حلل الانسجام وممن استوعب هذه الشروط في كلام منثور مولانا قاضي القضاة شرف الدين شيخ الإسلام ابن البارزي الجهني الشافعي نور الله ضريحه بقوله سور حماه بربها محروس ومن الغايات أيضا في هذا النوع قول العماد الكاتب وقد مر عليه القاضي الفاضل راكبا سر فلا كبابك الفرس فأجابه الفاضل على الفور وقد علم القصد دام علا العماد وقال الحريري في المقامات
( إن أحببت أن تنظم ... فقل للذي تعظم )
( آس أرملا إذا عرا ... وراع إذا المرء أسا )
قلت وهذا النظم أيضا لا يخفى أنه يتجافى عن الرقة بغليظ لفظه ومن الشواهد المقبولة على هذا النوع في النظم قول الشاعر
( عج تنم قربك دعد آمنا ... إنما دعد كبرق منتجع ) ومنها
( أراهن نادمنه ليل لهو ... وهل ليلهن مدان نهارا )
والذي وقع عليه الإجماع أن أبلغ الشواهد على هذا النوع الذي استوعب ناظمه فيه الشروط التي تقدم ذكرها قول القاضي الأرجاني
( مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم )
ومثال شطر البيت الذي نسجت أبيات البديعيات على منواله أرانا الإله هلالا أنارا
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعية على هذا النوع
( هل من ينم بحب من ينم له ... بما رموه كمن لم يدر كيف رمى )
قلت الشيخ صفي الدين الحلي غفر الله له غير مشكور في نظم هذا البيت فإن الطرد والعكس لم يأت به إلا في الشطر الأول وهو غير ملتزم تسمية النوع فإن تسمية
(2/37)
________________________________________
هذا النوع بما لا يستحيل بالانعكاس تستوعب جزءا كبيرا من البيت ومع عدم التزامه بشيء من ذلك جاء بيته في غاية العقادة ولظلمة عقادته لم يلح لي فيه لمعة اهتدى بها إلى فهم معناه وأعجب من ذلك أن البيت مبني على مديح النبي والبيت الذي قبله
( من مثله وذراع الشاة كلمه ... عن سمه بلسان صادق الرنم ) والبيت الذي بعده
( هو النبي الذي آياته ظهرت ... من قبل مظهره للناس في القدم )
فبيت ما لا يستحيل بالانعكاس بينهما أجنبي ونسبه بعيد من شرف هذين البيتين المنتسبين إلى النبي
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( لم يستحل بانعكاس في سجيته ... مدن أخا طعم معط أخا ندم )
قلت الشيخ عز الدين رحمه الله تعالى يعذر هنا إذا احتجبت عنه مسالك الرقة لالتزامه بتسمية النوع الذي استوعب جزءا كبيرا من بيته
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( بحر وذو أدب بدا وذو رحب ... لم يستحل بانعكاس ثابت القدم )
وقد حبست عنان القلم هنا عن الإطناب في انسجام هذا البيت ورقة ألفاظه وتمكين قافيته علما أن في إنصاف أصحاب الذوق السليم من أهل الأدب ما يغني عن ذلك والله أعلم
(2/38)
________________________________________
ذكر التورية
( أوصافه الغر قد حلت بتورية ... جيدي وعقد لساني بعد ذا وفمي )
التورية يقال لها الإيهام والتوجيه والتخيير والتورية أولى في التسمية لقربها من مطابقة المسمى لأنها مصدر وريت الخبر تورية إذا سترته وأظهرت غيره كأن المتكلم يجعله وراءه بحيث لا يظهر وهي في الاصطلاح أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان حقيقيان أو حقيقة ومجازا أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية فيريد المتكلم المعنى البعيد ويوري عنه بالمعنى القريب فيتوهم السامع أول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك ولأجل هذا سمي هذا النوع إيهاما ومثل ذلك قول أبي العلاء المعري
( وحرف كنون تحت راء ولم يكن ... بدال يؤم الرسم غيره النقط )
فمن سمع هذا البيت توهم أنه يريد براء ودال حرفي الهجاء لأنه صدر بيته بذكر الحروف وأتبع ذلك بالرسم والنقط وهذا هنا هو المعنى القريب المتبادر أولا إلى ذهن السامع والمراد غيره وهو المعنى البعيد المورى عنه بالقريب لأن مراده بالحرف الناقة وبحرف النون تشبيه الناقة به في تقويسها وضمورها وبراء اسم الفاعل من رأى إذا ضرب الرئة وبدال اسم الفاعل من دلا يدلو إذا رفق في السير وبالرسم أثر الدار وبالنقط المطر ومعنى هذا البيت أن هذه الناقة لضعفها وانحنائها مثل نون تحت رجل يضرب رئتيها ولم يرفق بها في السير فهو غير دال وقد تقدم أن الدالي هو الرفيق ويؤم بها دارا غير المطر رسمها واجتماع هذه الأوصاف دليل على ضعف الناقة لأنها لو كانت قوية لما احتاجت إلى ضرب رئتيها وإلى الرفق بها مع شدة شوقه إلى ديار أحبابه وذلك باعث على شدة السير
(2/39)
________________________________________
قال حذاق الأدب تراكيب التورية في هذا البيت بالنسبة إلى ديباجة المتأخرين وطلاوة ألفاظهم وزخارف بيوتهم تستحق قول القائل
( وما مثله إلا كفارغ حمص ... خلي من المعنى ولكن يفرقع )
لأن هذا النوع أعني التورية ما تنبه لمحاسنه إلا من تأخر من حذاق الشعراء وأعيان الكتاب ولعمري إنهم بذلوا الطاقة في حسن سلوك الأدب إلى أن دخلوا إليه من باب فإن التورية من أغلى فنون الأدب وأعلاها رتبة وسحرها ينفث في القلوب ويفتح بها أبواب عطف ومحبة وما أبرز شمسها من غيوم النقد إلا كل ضامر مهزول ولا أحرز قصبات سبقها من المتأخرين غير الفحول ومما يؤيد قولي هذا قول الشيخ صلاح الدين الصفدي رحمه الله تعالى في ديباجة كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام ومن البديع ما هو نادر الوقوع ملحق بالمستحيل الممنوع وهو نوع التورية والاستخدام فإنه نوع تقف الأفهام حسرى دون غايته عن مرامي المرام
( نوع يشق على الغبي وجوده ... من أي باب جاء يغدو مقفلا )
لا يفرغ هضبته فارع ولا يقرع بابه قارع إلا من تنحو البلاغة نحوه في الخطاب وتجري ريحها بأمره رخاء حيث أصاب
وقال الزمخشري وهو حجة في هذا العلم ولا نرى بابا في البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله وكلام نبيه وكلام صحابته رضي الله عنهم أجمعين فمن ذلك قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) لأن الاستواء على معنيين أحدهما الاستقرار في المكان وهو المعنى القريب المورى به الذي هو غير مقصود لأن الحق تعالى وتقدس منزه عن ذلك والثاني الاستيلاء والملك وهو المعنى البعيد المقصود الذي وري عنه بالقريب المذكور ومنه قول النبي حين سئل في مجيئه عند خروجه إلى بدر فقيل لهم ممن أنتم فلم يرد أن يعلم السائل فقال من ماء أراد أنا مخلوقون من ماء فورى عنه بقبيلة يقال لها ماء ومنه ما روي عن النبي أنه قال لا يزال المنام طائرا حتى يقص فإذا قص وقع ففي الكلام توريتان لفظة طائر ولفظة يقص ويحتمل أيضا أن يكون في لفظة وقع تورية ثالثة ومنه قول أبي بكر رضي الله عنه في الهجرة وقد
(2/40)
________________________________________
سئل عن النبي من هذا فقال هاد يهديني أراد أبو بكر رضي الله عنه هاديا يهديني إلى الإسلام فورى عنه بهادي الطريق وهو الدليل في السفر
وكانت خواطر المتقدمين عن نظم التورية بمعزل وأفكارهم مع صحتها ما خيمت عليها بمنزل لكنها ربما وقعت لهم عفوا من غير قصد لأنهم على كل حال ولاة هذا الشان وأدلة هذا الركب وقيل إن أول من كشف غطاءها وجلا ظلمة إشكالها أبو الطيب المتنبي بقوله
( برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات مصطحبان )
( كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني )
يريد أن كف شبيب وسيفه متنافران فلا يجتمعان لأن شبيبا كان قيسيا والسيف يقال له يماني فورى به عن الرجل المنسوب إلى يمن ومعلوم ما بين قيس ويمن من التنافر قلت وكأن من قال إن أبا الطيب أول من كشف غطاء التورية ما لمح قول عمرو بن كلثوم في معلقته عن الخمرة
( مشعشعة كان الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا )
الشاهد هنا في سخينا فإن العرب كانوا يسخنون الماء في الشتاء لشدة برده ثم يمزجونها به فسخينا على هذا التقدير نعت لموصوف محذوف والمعنى فأضحى شرابا سخينا وهذا هو المعنى القريب المورى به ويحتمل السخاء الذي هو عبارة عن الكرم وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه ومراد الناظم ومما يؤيد قولي أنه المراد قول الجوهري في الصحاح قول من قال سخينا من السخونة نصب على الحال ليس بشيء فإن المراد لما خالطها الماء ومزجت به طبنا وسخينا بأموالنا كقول عنترة
( وإذا سكرت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم )
والحص هو الزعفران على أحد الأقوال وهو الذي شبه صفرتها به فإن قيل سخا
(2/41)
________________________________________
مضارعه يسخو ويسخو من ذوات الواو فلا يجوز أن يكون سخينا فعلا على هذا التقدير فالإجماع عند أهل اللغة أنه يقال سخا يسخا وسخا يسخو وهذا مذهب الجوهري في الصحاح وعلى هذا التقدير فاشتراك التورية في سخينا صحيح ممكن من الوجهين انتهى
وكشف أيضا عن قناع التورية في شعره النابغة الذيباني بقوله
( خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما ) أراد بالصيام ههنا القيام وورى بقوله تعلك اللجما عن الصيام وأورد السكاكي في المفتاح للعرب من هذا الباب
( حملناهم طرا على الدهم بعدما ... خلعنا عليهم بالطعان ملابسا ) أراد بالحمل على الدهم تقييدهم وأوهم بالركوب على دهم الخيل قلت وقبل المتنبي أيضا بزمن طويل قال أبو نواس
( فتنت قلبي محببة ... وجهها بالحسن منتقب )
قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام امتحنت ببيت أبي نواس جماعة ممن حاضرتهم وذاكرتهم وعاطيتهم كؤوس الأدب وعاشرتهم فبعضهم استخرج منه النكتة وبعضهم لم أجد له إليها لفتة وقال البحتري
( ووراء تسدية الوشاح ملية ... بالحسن تملح في القلوب وتعذب )
الشاهد في قوله تملح فإنه يحتمل أن يكون من الملوحة التي هي ضد العذوبة وهو المعنى القريب المورى به ويحتمل أن يكون من الملاحة وهو المعنى البعيد المورى عنه وقد تقدم من لوازمه على جهة التبيين قوله ملية بالحسن
(2/42)
________________________________________
وأما أبو العلاء فإنه أتى في التورية بلمعة خفية الإيماء شديدة العقادة والتكلف وذلك في قوله
( حروف السرى جاءت لمعنى أردته ... برتني أسماء لهن وأفعال )
( إذا صدق الجد افترى العم للفتى ... مكارم لا تخفى وإن كذب الخال )
الجد هنا مشترك بين أبي الأب والسعد ومراده السعد والعم مشترك بين أخي الأب والجماعة من الناس ومراده الجماعة والخال مشترك بين أخي الأم والظن ومراده الظن قلت زحوف هذا البيت أيضا لا تخفى إنه مكسوف بدخان العقادة أين هذا من قول الشيخ تقي الدين السروجي
( في الجانب الأيمن من خدها ... نقطة مسك اشتهي شمها )
( حسبته لما بدا خالها ... وجدته من حسنه عمها ) ومثله في اللطف والظرافة قول الشيخ عز الدين الدين الموصلي
( لحظت من وجنتها شامة ... فابتسمت تعجب من حالي )
( قالت قفوا واستمعوا ما جرى ... قد هام عمي الشيخ من خالي )
قلت ولهذا وقع الإجماع على أن المتأخرين هم الذين سموا إلى أفق التورية وأطلعوا شموسها ومازجوا بها أهل الذوق السليم لما أداروا كؤوسها وقيل إن الفاضل هو الذي عصر سلافة التورية لأهل عصره وتقدم على المتقدمين بما أودع منها في نظمه ونثره فإنه رحمه الله تعالى كشف بعد طول التحجب ستر حجابها وأنزل الناس بعد تمهيدها بساحاتها ورحابها وممن شرب من سلافة عصره وأخذ عنه وانتظم في سلكه بفرائد دره القاضي السعيد ابن سنا الملك ولم يزل هو ومن عاصره مجتمعين على دور كأسها ومتمسكين بطيب أنفاسها إلى أن جاءت بعدهم حلبة صاروا فرسان ميدانها والواسطة في عقد جمانها كالسراج الوراق وأبي الحسين الجزار والنصير الحمامي وناصر الدين حسن بن النقيب والحكيم شمس الدين بن دانيال والقاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر
قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتابه المسمى بفض الختام عن التورية
(2/43)
________________________________________
والاستخدام
وجاء من شعراء الشام جماعة تأخر عصرهم وتأزر نصرهم ولأن في هذا النوع هصرهم وبعد حصرهم كل ناظم تود الشعرى لو كانت له شعرا ويتمنى الصبح لو كان له طرسا والغسق مدادا والنثرة نثرا ما حلا من بنات فكره خودا إلا شاب لحسنها الوليد وسيرها في الآفاق وبين يديها من النجوم جوار ومن الشعراء عبيد كالشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة والأمير مجير الدين ابن تميم وبدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي ومحيي الدين بن قرناص الحموي وشمس الدين محمد بن العفيف وسيف الدين بن المشد وقال الشيخ صلاح الدين في أواخر ديباجة كتابه المذكور ومع هؤلاء جماعة يحضرني ذكرهم عند شعرهم ويعز علي إذ لم أرهم علىتكاثرهم لفوات عصرهم وتلطف بقوله بعد ذلك ولا تقل أيها الواقف على هذا التأليف لقد أفرطت في التعصب لأهل مصر والشام على من دونهم من الأنام وهذا باطل ودعوى عدوان وحمية لأوطانك ومن جاروها من البلدان فالجواب أن الكلام في التورية لا غير ومن هنا تنقطع المادة في السير ومن ادعى أنه يأتي بدليل وبرهان فالمقياس بيننا والشقراء والميدان انتهى كلام الشيخ صلاح الدين الصفدي
قلت قد تقدم وتقرر أن التورية عند علماء هذا الفن بمنزلة الإنسان من العين وسموها في البلاغة سمو الذهب على العين وقد ثبت أن خواطر المتقدمين كانت بها شحيحة وأفكارهم لا تقصد مظانها وإن كانت سليمة صحيحة لكنها ربما وقعت لهم عفوا من غير مرام فنقول إنها رمية من غير رام وقد علم أن المتأخرين من الفاضل إلى من فضل بعدهم نور مشكاتها والمتفكهين في أدواح الأدب بثمراتها فإذا جليت عرائس أفكارهم على اختلاف أنواع التورية لا يمل المتأمل اللهم إلا أن يكون سيف
(2/44)
________________________________________
ذهنه كليلا فيقول إنه من هذا الفن متنصل فإن هذه العرائس لم تبرز لمتأمل إلا من خدور هذا الكتاب وإذا طلبها من غيره توارت عنه بالحجاب فإذا سرح المتأمل طرفه وأمسى في كل واد من محاسنها يهيم وتنوعت حلاوات أنواعها لذوقه السليم جردت سيف العزم وأقمت لكل نوع حدا ونظمت له من أنواع التورية وأقسامها في سلك هذا النوع عقدا فإن الشيخ صفي الدين الحلي لم يذكر في شرح بديعيته نوعا من أنواع التورية ولا قسما من أقسامها بل ذكر حد التورية الذي أجمع الناس عليه وقال هي أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين معنيين قريب وبعيد فيذكر لفظا يوهم القريب إلى أن يجيء بقرينة يظهر منها أن مراده البعيد
قلت ومن أين يعرف الطالب من هذا الحد التورية المجردة والتورية المرشحة وقسميها والمبنية وقسميها والمهيأة وأقسامها
وكذلك العلامة زكي الدين ابن أبي الأصبع لم يذكر في كتابه المسمى بتحرير التحبير نوعا من أنواعها ولا قسما من أقسامها مع أن كتابه ما وضع في هذا الفن له نظير بل قال التورية وتسمى التوجيه وهي أن يكون الكلام يحتمل معنيين فيستعمل المتكلم أحد احتماليه ويهمل الآخر ومراده ما أهمله لا ما استعمله
وأما صاحب التلخيص فإنه قال مشيرا إلى البديع ومنه التورية وتسمى الإيهام أيضا وهي أن يطلق لفظ له معنيان قريب وبعيد وهي ضربان مجردة ومرشحة ولم يزد على هذا القدر شيئا
وإذا أردت ما وعدت بإيراده من طلاوة المتأخرين في التورية شرعت في الكلام على أنواعها وأقسامها ليسير ركب الأدب في طرقها المتشعبة بدليل ويصير لديباجة هذا النوع تفصيل وقد قدمت ذكر الفاضل ومن فضل بعده في باب الاستخدام ولكن لم يمكن اختصارهم في باب التورية فإنهم فرسان حلباتها وأجل من سكن غريب نظمه بأبياتها وكل ما أوردته لهم ولغيرهم من التورية في غير بابه تعين نظم شمله هنا ليجتمع كل غريب بأقاربه وأنسابه فمن مخترعات القاضي الفاضل في التورية قوله من مديح قصيدة طائية وهي نكتة لم تختل في صدر غيره وهو
( أما الثريا فنعل تحت أخمصه ... وكل قافية قالت لذلك طا )
(2/45)
________________________________________
ومثله قوله
( في خده فخ لعطفة صدغه ... والخال حبته وقلبي الطائر ) ومثله قوله
( وكنت وكنا والزمان مساعد ... فصرت وصرنا وهو غير مساعد )
( وزاحمني في ورد ريقك شارب ... ونفسي تأبى شركها في الموارد ) ومن هنا أخذ الشيخ عز الدين الموصلي وقال
( لقد كنت لي وحدي ووجهك حضرتي ... وكنا وكانت للزمان مواهب )
( فعارضني في ورد خدك عارض ... وزاحمني في ورد ثغرك شارب ) ومن نظم الفاضل أيضا في بواب يلقب بالبحري
( وهب أن هذا الباب للرزق قبلة ... فها أنا قد وليته دونكم ظهري )
( وهب أنه البحر الذي يخرج الغنى ... فكل خرافي الشط في لحية البحر ( ي ) ) ومثله قوله
( عاتبته فتضرجت وجناته ... والقلب صخر لا يلين لقاصد )
( فنظرت من ذا في حرير ناعم ... وضربت من ذا في حديد بارد ) ومن اختراعاته التي لم تجل في فكر غيره قوله من مديح قصيدة عادلية
( وهذا الترب أم خد لثمنا ... فآثار الشفاه عليه شامه )
( وهذا الدر منثور ولكن ... أروني غير أقلامي نظامه )
( وهذي روضة تندى وسطري ... بها غصن وقافيتي حمامه ) ومنه قوله أيضا
( بالله قل للنيل عني إنني ... لم أشف من ماء الفرات غليلا )
( وسل الفؤاد فإنه لي شاهد ... إن كان طرفي بالبكاء بخيلا )
(2/46)
________________________________________
( يا قلب كم خلفت ثم بثينة ... وأظن صبرا أن يكون جميلا ) ومنه قوله وأجاد إلى الغاية
( وقائل وثب الأعداء قلت له ... كما الفراش على نيرانه يثب )
( فإن ثوب الذي عاداكم كفن ... كما بيوت الذي عاصاكم ترب )
( بلغتموهم مناهم في ترفعهم ... والقوم ما ارتفعوا إلا وقد صلبوا )
( هل السيوف عيون في الجفون لكم ... فإنها لقراب البغي ترتقب )
ومن نثره في هذا الباب قوله في يوم شديد المطر والبرد والخادم في رأس جبل يتلقى الرحمة غضة قبل أن يبتذلها الناس ويصافح الرياح عاصفة قبل أن تقتسمها الأنفاس ويتلقى الرعد بالرعدة وإذا السماء انشقت استصحاها المملوك بالسجدة
وقد تقدم القول إن ممن أخذ عنه ونهل من موارده العذبة القاضي السعيد ابن سنا الملك فمن نظمه في هذا الباب قوله
( أما والله لولا خوف سخطك ... لهان علي ما ألقى برهطك )
( ملكت الخافقين فتهت عجبا ... وليس هما سوى قلبي وقرطك ) ومنه قوله أيضا
( وفي الحي من صيرتها نصب خاطري ... فما آذنت في نازل الشوق بالرفع )
( تتيه بفرع منه أصل بليتي ... ولم أر أصلا قط يسعى إلى فرع ) ومنه قوله
( ليس إلا دمعي الذي من رأى جفني ... رآه كأن دمعي هدبي )
( أنجم الدمع لا تغيب شروقا ... مع أني رأيتها في الغرب )
(2/47)
________________________________________
ومنه قوله
( صفاتك في كل الوجوه صحيحة ... فلحظك نصبي وهو إن صحفوا يصبي )
( حرست الحشا من ناظريك بصارم ... فكسرة ذاك الجفن من ذلك الضرب ) ومما سبق إليه الناس في هذا الباب قوله
( وفي القلب تصديع وفي الوصل جبره ... وفي الخد دينار وفي الجفن كسره ) وأخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة فقال
( في خده وجفونه ... للحسن دينار وكسر ) وتلاعب الناس بعد ابن سنا الملك بهذا المعنى كثيرا حتى وصل إلى المعمار فقال
( كم حوى جفني معنى ... قلت ألفا وكسورا )
ولم يزل ابن سنا الملك يتلاعب في التورية باختراعاته ويسكنها في عامر أبياته إلى أن ظهر بعده السراج فجلا غياهبها بنور مشكاته وتعاصر هو وأبو الحسين الجزار والنصير الحمامي وتطارحوا كثيرا وساعدتهم صنائعهم وألقابهم في نظم التورية حتى إنه قيل للسراج الوراق لولا لقبك وصناعتك لذهب نصف شعرك فمن ذلك قوله
( شعريتي مذ رمدت قد حبست ... طرفي عنكم فصرت محبوسا ) ( الحمد لله زادني شرفا ... كنت سراجا فصرت فانوسا ) وقال من أبيات فيمن تلقب بالضياء وأجاد
( أمولانا ضياء الدين دم لي ... وعش فبقاء مولانا بقائي )
( فلولا أنت ما أغنيت شيئا ... وما يغني السراج بلا ضياء )
ومثله قوله فيه
( وما أنا سائر في ليل خطب ... تساوى الصبح فيه والمساء )
( فلا أنا مثل ما أدعى سراج ... ولا هو مثل ما يدعى ضياء )
(2/48)
________________________________________
ومنه قوله
( وكنت حبيبا إلى الغانيات ... فألبسني الشيب هجر الشبيب )
( وكنت سراجا بليل الشباب ... فأطفأ نوري نهار المشيب )
وكتب إلى بعض الرؤساء
( بكتبك راج لي أملي وقصدي ... وفي يدك النجاح لكل راج )
( ولولا أنت لم ترفع مناري ... ولا عرف الورى قدر السراج ) ومنه قوله يتقاضى من بعض الرؤساء شمعا
( وما علينا ضوء وقد أبطأ السمع ... فقوض به خيام الدياجي )
( وتدارك بيتا عليه ظلام ... لم يكد ينجلي بنور السراج ) وقال وقد اجتمع شمس الدين بيلبك وبدر الدين آق سنقر
( لما رأيت الشمس والبدر معا ... قد انجلت دونهما الدياجي )
( حقرت نفسي ومصيت هاربا ... وقلت ما ذا موضع السراج ) وظريف قوله في هذا الباب
( بني اقتدى بالكتاب العزيز ... وراح لبري سعيا ولاجا ) ( فما قال لي أف مذ كان لي ... لكوني أبا ولكوني سراجا ) ومنه قوله
( أقول في يوم شتاء له ... من سحبه ما خلف النيلا )
( خرجت من بيتي سراجا وقد ... عدت بحمد الله قنديلا ) وكتب إلى أبي حسين الجزار في عيد الأضحى
( أجبت بعيد النحر من كان سائلي ... عن الحال في عيدي وقد مر ذكره )
( إذا بطل الجزار والعيد عيده ... فلا تسأل الوراق فالعذر عذره )
(2/49)
________________________________________
ومنه قوله
( إلهي لقد جاوزت سبعين حجة ... فشكرا لنعماك التي ليس تكفر )
( وعمرت في الإسلام فازددت بهجة ... ونورا لذا قالوا السراج المعمر )
( وعمم نور الشيب رأسي فسرني ... وما ساءني أن السراج منور ) ومن أظرف ما وقع له في هذا الباب قوله
( كم قطع الجود من لسان ... قلد في نظمه النحورا )
( فها أنا شاعر سراج ... فاقطع لساني أزدك نورا ) ومثله قوله ( أثنى علي الأنام أني ... لم أهج خلقا ولا هجاني )
( فقلت لا خير في سراج ... إن لم يكن دافىء اللسان ) ومثله قوله
( إذا بحت بالشكوى عنيت معاشرا ... بلا راحة في مدحهم أتعبوا ذهني )
( يريدونني رطب اللسان ومن رأى ... سراجا غدا رطب اللسان بلا دهن ) وكتب إليه الأمير نصير الدين الحمامي وهو مقيم بالروضة
( كم قد ترددت للباب الكريم لكي ... أبل شوقي وأحيي ميت أشعاري )
( وأثني خائبا مما أؤمله ... وأنت في روضة والقلب في نار ) فكتب إليه السراج
( الآن نزهتني في روضة عبقت ... أنفاسها بين أزهار وأثمار )
( أسكرتني بشذاها فانثنيت بها ... وكل بيت أراه بيت خمار )
( فلا تغالط فمن فينا السراج ومن ... أولى بأن قال إن القلب في نار )
وقال النصير يوما للسراج الوراق قد عملت قصيدة في الصاحب تاج الدين وأشتهي أن تثني عليها بحضرته وسيرها إلى الصاحب فلما أنشدت بحضرة السراج قال السراج بعدما فرغ منها
(2/50)
________________________________________
( شاقني للنصير شعر بديع ... ولمثلي في الشعر نقد بصير )
( ثم لما سمعت باسمك فيه ... قلت نعم المولى ونعم النصير ) ومنه قوله
( طوت الزيارة إذ رأت ... عصر الشباب طوى الزياره )
( ثم انثنت لما انثنى ... بعد الصلابة كالحجاره )
( وبقيت أهرب وهي تسأل ... جارة من بعد جاره )
( وتقول يا ستي استرحنا ... لا سراج ولا مناره ) ومما ورى به عن صناعة الوراقة قوله
( نصب الحشا غرضا فقرطس إذ رمى ... وهي القلوب سهامها الأحداق )
( وسألته وصلا فقال يحجني ... يا ليت شعري من هو الوراق ) ومثله قوله
( يا خجلتي وصحائفي سود غدت ... وصحائف الأبرار في إشراق )
( وموبخ لي في القيامة قال لي ... أكذا تكون صحائف الوراق ) ومن لطائفه في غير لقبه وصناعته قوله
( قالوا وقد ضاعت جميع مصالحي ... لهموم نفس ليت لا حملتها )
( قد كان عندك يا فلان صريمة ... فأجبتهم بعت الحمار وبعتها ) ومنه قوله
( رفضوا الشعر جهدهم ورموه ... بينهم بالهوان والازدراء )
( فلو أن الكتاب كان بأيديهم ... محوا منه آية الشعراء ) وله في المعنى وأجاد
( يا بني الآمال قد خاب الرجا ... وقد اشتدت وقد عز العزاء )
( سفن الآمال في بحر المنى ... وحلت منا فأين الرؤساء )
(2/51)
________________________________________
وقال في المعنى
( أصون أديم وجهي عن أناس ... لقاء الموت عندهم الأديب )
( ورب الشعر عندهم بغيض ... ولو وافى به لهم حبيب ) ومن لطائفه قوله ( وقائل لي لما أن رأى قلقي ... من انتظاري لآمال تعنينا )
( عواقب الصبر فيما قال أكثرهم ... محمودة قلت أخشى أن تخرينا ) ومن لطائفه بعد تخرينا قوله
( أتيت أرجيه في حاجة ... فلم تنبعث نفسه الجامده )
( وفتل في ذقنه والنفوس ... تعاف المفتلة البارده ) ومنه قوله
( دع الهوينا وانتصب واكتسب ... واكدح فنفس المرء كداحه )
( وكن عن الراحة في عزلة ... فالصفع موجود مع الراحه ) وأنشده الجزار وهو يسرح ذقنه مماجنا
( لا تعجبت من لباسي ... فكل أمري لبس )
( والله ما ثم مآل ... وإنما ثم نفس ) فأجابه على الفور
( صدقت ما ثم مال ... وإنما ثم نحس )
( وثم أخرى وأخرى ... فيها وعندك حدس ) ومنه قوله
( ومغمومات روس باكرتنا ... بطيب شذا ولا طيب العروس )
( فقمت بما يلين لها فقالت ... يحق لك القيام على الرؤوس )
(2/52)
________________________________________
ومنه قوله
( وأحمق أضافنا ببقله ... لنسبة بينهما ووصله )
( فمن أقل أدبا من سفله ... قد مد في وجه الضيوف رجله ) ومنه قوله
( وسائل يسأل مني وقد ... انشدت شعرا دونه الشعرى )
( يقول لي إذ كنت في معشر ... قد عبدوا البيضاء والصفرا )
( هل حصلت دائرة بينهم ... قلت بلى بطيخة خضرا ) ومنه قوله
( مدحته جهدي فما اهتز من ... قولي ونادى الناس كم تتعب )
( فقلت أرجو زبدة قيل لي ... فاتك أين اللبن الطيب ) ومن لطائفه أيضا قوله
( كان أيرا صار سيرا ... يلطم الأكساس سخره )
( كيف لا ينفرن عني ... ومعي شيب ودره ) ومنه قوله
( فسر لي عابر مناما ... فصل في قوله وأجمل )
( وقال لا بد من طلوع ... فكان ذاك الطلوع دمل ) ومنه قوله وقد طلب شرابا فما وصل إليه
( لا تطمعن براحة من معشر ... سادوا بغير مآثر السادات )
( قطعت عن المعروف أيديهم وقد ... سرقوا العلا فخلت من الراحات ) ومن نكته البديعة في مدائحه قوله
( رأيت قطوف عفوك دانيات ... فنحن على المدى نجني ونجني )
( وكم بات المسيء قرير عين ... وسيفك إن حلمت قرير جفن )
(2/53)
________________________________________
وكتب إلى فتح الدين بن عبد الظاهر
( أنا تحت وعدك واعد أملي بما ... يرجوه من ظفر ومن نجح )
( إذ قال اين الجود قلت أجيبه ... مع أين مبني على الفتح ) ومنه قوله
( ومبخل بالمال قلت لعله ... يندى وظني فيه ظن مخلف )
( جمع الدراهم ليس جمع سلامة ... فأجابني لكنه لا يصرف )
وكتبت في هذا المعنى إلى الخواجا شهاب الدين بن لؤلؤ الذهبي بدمشق المحروسة وقد مطلني في صرف دنانير أحلت بها عليه
( قد منعتم صرف الدنانير عني ... ولكم في الورى هبات كثيره )
( وأنا شاعر وفي شرع نظمي ... صرفها واجب لأجل الضروره ) وكتب السراج إلى بعض أصحابه يطلب كتابا
( لك في المكارم سنة مألوفة ... معروفة الأنساب والأسباب )
( فابعث لعبدك بالكتاب فلم تزل ... تقواك تشفع سنة بكتاب ) ومن لطائفه في شخص اسمه عرفات
( أطنبوا في عرفات وغدوا ... يتعاطون له حسن الصفات )
( ثم قالوا لي هل وافقتنا ... قلت عندي وقفة في عرفات ) ومن أغزاله قوله
( وفاتك يجرح سيف لحظه ... مجردا عن جفنه ومغمدا )
( خاف على خديه من لحاظه ... فبات في عذاره مزردا ) ومنه قوله وهو في غاية الحسن
( ومهفهف عني يميل ولم يمل ... يوما إلي فقلت من ألم الجوى )
( لم لا تميل إلي يا غصن النقا ... فأجاب كيف وأنت من جهة الهوى )
(2/54)
________________________________________
ومثله قوله
( قلت للأهيف الذي فضح الغصن ... كلام الوشاة ما ينبغي لك )
( قال قول الوشاة عندي ريح ... قلت أخشى يا غصن أن يستميلك ) ومنه قوله
( عذبت طرفي بالسهاد فليله ... قد مات عنه تعيش أنت صباحه )
( وألح سائل أدمعي فحرمتني ... ولكم أضر بسائل إلحاحه ) وقال في مليح قلندري
( عشقت من ريقته قرقفا ... وما لها إذ ذاك من شارب )
( قلندريا حلقوا حاجبا ... منه كنون الخط من كاتب )
( سلطان حسن زاد في عدله ... فاختار أن يبقى بلا حاجب ) ومنه قوله
( ولنا ساق جواد كفه ... وكفت بالراح سحبا بعد سحب )
( قال قوم فاق كعبا في الندى ... قمت لا غرو لساق فوق كعب ) ومنه قوله
( يا ساكنا قلبي على أنه ... بوجده في قلق دائب )
( قلبي من خوف النوى واجب ... وأنت لم تخرج عن الواجب )
نكتة الواجب أخذها الشيخ جمال الدين بن نباتة ولكن سبكها في غير هذا القالب في قوله في رامي بندق
( إسعد بها يا قمري برزة ... سعيدة الطالع والغارب )
( صرعت طيرا وسكنت الحشا ... فما تعديت عن الواجب )
(2/55)
________________________________________
ويعجبني من تغزلات السراج الوراق قوله
( أقول لهم شبهت بالغصن قدها ... فقالوا رأينا قدها منه أرشقا )
( فقلت وبالرمان شبهت نهدها ... فقالوا إذن شبهت شيئا محققا ) ومنه قوله
( وقفت بأطلال الأحبة سائلا ... ودمعي يسقى ثم عهدا ومعهدا )
( ومن عجب أني أروي ديارهم ... وحظي منها حين أسألها الصدا ) ومنه قوله
( وبي من البدو كحلاء الجفون بدت ... في قومها كمهاة بين آساد )
( بنت عليها المعالي من ذوائبها ... بيتا من الشعر لم يمدد بأوتاد )
( وأوقدت وجنتاها النار لا لقرى ... لكن لأفئدة منا وأكباد )
( فلو بدت لحسان الخصر قمن لها ... على الرؤوس وقلن الفضل للبادي )
قلت ديوان الشيخ سراج الدين الوراق سبعة مجلدات من القطع الكامل ولكن الذي جنيته وفكهت المتأمل به هنا هو ثمرات تلك الأوراق وجمع الشيخ صلاح الدين الصفدي من ديوانه كتابا لطيفا وسماه لمع السراج ولكن رأيت نور السراج فيه قليلا
ومن مقاطيف الجزار في سمين التورية قوله موريا في صناعته
( ألا قل للذي يسأل ... عن قومي وعن أهلي )
( لقد تسأل عن قوم ... كرام الفرع والأصل )
( ترجيهم بنو كلب ... وتخشاهم بنو عجل )
ومثله قوله
( إني لمن معشر سفك الدماء لهم ... دأب وسل عنهم إن رمت تصديقي )
( تضيء بالدم إشراقا عراصهم ... فكل أيامهم أيام تشريق )
(2/56)
________________________________________
ومثله قوله
( أصبحت لحاما وفي البيت لا ... أعرف ما رائحة اللحم )
( واعتضت من فقري ومن فاقتي ... عن التذاذ الطعم بالهم )
( جهلته فقرا فكنت الذي ... أضله الله على علم ) ومثله قوله
( أعمل في اللحم للعشاء ولا ... أنال منه العشا فما ذنبي )
( خلا فؤادي وفي فمي وسخ ... كأنني في جزراتي كلبي )
وظريف قوله
( كيف لا أشكر الجزارة ما عشت ... حفاظا وأرفض الآدابا )
( وبها صارت الكلاب ترجيني ... وبالشعر كنت أرجو الكلابا ) وقلبه أيضا وقال
( لا تعبني بصنعة القصاب ... فهي أذكى من عنبر الآداب )
( كان فضلي على الكلاب فمذ صرت ... أديبا رجوت فضل الكلاب ) ومثله قوله
( معشر ما جاءهم مسترفد ... راح إلا وهو منهم معسر )
( أنا جزار وهم من بقر ... ما رأوني قط إلا نفروا ) وقال متهكما على المتنبي
( تعاظم قدري على ابن الحسين ... فذهني كالعارض الصيب )
( وكم مرة قد تحكمت فيه ... لأن الخروف أبو الطيب )
(2/57)
________________________________________
وكتب إليه الشيخ نصير الدين الحمامي موريا عن صناعته
( ومذ لزمت الحمام صرت بها ... خلا يداري من لا يداريه )
( أعرف حر الأشياء وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه ) فأجابه أبو الحسين الجزار بقوله
( حسن التأني مما يعين على ... رزق الفتى والحظوظ تختلف )
( والعبد مذ صار في جزارته ... يعرف من أين تؤكل الكتف ) ومن لطائفه البديعة ما كتب به إلى بعض الرؤساء وقد منع من الدخول إلى بيته في يوم فرح
( أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعلمته من خمول )
( أتيت لبابك أرجو الغنى ... فأخرجني الضرب عند الدخول ) وكتب إلى بعض الرؤساء يستهدي منه قطرا
( أيا علم الدين الذي جود كفه ... براحته قد أخجل الغيث والبحرا )
( لئن أمحلت أرض الكنافة إنني ... لأرجو لها من سحب راحتة القطرا ) هذا القطر تحلى به الشيخ جمال الدين بن نباتة بقوله
( لجود قاضي القضاة أشكو ... عجزي عن الحلو في صيامي )
( والقطر أرجو ولا عجيب ... للقطر يرجى من الغمام ) تلاعب الناس به بعده كثيرا
ويعجبني من تغزلات أبي الحسين الجزار قوله
( تكلف بدر السما إذ حكى ... محياك لو لم يشنه الكلف )
( وقام بعذري فيك العذار ... فأجرى دموعي لما وقف )
(2/58)
________________________________________
ومنها قوله
( حمت خدها والثمر عن حائم شج ... له أمل في مورد ومورد )
( وكم هام قلبي لارتشاف رضابها ... فأعرب عن تفصيل نحو المبرد ) ومن لطائف مجونه في التورية قوله
( تزوج الشيخ أبي شيخة ... ليس لها عقل ولا ذهن )
( لو برزت صورتها في الدجا ... ما جسرت تبصرها الجن )
( كأنها في فرشها رمة ... وشعرها من حولها قطن )
( وقائل قال ما سنها ... فقلت ما في فمها سن )
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان رأيت أبا الحسين بالقاهرة عند الشيخ قطب الدين ابن القسطلاني فقال لي الشيخ قطب الدين هذا هو الأديب أبو الحسين الجزار فأنشدني لنفسه وكتبت عنه
( من منصفي من معبر ... كثروا علي وأكثروا )
( صادقتهم وأرى الخروج ... من الصداقة يعسر )
( كالخط يسهل في الطروس ... ومحوه يتعذر )
( وإذا أردت كشطته ... لكن ذاك يؤثر ) ومما شرح الصدور والقلب من قول الحمامي
( وكدرت حمامي بغيبتك التي ... تكدر فيها العيش من كل مشرب )
( فما كان صدر الحوض منشرحا بها ... ولا كان قلب الماء فيها بطيب ) ومنه قوله
( لي منزل معروفه ... ينهل غيثا كالسحب )
( أقبل ذا العذر به ... وأكرم الجار الجنب )
(2/59)
________________________________________
ومن لطائفه ما كتب به إلى السراج الوراق على يد مليح ولسانه
( عبدك يا مولاي وافى بها ... وفى بها معنى لمن يعقل )
( وهو على الباب ومقصوده ... وفيك فهم أنه يدخل ) ومن نكته اللطيفة قوله
( أصبحت من أغنى الورى ... وطائرا بالفرح )
( الخمر عندي ذهب ... أكتاله بالقدح ) وقوله
( أقول للكاس إذ تبدى ... بكف أحوى أغن أحور )
( أخربت بيتي وبيت غيري ... وأصل ذا كعبك المدور ) ومن لطائفه في تغزلاته قوله
( ما زال يسقيني زلال رضابه ... لما خفيت ضنى وذبت توقدا )
( ويظنني حيا رويت بريقه ... فإذا دعا قلبي يجلو به الصدى ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وتقوى عليه بالسيف فقال
( أدعو السيوف صقيلة من لحظه ... وإذا دعوت لماه جاوبني الصدى ) ومن لطائفه في مداعباته قوله
( رأيت شخصا آكلا كرشة ... وهو أخو ذوق وفيه فطن )
( وقال ما زلت محبا لها ... قلت من الإيمان حب الوطن ) وممن انتظم في سلك الجماعة وانتصر للتورية وحسن مواقعها ناصر الدين حسن بن النقيب
( وجردت مع فقري وشيخوختي التي ... بها اليوم نومي عن جفوني مشرد )
( فلا يدعي غيري مقامي فإنني ... أنا ذلك الشيخ الفقير المجرد )
(2/60)
________________________________________
ومن نكته الغريبة في التورية قوله
( أقول وقد شنوا إلى الحرب غارة ... دعوني فإني آكل الخبز بالجبن ) ومثل ذلك قوله
( أقول لنوبة الحمى أتركيني ... ولا يك منك لي ما عشت أوبه )
( فقالت كيف يمكن ترك هذا ... وهل يبقى الأمير بغير نوبه )
ومن لطائف قوله
( قالوا رأينا العلق ينفق مسرفا ... والعلق لا شيء لديه ولا معه )
( فأجبتهم إنفاقه من جحره ... قالوا صدقت لذاك ينفق من سعه )
ومن لطائف ما وقع في تورية السعة قول أبي الحسين الجزار وقد وقف على باب ابن الزبير ومنع من الدخول دون غيره فكتب رقعة وأرسلها إلى ابن الزبير فإذا فيها
( الناس قد دخلوا كالأير أجمعهم ... والعبد مثل الخصي ملقى على الباب )
فلما وقف ابن الزبير على هذا البيت أمر بعض الخدم أن يقف على الباب وينادي أدخل يا خصي فدخل وهو يقول هذا دليل على السعة ومنه قوله
( ومكرش أضحى يحلق سفله ... لعساه لا يشكى إليه ويشكر )
( ويقص لحيته فإن ناديته ... لباك وهو محلق ومقصر ) ويعجبني من لطائفه قوله في داره
( ودار خراب بها قد نزلت ... ولكن نزلت إلى السابعة )
( طريق من الطرق مسلوكة ... محجتها للورى شاسعه )
( فلا فرق ما بين أني أكون ... بها أو أكون على القارعه )
( تساررها هفوات النسيم ... فتصغي بلا أذن سامعه )
(2/61)
________________________________________
( وأخشى بها أن أقيم الصلاة ... فتسجد حيطانها الراكعه )
( إذا ما قرأت إذا زلزلت ... خشيت بأن تقرأ الواقعه ) ومنه قوله
( جودوا لتسجع بالمديح ... على علاكم سرمدا )
( فالطير أحسن ما يغرد عند ... ما يقع الندى )
ومن بدائع أغزاله قوله
( وما بي سوى عين نظرت لحسنها ... وذاك لجهلي بالعيون وغرتي )
( وقالوا به في الحب عين ونظرة ... لقد صدقوا عين الحبيب ونظرتي )
ومن لطائف مجونه قوله
( نفقت لي رأس من الخيل كانت ... تسبق البرق والرياح الزعازع )
( وابتلى الله في المشاعر أخرى ... بشقاق لها عن المشي مانع )
( وإذا قيل كم بقي لك رأس ... قلت رأس لكن بغير كوارع ) ومن لطائفه أيضا في تورية المطوق قوله
( أنت طوقتني صنيعا وأسمعتك ... شكرا كلاهما ما يضيع )
( فإذا ما شجاك سجعي فإني ... أنا ذاك المطوق المسموع )
ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباتة سجع المطوق ووصل به عدة مقاطيع ومن غاية تغزلاته قوله ( رميت بمهجتي جمرات شوق ... ولم تأخذك بالمشتاق رأفه )
( فهرول دمع عيني فوق خدي ... وما حصلت له مع ذاك وقفه )
(2/62)
________________________________________
ومن لطائف مجونه قوله
( قال لي الواسع صف لي ... مثل ما أعرف وصفك )
( أين باب الخرق قل لي ... قلت باب الخرق خلفك )
ومن غرائب النكت قوله
( أبيات شعرك كالقصور ... ولا قصور بها يعيق )
( ومن العجائب لفظها ... حر ومعناها رقيق )
ومن بديع اختراعاته قوله
( قالوا قد احترقت بالنار راحته ... وهي الغمام ومنها الوابل الغدق )
( وقال قوم وما ضلوا وما هموا ... بأنها النيل قلت النيل يحترق ) ومن غريب نكته قوله
( بخالد الأشواق يحيى الدجا ... يعرف هذا العاشق الوامق )
( فخذ حديث الوجد عن جعفر ... من دمع عيني إنه الصادق ) ومن بديع تغزله قوله
( يا مالكي ولديك ذلي شافعي ... وما لي سألت فما أجبت سؤالي )
( فوخدك النعمان إن بليتي ... وشكايتي من جفنك الغزال ) ومن بديع غزله قوله
( أقول لمن جفنه سيفه ... ولكنه ليس يخشى نبوه )
( تكلف جفنك حمل الفتور ... وأخرج فيه من الضعف قوه ) ومن نكته الغريبة قوله
( قلت لسقم الجسم مني وقد ... أفرط بي فرط ضنى واكتئاب )
( فعلت بي يا سقم ما لم يكن ... تلبس والله عليه الثياب )
(2/63)
________________________________________
وممن حصل الجلاء لعيون التورية بملاطفته الحكيم شمس الدين بن دانيال من لطائفه قوله
( يا سائلي عن حرفتي في الورى ... واضيعتي فيهم وإفلاسي )
( ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس ) ومنه قوله
( كم قيل لي إذ دعيت شمسا ... لا بد للشمس من طلوع )
( فكأن ذاك الطلوع داء ... يرقى إلى السطح من طلوعي ) ومن لطائفه أيضا قوله
( ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ومن بختي )
( قد بعت عبدي وحماري معا ... وصرت لا فوقي ولا تحتي ) ومن لطائفه أيضا في جارية تضرب بالدف وأجاد قوله
( ذات القوام الذي يهتز غصن نقا ... لو مر يوما عليه طائر صدحا )
( تبدي على الدف كالجمار معصمها ... لنقره ببنان يشبه البلحا )
( غناؤها برقيق الغنج تمزجه ... فما ينقط إلا كل من رشحا ) ومن اختراعاته البديعة قوله
( أيا سائلي عن قد محبوبي الذي ... فتنت به وجدا وهمت غراما )
( أبي قصر الأغصان ثم رأى القنا ... طوالا فأضحى بين ذاك قواما ) وممن أحيا رسوم التورية وأظهر خفيها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر ومن نظمه فيها
( لقد قال كعب في النبي قصيدة ... وقلنا عسى في فضلها نتشارك )
( فإن شملتنا بالجوائز رحمة ... كرحمة كعب فهو كعب مبارك )
(2/64)
________________________________________
ومن لطائفه قوله
( لا ينقل الروض أحاديثه ... عن عين نمام غدت حافيه )
( فإنه ينقل أخباره ... إلى أعين عنده صافيه )
ومثله قوله
( يا قاتلي بلحاظ ... قتيلها ليس يقبر )
( إن صبروا عنك قلبي ... فهو القتيل المصبر ) وقال
( إن لوزي جلق ... واهن الحبل والقوى )
( لم يكلفك كسره ... فالق الحب والنوى )
ومن نظمي في هذا المعنى في المشمش السلطاني بحماه
( قال سلطاني حماة عندما ... أجلسوه مذ أتاهم في الصدور )
( مشمش الشام يقوي قلبه ... يوم نقع فهو قد أضحى وزيري )
ومن لطائف القاضي محيي الدين قوله
( شكرا لنسمة أرضكم ... كم بلغت عني تحيه )
( لا غرو أن حفظت أحاديث ... الهوى فهي الذكيه )
وهذه النكتة أخذها الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال
( يا طيب نشر هب لي من نحوكم ... فأثار كامن لوعتي وتهتكي )
( أهدي تحيتكم وأشبه لطفكم ... وروى شذاكم إن ذا نشر ذكي )
وأشار إلى هذه السرقة الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة بقوله ولم يخرج عما نحن فيه من التورية
( إن ابن أيبك لم تزل سرقاته ... تأتي بكل قبيحة وقبيح )
( نسب المعاني في النسيم لنفسه ... جهلا فراح كلامه في الريح )
(2/65)
________________________________________
ومن نكته البديعة الغريبة قوله
( لا تسلني عن أول العشق إني ... أنا فيه قديم هجر وهجره )
( من دموعي ومن جبينك أرخت ... غراما بمستهل وغره )
وتطفل الشيخ عز الدين الموصلي على هذا المعنى ولكن سبكه في قالب حسن بقوله من قصيدة
( فيا هاجري عاما لقد ضل عاذلي ... وليس له وجه وتاريخه سلخ )
ومن لطائفه قوله بمنزلة القطيفة بالقرب من دمشق
( هذي القطيفة التي ... لا تشتهي عقلا ونقلا )
( حشيت ببرد يابس ... فلأجل ذاك الحشو تقلى )
ومن لطائفه قوله
( ضفر الشعر وألقى ... خلفه كالقطن وفره )
( قلت ماذا قال شيب ... قلت والله ودره )
ومن لطائفه قوله في معشوقه المعنى المسمى بالنسيم
( إن كانت العشاق من أشواقهم ... جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا )
( فأنا الذي أتلو لهم يا ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا ) ومثله قوله فيه
( يا من غدا لي من عواصف ... هجره الريح العقيم )
( أترى يطيب لي الهوى ... ويقال لي رق النسيم )
ومن لطائفه قوله
( سل سيفا من جفنه ثم أرخى ... وفرة وفرت عليه الحميلة )
( إن شكا الخصر طولها غير بدع ... لنحيل يشكو الليالي الطويلة )
(2/66)
________________________________________
وألم به ابن العفيف فقال
( حل ثلاثا يوم حمامه ... ذوائبا تعبق منها الغوال )
( فقلت والقصد ذؤاباته ... يا سهري في ذي الليالي الطوال )
وهذا المعنى تلاعب به جماعة من المتأخرين ولولا الخيفة من طول الشرح لذكرت ذلك ولكن لا بد أن يرد على المتأمل في مواضعه ويعجبني قوله
( وبروحي هويته عجميا ... لي لذت ألفاظه الغتمية )
( كم حلا عجمه فقلت لخلي ... خلني والحلاوة العجمية ) ومن لطائف مجونه قوله ( وأعور العين ظل يكشفها ... بلا حياء منه ولا خيفه )
( وكيف يلفى الحياء عند فتى ... عورته لا تزال مكشوفه ) ومنه قوله ( قال لي العلق وقد جئته ... أريه أيرا فاق في حسنه )
( أيرك هذا مات قلت انحنى ... كرامة الميت في دفنه ) ويعجبني من خمرياته قوله
( خمرة للشقيق أمست شقيقه ... بنت كرم بالمكرمات خليقه )
( قال قوم من لطفها هي في الكاس ... مجاز والكاس فيها حقيقه ) ( أنتجت فرحة وجاءت بكأس ... صبغت حمرة فنعم الشقيقه ) ومن بديع اقتباسه بالتورية قوله
( بأبي فتاة من كمال صفاتها ... وجمال بهجتها تحار الأعين )
( كم قد دفعت عواذلي عن وجهها ... لما تبدت بالتي هي أحسن )
(2/67)
________________________________________
هذا الاقتباس بالتورية أخذه الشيخ جمال الدين بقافيته ولكن زاده إيضاحا بقوله
( يا عاذلي شمس النهار جميلة ... وجمال فاتنتي ألذ وأزين )
( فانظر إلى حسنيهما متأملا ... وادفع ملامك بالتي هي أحسن ) وألم به الشيخ عز الدين الموصلي وما خرج عن إيضاحه أيضا بقوله
( قد سلونا عن المليح بخود ... ذات وجه به الجمال تفنن )
( ورجعنا عن التهتك فيه ... ودفعناه بالتي هي أحسن ) ومن لطائفه قوله
( ذات طوق وذات زيق تغنى ... فتنبي بالوجد من ليس يدري )
( زيفت ثم كاشفتنا فقلنا ... لك زيق الغنى ولي زيق فقري )
( ما تراها قد حدثت خاطر النهر ... بما قد جرى وما منه يجري ) ومن لطيف كلامه قوله
( وبطحاء في واد يروقك روضها ... ولا سيما إن جاد غيث مبكر )
( تلاحظها عين تفيض بأدمع ... يرقرقها منه هنالك محجر )
( إذا فاخرتها الريح وهي عليلة ... بأذيال كثبان الربا تتعثر )
( بها الفضل يبدو والربيع وقد غدا ... بها الروض يحيى وهو لا شك جعفر ) وقال في مليحة اسمها وردة
( بأبي وردة مولدة الحسن ... دعوها بوردة البستان )
( في التصاوير مثلها ليس يلفى ... فيقولون وردة كالدهان ) ومن تواريه الغريبة في المواليا في مليح مشطوب
( لك طرف أحور حمى من حسنك السرحه ... كم قد أغار على العشاق في صبحه )
( لما علمت بانو سابق اللمحة ... عليه خفت فشطبتو على صحه )
(2/68)
________________________________________
ومن نكته الغريبة في أغزاله قوله
( ذباب السيف من لحظ إليه ... لأخضر صدغه حسن انتسابي )
( ولا عجب إذا ما قيل هذا ... له صدغ زمرده ذبابي ) ومن اختراعاته الغريبة قوله
( كتبت لكم من أعين القصب التي ... لها من معانيكم ومن نفسها طرب )
( فإن أطرب التشبيب فيها بذكركم ... فكم أطرب التشبيب من أعين القصب ) ومن هنا أخذ المعمار فقال
( هويته مشببا ... جماله برح بي )
( تيم قلبي بالحجاز ... من عيون القصب ) ومن مخترعات القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قوله
( ملأت الليالي من علا وختمتها ... فقد أصبحت محشوة بمكارمك )
( ختمت عليها بالثريا فقل لنا ... أهذا الذي في كفها من خواتمك ) ومنه قوله
( يا سيدي إن جرى من مدمعي ودمي ... للعين والقلب مسفوح ومسفوك )
( لا تخش من قود يقتص منك به ... فالعين جارية والقلب مملوك ) ومنه قوله
( ذو قوام يجور منه اعتدال ... كم طعين به من العشاق )
( سلب القضب لينها فهي غيظى ... واقفات تشكوه بالأوراق )
ومنه قوله
( يا رب كأس صرت من شربها ... من بعد رشفي ريق معشوقي )
( ملتهب الأحشاء نارا لأن ... شربتها منه على الريق )
(2/69)
________________________________________
ويعجبني منه قوله
( أنت من وجه ولحظ ... لك دينار وكسر )
هذا الدينار والكسر اغتصبه الشيخ جمال الدين بن نباتة ولم يسبكه في غير قالبه فقال
( أفدي حبيبا لي إلى ... مرآه طول الدهر فقر )
( في خده وجفونه ... للحسن دينار وكسر )
وهذه زاوية اخترتها من ديوان الشيخ الإمام العلامة شيخ الشيوخ عبد العزيز الأنصاري الحموي سقى الله ثراه أما بعد حمدا لله الذي أطلعنا من زوايا الأدب على خبايا وأرشدنا بمشايخ شيوخه إلى سلوك ما فيه من المزايا والصلاة والسلام على نبيه الذي اختاره فكان نعم المختار وعلى آله وصحبه المنتظمين في سلك هذا الاختيار فقد انتهى ما أوردته منوعا في التورية من الحلاوات القاهرية وقد تعين أن أفكه المتأمل بعد ذلك بالفواكه الشامية وأقتطف له من فروع شيخ الشيوخ ما يظهر به مزية الثمرات الحموية وقدرة السلطنة في الأدب وناهيك بالسلطنة الشيخية فاخترت من أبيات قصائده ومواصيل مقاطيعه ما يحلو بها التشبيب وسميته زاوية شيخ الشيوخ علما بأنها زاوية يتأهل بها الغريب والله تعالى يجعلنا ممن تخير العمل الصالح فأحسن وسمع القول فاتبع منه الأحسن فمن ذلك قوله من قصيدة
( ويلاه من نومي المشرد ... وآه من شملي المبدد )
( يا كامل الحسن ليس يطفي ... ناري سوى ريقك المبرد )
منها ووصل إلى المخلص وهو في غاية الحسن قوله
( غصن نقا حل عقد صبري ... بلين خصر يكاد يعقد )
( فمن رأى ذلك الوشاح ... الصائم صلى على محمد )
ومنه قوله من قصيدة
( لنا من ربة الخالين جاره ... تواصل تارة وتصد تاره )
( تعاملني بما يحلي سلوي ... ولكن ليس في حلو مراره )
(2/70)
________________________________________
ومنه قوله وهو مطلع قصيدة
( حروف غرامي كلها حرف إغراء ... على أن سقمي بعض أفعال أسماء ) ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين وقال
( أودت فعالك يا أسما بأحشائي ... واحيرتي بين أفعال وأسماء ) ومن بديع نكته قوله
( وبدر دجى لم ينتقل كسميه ... ولكنه ما زال في القلب والطرف )
( يلوح لعيني ماشقا نون صدغه ... فأعبد خلاقي على ذلك الحرف ) هذه النكة أخذها ابن الوردي بقافيتها وغالب ألفاظها ومعناها فقال
( يا بدر تم نوره باهر ... منزله في القلب والطرف )
( صدغك حرف النون في مشقه ... من يعبد الله على حرف ) ولعمري إنها سرقة فاحشة ومنه قوله
( أقام لخده الناري عذارا ... ومذ أقصى عذاري وهو ثلجي )
( حمى مرج العذار بمقلتيه ... فأمشى الناس في هرج ومرج ) ومنه قوله في التورية مع بديع الاقتباس
( يا نظرة ما جلت لي حسن طلعته ... حتى انقضت وأدامتني على وجل )
( عاتبت إنسان عيني في تسرعه ... فقال لي خلق الإنسان من عجل ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وجعله مطلعا لقصيدة فقال
( إنسان عيني بتعجيل السهاد ملى ... عمري لقد خلق الإنسان من عجل )
ومنه قول الشيخ عز الدين شيخ الشيوخ وتلطف ما شاء مع قصر الوزن
( وغمام معربد ... ببروق وزمجره )
( غادر الروض ناضرا ... بعيون مخضره )
(2/71)
________________________________________
ومنه قوله
( قلت وقد عقرب صدغا له ... عن مشقة الحاجب لم يحجب )
( قد سدت يا رب الجمال الذي ... ألف بين النون والعقرب ) وقال وتلطف ما شاء وأظنه أول من ورى بهذه النكتة
( أفدي حبيبا رزقت منه ... عطف محب على حبيب )
( بوجنة ما أتم ربحي ... وقد غدا وردها نصيبي ) ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباتة وغيره وقول الشيخ جمال الدين بن نباتة
( فديتك غصنا ليس يبرح مثمرا ... من الحسن في الدنيا بكل غريب )
( تفتح في وجناته الورد أحمرا ... فيا ليت ذاك الورد كان نصيبي ) ومنه قوله
( لا تنس وجدي بك يا شاذنا ... بحبه أنسيت أحبابي )
( ما لي على هجرك من طاقة ... فهل إلى وصلك من باب ) ومنه قوله
( مرضت ولي جيرة كلهم ... عن الرشد في صحبتي حائد )
( فأصبحت في النقص مثل الذي ... ولا صلة لي ولا عائد ) ومن هنا أخذ الشيخ عز الدين الموصلي وقال
( أهل دمشق قد مرضت عندهم ... وما قصدت نحوهم بمسأله )
( مع علمهم بأنني أنا الذي ... ولا أتاني عائد ولا صلة ) ومنه قوله
( قالوا أما في جلق نزهة ... تنسيك من أنت به مغرى )
( يا عاذلي دونك من لحظه ... سهما ومن عارضه سطرا )
(2/72)
________________________________________
السهم وسطرى من منتزهات دمشق المشهورة ومن هنا أخذ الشيخ جلال الدين بن خطيب داريا وقال
( سألتكما إن جئتما الشام بكرة ... وعاينتما الشقراء والغوطة الخضرا )
( قفا واقرآ مني كتابا كتبته ... بدمعي لكم مقرا ولا تنسيا سطرا )
ومقرا أيضا من منتزهات دمشق وحسن بعدها ذكر سطرا ومنه قوله وأجاد
( سبحان مورثه من حسن يوسف ما ... لم يبق في الحجر لي والصبر من حصص )
( أقام للشعراء العذر عارضه ... فكم لهم من دبيب النمل من قصص ) ومنه قوله
( ولقد عجبت لعاذلي في حبه ... لما دجا ليل العذار المظلم )
( أو ما درى من سنتي وطريقتي ... أني أميل مع السواد الأعظم ) ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباتة وغيره فأما ابن نباتة فإنه أخذه وزنا وقافية وقال
( أهواه معسول الرضاب منعما ... ولقد يعذبني الهوى بمنعم )
( يا قلب هذا شعره وجفونه ... صبرا على هذا السواد الأعظم ) ومن لطائفه قوله
( أكملت ستا وأربعين بها ... أخلت همومي من راحتي ربعي )
( وجزت في السبع خائفا وجلا ... لأنني جائز على سبع ) ومن نكته اللطيفة قوله
( هزم الهم عن نداماي راح ... حظيت من سماعهم بلحون )
( لم تكد في الكؤوس تظهر لطفا ... فبدت من خدودهم في الصحون )
(2/73)
________________________________________
ومن لطائف مجونه قوله
( سألته من ريقه شربة ... أطفي بها من كبدي حره )
( فقال أخشى يا شديد الظما ... أن تبع الشربة بالجره ) ومن هنا أخذ المتأخرون ومن نكته اللطيفة ما كتبه على جرن حمام السلطان بحماة
( كملت لطفا ووقارا على ... ما حزت من أوصافي الحلوه )
( من أجل هذا صرت أهلا لأن ... أجالس السلطان في الخلوه ) وممن أجار رقيق التورية من غلظ العقادة الأمير مجير الدين بن تميم فمن ذلك قوله
( لما لبست لبعده ثوب الضنى ... وغدوت من ثوب اصطباري عاريا )
( أجريت واقف أدمعي من بعده ... وجعلته وقفا عليه جاريا ) ومن لطائف نكته قوله في كتاب
( ياحسنها نسخة يلهو مطالعها ... بها لما قد حوت من رائق الكلم )
( صحت وقد لطفت أجزاؤها فحكت ... لطف النسيم وحاشاها من السقم ) ومنه قوله
( بتنا جميعا وبات لثمي ... له حمى ثغره مباح )
( فمات مني الظلام غيظا ... وانشق من غيظه الصباح ) ومنه قوله
( وساقية تدور على الندامى ... وتنهرهم لسرعة شرب خمر )
( سنشكر يوم لهو قد تقضى ... بساقية تقابلنا بنهر ) وهذه النكتة تلاعب الناس بها كثيرا ومن نكته الغريبة قوله في سجادة
( أيا حسنها سجادة سندسية ... يرى للتقى والزهد فيها توسم )
(2/74)
________________________________________
( إذا ما رآها الناسكون ذوو الحجا ... أمامهم صلوا عليها وسلموا ) ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال
( إن سجادتي الحقيرة قدرا ... لم يفتها في بابك التعظيم )
( شرفت إذ سعت إليك فأمست ... وعليها الصلاة والتسليم ) وتطفل عليها الشيخ زين الدين بن الوردي أيضا فقال
( سجادة أذكرتني ... منك الذي كنت تعلم )
( أهديتها لمحب ... صلى عليها وسلم ) ومن قوله وهو من ألطف أغزاله
( يا حسن أهيف حظه من حبنا ... طيب النعيم وحظنا منه الشقا )
( قدم العذار إلى نقا وجناته ... يا مرحبا بقدوم جيران النقا ) ومن نكته الغريبة قوله في مليح جرح جبينه
( بكوا لجراحة شقت جبين الحبيب ... فقال ما ضر الجراح )
( أليس جبينه صبحا منيرا ... ولا عجب إذا انشق الصباح ) ومن لطائفه قوله
( وعيرني بالشيب قوم أحبهم ... فقلت وشأن العاشقين التحمل )
( بعثتم إلى رأسي المشيب بهجركم ... ومهما أتى منكم على الرأس يحمل )
وهذه النكتة أيضا تلاعب بها المتأخرون بعد ابن تميم كثيرا ومن لطائف نكته أيضا قوله
( ونهر حالف الأهواء حتى ... غدا طوعا لها في كل أمر )
( إذا سرقت حلى الأزهار ألقت ... إليه بها فيأخذها ويجري )
(2/75)
________________________________________
ومثله قوله
( سرق النسيم حلى الغصون بسحره ... لما أتاها وهي في اطرابها )
( ورمى بها نحو الغدير فضمها ... في صدره من خوفه وجرى بها ) ومن بدائع نكته
( وليلة بت أسقى في غياهبها ... راحا تسل شبابي من يد الهرم )
( ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم ) ومن لطائف نكته في أغزاله قوله
( خليلي قد صاد الفؤاد بحسنه ... غزال به عذر المحبين واضح ) ( ولا غرو أن صاد الفؤاد بلحظه ... ألم تعلما أن العيون جوارح )
ومن لطائف نكته في أغزاله أيضا قوله
( وقالوا بدا خط العذار بخده ... فأضحى سعيد الخد وهو معذر )
( فقلت خيال الشعر ما قد رأيتم ... فإن صح ذاك الخط فهو مزور ) من هنا أخذ الشيخ صلاح الدين ولكن زاده نكتة أخرى بقوله
( عيناه قد شهدت بأني مخطىء ... وأتت بخط عذاره تذكارا )
( يا حاكم الحب اتئد في قتلتي ... فالخط زور والشهود سكارى ) ومن نكته الغريبة قوله
( أيا ذا الذي قد كف كفيه عامدا ... عن الجود خوف الفقر ما ذاك سائغ )
( أتخشى سهام الفقر ما دمت منفقا ... نصيبك والنعما عليك سوابغ ) ومن نكته الغريبة قوله
( ونهر بحب الروض أصبح مغرما ... يروح ويغدو هائما بوصالها )
( إذا بعدت عنه شكا بخريره ... جفاها وأمسى قانعا بخيالها )
(2/76)
________________________________________
ومن لطائف مجونه
( وقواد يعيد الهجر وصلا ... وطول البعد قربا واتفاقا )
( يكاد لحكمة فيه ولطف ... يقود بلا أزمتها النياقا ) ومن نكته البديعة الغريبة في باب التورية قوله
( لما جسستك بالمديح ولم أكن ... أدري بأنك خامل في الناس )
( ناديت لما أن جسستك بالهجا ... أكليب خذها من يدي جساس ) ومنه قوله
( مذ لاحظ المنثور طرف النرجس المزور ... قال وقوله لا يدفع )
( فتح عيونك في سواي فإنني ... عندي قبالة كل عين أصبع ) ومن لطائفه في هذا الباب قوله
( أيا حسنها من روضة ضاع نشرها ... فنادت عليه في الرياض طيور )
( ودولابها كادت تعد ضلوعه ... لكثرة ما يبكي لها ويدور )
النكتة في يدور وفي ضاع دارت بين ابن تميم وبين الجماعة وتسلسل دورها منهم بدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي بقوله
( وروضة دولابها ... إلى الغصون قد شكا )
( من حين ضاع نشرها ... دار عليها وبكى ) ومنهم الشيخ جمال الدين بن نباتة بقوله
( وناعورة قسمت حسنها ... على واصف وعلى سامع )
( وقد ضاع نشر الربا فاغتدت ... تدور وتبكي على الضائع ) ومنهم الشيخ صلاح الدين الصفدي ونقل المعنى إلى الغزل بقوله
( أضحى يقول عذاره ... هل فيكم لي عاذر )
( الورد ضاع بخده ... وأنا عليه دائر )
(2/77)
________________________________________
وبعضهم نقصه وقنع بالدور بقوله
( أبدى لنا الدولاب قولا معجبا ... لما رآنا قادمين إليه )
( إني من العجب العجيب كما ترى ... قلبي معي وأنا أدور عليه ) وزاد الشيخ جمال الدين بن نباتة الدور نكتة أخرى فقال
( وناعورة قالت وقد ضاع قلبها ... وأضلعها كادت تعد من السقم )
( أدور على قلبي لأني فقدته ... وأما دموعي فهي تجري على جسمي ) وهذا المعنى سبق إليه ابن تميم أيضا بقوله
( قامت لنا بالعذر ناعورة ... أدمعها في غاية السكب )
( تقول لما ضاع قلبي وقد ... ضعفت بالنوح وبالندب )
( صيرت جسمي كله أعينا ... يدور في الماء على قلبي ) ومثله قوله
( ناعورة مذ ضاع منها قلبها ... ناحت عليه بأنة وبكاء )
( وتعللت بلقائه فلأجل ذا ... جعلت تدير عيونها في الماء ) وقنع الشيخ زين الدين بن الوردي بالدور فقال
( ناعورة مذعورة ... ولهانة وحائرة )
( الماء فوق كتفها ... وهي عليه دائرة )
وعلى ذكر تورية الدور يعجبني قول المقر المرحومي الفخري ابن مكانس وقد كتب بدر الدين البشتكي يداعبه وقد دار الشيخ بدر الدين المذكور في ساقية الهمائل
( دورة البدر في سواقي الهمائل ... تركت أدمع العيون هوامل )
( آه من للرياض نور أديب ... مظهر من كلامه سحر بابل )
( فاق سعيا على بني عجل في الجود ... وأغنى عن الولي الهاطل )
( زاد علما على أبي ثور لكن ... قال بالدور تارة والسلاسل )
(2/78)
________________________________________
ومنها ولم يخرج عن تورية الدور
( يا سعيدا أثرى من النظم والنثر ... فأنسى الورى زمان الفاضل )
( قد سقيت الرياض يا شيخ بالدور ... فها غصنها من السكر مائل ) ومن نظمي في تورية الدور أيضا قولي من قصيدة
( ومذ مد ذاك النهر ساقا مدملجا ... وراح بنقش البيت يمشي على بسط ) ( لوينا خلاخيل النواعير فالتوت ... وأبدت لنا دورا على ساقه السبط )
وعلى ذكر تورية الدور وتسلسلها هنا نكتة لطيفة وهي أنه اتفق أن الشيخ نجم الدين الفجفيري سأل جماعة من الطلبة المستعلين عليه من قول الشاعر
( يا أيها الحبر الذي ... علم العروض به امتزج )
( أبن لنا دائرة ... فيها بسيط وهزج )
ففكر بعض الطلبة فيه ساعة طويلة ثم قال هذا في الدولاب لأنه أراد بالبسيط الماء وبالهزج صوته حال دورانه فقال له الشيخ صدقت إلا أنك درت في الدولاب زمانا حتى ظهرت لك التورية
وهذا الكلام في غاية الظرافة من الشيخ رحمه الله تعالى
رجع إلى ما كنا فيه من لطائف ابن تميم فمن ذلك قوله
( لم لا أميل إلى الرياض وحسنها ... وأعيش منها تحت ظل ضافي )
( والزهر يلقاني بثغر باسم ... والماء يلقاني بقلب صافي )
وهذان البيتان عزاهما الصلاح الكتبي في كتابه فوات الوفيات للبدر يوسف بن لؤلؤ الذهبي ونسبا أيضا لمحيي الدين بن قرناص في مواضع كثيرة والله أعلم ومن نكته اللطيفة في التورية قوله
( روحي الفداء لمن أدار بلخطه ... صهباء في عقلي لها تأثير )
( فاعجب له أنى يصون بلحظه ... مشمولة وإناؤها مكسور )
(2/79)
________________________________________
ومنه قوله
( إني لأشهد للحمى بفضيلة ... من أجلها أصبحت من عشاقه )
( ما زاره أيام نرجسه فتى ... إلا وأجلسه على أحداقه ) وتلاعب المتأخرون بهذه النكتة كثيرا ومنه قوله
( ألا رب يوم قد تقضى ببركة ... أقمت بها فيما جرى متفكرا )
( بعيني رأيت الماء فيها وقد هوى ... على رأسه من شاهق فتكسرا ) ومثله قوله
( يا حسنه من جدول متدفق ... يلهي برونق حسنه من أبصرا )
( ما زلت أنظره عيونا حوله ... خوفا عليه أن يصاب فيعثرا )
( فأبى وزاد تماديا في جريه ... حتى هوى من شاهق فتكسرا ) وتورية تكسر تلاعب بها الناس بعد ابن تميم كثيرا ومن نكته البديعة الغريبة قوله
( لو كنت تشهدني وقد حمي الوغى ... في موقف ما الموت عنه بمعزل )
( لترى أنابيب القناة على يدي ... تجري دما من تحت ظل القسطل ) ومن لطائف نكته قوله
( قالوا رأيناك كل وقت ... تهيم بالشرب والغناء )
( إني فتى قنوع ... أعيش بالماء والهواء ) ومنه قوله
( حاذر أصابع من ظلمت فإنه ... يدعو بقلب في الدجى مكسور )
( فالورد ما ألقاه في جمر الغضى ... إلا الدعا بأصابع المنثور ) ومن لطائف نكته وقد تقدم معناها ولكن حلا مكررها هنا بقوله
( تأمل إلى الدولاب والنهر إذ جرى ... ودمعهما بين الرياض غزير )
( كأن نسيم الروض قد ضاع منهما ... فأصبح ذا يجري وذاك يدور )
(2/80)
________________________________________
وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان أنشدني أبو الخير الأزدي لمجير الدين بن صميم
( نزلنا إلى الغور في جحفل ... نقاتل قوما من المسلمينا )
( قطعنا الشريعة في حربهم ... وخضنا إليهم مع الخائضينا ) ومن نكته البديعة الغريبة قوله
( إني لأعجب في الوغى من فارس ... حارت دقائق فكرتي في كنهه )
( أدى الشهادة لي بأني فارس الهيجاء ... حين جرحته في وجهه ) ومن لطائف مجونه قوله
( هويت نطاعا إذا جئته ... بادرني باللحظ والصفع )
( أروم أن أخطى بوصل وقد ... قابلني بالسيف والنطع ) ويعجبني من نكته في الخمريات قوله
( ومدامة كاساتها ... تعطي الأمان من الزمان )
( قد أحكمت علم النجوم ... وأتقنت سحر البيان )
( فإذا حساها الشاربون ... وأوقعتهم في الأماني )
( بدأت بإخراج الضمير ... وبعده عقد اللسان ) ومن لطائف مجونه قوله
( غطت محاسن وجهها عن ناظري ... هيفاء لم أر في البرية شبهها )
( وغدت تمانعني فقمت مبادرا ... وكشفت من بعد التمنع وجهها ) ومن نكته الغريبة قوله
( سأهجو أناسا يبتغون نقيصتي ... وقد رسخوا في بحر جهلهم رسخا )
( وأسلخهم لا في أوان مغيبهم ... ولكن أريهم في وجوههم السلخا ) ومن لطائفه قوله
( بعث النسيم رسالة بقدومه ... للروض فهو بقربه فرحان )
(2/81)
________________________________________
( ولطيب ما قرأ الهزار بشدوه ... مضمونها مالت له الأغصان ) ومن لطائفه التي سبقه السراج إليها واستعملها ابن تميم أحسن منه
( أراق دمي بسيف اللحظ ظلما ... وها أثر الدماء بوجنتيه )
( فلما خاف من طلبي لثأري ... أدار عذاره زردا عليه ) وقال في غلام وقاد
( لاموا على الوقاد في حبه ... وحبه باللوم يزداد )
( لو لم يكن في حسنه كوكبا ... ما كان أمسى وهو وقاد )
وزاد شيخنا الشيخ شهاب الدين بن حجر فسح الله في أجله هذا المعنى نكتة حصل بها الاتفاق البديع بلقبه الكريم فقال في وقاد أيضا
( أحبب بوقاد كنجم طالع ... أنزلته برضا الغرام فؤادي )
( وأنا الشهاب فلا يعاند عاذلي ... إن ملت نحو الكوكب الوقاد ) ومن نكته البديعة الغريبة قوله
( بنده الأزرق لما ... شده من قد سباني )
( جدول فوق كثيب ... دار يسقي غصن بان ) ومن نكته الغريبة قوله في وكيل بدار القاضي بدمشق المحروسة
( لا تقرب الشرع إذا لم تكن ... تخبره فهو دقيق جليل )
( ووكل العز الذي وجهه ... على نجاح الأمر أقوى دليل )
( ولا تمل عنه إلى غيره ... وحسبنا الله ونعم الوكيل )
وعلى ذكر الوكيل رأيت
( لاقى فلان اليوم ما ساءه ... وأفرغ الصك عليه وكيل )
( وذاق من كف الوكيل العمى ... وحسبنا الله ونعم الوكيل )
(2/82)
________________________________________
ومن لطائفه قوله يصف روضة
( أرض كساها القطر حلة سندس ... رقمت لها طرز من الغدران )
( وفد النسيم أضاع نشر رياضها ... فالورق تنشده بكل مكان )
وكتب إلى كمال الدين بن النجار وكيل بيت المال بدمشق المحروسة وهي من نكته المخترعة
( كمال الدين يا مولاي يا من ... يغير لبحر في بذل النوالي )
( أتيت لحاجة فاغنم ثنائي ... عليك بها وشكري وابتهالي )
( ولا تجعل سواك لها فإني ... عليك بنجحها وقع اتكالي )
( أيجمل أن يقول الناس أني ... أتيت لحاجة لم تقضها لي )
( وأصبح بينهم مثلا لأني ... أتاني النقص من جهة الكمال ) ومن لطائف نكته قوله
( لم أنس قول الورق وهي حبيسة ... والعيش منها قد أقام مقفصا )
( قد كنت ألبس من غصوني أخضرا ... فلبست منها بعد ذاك مقفصا ) وقال فيمن تاب عن شرب الخمر
( تركت شرب الحميا غير مفتكر ... فيها وفي شربها اللذات والطرب )
( فارجع فقد أسبل الراووق أدمعه ... شوقا إليك وقلب الكاس يلتهب ) فأنشده بعد ذلك وقد وافقه
( إن كان قد أسبل الراووق أدمعه ... شوقا إليك وقلب الكاس يضطرم )
( فاليوم أعينه من فرط فرحته ... تفيض دمعا وثغر الكاس يبتسم ) ومن نكته الغريبة قوله فيمن غضب عند عزله من منصب ولايته
( كم قلت لما فاض غيظا وقد ... أزيح عن منصبه المعجب )
( لا تعجبوا إن فار من غيظه ... فالقلب مطبوخ على المنصب )
(2/83)
________________________________________
وهذا المعنى ألم به شرف الدين النصيبي واستعمله أرق وأسجم بقوله
( ولوك إذ علموا بجهلك منصبا ... علموا بأنك عن قليل تبرخ )
( طبخوا بنار العزل قلبك بعد ذا ... وكذا القلوب على المناصب تطبخ ) وقال يعتذر عن مخدومه في كثرة تجريده له
( لقد لام قوم صاحبي حيث لم يزل ... يجردني دون الرفاق تعمدا )
( رآني حساما ماضيا فأقامني ... مدى الدهر في وجه الأعادي مجردا ) ومنه قوله
( مذ قلت للمنثور إن الورد قد ... وافى على الأزهار وهو أمير )
( بسمت ثغور الأقحوان مسرة ... بقدومه وتلون المنثور ) وأحسن منه قوله
( ومذ قلت للمنثور إني مفضل ... على حسنك الورد المنزه في الشبه )
( تلون من قولي وزاد اصفراره ... وفتح كفيه وأوما إلي وجهي ) ومثله قوله
( كيف السبيل للثم من أحببته ... في روضة للزهر فيها معرك )
( ما بين منثور وناضر نرجس ... مع أقحوان وصفه لا يدرك )
( هذا يشير بأصبع وعيون ذا ... ترنو إلي وثغر هذا يضحك ) ومثله قوله
( كيف السبيل لأن أقبل خد من ... أهوى وقد نامت عيون الحرس )
( وأصابع المنثور تومي نحونا ... حسدا وتغمزها عيون النرجس ) ومنه قوله
( روض الحمى يهوى لقاك وإنه ... من فرط شوق لا يزال قرينه )
( لم يهد نرجسه إليك وإنما ... لغرامه أهدى إليك عيونه )
(2/84)
________________________________________
ومن لطائفه في أغزاله قوله
( قالوا بدا نبت خديه فخذ بدلا ... عنه فقلت لهم حاشاه حاشاه )
( إن لاح في خده نبت فلا عجب ... الله أنبته والعين ترعاه )
وتورية النبت والرعي تلاعب بها جماعة من المتأخرين بعد ابن تميم ومن مخترعاته في هذا الباب قوله
( لو كنت حين علوت كور مطيتي ... لم تعتلقها للمطي عيون )
( وتوسطت بحر السراب حسبتني ... من فوقها ألفا وتحتي نون ) ومن نكته المخترعة قوله
( دعيت فكان أكلي فخذ طير ... ولم أشرب من الصهباء نقطه )
( وما يومي كأمس وذاك أني ... أكلت أوزة وشربت بطه )
أخذ الشيخ صلاح الدين الكل مع القافية فقال
( شوى الأوز فأضحت ... في حمرة الخد بسطه )
( فقلت تشوي أوزا ... أم كنت تشرب بطه ) ومن اختراعاته التي لعب الناس بها بعده
( قد هجرت الراح حتى ... ليس لي فيها نصيب )
( وعلى الراووق مني ... طول ما عشت صليب ) ومن نكته المخترعة الغريبة قوله يرثي الأمير قطب الدين رحمه الله تعالى
( نأيتم فلا قلبي عن الحزن مقصر ... عليكم ولا جفني يجف له غرب )
( وأفلاك لذاتي تعطل سيرها ... وهل فلك يسري إذا عدم القطب )
(2/85)
________________________________________
ومن غريب نكته في أغزاله قوله
( شبهت خدك يا حبيبي عندما ... أبدى الجمال به عذارا أشقرا )
( تفاحة حمراء قد كتبوا بها ... خطا دقيقا بالنضار مشعرا ) ومثله في الغرابة قوله
( ولما احتمت عنا الغزالة بالسما ... وعز على قناصها أن ينالها )
( نصبنا شباك الماء في الأرض حيلة ... عليها فلم نقدر فصدنا خيالها ) ومن لطائف غرامياته
( لا تبعثوا غير الصبا بتحية ... من أرضكم فلها علي جميل )
( خاضت دموع العاشقين وعرجت ... عنهم إلي وثوبها مبلول ) وهذا المعنى وقفت عليه لغيره والله أعلم من السابق ولعمري إن الآخر أجاد بقوله
( وصبا صبت من قاسيون فسكنت ... بهبوبها وصب الفؤاد البالي )
( خاضت مياه النيرين عشية ... وأتتك وهي بليلة الأذيال ) ومن لطائفه قوله
( لو لم أعانق من أحب بروضة ... أحداق نرجسها إلينا تنظر )
( ما شق جيب شقيقها حسدا ولا ... بات النسيم بذيله يتعثر )
وتلاعب الناس بعد ابن تميم بهذا المعنى كثيرا وقال في إهداء مهرة حمراء وهي من مخترعاته
( أهديت لي يا مالكي مهرة ... جميلة الخلق بوجه جميل )
( مؤخرها والعنق قد أوقع ... قلب الأعادي في العريض الطويل )
( قد لبست من شفق حلة ... تخبرنا أن أباها أصيل )
(2/86)
________________________________________
ومنه قوله وهو من الاختراعات اللطيفة
( حبيبي وعدت الكاس منك بقبلة ... وأعقب ذاك الوعد منك نفار )
( وما كان هذا لونها غير أنها ... علاها لطول الانتظار صفار ) ومن هنا أخذ الشيخ بدر الدين بن الصاحب فقال
( يا حابس الكأس لا تزدها ... من بعد حبس الدنان حسره )
( واغنم مزاجا لها لطيفا ... أورثه الانتظار صفره ) ومن نكته الغريبة البديعة قوله
( مما رأت عيني مناطقك التي ... أضحت بشعرك دائما تتعلق )
( ولا تستقر وقد علتها صفرة ... ونحول جسم بالصبابة ينطق )
( أيقنت أن الخصر ضاع نحافة ... فلذا تدور جوى عليه وتقلق ) ومن هنا أخذ الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال
( وشاح من أحببته قال لي ... وهو الذي في قوله قد صدق )
( قد ضاع مني الخصر لما انثنى ... أما تراني دائرا في قلق ) وقال في شخص اسمه عثمان يهدده بالهجو
( توعدت يا عثمان بالهجو شاعرا ... سيوليك هجوا عاره ليس ينجلي )
( فخذها قصيدا قد أتت من محمد ... كجلمود صخر حطه السيل من عل ) وممن أبدر في أفق التورية عقود ونظم لالئها بدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي فمن لآئىء عقوده قوله
( صدوا وقد دب العذار بخده ... ما ضرهم لو أنهم خبروه )
( هل ذاك غير نبات خد قد حلا ... لكنهم لما حلا هجروه ) ومنه قوله
( عرج على الزهر يا نديمي ... ومل إلى ظله الظليل )
( فالروض يلقاك بابتسام ... والريح تلقاك بالقبول )
(2/87)
________________________________________
ومنه قوله وأجاد
( ورياض وقفت أشجارها ... وتمشت نسمة الصبح إليها )
( طالعت أوراقها شمس الضحى ... بعد أن وقعت الورق عليها )
قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام لما وقف على هذين البيتين نكتة التوقيع هنا أليق بابن عبد الظاهر لكن طلع واطلع عليه البدر وحفظ سره لما أضاعه ذلك الصدر ومنه قوله
( وحديقة مطلولة باكرتها ... والشمس ترشف ريق أزهار الربا )
( يتكسر الماء الزلال على الحصى ... فإذا جرى بين الرياض تشعبا ) ومن هنا أخذ الشيخ برهان الدين القيراطي فقال من قصيدة
( وكأن ذاك النهر فيه معصم ... بيد النسيم منقش ومكتب )
( فإذا تكسر ماؤه أبصرته ... في الحال بين رياضه يتشعب ) ويعجبني قوله من قصيدة كلها غرر ولولا خشية الإطالة لأوردتها بكمالها
( وتنبهت ذات الجناح بسحرة ... بالواديين فنبهت أشواقي )
( ورقاء قد أخذت فنون الحزن عن ... يعقوب والألحان عن إسحق )
( قامت تطارحني الغرام جهالة ... من دون صحبي بالحمى ورفاقي )
( أنى تباريني جوى وصبابة ... وكآبة وأسى وفيض مآقي )
( وأنا الذي أملى الجوى من خاطري ... وهي التي تملى من الأوراق ) ومنه قوله
( هلم يا صاح إلى روضة ... يجلو بها العاني صدا همه )
( نسيمها يعثر في ذيله ... وزهرها يضحك في كمه ) ومنه قوله
( أدر كؤوس الراح في روضة ... قد نمقت أزهارها السحب )
(2/88)
________________________________________
( الطير فيها شيق مغرم ... وجدول الماء بها صب ) ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال في نواعير حماة من طرديته
( ذات النواعير سقات الترب ... وأمهات عصفه والأب )
( تعلمت نوح الحمام الهتف ... أيام كانت ذات فرع أهيف )
( فكلها من الحنين قلب ... وكيف لا والماء فيها صب ) وقال ابن نباته في مطلع قصيدة
( دمعي عليك مجانس قلبي ... فارث على الحالين للصب )
ونكتة الصب تطفل عليها أيضا الشيخ صلاح الدين الصفدي ولكن ركبها تركيبا قلقا فقال
( وحقكم ما حلت عن سنن الوفا ... ولم ينقلب مني إلى سلوة قلب )
( وما أنا غر بالصبابة والهوى ... فأنكر دمعي إن جرى وأنا صب ) ويعجبني قول بدر الدين يوسف بن لؤلؤ من قصيدة
( باكر إلى الروضة تستجلها ... فثغرها في الصبح بسام )
( والنرجس الغض اعتراه الحيا ... فغض طرفا فيه أسقام )
( وبلبل الدوح فصيح على الأيكة ... والشحرور تمتام )
( ونسمة الريح على ضعفها ... لها بنا مر وإلمام )
( فعاطني الصهباء مشمولة ... عذراء فالواشون نوام )
( واكتم أحاديث الهوى بيننا ... ففي خلال الروض نمام ) ومن هنا أخذ الجميع حتى الشيخ صفي الدين الحلي مع أن التورية غير مذهبه فقال
(2/89)
________________________________________
( أقول وطرف النرجس الغض شاخص ... إلي وللنمام حولي إلمام )
( أيا رب حتى في الحدائق أعين ... علي وحتى في الرياحين نمام )
ولكن ما أخل بها الشيخ جمال الدين بن نباتة لئلا يخرج عن مذهبه فقال
( وأهيف ينهب أرواحنا ... ووجهه كالروض بسام )
( تنم خداه بقتل الورى ... فخده ورد وثمام ) وأخذها ابن الوردي أيضا ولكن زادها نكتة أخرى بقوله
( إن قال صف لي عذارى وصف مبتكر ... ووجنتي قلت خذ يا صنعة الباري )
( هذا عذارك نمام ومسكنه ... نار بخديك والنمام في النار ) ومنه قوله
( الروض أحسن ما رأيت ... إذا تكاثرت الهموم )
( تحنو علي غصونه ... ويرق لي فيه النسيم ) ومنه قوله
( البرد قد ولى فما لك راقدا ... يا أيها المدثر المزمل )
( أو ما ترى وجه الربيع وحسنه ... والروض يضحك والحيا يتهلل ) ومن لطائف تغزلاته قوله
( حلا نبات الشعر يا عاذلي ... لما بدا في خده الأحمر )
( فشاقني ذاك العذار الذي ... نباته أحلى من السكر ) ومثله في اللطف قوله
( شوقي إليك على البعاد تقاصرت ... عنه خطاي وقصرت أقلامي )
( واعتلت النسمات فيما بيننا ... مما أحملها إليك سلامي )
(2/90)
________________________________________
ومنه قوله
( تعشقته لدن القوام مهفهفا ... شهي اللمى أحوى المراشف أشنبا )
( وقالوا بدا حب الشباب بوجهه ... فيا حسنه وجها إلي محببا )
وقد تقدم القول أن أبا تمام أول من اخترع هذه النكتة ومن نكته الغريبة اللطيفة البديعة قوله
( وذي قوام أهيف ... بين الندامى قد نشط )
( قام يقط شمعة ... فهل رأيت الظبي قط ) وتطفل الناس بعده على هذه النكتة ومنه قوله
( وبمهجتي المتحملون عشية ... والركب بين تلازم وعناق )
( وحداتهم أخذت حجازا بعدما ... غنت وراء الركب في عشاق ) ومن هنا أخذ الناس بعد الشيخ بدر الدين كقول بعضهم
( قلت مذ غنى حجازا ... ليتنا في أصبهان ) ومنه قول الشيخ بدر الدين بن لؤلؤ
( لك مبسم عذب اللمى يفتر عن ... برد وسلسال الرضاب مرادي )
( وفم يحاكي الميم إلا أنه ... كم حوله عين تحوم كصاد )
وهذا المعنى أيضا تطفل عليه المتأخرون بعد الشيخ بدر الدين منهم الشيخ جمال الدين بن نباتة حيث قال
( يا عين آمالي إذا استجمعت ... إني إلى مورد لقياك صاد )
(2/91)
________________________________________
ويعجبني قوله من قصيدة ورى في بيتها الأول باسمه فقال
( قد أنحلتني الغوادي غير راحمة ... ومحقتني الليالي بعد إبدار )
( فكم أواري غراما من جوى وأسى ... زناده تحت أثناء الحشا واري )
( جيراننا كنتم بالرقمتين فمذ ... بعدتم صار دمعي بعدكم جاري ) ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال
( بروحي جيرة أبقوا دموعي ... وقد رحلوا بقلبي واصطباري )
( كأنا للمجاورة اقتسمنا ... فقلبي جارهم والدمع جاري ) وما أحلى قول بدر الدين من القصيدة المذكورة في الخمرة ولم يخرج عما نحن فيه من التورية فقال
( سارت لتقتص من قوم فما ربحت ... في حث كأس على الأوتار دوار )
( فالقوم من بعد قتلاها وما ظلمت ... وإنما أخذت منهم بأوتار ) ومن هنا أخذ القاضي أمين الدين الحمصي وكان كاتب السر الشريف بالشام المحروس فقال
( وقوس حاجبه يصمي كأن له ... مطالبات على قلبي بأوتار ) ويطربني قوله من قصيدة
( فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا )
( فأتبعته قلبا مطيعا على الغضى ... وخليت لي جفنا على السفح أطوعا ) ومن لطائفه الغريبة
( رفقا بصب مغرم ... أبليته صدا وهجرا )
( وافاك سائل دمعه ... فرددته في الحال نهرا ) هذا النهر ورد منه المتأخرون قاطبة ولولا طول الشرح لذكرت ذلك ومن لطائفه قوله
(2/92)
________________________________________
( يا عاذلي فيه قل لي ... إذا بدا كيف أسلو )
( يمر بي كل وقت ... وكلما مر يحلو ) ومن لطائف اتفاقه ونكته الغريبة قوله في نجم الدين بن إسرائيل وقد هوي مليحا يلقب بالجارح
( قلبك اليوم طائر ... عنك أم في الجوانح )
( كيف ترجي خلاصه ... وهو في كف جارح )
وكتب إليه وقد بلغه أنه سلا عن معشوقه المذكور
( خلصت طائر قلبك العاني ترى ... من جارح يغدو به ويروح )
( ولقد يسر خلاصه إن كنت قد ... خلصته منه وفيه روح ) ومن مخترعاته الغريبة قوله في الخمرة
( أبدى الحباب لها خطا فأحسن ما ... قد كان حرر من ميم ومن هاء )
( قديمة ذاتها في روض جنتها ... كانت وكان لها عرش على الماء ) ومن هنا أخذ الصاحب فخر الدين بن مكانس فقال من قصيدة السرحة
( فاستمهدت دوحها المخضل وافترشت ... نجم الربا ورقت عرشا على الماء )
ولكن لم يساعده في لفظة العرش اشتراك تورية بالنسبة إلى الشيخ بدر الدين فإن نسبة العروش إلى الكرم معروفة ومنه قوله في مليح نجار
( بروحي نجار حكى الغصن قده ... رشيق التثني أحور الطرف وسنان )
( يميل على الأعواد قطعا بما جنت ... وما سرقت من قده وهي أغصان ) ومن هنا أخذ جميع الناس وقال من قال
( قد لمت ذا الأهيف النجار وهو على ... الأشجار يقطع في أغصان خلاف )
( فقال لي عندها ثار تحد به ... لأنها سرقت من لين أعطافي )
(2/93)
________________________________________
وممن أحيا ما درس من رسوم التورية القاضي محيي الدين بن قرناص الحموي تغمده الله برحمته فمن نكته اللطيفة قوله
( سقيا له روضا قدود غصونه ... تختال في الأبراد من أوراقها )
( جنت به ورق الحمام صبابة ... أو ما ترى الأغلال في أعناقها ) ومن لطائف قوله
( مال القضيب بروضة من سكره ... لما سقاه عقاره أدرار )
( حتى إذا سرق النسيم دراهما ... من كمه صاحت به الأطيار ) ومثله قوله
( مذ أتينا نبغي زيارة دوح ... قد حبانا بالجود والإكرام )
( ناولتنا أيدي الغصون ثمارا ... أخرجتها لنا من الأكمام ) ومثله قوله وتلطف ما شاء في جمعه بين الاستعارة البديعة والتورية
( قد أتينا الرياض حين تجلت ... وتحلت من الندى بجمان )
( ورأينا خواتم الزهر لما ... سقطت من أنامل الأغصان ) ومنه قوله
( ورب نهر له عيون ... تحار في وصفه العيون )
( لما غدا الريق منه عذبا ... مالت إلى رشفه الغصون ) ومنه قوله
( أيا حسنها روضة قد غدا ... جنوني فنونا بأفنانها )
( أتى الماء فيها على رأسه ... لتقبيل أقدام أغصانها ) ومنه قوله
( تثنى الغصن إعراضا وعجبا ... على نهر يذوب أسى عليه )
( فرق له النسيم وجاء يسعى ... ملاطفة وميله إليه )
(2/94)
________________________________________
ومنه قوله وتلطف ما شاء
( ويوم قد قطعناه بروض ... يضاحك زهره شمس النهار )
( فكأن نهارنا طلق المحيا ... صبيح الوجه مخضر العذاب ) ومنه قوله
( أنعم فإن الدوح يا مالكي ... حمل من أجلك ما لا يطيق )
( يرقبك الطير على وكره ... وأعين الأزهار نحو الطريق ) وهذا المعنى أخذه الصاحب فخر الدين بن مكانس وزنا وقافية فقال
( والنرجس الغض غدا شاخصا ... فلا يخلي عينه للطريق ) ومنه قوله وتلطف ما شاء
( لو كنت إذ نادمت من أحببته ... في روضة أطيارها تترنم )
( لرأيت نرجسها يغض جفونه ... عنا وثغر أقاحها يتبسم ) ومنه قوله في معذر
( ووجنة قد غدت كالورد حمرتها ... وأشبه الآس ذاك العارض النضر )
( كأن موسى كليم الله أقبسها ... نارا وجر عليها ذيله الخضر ) وهذا المعنى استعمله بعضهم في شجرة نارنج فقال ولكن لم أعلم المخترع من هو
( نارنجة برزت في منظر عجب ... زبرجد ونضار صاغه المطر )
( كأن موسى كليم الله أقبسها ... نارا وجر عليها ذيلة الخضر ) ومنه قوله
( وروض قد أتت فيه معان ... يطيب به الندامى والمدام )
( يسامره النسيم إذا تغنت ... حمائمه ويسقيه الغمام )
(2/95)
________________________________________
ومنه قوله
( روضة من قرقف أنهارها ... وغناء الورق فيها بارتفاع )
( لا تلم أغصانها إن رقصت ... فهي ما بين شراب وسماع ) ومن لطائفه في أغزاله قوله
( هويت في مكتب غلاما ... قلبي بهجرانه جريح )
( أهيف أضحى قبيح خط ... وإنما شكله مليح ) ومنه قوله في مليح مؤذن
( ومؤذن أضحى كريما وجهه ... لكنه بالوصل أي شجيح )
( أبدا أموت بهجره لكنني ... من بعد ذاك أعيش بالتسبيح ) ومنه قوله
( قبلت خط عذاره لما بدا ... وهصرت لين قوامه المياس )
( وطلبت لي من خده المحمر ما ... يشفي قواي فجائني بالآس ( ي ) ) وهذه النكتة توارد هو وشمس الدين محمد بن العفيف عليها فقال
( من يعطف نحوي قلب هذا القاسي ... كم أذكره وهو لعهدي ناسي )
( أشكو سقمي لعارضيه وكذا ... يشكو دنف سقامه للأسي ( س ) ) وتطفل عليها بعدهما الشيخ صلاح الدين الصفدي فقال
( كم جرح القلب منه جفن ... كالسيف في صحة القياس )
( وطب آس العذار جرحي ... فصح أن الطيب آسى )
وابتذل المتأخرون بعدهم حجابها ونظمتها أنا ولكن زدتها نكتة أخرى من جنسها فترشحت وازدادت حسنا وهي قولي
( مذ جفاني ممرض القلب ولم ... ألق للضعف وللكسر انجبارا )
( قلت للعارض يا آسي إذا ... درت داري مرض القلب فداري )
(2/96)
________________________________________
ومن لطائفه في أغزاله قوله
( إن الذين ترحلوا ... نزلوا بعين ناظره )
( أنزلتهم في مقلتي ... فإذا هم بالساهره )
وهذه النكتة أيضا ابتذل المتأخرون حجابها كثيرا ومن ظرافات شمس الدين محمد ابن العفيف المشهور بالشاب الظريف قوله
( إذا حاولت حل البند قالت ... معاطفه حمانا لا يحل )
( وإن جليت بوجنته مدام ... يرى لعذاره دور ونزل ) وسبك أيضا تورية الدور في قالب اخر وجاء في غاية اللطف والغرابة بقوله
( لحاظك أسياف ذكور فما لها ... كما زعموا مثل الأرامل تغزل )
( وما بال برهان العذار مسلما ... ويلزمه دور وفيه تسلسل ) ومنه قوله فيما يكتب على كاس وأجاد
( أدور لتقبيل الثنايا ولم أزل ... أجود بنفسي للندامى وأنفاسي )
( وأكسو أكف الشرب ثوبا مذهبا ... فمن أجل هذا لقبوني بالكاس ( ي ) ) ومن هنا أخذ الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة وقال مضمنا
( يا صاح قد حضر الشراب ومنيتي ... وحظيت بعد الهجر بالإيناس )
( وكسا العذار الخد حسنا فاسقني ... واجعل حديثك كله في الكاس ( ي ) ) ويعجبني قوله وقد أهدى مجموعا
( يا أيها الصدر الذي وجه العلا ... منه يزان بمنظر مطبوع )
( لا تعتقد قلبي يحبك وحده ... ها قد بعثت لسيدي مجموعي ) ونكتة المجموع استعملها الشيخ جمال الدين وغيره ومن نكته البديعة التي لم يسبق إليها قوله
( كان ما كان وزالا ... فاطرح قيلا وقالا )
( أيها المعرض عنا ... حسبك الله تعالى )
(2/97)
________________________________________
وهذه أخذها صاحبنا المرحوم مجد الدين بن مكانس بنصها فقال من قصيدة
( يا غصنا في الرياض مالا ... حملتني في هواك مالا )
( يا رائحا بعد ما سباني ... حسبك رب السما تعالى ) ومن لطائفه في مليح رسام قوله
( قلت لرسامكم ... بك الفؤاد مغرم )
( قال متى أذيبه ... فقلت حين ترسم ) ومن لطائفه واختراعاته قوله
( قامت حروب الزهر ما ... بين الرياض السندسية )
( وأتت بأجمعها لتغزو ... روضة الورد الجنية )
( لكنها انكسرت لأن الورد ... شوكته قويه ) ومن لطائفه أيضا قوله
( يا ساكنا قلبي المعنى ... وليس فيه سواك ثاني )
( لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان ) ومن لطائفه أيضا قوله
( إني لأشكو في الهوى ... ما راح يفعل خده )
( ما كان يدري ما الجفا ... لكن تفتح ورده ) ومن هنا أخذ الشيخ صلاح الدين الصفدي فقال ولكن زاده نكتة
( أقول له ما كان خدك هكذا ... ولا الصدغ حتى سال في الشفق الدجا )
( فمن أين هذا الحسن والظرف قال ... لي تفتح وردي والعذار تخرجا ) ومن نكته البديعة قوله
( قد تعشقت خلافي ... ولي فيه معاني )
( كلما جادلني العاذل ... فيه ولحاني )
( جئته من عارضيه ... بدليل الدوران )
(2/98)
________________________________________
ومن اختراعاته اللطيفة قوله في مليح خيالي
( خيالي أخاف الهجر منه ... ولست أراه يرغب في وصالي )
( وكنت عهدتني قدما شجاعا ... فما لي صرت أفزع من خيالي ) وقال في زهر اللوز
( تبسم ثغر اللوز عن طيب نشره ... وأقبل في حسن يجل عن الوصف )
( هلموا إليه بين قصف ولذة ... فإن غصون الزهر تصلح للقصف ) ومثله قوله
( تمشي بصحن الجامع الشادن الذي ... على قده أغصان بان النقا تثني )
( فقلت وقد لاحت عليه حلاوة ... ألا فانظروا هذي الحلاوة في الصحن ) وقال
( يا ذا الذي نام عن غرامي ... ونبه الوجد والجوى لي )
( جفني جرى طيه دموع ... شوقا إلى وجهك الهلالي ) ومن اختراعاته الغريبة قوله
( عبتم على المحبوب حمرة شعره ... وأظنكم بدليله لم تشعروا )
( لا تنكروا ما احمر منه فإنه ... بدماء أرباب القلوب مضفر ) وقال في مليح زجاج
( قولوا لزجاجكم ذا الذي ... له محيا بالسنا يسفر )
( إن كنت في الصنعة ذا خبرة ... وكان معروفك لا ينكر )
( فما لأحداقك أقداحها ... في صحة من حسنها تكسر ) وقال أيضا
( كلف الفؤاد بظبية عجانة ... ما كنت يوما امنا من هجرها )
( عجنت فؤادي بالغرام فماؤها ... من أدمعي ودقيقها من خصرها )
(2/99)
________________________________________
وهذا المعنى تلاعب به الجماعة بعد ابن العفيف ولكن ما برح دقيقة خاصا وقال في ذم الحشيش وأجاد
( ما للحشيشة فضل عند اكلها ... لكنه غير مصروف إلى رشده )
( صفراء في وجهه خضراء في فمه ... حمراء في عينه سوداء في جسده ) وقال في مليح أصيبت عينه
( كان بعينين فلما طغى ... بسحره رد إلى عين )
( وذاك من لطف بعشاقه ... ما يضرب الله بسيفين )
وتورية السيف تناولها الجماعة بعد ابن العفيف ولولا خشية الإطالة لذكرت غالبها وقال في مليح بدوي
( بدوي كم جدلت مقلتاه ... عاشقا في مقاتل الفرسان )
( ذو محيا يصيح يا لهلال ... ولحاظ تقول يا لسنان ) وقال في مليح جرح بسكين
( لم تجرح السكين كف معذبي ... إلا لمعنى في الغرام يحقق )
( هي مثل ما قد قيل جارحة له ... ولكل جارحة إليه تشوق ) وقال في مليح مؤذن بالجامع الأموي
( فديت مؤذنا تصبو إليه ... بجامع جلق منا النفوس )
( يطير النسر من شوق إليه ... وتهوى أن تعانقه العروس )
هذان البيتان توارد على نكتتهما شمس الدين بن العفيف والشيخ جمال الدين بن نباتة ورأيتهما في ديوانه والبيت الأول بنصه والبيت الثاني فيه بعض تغيير وهو
( لقد زف الزمان لنا مليحا ... تكاد بأن تعانقه العروس ) وقال في مليح منير
( منير وجدي به ... أكتمه ويظهر )
( وكيف تخفى لوعتي ... وقد غدا ينير )
(2/100)
________________________________________
وقال أيضا يصف بساطا
( بساط يملأ الأحداق حسنا ... ويهدي للقلوب به سرورا )
( ويشرح حين يبسط كل صدر ... وخبر البسط ما يرضي الصدورا ) وقال من دو بيت
( الصب بحبكم عراه الوله ... في طوع هواكم عصى عذله )
( إيضاح غرامه غدا تكملة ... إذ كان مفصل الهوى مجمله ) وقال أيضا
( أفدي عربا بوادي الجزع ... يا وحشة ناظري لهم في الربع )
( لما بحثوا عندي في فرقتنا ... أنشأت لهم مسائلا من دمعي ) ومنه قوله
( يقول وقد رنا عن لحظ ظبي ... وهز الغصن في ورق الغلائل )
( أأقتلكم بطرفي أم بعطفي ... فقلت بما تشا فالكل ذابل ) وهذه النكتة أخذها الشيخ جمال الدين بقافيتها وقال
( له معطف لدن القوام ومرشف ... رقيق على التقبيل فالكل ذابل )
وقال الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتابه الذي جمعه من إملاء الشيخ أثير الدين أبي حيان وسماه مجاني الهصر من أدب أهل العصر أنشدني الشيخ أثير الدين قال أنشدني شمس الدين محمد بن العفيف في مليح طباخ
( رب طباخ مليح ... فاتر الطرف غرير )
( مالكي أصبح لكن ... شغلوه بالقدور ) قال الشيخ صلاح الدين وأنشدني الشيخ أثير الدين قال أنشدني شمس الدين محمد ابن العفيف لنفسه
(2/101)
________________________________________
( ليس خليلا لي ولكنه ... يضرم في الأحشاء نار الخليل )
( يا ردفه جرت على خصره ... رفقا به ما أنت إلا ثقيل )
وهذه النكتة تلاعب بها غالب المتأخرين بعد ابن العفيف ومن لطائفه قوله وقد احتجب بعض أصحابه عنه
( ولقد أتيت إلى جنابك قاضيا ... باللثم للعتبات بعض الواجب )
( وأتيت أقصد زورة أحيا بها ... فرددت يا عيني هناك بحاجب ) هذه النكتة أخذها الشيخ جمال الدين بن نباتة غفر الله له بقافيتها فقال
( حجبتني فازددت عندي علا ... برغم من أقبل كالعاتب )
( وقلت لا أعدم من سيدي ... من كان عيني فغدا حاجبي ) وألم الشيخ زين الدين بن الوردي بهذه النكتة ولكن سبكها في غير هذا القالب بقوله
( زرتكم صحبة وودا ... ألفيتكم مغلقين بابا )
( سعيي إلى بابكم جنون ... عليه أستأهل الحجابا ) ومن لطائفه في أغزاله قوله
( وكم يدعي صونا وهذي جفونه ... بفترتها للعاشقين يواعد )
( وكم يتجافى خضره وهو ناحل ... وكم يتحالى ريقه وهو بارد ) ومن هنا أخذ الشيخ صفي الدين الحلي وليته ما قال
( وما فيه شيء ناقص غير خصره ... وما فيه شيء بارد غير ريقه ) ومنه قوله
( أيسعدني يا طلعة البدر طالع ... ومن شقوتي خط بخدك نازل )
( ولو أن قسا واصف منك وجنة ... لأعجزه نبت بها وهو باقل )
(2/102)
________________________________________
الذي يظهر لي أن النكتة في باقل من اختراعات ابن العفيف فإني لم أجد أحدا ممن تقدمه ألم بها ولكن ما صبر الشيخ جمال الدين عنها لحسنها فقال من قصيدة ضمنا
( تطاولت الأغصان تحكي قوامه ... وعند التناهي يقصر المتطاول )
( وأعيا فصيح الوقت نبت عذاره ... وعير قسا بالفهاهة باقل ) وكذلك الشيخ زين الدين بن الوردي ما صبر عنها حتى قال
( وبي أغيد من حسنه البدر خائف ... على نفسه والنجم في الغرب مائل )
( فلو رام قس وصف باقل خده ... لعير قسا بالفهاهة باقل )
ومن لطائف قوله
( يا خاله خضرة بعارضه ... حرستها عن متيم مغرى )
( كف عن العاشقين مقتصرا ... هل أنت إلا حويرس الخضرا ) ومن نكته اللطيفة قوله
( زار وجيب الظلام منسدل ... فانشق ثوب الدجى عن الفجر )
( وبت من صدغه ومبسمه ... أجمع بين الحشيش والخمر ) هذه النكتة أخذها الشيخ زين الدين بمعناها وقال
( ومليح قال جهرا ... يا نفوس الناس عيشي )
( من رضابي وعذاري ... بين خمر وحشيش ) ومن لطائف نكت ابن العفيف قوله
( وأتى بوجه كالهلال مركب ... من قامة غصنية هيفاء )
( وبمقلة خفق الفؤاد وقد رنت ... وكذا الجنون يكون عن سوداء )
(2/103)
________________________________________
ومن لطائف اختراعاته قوله
( بدا وجهه من فوق أسمر قده ... وقد لاح من سود الذوائب في جنح )
( فقلت عجيب كيف لم يذهب الدجى ... وقد طلعت شمس النهار على رمح ) ومنه قوله والنكتة غريبة وبديعة
( أسكرني باللفظ والمقلة الكحلاء ... والوجنة والكاس )
( ساق يريني قلبه قسوة ... وكل ساق قلبه قاس ( ي ) ) ومن لطائفه أيضا قوله
( يا باعثا شعره انتشارا ... بقامة ما لها نظير )
( الموت من ناظريك لكن ... من شعرك البعث والنشور ) ومن لطائفه قوله في مليح اسمه مالك
( مالك قد أحل قتلي برمح القد ... منه وراح قلبي طعينه )
( ليس يفتي سواه في قتل صب ... كيف يفتى ومالك بالمدينة ) ومنه قوله من حسن التضمين
( جلا ثغرا وأطلع لي ثنايا ... يسوق بها المحب إلى المنايا )
( وأنشد ثغره يبغي افتخارا ... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ) ومن لطائفه قوله
( بأبي شادن غدا الوجه منه ... يخجل النيرين في الإشراق )
( سلب القضب لينها فهي غيظى ... واقفات تشكوه بالأوراق )
(2/104)
________________________________________
البيت الثاني بلفظه ومعناه تقدم لابن عبد الظاهر والله أعلم أيهما السابق وابتذل حجاب هذه النكتة بعد ذلك المتأخرون منهم الشيخ زين الدين بن الوردي بقوله
( قده جار اعتدالا ... فله فتك ونسك )
( سلب الأغصان لينا ... فهي بالأوراق تشكو ) ومن نكته البديعة الغريبة قوله
( ومستتر من سنا وجهه ... بشمس لها ذلك الصدغ في )
( كوى القلب مني بلام العذار ... فعرفني أنها لام كي ) ومن لطائفه قوله
( كأنني واللواحي في محبته ... في يوم صفين قد قمنا بصفين )
( وكيف يطلب صلحا أو موافقة ... ولحظه بيننا يسعى بسيفين ) ومن نكته التي تطفل الناس بعده عليها قوله
( بأبي أفدي حبيبا ... تيم القلب غراما )
( عذر العاذل فيه ... مذ رأى العارض لاما ) وقال
( لولم تكن ابنة العنقود في فمه ... ما كان في خده القاني أبو لهب )
( تبت يدا عاذلي فيه فوجنته ... حمالة الورد لا حمالة الحطب ) أخذه ابن نباتة وقال
( حمالة الحلى والديباج قامته ... تبت غصون النقا حمالة الحطب )
قلت ورد ابن العفيف أغلى من ديباج ابن نباتة من حيث المناسبة الأدبية والله أعلم وهذه النكتة أيضا أغار عليها المعمار بقوله
( تعرض البدر يحكي حسن صورته ... فراح منكسفا وانشق بالغضب )
( وبانة الجزع ماست مثل قامته ... تبت وقد أصبحت حمالة الحطب )
(2/105)
________________________________________
وممن أحسن المباشرة في نظم التورية سيف الدين بن المشد
فمن نكته البديعة الغريبة قوله
( مسكية الأنفاس تملي الصبا ... عنها حديثا قط لم يملل )
( جننت لما أن سرى عرفها ... وما نرى من جن بالمندل ) ومن لطائفه قوله
( ومجلس راق مر واش يكدره ... ومن رقيب له باللوم إيلام )
( ما فيه ساع سوى الساقي وليس به ... على الندامى سوى الريحان نمام )
هذه النكتة تقدمت للبدر بن لؤلؤ الذهبي وذكرت من أغار عليها من الجماعة ولكن الأمير سيف الدين زادها نكتة أخرى بديعة واستعملها أحسن من الجماعة ومن لطائفه قوله
( وشاذن أورد في هجره ... لهيب حر الشوق والفرقه )
( أصبحت حران إلى ريقه ... فليت لي من قلبه رقه )
هذه النكتة نظمتها في مبادي العمر ولم أقف على قول ابن المشد إلا بالديار المصرية في الأيام المؤيدية فقلت
( أرشفني ريقه وعانقني ... وخصره يلتوي من الدقة )
( فبت من خصره وريقته ... أهيم بين الفرات والرقه ) ومن لطائفه قوله
( في يوم غيم من لذاذة جوه ... غنى الحمام وطابت الأنداء )
( والروض بين تكبر وتواضع ... شمخ القضيب به وخر الماء ) ومن لطائفه أيضا قوله
( أذن القمري فيها ... عند تهويم النجوم )
( فانثنى الغصن يصلي ... بتحيات النسيم )
(2/106)
________________________________________
ومن لطائفه قوله
( لئن صرفت وحاشاك ... فالدنانير تصرف )
( وما اعتقلت كريما ... إلا وأنت مثقف ) ومن لطائفه قوله
( الحمد لله في حلي ومرتحلي ... على الذي نلت من عملي ومن علمي )
( بالأمس كنت إلى الديوان منتسبا ... واليوم أصبحت والديوان ينسب لي ) ومن لطائفه قوله
( لعبت بالشطرنج مع شادن ... رشاقة الأغصان من قده )
( أحل عقد البند من خصره ... وألثم الشامات من خده )
تورية الشامات رخصها المتأخرون بعد سيف الدين بن المشد وممن أخذها الشيخ جمال الدين بن نباتة فقال
( أفديه لاعب شطرنج قد اجتمعت ... في شكله من معاني الحسن أشتات )
( عيناه منصوبة للقلب غالبة ... والخد فيه لقتل النفس شامات )
انتهى ما تخيرته ووعدت بإيراده في باب التورية من كلام هذه العصابة التي مشت تحت العصائب الفاضلية وصار لها من بعده في نظم التورية أعظم روية وقدمت إمامهم الذي صلت الجماعة خلفه وهو القاضي الفاضل وبعده القاضي السعيد ابن سنان الملك والشيخ سراج الدين الوراق وأبو الحسين الجزار ونصير الدين الحمامي وناصر الدين حسن بن النقيب والحكيم شمس الدين بن دانيال والقاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر وهذه هي الفرقة التي تقدمت بعد الفاضل بالديار المصرية وأما الفرقة الشامية فإمام جماعتها الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة وبعده مجير الدين بن تميم وبدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي ومحيي الدين بن قرناص الحموي وشمس الدين بن العفيف وسيف الدين بن المشد
ولكن عجبت من الشيخ صلاح الدين الصفدي كيف أخل في كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام بذكر الشيخ علاء الدين علي بن المظفر الكندي الشهير بالوداعي وهو أشهر من قفا نبك في نظم التورية بل هو امرؤ قيسها وكنديها وإذا
(2/107)
________________________________________
ذكر شرف نسبها فإنه علويها وانتقل من حلب إلى دمشق المحروسة وعاصر الجماعة المذكورين ومولده سنة أربعين وستمائة ووفاته سنة ست عشرة وسبعمائة فكانت مدة حياته ستا وسبعين سنة ومولد السراج الوراق سنة خمس عشرة وستمائة ووفاته سنة خمس وتسعين وستمائة فكانت مدة حياته ثمانين سنة ومولد أبي الحسين الجزار سنة إحدى وستمائة ووفاته سنة اثنتين وسبعين وستمائة فمدة حياته إحدى وسبعون سنة ووفاة نصير الدين الحمامي لسنة اثنتي عشرة وسبعمائة ووفاة ناصر الدين بن النقيب سنة سبع وثمانين وستمائة ووفاة الحكيم بن دانيال سنة عشرة وسبعمائة ومولد محيي الدين ابن عبد الظاهر سنة عشرين وستمائة ووفاته سنة اثنتين وتسعين وستمائة فمدة حياته اثنتان وسبعون سنة ومولد شيخ الشيوخ الأنصاري سنة ست وثمانين وخمسمائة ووفاته سنة إحدى وستين وستمائة فمدة حياته خمس وسبعون سنة ووفاة مجير الدين بن تميم سنة إحدى وثمانين وستمائة ووفاة بدر الدين يوسف الذهبي سنة ثمانين وستمائة ومولد شمس الدين بن العفيف سنة اثنتين وستين وستمائة ووفاته سنة سبع وثمانين وستمائة فمدة حياته خمس وعشرون سنة ومولد سيف الدين بن المشد سنة اثنتين وستمائة ووفاته سنة خمس وخمسين وستمائة فمدة حياته ثلاث وخمسون سنة وجل القصد من ذلك تحقيق الواقف على هذا الشرح إن علاء الدين الوداعي عاصر الجماعة أو غالبهم وقد تقدم قولي في باب التوجيه إن الشيخ علاء الدين الوداعي سبك التورية في قوالب لم يسبقه أحد من هذه الجماعة إليها ولا سقط فكره عليها
ومع علو قدر الشيخ جمال الدين بن نباتة وهو الذي مشت ملوك الأدب قاطبة بعد الفاضل تحت أعلامه تطفل على موائد نكت الوداعي ومعانيه وعلى الأنواع الغريبة من تواريه وأوردت هناك من هذا القدر نبذة ولكن تعين إيرادها هنا كاملة لأنها حق من حقوق التورية وصل في تقدمه إلى غير مستحقه بحيث أن الطالب إذا أراد أن يفرد هذا النوع أعني التورية كان بإفراده فريدا وعقدا نضيدا وكلما أوردته من أنواع التورية في غير بابه عزمت على نظم شمله هنا ليجتمع كل غريب بأقاربه وأنسابه وقد عن لي أنني إذا فرغت من هذا الشرح أن أفرد بابا للتورية والاستخدام وأجعلهما مصنفا مفردا وأسميه كشف اللثام عن وجه التورية والاستخدام فإن الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتابه لم يشف القلوب بترتيبه ولا تفقه في بديعه وغريبه
فمن موائد الوداعي التي تطفل الشيخ جمال الدين بن نباتة عليها قوله من قصيدة
( أثخنت عينها الجراح ولا إثم ... عليها لأنها نعساء )
( زاد في عشقها جنوني فقالوا ... ما بهذا فقلت بي سوداء )
(2/108)
________________________________________
أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة فقال من مطلع قصيدة
( قام يرنو بمقلة كحلاء ... علمتني الجنون بالسوداء )
والشيخ جمال الدين بن نباتة أدرك الوداعي وهو في عنفوان شبابه ولمعان سيوف آدابه وقد تقدم مولد الوداعي ووفاته ومولد الشيخ جمال الدين سنة ست وثمانين وستمائة وتوفي سنة ثمان وستين وسبعمائة فمدة حياته اثنتان وثمانون سنة وعلى هذا كان سن الشيخ جمال الدين ابن نباتة عند وفاة الوداعي ثلاثين سنة والله أعلم ومما نعطف به على ما تقدم قول الوداعي
( إذا رأيت عارضا مسلسلا ... في وجنة كجنة يا عاذلي )
( فاعلم يقينا أنني من أمة ... تقاد للجنة بالسلاسل ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وزنا وقافية وقال
( أفدي الذي ساق إليها مهجتي ... فرع طويل تحت حسن طائل )
( قلبي بصدغيها إلى طلعتها ... يقاد للجنة بالسلاسل ) ومن ذلك قول الشيخ علاء الدين الوداعي ( لقد سمح الزمان لنا بيوم ... غدا فيه السمي مع السمي )
( تجمعنا كأنا ضرب خيط ... علي في علي في علي ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضا وزنا وقافية وقال
( علوت اسما ومقدارا ومعنى ... فيا لله من حسن جلي )
( كأنكم الثلاثة ضرب خيط ... علي في علي في علي ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي
( من اخذ من خده ... بدم الشهيد المغرم )
( فالريح ريح المسك منه ... ولونه لون الدم ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال
( لا ينكر الكاسر من جفنه ... دم الشهيد الصابر المغرم )
( فالريح ريح المسك من خده ... كما ترى واللون لون الدم )
(2/109)
________________________________________
قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة
( يفتن بالفاتر من طرفه ... وريقه البارد يا حار )
أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال من قصيدة
( لو ذقت برد رضاب من مقبله ... يا حار ما لمت أعضائي التي ثملت ) مع أن الشيخ جمال الدين فتر عن الفاتر وقال الشيخ علاء الدين الوداعي
( قيل إن شئت أن تكون غنيا ... فتزوج وكن من المحصنينا )
( قلت ما يقطع الإله بحر ... لم يضع بين أظهر المسلمينا ) أخذه الشيخ جمال الدين بالقافية وقال
( قال لي خلي تزوج تسترح ... من أذى الفقر وتستغني يقينا )
( قلت دع نصحك واعلم أنني ... لم أضع بين ظهور المسلمينا )
قلت إن قافية محصنين أصدق من يقين ابن نباتة في مقطوعه
قال الشيخ علاء الدين الوداعي مضمنا
( يا عاذلي في النكاريش اطرح عذلي ... واعذر فعذري فيهم واضح حسن )
( فالمرد إن حاولوا حربي بهجرهم ... إذا لقام بنصري معشر خشن ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة فقال
( لو اذنتني عذالي بحربهم ... إذ في النكاريش قد أصبحت هيمانا )
( إذا لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة ان ذو لوثة لانا ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة
( عذب مقبله وحلو لحظه ... أو ما تراه بالنعاس معسلا )
(2/110)
________________________________________
أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال من قصيدة
( معسل بنعاس في لواحظه ... أما تراها إلى كل القلوب حلت ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي من القصيدة المذكورة
( ألحاظه وهي السيوف كليلة ... ويكون تعذيب الكليلة أطولا ) أخذه الشيخ جمال الدين مع القافية وقال من قصيدة
( بليت به ساجي اللحاظ كليلها ... وما زال تعذيب الكليلة أطولا ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة
( والنهر كالمبرد يجلو الصدا ... ببرده عن قلب ظمآنه ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال من قصيدة
( والنهر فيه كمبرد ... فلأجل ذا يجلو الصدا )
لكن نقص نهره وكل مبرده عن نكتة ببرده في بيت الوداعي فإن الشيخ جمال الدين حط مكانها في بيته فلأجل ذا وشتان
قال الشيخ علاء الدين الوداعي في مطلع قصيدة
( ما كنت أول مغرم محروم ... من باخل بادي النفار كريم ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال من قصيدة
( مبخل يشبه ريم الفلايا ... طول شجوي من بخيل كريم ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي في مليح أعمى
( بروحي غزال راح في الحسن جنة ... تعشقته عمى فهمت من الوجد )
( إذا ما تردى قائدا بيمينه ... تيقنت حقا أنه جنة الخلد ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة بالقافية وقال
( أفديه أعمى مغمدا لحظه ... ليرتعي في خده الوردي )
( تمكنت عيناي من وجهه ... فقلت هذي جنة الخلد )
(2/111)
________________________________________
قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة
( بخلت علي بدر مبسمها ... فغذت مطوقة بما بخلت ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال من قصيدة
( بخلت بلؤلؤ ثغرها عن لاثم ... فغدت مطوقة بما بخلت به )
هذا المعنى استحقيته على الشيخ علاء الدين الوداعي والشيخ جمال الدين بن نباتة فإني زدت الاقتباس من الحديث تورية بقولي
( ناحت مطوقة الرياض وقد جرى ... دمعي الملون بعد فرقة حبه )
( لكن بتلوين الدموع تباخلت ... فغدت مطوقة بما بخلت به ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة يصف مليحا من المغل
( وما يبري هوى المشتاق ... إلا ذلك المغلي ) قال الشيخ جمال الدين من قصيدة
( من المغل أشكو نحوه ألم الجوى ... وطب الهوى عندي كما قيل بالمغلي ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي
( يا نديمي والذي عاهدني ... أنه عن شربها لن يقصرا )
( اسقني صرفا ودع عذالنا ... يضربون الماء حتى يخصرا ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال
( اسقني صرفا من الراح ... تحت الهم حتا ) ( ودع العذال فيها ... يضربون الما حتى ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي من مطلع قصيدة
( باللوى صعدة عليها لواء ... كل طعنات نصلها نجلاء )
(2/112)
________________________________________
وقال بعد المطلع ( لا تخل عندها سماعا لشكوى ... فلهذا قالوا لها صماء ) قال الشيخ جمال الدين بن نباتة في مطلع قصيدة
( وعدت بطيف خيالها أسماء ... إن كان يمكن مقلتي إغفاء ) وقال بعد المطلع
( يا من يطيل من الجوى لقوامها ... شكواه وهي الصعدة الصماء ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي
( يا ربوة أطربتني ... وحسنت لي هتكي )
( إذ لست أبرح فيها ... ما بين دف وجنك ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال
( بالجنك من مغنى دمشق حمائم ... في دف أشجار تشوق بلطفها )
( فإذا أشار لها الشجي بكأسه ... غنت عليه بجنكها وبدفها ) وتطفل أيضا الشيخ صلاح الدين الصفدي على الوداعي في جنكه ودفه فقال
( انهض إلى الربوة مستمتعا ... تجد من اللذات ما يكفي )
( فالطير قد غنى على عوده ... في الروض بين الجنك والدف ) وتطفل على الوداعي أيضا الشيخ زين الدين بن الوردي وتزاحم هو والصفدي على العود ( دمشق قل ما شئت في وصفها ... واحك عن الربوة ما تحكي )
( فالطير قد غنى على عوده ... في الروض بين الدف والجنك ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة يصف نار شوقه لمحبوبه مع كتمان سره
( في حشاه للشوق نار تلظى ... وبفيه حفظا لسرك ماء )
(2/113)
________________________________________
أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة بالقافية وقال من قصيدة ولكن زاده حسنا
( فيا عجبا مني لإنسان مقلتي ... يحدث أخباري وفي فمه ماء )
ومن لطائف الوداعي ونكته في العود الذي أخذه منه الشيخ صلاح الدين الصفدي والشيخ زين الدين بن الوردي واستعملاه بلا أوتار قوله
( والروض يهدي مع نسيم الصبا ... نشر خزاماه وريحانه )
( وراسل القمري ورقاءه ... شدوا على أوتار عيدانه ) ويعجبني من هذه القصيدة قوله مشيرا إلى رأس العين ببعلبك
( يا حادي الأظعان إن شارفت ... من بعلبك سفح لبنانه )
( فاقرأ تحياتي على نازل ... في محجر العين كإنسانه ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة
( يا جيرة بالغوير قد نزلوا ... الله من جيرة ونزال )
( ما عطل الطرف بعد فرقتكم ... من دمعه واكشفوا عن الحال ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال
( حلوا بعقد الحسن أجيادهم ... وحاولوا صبري حتى استحال )
( فآه من عاطل صبر مضى ... والحمد لله على كل حال ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي وأجاد إلى الغاية
( قالت الورق إذ شدا ... فشجاها وشوقا )
( ما رأينا مقرطقا ... قبل هذا مطوقا ) ومثله في تورية المطوق
( يا جنة كوثرها ... رضا به المروق )
( وفوق غصن قده ... عذاره مطوق )
(2/114)
________________________________________
ومثله قوله
( فديت من مبسمه ... زهرا لغصن قده )
( وصدغه مطوق ... في روضة من خده )
النكتة في المطوق من اختراعات الوداعي وتطفل عليها الشيخ جمال الدين بن نباتة حتى في تسمية كتابه ومن نظمه فيها قوله
( طوق جود الوزير جيدي ... فلست عن مدحه أعوق )
( أسجع بالمدح في علاه ... لا غرو أن يسجع المطوق ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي
( لي من الطرف كاتب يكتب الشوق ... إليه إذا الفواد أمله )
( سلسل الدمع في صحيفة خدي ... هل رأيتم مسلسلات ابن مقله )
هذا المعنى قلبه ابن نباتة بعد الوداعي كثيرا وسبكه في قوالب كثيرة وأظنه أخذه وزنا وقافية بقوله
( قلت للكاتب الذي ما أراه ... قط إلا ونقط الدمع شكله )
( إن تخط الدموع في الخد خطا ... ما يسمى فقال خط ابن مقله ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة
( قلبي مطبع في هواك وأنت لي ... من بين دوح الحسن غصن خلاف ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال في مطلع قصيدة
( قاسي الجوانح لين الأعطاف ... أهواه في الحالين غصن خلاف ) قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة
( كيف أقوى لحمل سخط وبعد ... بعدما كان من رضا وتداني )
( فتكرم بعطفة والتفات ... مثل ما في الأغصان والغزلان )
أخذه الشيخ جمال الدين فقال من قصيدة
( غزال رمل ولكن غير ملتفت ... وغصن بان ولكن غير منعطف )
(2/115)
________________________________________
ومن لطائف الشيخ علاء الدين الوداعي ونكته الغريبة قوله
( قال لي العاذل المفند فيها ... يوم وافت فسلمت مختاله )
( قم بنا ندعي النبوة في العشق ... فقد سلمت علينا الغزاله ) أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة فقال
( يا غزالا أهدى السلام إلى المغرم ... لا تنكرن حالا لديه )
( كيف لا يدعي النبوة في العشق ... وقد سلم الغزال عليه ) وأخذه الشيخ صفي الدين الحليي فقال في ثلاثة أبيات تركيبها ضعيف
( تنبأ فيك قلبي واسترابت ... قلوب صدهم عنه ضلال )
( وردهم الهوى أن يؤمنوا بي ... وقالوا إن معجزه محال )
( فمذ سلمت سلمت البرايا ... إلي وقيل كلمه الغزال )
ومن لطائف الشيخ علاء الدين الوداعي أيضا ونكته الغريبة قوله على لسان صديق اسمه عمرو قد هام بمليح في إحدى أذنيه لؤلؤة
( كم قلت لما مر بي ... مقرطق يحكي القمر )
( هذا أبو لؤلؤة ... منه خذوا ثأر عمر ) ومن لطائفه أيضا في مليح اسمه سعد
( إذا ما كان قتلي يا حياتي ... مرادك من يردك أو يصد )
( ففوق سهم طرفك نحو قلبي ... فداك أبي وأمي وارم سعد ) ومن لطائفه أيضا في مليح بدوي
( أقبل من حيه وحيا ... فأشرقت سائر النواحي )
( فقلت يا وجه من بني من ... فقال لي من بني صباح )
(2/116)
________________________________________
ومن نكته البديعة الغريبة قوله
( تعجبوا لما غدت أدمعي ... بيضا وراحت كالدم القاني )
( لا تعجبوا طرفي رب الهوى ... فكل يوم هو في شان ) ومن نكته البديعة الغريبة أيضا قوله
( وليلة خلت مجلسنا سماء ... وصحبي كالثريا في اجتماع )
( فبات الطرف يرعى البدر منهم ... إلى أن حل منزلة الذراع ) ومن نكته البديعة الغريبة أيضا قوله من دو بيت
( يا غصن نقا أينع بالأزهار ... يا ألطف من نسيمة الأسحار )
( ريحان عذارك الذي تيمني ... من ولده من قلم الأشعار ) ومن لطائفه قوله من دو بيت أيضا
( لما حجب الكرى عن الآماق ... وانقاد مع العدى على العشاق )
( ناديت وقد تزايدت أشواقي ... يا غصن رضيت منك بالأوراق ) ومن لطائفه الغريبة قوله فيمن يبيع السكر بالدين
( أرى من الواجب أن يصرف العطار ... بالصد وبالزجر )
( فأي تصريف وذوق لمن ... يدين السكر بالصبر ) ومن نكته الغريبة أيضا من قصيدة
( يا طالبا للكيمياء ولم ... يحصل على عين ولا أثر )
( زر لاثما عتبات ساحته ... تظفر إذا بمكرم الحجر ) وهذا المعنى تطفل عليه الشيخ جمال الدين بن نباتة وكثير من الناس بعد الوداعي
(2/117)
________________________________________
ومن لطائفه قوله
( يا عز والله العزيز الذي ... قضى على نفسي بإذلالها )
( له خطرت من نحوكم نسمة ... إلا تعرضت لتسآلها )
( ولا سرت منا إلى أرضكم ... إلا تمسكت بأذيالها ) ومن لطائف مجونه قوله
( لنا شاعر قد هذب الطبع شعره ... وأصبح عاصيه على فيه طيعا )
( إذا خمس الناس القصيد لحسنه ... يحق لشعر قاله أن يسبعا ) ومن نكته البديعة الغريبة قوله مع حسن التضمين
( وشادن مثل الضحى وجهه ... كتمت عشقي فيه خوف الرقيب )
( حتى بدا ليل عذار له ... فبحت والليل نهار الأديب ) ومن لطائفه التي تقدم بها قوله
( كلما رمت فيك إنكار حبي ... من عذول يزيد في تعنيفي )
( عرفته لام العذار غرامي ... بك واللام الة التعريف ) ومن نكته التي هي نوع من السحر قوله في مطلع قصيدة
( أعيذ ريم الترك بالروم ... والصدغ مع فيه بحم ) وما أحلى ما قال بعده ولم يخرج من مطابقة التورية
( وخده المشرق قد صح في ... عذاره المعوج تقويمي ) ومن نكته البديعة الغريبة المطربة قوله
( وأغن ساجي الطرف ذي هيف ... والواو في وأغن للقسم )
(2/118)
________________________________________
( قالت خلاخله أيمكنني ... نطق وماء الساق ملء فمي ) ومن نكته البديعة الغريبة قوله من قصيدة
( وكأن ريق النحل ريقتها ... فيها الشفاء لمهجة نحلت ) ومن لطائفه قوله
( ويوم لنا بالنيرين رقيقة ... حواشيه خال من رقيب يشينه )
( وقفنا وسلمنا على الدوح بكرة ... فردت علينا بالرؤوس غصونه ) ومن لطائفه أيضا قوله
( وذي دلال أهيف أحور ... أصبح في عقد الهوى شرطي )
( طاف على القوم بكاساته ... وقال ساقي قلت في وسطي ) ومن نكته البديعة الغريبة قوله
( رو بمصر وبسكانها ... شوقي وجدد عهدي الخالي )
( وارو لنا يا سعد عن نيلها ... حديث صفوان بن عسال ) ومن اختراعاته البديعة الغريبة قوله
( سقيا لكرم مدامة ... أنشت لنا النشوات ليلا )
( خلعت علينا سكرة ... بدوية كما وذيلا ) ومن نكته البديعة الغريبة قوله
( رمتني سود عينيه ... فأصمتني ولم تبطي )
( وما في ذاك من بدع ... سهام الليل لا تخطي )
(2/119)
________________________________________
أخذه الشيخ جمال الدين بالقافية وقال
( وأغيد كل شيء فيه يعجبني ... كأنما هو مخلوق على شرطي )
( أجفانه الود ما تخطي إذا رشقت ... سهامها وسهام الليل لا تخطي ) ويعجبني من نكته الغريبة قوله من قصيدة
( أهل نجد هل تنجدون محبا ... صاده بالغوير ظبي ملول )
( كم دماء مطلولة في هواه ... وبها روض خده مطلول )
( وحديث عن السقام صحيح ... قد رواه عن طرفه مكحول ) وقال وقد عينه الوزير لرحبة مالك بن طوق
( حاشاك أن تختار لي رحبة ... لست إليها الدهر بالسالك )
( لأنها نار تلظى أما ... ترونها تعزى إلى مالك ) ومن نكته التي ما حام فكر غيره عليها قوله
( وفي أسانيد الأراك حافظ ... للعهد يروي صبره عن علقمه )
( وكلما ناحت به حمامة ... روى حديث دمعه عن عكرمه ) التورية في علقمة وفي عكرمة أيضا فإنه اسم للحمامة
ومثله في الغرابة أيضا قوله وقد توجه من دمشق إلى البلقاء لزيارة صاحب له يلقب بالشمس فلما وصل إلى البلقاء وجده قد توجه إلى حسبان فكتب إليه
( أتيت إلى البلقاء أبغي لقاءكم ... فلم أركم فازداد شوقي وأشجاني )
( فقالت لي الأقوام من أنت قاصد ... لرؤياه قلت الشمس قالوا بحسبان )
انتهى ما أوردته من ترجمة الشيخ علاء الدين الوداعي ومن غرائب نكته البديعة في باب التورية وأبدت سمو رتبته بتطفل مثل الشيخ جمال الدين بن نباتة على موائد
(2/120)
________________________________________
بدائعه وغرائبه ولكن أقول إن الجزاء من جنس العمل فكما أغار الشيخ جمال الدين على الوداعي ودخل إلى بيوته وابتذل حجاب بنات فكره قيض الله له الشيخ صلاح الدين الصفدي فإن الشيخ جمال الدين رحمه الله كان يخترع المعنى الذي لم يسبق إليه ويسكنه بيتا من أبياته العامرة بالمحاسن فيأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي بلفظه ولم يغير فيه غير البحر وربما عام به في بحر طويل يفتقر فيه إلى كثرة الحشو واستعمال ما لا يلائم فلم يصبر الشيخ جمال الدين على ذلك وصنف كتابا ألفه من نظمه ونظم الشيخ صلاح الدين الصفدي وسماه خبز الشعير يعني أنه مأكول مذموم واستهل خطبته بقوله تعالى ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا ) ورتب كتابه المذكور على قوله قلت أنا فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال وكنت أوردت من خبز الشعير نبذة في أوائل هذا الكتاب ولكن لم يرض باب التورية إلا بإيراده هنا كاملا لأنه حق من حقوقها فمن ذلك قول الشيخ جمال الدين بن نباتة قلت
( ومولع بفخاخ ... يمدها وشباك )
( قالت لي العين ماذا ... يصيد قلت كراك ( ي ) ) فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( أغار على سرح الكرى عندما رمى ... الكراكي غزال للبدور يحاكي )
( فقلت ارجعي يا عين عن ورد حسنه ... ألم تنظريه كيف صاد كراك ( ي ) ) قال الشيخ جمال الدين بن نباتة قلت
( أسعد بها يا قمري برزة ... سعيدة الطالع والغارب )
( صرعت طيرا وسكنت الحشا ... فما تعديت عن الواجب ) فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( قلت له والطير من فوقه ... يصرعه بالبندق الصائب )
( سكنت قلبي فحركته ... فقال لم أخرج عن الواجب )
(2/121)
________________________________________
وقال الشيخ جمال الدين قلت
( وبمهجتي رشأ يميس قوامه ... فكأنه نشوان من شفتيه )
( شغف العذار بخده وراه قد ... نعست لواحظه فدب عليه )
أخذه الشيخ الصلاح الصفدي وقال
( وأهيف كالغصن الرطيب إذا انثنى ... تميل حمامات الأراك إليه )
( له عارض لما رأى الطرف ناعسا ... أتى خده سرا فدب عليه ) قال الشيخ جمال الدين قلت
( يا غادرا بي ولم أغدر بصحبته ... وكان مني مكان السمع والبصر )
( قد كنت من قلبك القاسي أخال جفا ... فجاء ما خلته نقشا على حجر ) فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( ما زلت أشكو حين وفر في الضنى ... قسمي وأسلمني إلى البلوى وفر )
( حتى تأثر من شكاية لوعتي ... لي قلبه فرأيت نقشا في حجر ) وأحسن ما وقع في هذا الباب للشيخ جمال الدين بن نباتة أنه قال
( بروحي عاطر الأنفاس ألمى ... مليء الحسن حالي الوجنتين )
( له خالان في دينار خد ... تباع له القلوب بحبتين ) فأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال
( بروحي خده المحمر أضحت ... عليه شامة شرط المحبه )
( كأن الحسن يعشقه قديما ... فنقطه بدينار وحبه )
(2/122)
________________________________________
فلما وقف الشيخ جمال الدين على هذين البيتين قال لا إله إلا الله سرق الشيخ صلاح الدين كما يقال من الحبتين حبه قال الشيخ جمال الدين قلت
( يا عاذلي شمس النهار جميلة ... وجمال فاتنتي ألذ وأزين )
( فانظر إلى حسنيهما متأملا ... وادفع ملامك بالتي هي أحسن ) فأخذه الشيخ صلاح الدين مع البحر بل أخذ الكل مع القافية وقال
( بأبي فتاة من كمال صفاتها ... وجمال بهجتها تحار الأعين )
( كم قد دفعت عواذلي من وجهها ... لما تبدى بالتي هي أحسن )
وهذان البيتان تقدم القول أنهما بنصهما للقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر ولكن رأيت العز الموصلي نسبهما في تذكرته للصلاح الصفدي من جملة خبر الشعير والله أعلم
قال الشيخ جمال الدين قلت
( فديتك أيها الرامي بقوس ... وطرف يا ضنى جسدي عليه )
( لقوسك نحو حاجبك انجذاب ... وشبه الشيء منجذب إليه ) فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( تشرط من أحب فذبت وجدا ... فقال وقد رأى جزعي عليه )
( عقيق دمي جرى فأصاب خدي ... وشبه الشيء منجذب إليه )
قلت أظن أن الشيخ صلاح الدين لما سمع قول الشيخ جمال الدين ونظم هذين البيتين ما كان في حيز الاعتدال وأين انجذاب القوس إلى الحاجب من انجذاب الدم إلى الخد وليته ما تلفظ بالانجذاب بل قال عقيق دمي فأصاب خدي قال الشيخ جمال الدين قلت أنا
( يا مشتكي الهم دعه وانتظر فرجا ... ودار وقتك من حين إلى حين )
( ولا تعاند إذا أصبحت في كدر ... فإنما أنت من ماء ومن طين )
(2/123)
________________________________________
أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال
( دع الأخوان إن لم تلق منهم ... صفاء واستعن واستغن بالله )
( أليس المرء من ماء وطين ... وأي صفا لهاتيك الجبله ) قال الشيخ جمال الدين بن نباتة قلت
( أحاول صبرا عن هوى قد كتمته ... فلا أجد الصبر المحاول يعذب )
( وألقى به ثوب المشيب مطيعا ... فأغسله بالدمع والطبع أغلب ) فأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال
( يقول الفكر لي دنست ثوب الشباب ... وفي غداة الشيب تتعب )
( وتغسله بدمعك كل وقت ... وما ينقى لأن الطبع أغلب ) قال الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى رحمة واسعة قلت
( أسفت لشاشي الذي قد مضى ... وفاز به سارق حاشه )
( ووالله ما بي مما جرى ... سوى قولهم صفعوا شاشه ) فأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال
( قد سرق الشاش بليل وما ... قدره الله فما يندفع )
( الحمد لله الذي لم يكن ... شاشي على رأسي لما صفع ) قال الشيخ جمال الدين بن نباتة قلت أنا
( أشكو إلى الله ما أكابد من ... دمامل مسني بها الضر )
( فالليل عندي من حالها سنة ... فما لليلي ولا لها فجر ) فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( أشكو إلى الله من أمور ... تمر عيشي لما تمر )
(2/124)
________________________________________
( ودمل مع دوام ليل ... ما لهما ما حييت فجر ) ونظم الشيخ جمال الدين هذا المعنى أيضا في أبيات معناها الوعظ يعجبني إلى الغاية وهي
( لا تخش من هم كغيم عارض ... فلسوف يسفر عن إضاءة بدره )
( إن تمس عن عباس حالك راويا ... فكأنني بك راويا عن بشره )
( ولقد تمر الحادثات على الفتى ... وتزول حتى ما تمر بفكره )
( ولرب ليل في الهموم كدمل ... صابرته حتى ظفرت بفجره ) وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة قلت أنا
( بروحي فاتر الأجفان ساج ... كأن الحسن لفظ وهو معنى )
( تفرد وهو فتان التثني ... فيا لله من فرد تثنى ) فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( وأهيف حاز قدا ... قد حار فيه المعنى )
( تراه في الحسن فردا ... لكنه يتثنى ) قال الشيخ جمال الدين بن نباتة قلت أنا
( بروحي جيرة أبقوا دموعي ... وقد رحلوا بقلبي واصطباري )
( كأنا للمجاورة اقتسمنا ... فقلبي جارهم والدمع جاري ) أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال
( أسكنت شخصك طرفي ... حتى أواري أواري )
( فحين جاورت دمعي ... جعلت جارك جاري )
(2/125)
________________________________________
وقد تقدم أن ابن بدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي أول من سبق إلى هذه النكتة
قال الشيخ جمال الدين بن نباتة قلت
( سألت النقا والغصن يحكي لناظري ... روادف أو أعطاف من زاد صدها )
( فقال كثيب الرمل ما أنا حملها ... وقال قضيب البان ما أنا قدها ) أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال
( يقول ردف حبيبي ... وعطفه المتثني )
( ما أنت يا غصن قدي ... ولا كثيبك وزني ) قال الشيخ جمال الدين قلت أنا
( لك يا أزرق اللواحظ مرأى ... قمري أضحى على الخلق ينهى )
( يا لها من سوالف وخدود ... ليس تحت الزرقاء أحسن منها ) أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال
( ألبسوه عمامة للنصارى ... قد روى اللازورد في الحسن عنها )
( وجلا طلعة كبدر تمام ... ليس تحت الزرقاء أحسن منها ) قال الشيخ جمال الدين بن نباتة قلت أنا
( يا مجريا دمعي وموقف لوعتي ... من جسمي المضنى على الأطلال )
( يا من إذا سألوه عن بدر الدجى ... والمسك قال أخي الشقيق وخالي )
(2/126)
________________________________________
أخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( فديت حبيبا ضرج الحسن خده ... فصب على خديه ذوب عقيق )
( إذا عاين الروض المدبج خده ... يقول لنا هذا أخي وشقيقي ) قلت الشيخ صلاح الدين ما شم لمسك الخال رائحة والله أعلم وقال الشيخ جمال الدين قلت أنا
( هيهات بين ذوي الأسى لا يستوي ... دمعي ودمعك أيها المتواجد )
( فحديث دمعي عن تلهب أضلعي ... ذاكي اللظى وحديث دمعك بارد ) فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( شكوت حتى لان بعد قسوة ... ورحت أبكي وهو لي يساعد )
( وقال ها نحن سواء في البكا ... لا يا حبيبي ما بكانا واحد )
( لا يستوي دمع حكى جمر الغضى ... إذا جرى ودمع عين بارد ) قال الشيخ جمال الدين بن نباتة قلت أنا
( هنئتم ال الشهيد بنجمكم ... وبوجه مولود لكم ما أزهره )
( من قبل ما عملت لديه عقيقة ... عملت له المدح الجواري جوهره ) فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( أيا أندى الورى كفا ووجها ... وأقومهم إلى العليا طريقه )
( لقد جاءتك جوهرة المعاني ... فلا تبخل عليها بالعقيقه )
(2/127)
________________________________________
قال الشيخ جمال الدين قلت أنا
( عذول لست أسمع منه عذلا ... على هيفاء مثل البدر تما )
( له طرف ضرير عن سناها ... ولي أذن عن الفحشاء صما ) أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وغير صيغة المثل بالحشو فقال
( تعشقته مثل القضيب إذا انثنى ... بوجه حكى البدر المنير إذا تما )
( وإن كان عذالي عموا عن جماله ... فلي أذن عن كل ما نقلوا صما ) قال الشيخ جمال الدين قلت أنا
( حربي من مهفهف القد رام ... أسهم اللحظ ما أسد وأرشق )
( كلما قلت يفتح الله بالوصل ... رماني من سحر عينيه يغلق ) فأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال
( سهام طرفك أصمت ... قلبي ولم تترفق )
( ما يفتح الجفن إلا ... ورهن قلبي يغلق ) قال الشيخ جمال الدين قلت أنا
( تأملت في الحمام تحت مازر ... روادف بيض ما سناها بغائب )
( كأني من هذي وهاتيك ناظر ... بياض العطايا في سواد المطالب ) فأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال
( تبدى حبيبي في السواد فراقني ... وما راعني لما أتى بالعجائب )
( وشبهت ذاك الجيد في طوق برده ... بياض العطايا في سواد المطالب ) قال الشيخ جمال الدين قلت أنا
( لقد كنت في لذات ثغرك هائما ... ليالي لم يمنع على عاشق ثغر )
( فأما وستر دونها من شوارب ... فلا خير في اللذات من دونها ستر )
(2/128)
________________________________________
أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال
( ألا فاسقني من خمرة لذ طعمها ... بفيك ولا تبخل وقل لي هي الخمر )
( وحط لثاما حجب اللثم عن فمي ... فلا خير في اللذات من دونها ستر )
قلت قد أوردت هنا ما جناه الشيخ صلاح الدين الصفدي من حدائق الروض النباتي ومقابلة الشيخ جمال الدين له على ما جناه فإن نسبني أحد إلى تحامل راجعته إلى النقل وإن وافق وتعقل الرتبتين فقد اكتفى بشاهد العقل وإلا فالأقسماء الصفدية بالنسبة إلى القطر النباتي تمجها الأذواق وها أنا قد أبرزت ثمرات الدوحتين بين هذه الأوراق والشيخ صلاح الدين رحمه الله تصاغر لذلك وما كابر ووقف على باب الشيخ وقوف فقير يسأل بر الإجازة وطال وقوفه على ذلك الباب العالي إلى أن حصل له الفتوح وأجازه وها أنا أذكر سؤال هذا السائل الذي ود قبل العطاء أن يدفع بالتي هي أحسن وأشرح كرم المسؤول الذي نثر على سائله الدر جزافا علما بأن عطاء الكريم لا يوزن فسؤال الإجازة من الشيخ صلاح الدين قوله يخاطب الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمهما الله تعالى الحمد لله على نعمائه المسؤول من إحسان سيدنا الشيخ الإمام العالم العلامة رحلة أهل الأدب قبلة ذوي التحصين في التحصيل والدأب الذي تبيت شوارد المعاني صرعى تخوله للطافة تخيله وتمسي الألفاظ العذبة طوع تحوله في التركيب وتحيله فأمسى وله النسيب الذي يضحك من العباس في رقته ويقيم صريع الغواني إلى مقته بعد مقته والغزل الذي يشيب له فؤد الوليد ويسترق الحر من كلام عبيد والتشبيه الذي لو علمه ابن المعتز لما نصب الهلال فخا لصيد النجوم ولو تعاطاه حفيد جريح لقيل له ألم تسمع ( ألم غلبت الروم ) والمديح الذي لو بلغ زهيرا لقال ما أنا من هذه الحدائق أو اتصل نبؤه بالمتنبي لاشتغل عن ذكر العذيب وبارق والرثاء الذي نقص عنده أبو تمام بعد أن رفع له لواء الشرف والفخر وقال هذه عذوبة الزلال لا ما تفجر من الخنساء على صخر والترسل الذي سقى الفاضل كأس الحتوف لما شبه الغمود بالكمائم والسيوف بالأزهار وأذهله حتى صحت له القسمة في الخيل والخيال بين المراقب والمرافد فأخطأت معه في المرابع والمساجد بين الأنواء والأنوار والكتابة
(2/129)
________________________________________
التي تغدو الطروس بها وكأنها رياض محبرة أو سماء بالنجوم زاهره إن لم ترض أن تكون في الأرض رياضا مزهره
( أدب على الحصري يعلو تاجه ... وله ابن بسام بكى ألوانا )
( وترسل سبحان من قد زاده ... منه وأعطى الفاضل النقصانا )
( وكتابة لعلوها في وضعها ... ليس ابن مقلة عندها إنسانا )
( فلكم أخي فضل رأت عيناه ... في الأوراق لابن نباتة بستانا )
جمال الدين أبي عبد الله محمد ابن الشيخ الحافظ شمس الدين محمد بن نباتة جمع الله به شتات أهل الأدب في درجة هذه الدولة ولم به شعث أبنائه الذين لا صون لهم ولا صولة وأقام به عماد أبيات الشعر التي لولاها لما عرفت دارمية من أطلال خولة إجازة كاتب هذه الأحرف فسح الله له في مدته برواية المصنفات في الأحاديث النبوية والتأليفات الأدبية على اختلاف أوضاعهما وتباين أجناسهما وأنواعهما بحسب ما يؤدي ذلك إليه واتصل به من سماع أو إجازة أو وصية أو وجازة من مشايخ العلم الذين أخذ عنهم وإجازة ماله أحسن الله إليه من مقول نظما أو نثرا أو تأليفا أو وضعا إجازة خاصة وإثبات ما له من التصانيف إلى هذا التاريخ بخطه الكريم وإجازة ما لعله يقع بعد ذلك إجازة عامة على أحد القولين في المسألة فإن الرياض لا ينقطع زهرها والبحار لا ينفد درها وإثبات ما يحسن إيراده في هذه الإجازة من المقاطيع الرائقة والأبيات اللائقة وذكر نسبه ومولده ومكانه متفضلا في ذلك وكتب كتبه خليل بن أيبك عبد الله الأيبكي بالقاهرة المحروسة في مستهل شعبان المبارك سنة تسع وعشرين وسبعمائة وحسبنا الله ونعم الوكيل
وكتب الشيخ جمال الدين بن نباتة الجواب مجيبا لسؤال الشيخ صلاح الدين الصفدي رحمهما الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمدا لله الذي إذا توجه إليه ذو السؤال فاز وإذا استدعى كرمه ذو الطلب أجاب وأجاز والصلاة والسلام على سيدنا محمد كعبة القصد التي ليس بينها وبين النجح حجاز وعلى اله وصحبه حقائق الفضل والفضل من بعدهم مجاز
فلو لزم في كل الأحوال تناسب المخاطبة وكان جواب السؤال بحسب ما بينهما من شرف المناسبة لما رضي سجع الحمائم لمطارحته نوعا من الأطيار ولا قبل فصحاء الأول مراجعة الصدى من الديار ولا قنع غمز حواجب الأحبة برد القلوب الهائمة في
(2/130)
________________________________________
أودية الأفكار ولكن نقول الأكابر والأولياء تبذل من الأجوبة جهدها وتنفق ما عندها وتجرد الأماثل سيوف المنطق ولا تتعدى الاتباع من الطاعة حدها ولما كنت أيها الراقم برود هذا الاستدعاء ببنانه والمنشىء روض هذا السؤال بأثار السحب من بيانه والسائل الذي بهرت الأفكار فضائله وسحرت أرباب العقول عقائله وأقام المسؤول مقاما ليس من أهله فليتق الله سائله فريد فن الأدب الذي لا يبارى وبحره الذي لا يهدي غائص قلمه الدر إلا كبارا وذا اليد البيضاء فيه الذي طال ما انس من جانب الذهن نارا وخليله الذي اطلع على أسراره الدقيقة ورئيسه الذي لو طارح ابن المعتز وتمت ولايته لكان أمير المؤمنين على الحقيقة وناظمه الذي يسري الطائيان تحت علمه المنشور وكاتبه الذي تتبجح العيدان بالدخول تحت رقه المأثور طالما شافه منه القلم وجها وجميلا وقدرا جليلا ولا في من لا يندم على صحبته فيقول ليتني لم أتخذ فلانا خليلا فهو الغرس الذي يقصر عن أمالي وصفه الشجري ويفخر الدين والعلم بشخصه ولفظه فهذا يقول غرسي وهذا يقول ثمري كم أغنى بمفرد شخصه عن فضلاء جيل وكم بدا للسمع والبصر من بنات فكره بثينة ومن وجهه جميل وكم تنزهت الأفكار من لفظه بين اس وورد لا بين إذخر وجليل وكم دام عهده ووده حتى كاد يبطل قول الأول دليلا على أن لا يدوم خليل تود الشهب لو كانت حصباء غدير طرسه وتغار الأفق إذا طرز يراع درجه بالظلماء أردية شمسه ويتحاسد النظم والنثر على ما تنتج مقدمات منطقه من النتائج وينشد كل منهما إذا حاول القول خليل الصفا هل أنت بالدار عائج إن كتب أغضى ابن مقلة من الحسد على قذاه وحمل ابن البواب لحجبه عصا القلم قائلا ما ظلم من أشبه أباه وإن نحا النحو لباه عشرا ولانت أعطاف الحروف قسرا وتشاجرت على لفظه الأمثلة فلا غرو أن ضرب زيد عمرا يترجل كلام الفارسي بين يديه ويطير لفظ ابن عصفور حذرا من البازي المطل عليه وإن شعر هامت الشعراء بذكره في كل واد ونصبت بيوت نظمه على بقاع الشرف كما نصبت بيوت الأجواد
(2/131)
________________________________________
طالما بلدا لبيدا وولى منه شعر ابن مقبل شريدا وقالت الآداب لبحتري لفظه ألم نربك فينا وليدا وإن نثر فما الدر اليتيم إلا تحت حجره ولا الزهر النضير إلا ما ارتضع من أخلاف قطره ولا المترسلون إلا من تصرف في ولاية البلاغة تحت نهيه وأمره وإن تكلم على فنون الأدب روى الظما وجلا معاني الألفاظ كالدمى وقالت الأعاريض لابن أحمد وله خليلي هبا بارك الله فيكما
هذا وكم أثنى قديم علم الأوائل على فكره الحكيم وشهدت رواية الحديث النبوي بفضله وما أعلى من شهد بفضله الحديث والقديم
بدأتني أعزك الله من الوصف بما قل عن مكاني وكاد من الخجل يضيق صدري ولا ينطلق لساني وحملت كاهلي من المنن ما لم يستطع وضربت لذكري في الافاق نوبة خليلية لا تنقطع وسألتني مع ما عندك من المحاسن التي لها طرب من نفسها وثمر من غرسها أن أجيبك وأجيزك وأوزان بمثقال كلمي الحديد إبريزك وأقابل لسانك المطلق بلساني المحصور وأثبت استدعاءك على بيت مال نطقي المكسور فتحيرت بين أمرين أمرين ووقع ذهني السقيم بين داءين مضرين إن فعلت ما أمرت به فما أنا من أرباب هذا القدر العالي والصدر الحالي ومن أنا من أبناء مصر حتى أتقدم لهذا الملك العزيز وكيف أطالب مع إقتار علمي بأن أمدح وأجيز وإني لمقيد خطوي هذه الوثبات وأنى يماثل قوة هذا الغرس ضعف هذا النبات
وإن منعت فقد أسأت الأدب والمطلوب حسن الأدب مني وأهملت الطاعة التي أقرع بعدها برمح القلم سني وفاتني شرف الذكر الذي امتلأ به حوض الأفق وقال قطني ثم ترجح عندي أن أجيب السؤال وأقابل بالامتثال صابرا على تهكم سائلي معظما قدري كما قيل بتعاقلي منقادا إلى جنة استدعائك من السطور بسلاسلي وأجزت لك أن تروي عني ما تجوز لي روايته من مسموع ومأثور ومنظوم ومنثور وإجازة ومناولة ونقل وتصنيف وتنضيد وتفويف وماض ومتردد وآت على رأي بعض الرواة ومتجدد وجميع ما تضمنه استدعاؤك فاجمع ما يكون من لفظه المتبدد كاتبا لك بذلك خطي مشترطا عليك الشرط المعتبر فليكن قبولك يا عربي البيان جواب شرطي ذاكرا من لمع خبري ما أبطأت بذكره وأرجو أن أبطىء ولا أخطي
(2/132)
________________________________________
فأما مولدي فبمصر المحروسة في ربيع الأول سنة ست وثمانين وستمائة بمنزلنا بزقاق القناديل وأما شيوخ الحديث الذين رويت عنهم سماعا وحضورا فمن أقدمهم الشيخ شهاب الدين أبو الهيجاء غازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب المعروف بالرادف والشيخ عز الدين أبو نصر عبد العزيز بن أبي الفرج الحصري البغدادي والشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي محمد إسحق الأبرقوهي وأما ذوو الإجازة في مصر وغيرها من الأمصار فكثير وأما الفضلاء والأدباء الذين رويت عنهم ورأيت منهم فمنهم القاضي الفاضل محيي الدين أبو محمد عبد الله ابن الشيخ رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان الكاتب المصري والشيخ الإمام بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن النحاس الحلبي النحوي والأمير الفاضل شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الصاحب شرف الدين بن إسماعيل بن المتنبي اقترح علي أن أنظم له في زيادة النيل فقلت
( زادت أصابع نيلنا ... وطمت فأكمدت الأعادي )
( وأتت بكل جميلة ... ما ذي أصابع ذي أيادي )
والشيخ العالم علم الدين قيس بن سلطان المصري من أهل منية ابن خصيب قرأت عليه كثيرا من الكتب الأدبية وكان كثيرا ما يستنشدني إلى أن أنشدته قولي
( يا غائبين تعللنا لغيبتهم ... بطيب عيش ولا والله لم يطب )
( ذكرت والكأس في كفي لياليكم ... فالكأس في راحة والقلب في تعب )
فقال أتعب والله جزعك القدح والشيخ العالم شهاب الدين أحمد بن محمد المعروف بابن المفسر أنشدني لنفسه
( لا أرى لي في حياتي راحة ... ذهبت لذة عيشي بالكبر )
( بقي الموت لمثلي سترة ... يا إلهي أنت أولى من ستر ) فأنشدته لي
( بقلت وجنة المليح وقد ولى ... زمان الصبا الذي كنت أملك )
( يا عذار الحبيب دعني فإني ... لست في ذا الزمان من خل بقلك )
(2/133)
________________________________________
والشيخ الأديب الفاضل سراج الدين عمر الوراق المصري سمعته ينشد لنفسه
( واخجلتي وصحائفي مسودة ... وصحائف الأبرار في إشراق )
( وتوقفي لموبخ لي قائل ... أكذا تكون صحائف الوراق ) والأديب الفاضل نصير الدين المناوي الحمامي أنشدني لنفسه
( أحب من الدنيا إلي وما حوت ... غزال تبدى لي بكأس رحيق )
( وقد شهدت لي سنة اللهو أنني ... أحب من الصهباء كل عتيق ) فأنشدته لي
( إني إذا انست هما طارقا ... عجلت باللذات قطع طريقه )
( ودعوت ألفاظ المليح وكأسه ... فنعمت بين حديثه وعتيقه )
وجماعة يطول ذكرهم ويعز علي أن لا يحضرني الآن شعرهم
وأما مصنفاتي التي هي كالياسمين لا تساوي جمعها ولولا الخزائن الشريفة السلطانية الملكية المؤيدية تجبرها ما استخرت نصبها ورفعها فهي كتاب مجمع الفرائد القطر النباتي سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون منتخب الهدية من المدائح المؤيدية الفاضل من إنشاء الفاضل زهر المنثور أبرار الأخبار شعائر البيت التقوى لم تكمل إلى الان الأرجوزة المسماة فرائد السلوك في مصائد الملوك
أجزت لك أعزك الله روايتها عني ورواية ما أدونه وأجمعه بعد ذلك حسبما اقترحه استدعاؤك ونمقه ونسخه وحققه وتضمنه سؤالك الذي تصدقت به فمنك السؤال ومنك الصدقة والله تعالى يشكر عهدك الجميل وكلماتك الجزلة وكرمك الجزيل ويمتع بك فنون الفضائل الملتجئة إلى ظل قلمك الظليل ولا يعدم الأحباب والاداب من اسمك وسميك خير صاحب وخليل
قال ذلك وكتبه محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن أبي الحسن بن صالح بن علي بن يحيى بن طاهر بن محمد بن الخطيب بن يحيى بن عبد الرحيم بن نباتة الفارقي الحذاقي ثم المصري عفا الله عنه
انتهى ما أوردته من استدعاء الشيخ صلاح الدين وسؤاله وجواب الشيخ جمال
(2/134)
________________________________________
الدين وإجازته بعد أن علمت دقائق الدرجتين في النظم والنثر واتضح الفرق بينهما وثبت أن الشيخ جمال الدين بن نباتة سقى الله نباته ورعاه ومتع أهل الذوق السليم بحلاوة ذلك النبات وجناه فإنه وإن تأخر في السبق عن فحول المتقدمين عصرا فقد تقدم عليهم ببديعه وغريبه بيانا وسحرا وتفقه في الطريق الفاضلية لمذاهب ما سلكها المتقدمون وها نحن نستجدي من حواصلها نظما ونثرا وكم سأله عالم في سلوك هذه الطريقة فقال له إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا
وإن قيل إن الفاضل أجل من تمذهب بهذا المذهب فمذهبي وأنا أستغفر الله أنه وصل فيه إلى درجة الاجتهاد وهذا القول يقول به من رفع الخلاف وتأدب فإن هذه الطريقة ما أمها ناظم ولا ناثر في الأيام الأمويه ولا ابتسمت لهم ثغورها في الخلافة العباسية ولما انتهت الغاية إلى الفاضل أتى بهذه الفضيلة الغريبة وأظهر منها الزيادة المستفادة واعتادت بلغاء المتأخرين بها بعد ما شهدوا بسبقه فأكرم بها عادة وشهاده ولما اتصلت بالشيخ جمال الدين بن نباتة أهل غربتها وشرف بأصل شجرته النباتية نسبتها وأسكن في أبياته من بديع النظم كل قرينة صالحة وأمست سواجع إنشائها على فروعه النباتية صادحه وقد عن لي أن أورد نبذة من مفرداته التي حصل الإجماع في الغرابة عليها وأشار المصنف بقوله إليها
( أصغ لما قال أخو وقته ... وخل عنك اليوم ما قيلا )
( واسمع مقاطيعا له أطربت ... ولا تقل إلا مواصيلا ) فمن ذلك قوله
( حملت خاتم فيه فصا أزرقا ... من كثرة اللثم الذي لم أحصه )
( لولاه ما علم الرقيب فيا له ... من خاتم نقل الحديث بفصه ) ومنه قوله
( لله خال على خد الحبيب له ... في العاشقين كما شاء الهوى عبث )
( ورثته حبة القلب القتيل به ... وكان عهدي أن الخال لا يرث )
(2/135)
________________________________________
ومنه قوله
( وأغيد جارت في القلوب لحاظه ... وأسهرت الأجفان أجفانه الوسنى )
( أجل نظرا في حاجييه وطرفه ... ترى السحر منه قاب قوسين أو أدنى ) وقوله
( بروحي مشروط على الخد أسمر ... دناو وفي بعد التجنب والسخط )
( وقال على اللثم اشترطنا فلا تزد ... فقبلته ألفا على ذلك الشرط ) وقوله
( واحربا من هوى رشيق ... معتدل كالقضيب مائل )
( عذاره لا يجيب دمعي ... وسائل لا يجيب سائل ) ومن نكته البديعة في هذا الباب قوله
( وضعت سلاح الصبر عنه فما له ... يقاتل بالألحاظ من لا يقاتله )
( وسال عذار فوق خديه جائر ... على مهجتي فليتق الله سائله ) ومن السرقات الفاحشة قول ابن الوردي غفر الله له
( تعجبت من نهديه لو أن لامسا ... أراد انقباضا لم تطعه أنامله )
( وسال عذار لو نحا نفس صبه ... لجاد بها فليتق الله سائله ) ومنه قوله
( لا تخف عيلة ولا تخش فقرا ... يا كثير المحاسن المختاله )
( لك عين وقامة في البرايا ... تلك غزالة وذي قتاله ) ومنه قوله
( قبلته عند النوى فتمررت ... تلك الحلاوة بالتفرق والجوى )
( ولثمته عند القدوم فحبذا ... رطب الشفاه السكري بلا نوى )
(2/136)
________________________________________
وقوله
( أفديه لدن القوام منعطفا ... يسل من مقلتيه سيفين )
( وهبت قلبي له فقال عسى ... نومك أيضا فقلت من عيني ) ومنه قوله
( يا رب لص ناهب سالب ... وهو من الحسن مليء غني )
( يرنو إلى سرب الظبى لحظة ... فيسرق الكحل من الأعين ) ومنه قوله
( مبقل الخد أدار الطلا ... فقال لي في حبها عاتبي )
( عن أحمر المشروب ما تنتهي ... قلت ولا عن أخضر الشارب ) ومنه قوله
( كم قلت باللثم وبرد اللمى ... إيه برغم العاذل الحاسد )
( رو صدى قلبي ودع عاذلي ... في الحب يغتاط على البارد ) ومنه قوله
( بروحي معسول اللمى متحجب ... إذا لم يزر لم يهن عيش ولا إذا )
( وإن ذقت منا من حلاوة ريقه ... أتانا رقيب يتبع المن بالأذى ) ومنه قوله
( يا كعبة الحسن الممنع لا تطل ... بيني وبينك للجفاء حجاز )
( حاشى لها من قامة ألفية ... يثني لقاها كاشح هماز )
(2/137)
________________________________________
ومنه قوله
( يا واصف الخيل بالكميت وبالنهد ... أرحني من طول وسواسي )
( لا نهد إلا من صدر غانية ... ولا كميت إلا من الكاس ) ومن هنا أخذ الصاحب فخر الدين بن مكانس وقال
( وإن ذكرت الخيل في الميدان ... فاشرب كميتا واعل فوق نهد ) ومنه قوله
( قلت ولي في هوى حبيبي ... قلب رقيق عليه يدهش )
( بالجفن والصدغ يا عنائي ... هذا سقيم وذا مشوش ) ومنه قوله
( نقطة خال في وجنة جعلا ... في اللهو لي بعد نوبتي غبطه )
( فيا لها وجنة معشقة ... صرت عليها أقول بالنقطه ) ومنه قوله
( إذا سألوني عن هوى قد كتمته ... سكت أراعي واشيا ورقيبا )
( وجاوب عني سائل من مدامعي ... فلله دمعي سائلا ومجيبا ) ومن اختراعاته الغريبة مع بديع التضمين قوله
( لما رأيت نهودها قد أقبلت ... ورأت لقلبي عشقه يتجدد )
( قالت وقد رأت اصفراري من به ... وتنهدت فأجبتها المتنهد ) ومنه قوله
( وتاجر قلت له إذ رنا ... رفقا بقلب صبره خاسر )
( ومقلة تنهب طيب الكرى ... منها على عينك يا تاجر )
(2/138)
________________________________________
وهذه النكتة زاحمه فيها الشيخ زين الدين بن الوردي وزنا وقافية ومعنى وقال
( وتاجر شاهدت عشاقه ... والحرب فيما بينهم دائر )
( قال علام اقتتلوا هكذا ... قلت على عينك يا تاجر )
واتصلت بالشيخ شمس الدين الرئيس الدمشقي العصري الشهير بالمزين فاستعملها أحسن من الشيخ زين الدين بن الوردي وزاد المثل قوة وإيضاحا بقوله
( وتاجر أسكرني طرفه ... والكاس فيما بيننا دائر )
( وقال لي سرك قلت اسقني ... جهرا على عينك يا تاجر ) ومنه قوله
( أفنى جفاكم كثير دمعي ... لكن بقي في القليل نشطه )
( وكنت أروي عن ابن بحر ... فصرت أروي عن ابن نقطه ) ومنه قوله وتلطف كثيرا
( خف خصر الحبيب ثم ابتلاني ... بعذول يزيدني تعنيفا )
( ليت لو كان في الملامة مثلي ... في هوى الخصر يؤثر التخفيفا ) ومنه قوله
( وكنت أظن العشق يترك مهجتي ... إذا زاحم الشيب الشباب بمفرقي )
( فلما بدا مع أسود الشعر أبيض ... أتى العشق يغزوني على ألف أبلق ) ومنه قوله
( يا حبذا خد الحبيب ... وقد أضاء شريقه )
( إن لم يكن في الحسن نفس ... الروض فهو شقيقه ) أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال
( فديت حبيبا ضرج الحسن وجهه ... وصب على خديه ذوب عقيق )
( إذا أبصر الروض المديح خده ... يقول لنا هذا أخي وشقيقي )
(2/139)
________________________________________
ومنه قوله
( يا حبذا يومي بوادي جلق ... وفرحتي مع الغزال الحالي )
( من أول الجبهة قد قبلته ... مرتشفا لاخر الخلخال ) ومنه قوله
( اها لحاذق ذهن ... يقول في الحب من لي )
( قال العذار لحذقي ... ما أنت من خل بقلي ) ومنه قوله مع التضمين للمثل
( في الناس من يشتاق للمرد ولا ... يزال في هجر وشوق يبطنه )
( واخر شاخوا وما يتركهم ... ذا يشتهي التين وذا يقطنه ) ومنه قوله
( يا من يقول البدر أو شمس الضحى ... كمعدني لا كيد للقمرين )
( أبوجه ذاك ووجه تلك تقيسه ... قسما لقد أخطأت من وجهين ) ومنه قوله
( نسبوه حسنا للهلال وعينه ... للظبي تنسب لا رميت ببينه )
( فإذا بدا فإلى هلال أصله ... وإذا رنا فهو الغزال بعينه ) ومثله ومن خطه نقلت
( يرنوا ويشرق حسنه ... في ناظري ولهانه )
( فهو الغزالة والغزال ... بعينه وعيانه )
(2/140)
________________________________________
وضاقت عين الشيخ صلاح الدين الصفدي عن هذه النكتة فأخذها بعينها وقال
( بسهم أجفانه رماني ... وذبت من صده وبينه )
( إن مت ما لي سواه خصم ... لأنه قاتلي بعينه ) ومنه قوله
( دعوني في حلي من العيش مائسا ... ومرتقبا بعده عفو راحم )
( أمد إلى ذات الأساور مقلتي ... واسأل للأعمال حسن الخواتم ) ومنه قوله
( لما تبدي في الحنين ... تحاربت كبدي وعيني )
( فاعجب لها من وقعة ... جاءت ببدر في حنين ) ومن هنا أخذ الشيخ برهان الدين القيراطي فقال
( بدت روادف حبي ... تحت الحنين بعين )
( فقلت يا بدر هذي ... حقا جبال حنين ) ومن لطائف الشيخ جمال الدين قوله
( دعوا شبيه الغزال يرمي ... في مهجتي بالنفار جمرا )
( تالله لا فاتني لقاه ... وعين كيسي عليه حمرا ) ومنه قوله
( بأبي نائم على الطرق راحت ... في هواه وليس يعلم روحي )
( فاتح في الكرى فما سكريا ... يا له من مسكر مفتوح ) ومنه قوله
( ملأت إنسان عيني عسجدا ... من خدود قد ملاها الحسن صبغا )
(2/141)
________________________________________
( قلت والردف أريني فانثنت ... ثم قالت هكذا الإنسان يطغى ) ومنه قوله
( ومن الشقا أن الجفا وتشوقي ... لا ينتهي هذا وذاك إلى طرف )
( ما مال غصن قوامه عن فكرتي ... يوما ولا دينار وجنته انصرف ) ومنه قوله
( سلت مهجة قد كان صدعها الأسى ... فلا آخذ الله الأسى بصدوعها )
( وعين على حالي بعاد وجفوة ... عفا الله عما قد جرى من دموعها ) ومن لطائفه قوله
( من الترك أثني سلوتي مع أنها ... صواب وأفتي فيه وهو من الخطا )
( أما والهوى لا حلت عن عطف أغيد ... ولا بت في رمان صدر مفرطا ) ومن نكته البديعة في المدائح قوله
( لنا ملك قد قاسمتنا هباته ... فنثر العطا منه ونظم الثنا منا )
( يذكرنا أخبار معن بجوده ... فننشي له لفظا وينشي لنا معنى ) وقال في صدر مطالعه
( خذ من عبيدك مقتضى نياتها ... في الحمد واعذر مقتضى أقوالها )
( قسما لو اسطاعت إليك جسومهم ... بعثت دروج الحمد من أوصالها ) وقوله
( لا عد منا لابن الأثير يراعا ... جاريا للعفاة بالأرزاق )
( كما ماس في المهارق كالغصن ... رأيت الندى على الأوراق )
(2/142)
________________________________________
وقوله في كمال الدين بن الزملكاني
( يفديه قوم تشبهوا حسدا ... به وليسوا له بأشباه )
( إن نطقوا بالجميل أو فعلوا ... فللريا والكمال لله ) ومنه قوله
( لعمري لقد أفحمت بالفضل منطقي ... وقد كنت ذا نطق وفضل بيان )
( وحركت ميزاني فأثنى لسانه ... فلا زلت مشكورا بكل لسان ) وقال وقد كتب إليه الملك المؤيد صاحب حماة
( فديتك من ملك يكاتب عبده ... بأحرفه اللاتي حكتها الكواكب )
( ملكت بها رقي وانحلني الأسى ... فها أنا ذا عبد رقيق مكاتب ) وقال يهنىء القاضي جمال الدين وقد عاد من غزوة سيس
( بقيت مدى الدنيا جمالا لدولة ... لها منك شهم في اللقا ورئيس )
( يسوق لها عند الفتوح جنائبا ... وأول هاتيك الجنائب سيس ) ومنه قوله في جواد
( وأدهم اللون حندسي ... في جريه للورى عجائب )
( يقصر سعي الرياح عنه ... فكلها خلفه جنائب ) ومنه قوله وقد كتب بها إلى الصاحب شرف الدين يعقوب ( قالت العليا لمن حاولها ... سبق الصاحب واحتل ذراها )
( فدعوا كسب المعالي إنها ... حاجة في نفس يعقوب قضاها )
(2/143)
________________________________________
ومنه قوله
( قصدت معاليك أرجو الندى ... وأزجي من العسر داء دفينا )
( فما كان بيني وبين اليسار ... سوى أن مددت إليك اليمينا ) وقوله يهنىء محتسبا
( تهنأ بها حسبة أدركت ... بأيام فضلك ما ترتقب )
( فإنك من أسرة تصطفي ... وترزق من حيث لا تحتسب ) ومنه قوله يهنىء بعيد النحر
( تهنأ بعيد النحر وابق ممتعا ... بأمثاله سامي العلا نافذ الأمر )
( تقلدنا فيه قلائد أنعم ... وأحسن ما تبدو القلائد في النحر ) وقوله
( كذا أبدا يا أرفع الناس همة ... غوادي الندى من راحتيك غزار )
( أقدم أطراسا وتمنح أنعما ... فمني أوراق ومنك ثمار ) ومنه قوله وكتب بها إلى القاضي بهاء الدين بن أبي البقاء على يد طالب شفاعة
( أرسلته لك واثقا بمكارم ... أورثتها عن سادة أنجاب )
( لا غرو أن أعربت عن أحسابهم ... فأبو البقاء أحق بالإعراب ) ومنه قوله وكتب بها إلى القاضي شمس الدين البهنسي
( يا رب أمدد بالغنى يد سيد ... في يومه يهب الجزيل وفي غده )
( فالبحر يسعى خادما في بابه ... والسحب جارية تصب على يده ) ومنه قوله وكتب بها إليه
( علي ديون من ثنا لم أقم بها ... فيا عجبا في ازديادي من الفضل )
( وأعجب من ذا أنك الشمس أشرقت ... وها أنا منها حيثما كنت في ظل )
(2/144)
________________________________________
ومنه قوله وقد أرسل إليه شرف الدين خالد القيسراني هدية جليلة في وقتها
( لك الله ما أزكى وأشرف همة ... وأحمد صنعا حيث تبلى المحامد )
( فأنت الذي قرت برؤيته العلا ... وهنئت الدنيا بأنك خالد )
قال وقد وصلت إليه هدية على يد الكمال
( قبضت من الكمال نداه عفوا ... بريئا من سؤال أو مطال )
( فيا لله من عادات بر ... أتتني بالتمام وبالكمال ) وكتب إلى الصاحب تقي الدين بن هلال
( هنئت ما أوتيته من رتبته ... حملتك في العينين من إجلالها )
( في مقلة الإنسان نمت فقل لنا ... أنت ابن مقلتها أم ابن هلالها ) وقوله
( فديناك يا ابن المحسنين مجودا ... بأقلامه أو جائدا بمكارمه )
( فحاتم عند الجود في بطن كفه ... وياقوت عند الخط في فص خاتمه ) وقوله يهنىء بالعيد
( تهن بعوده عيدا سعيدا ... وعش ما شئت يا كهف البرايا )
( نحرت به جميع عداك فانحر ... قرونا اخرين من الضحايا ) ومنه قوله
( قف بباب العلا وقل يا كتابي ... عن لساني قول الخويدم حقا )
( أنا عبد مكاتب غير أني ... لست أبغي من مالك الرق عتقا )
(2/145)
________________________________________
وقال وقد أنعم عليه بنصيفة
( سور الذكر سهلت ... لي نصيفة علت )
( فبياسين عوذت ... وبحاميم فصلت ) وتلطف بكتابته إلى من أنعم عليه بالنصيفة بقوله
( يا سيدي نصيفتي قد فصلت ... وعجزت لما غبت عن تبطينها )
( ما حلت فيها عن ندى نعما يديك ... ولا اتخذت بطانة من دونها ) وكتب إلى القاضي شمس الدين البهنسي
( شكر الله أياديك التي ... أنعشت حالي بشمس الهبات )
( أنت بالمعروف قد أحييته ... وكذا الشمس حياة للنبات ) وقال يهنىء قادما من الحجاز
( قالوا سررت زائدا بقادم ... حج شهابا ثم عاد بدرا )
( تقصد منه ماله أو جاهه ... قلت نعم كلاهما وتمرا ) وكتب إلى من أهدى إليه تمرا رديئا غالبه نوى
( أرسلت تمرا بل نوى فقبلته ... بيد الوداد فما عليك عتاب )
( وإذا تباعدت الجسوم فودنا ... باق ونحن على النوى أحباب ) ومنه قوله
( قال فتح الدين إذ حدثنا ... يتلافى قصة تفضي لمنحى )
( كيف أثمار حديثي عندكم ... قلت فصي أولا فهو فتحي ) وقال يهنىء ولد الأمير ناصر الدين بن فضل الله العمري بإمرة عشرة
(2/146)
________________________________________
( هنئتها إمرة مجددة ... يا ابن السراة الأكابر البرره )
( أقسم من ذا وذا بأنكم ... وجدتم من أكابر العشره ) ومن لطائفه في هذا الباب قوله
( والله ما عجبي لقدرك إنه ... قدر على باغي مداه بعيد )
( إلا لكونك لست تشكو وحشة ... في هذه الدنيا وأنت وحيد )
وكتب على شرح مختصر ابن الحاجب لشمس الدين الأصفهاني
( أخا العلم إن الشمس باد ضياؤها ... فسر بسناها حيثما أنت سائر )
( وخل فتى شيراز عنك فإنما ... هو القطب قد دارت عليه الدوائر ) ومن لطائفه قوله
( وصلت إلى باب المعز وظله ... وفارقت ذلي إذ وصلت إلى العز )
( وأصبحت من جند المحامد والثنا ... ولا بد للجندي من طلب الخبز ) وقوله في الجامع الأموي بدمشق
( أرى الحسن مجموعا بجامع جلق ... وفي صدره معنى الملاحة مشروح )
( فإن يتغالى بالجوامع معشر ... فقل لهم باب الزيادة مفتوح ) ومن مداعباته ومجونه وإعراضه ونكته اللطيفة في باب التورية قوله
( يا أير لا تركن لعلق ولا ... تثق به واتركه مع نفسه )
( ولا ترج الود ممن يرى ... إنك محتاج إلى فلسه ) ومن مداعباته اللطيفة مع الشيخ بدر الدين حسن الزغاري مضمنا قوله
( يا غائبا عن مجلس قد شاتمت ... ندماه واشتعلت عليه الأكؤس )
( نبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستب بعدك يا كليب المجلس )
(2/147)
________________________________________
ومنه قوله في مليح اسمه إلياس
( أفدي مليحا في البرايا لم أزل ... طول الزمان عليه في وسواس )
( قالوا أتقطعه كثيرا قلت من ... راحات قلب المرء قطع إلياس ) وقوله
( لهفي على فرسي الذي ... أضحى قريح المقلتين )
( يكبو وأملك رقه ... فمعثر في الحالتين ) ومنه قوله
( سافرت للساحل مستبعضا ... قصدا وحمدا حسن الجملة )
( فيا له من متجر رابح ... ما نفقت فيه سوى بغلتي ) وقوله
( ميزاني العاطل المحلى ... قال له الفقر قف مكانك )
( لا تذكر المال عند هذا ... ولا تحرك به لسانك ) ومنه قوله يداعب صديقا له يروم ولاية القضاء
( رب إن ابن عامر هائم الفكر ... معنى في صبحه والمساء )
( يتمنى القضا فلا تعطينه ... واجعل الموت سابقا للقضاء ) ومثله قوله
( لقد أصبحت في حال ... يرق لمثلها الحجر )
( مشيب وافتقار يد ... فلا عين ولا أثر )
(2/148)
________________________________________
ومنه قوله يداعب بعض أصحابه
( بفلان في الديوان صورة حاضر ... وكأنه من جملة الغياب )
( لم يدر ما محزومه وجريده ... سبحان رازقه بغير حساب ) ومن لطائفه قول يهنىء شارب دواء
( أمط بالدواء ثياب الأذى ... وطب بالرواح به والغدو )
( وكرر أحاديث بيت الخلا ... ولكن على رغم أنف العدو ) وكتب إلى صفي الدين الحلي مداعبا له
( أوقعني ودي مع هاجر ... يبخل بالدرج وبالوصل )
( والله لا غررت من بعدها ... ولا جعلت الود في حل ) ومنه قوله
( وقالوا أحاطت ذقنه بخدوده ... ووجدك لا ينفك يذكر حسنه )
( فقلت نعم ضيفي بقلبي نازل ... أعظم مثواه وأكرم ذقنه ) وقوله
( رب مليح حسن صوته ... قالوا وقد أصبح ذا ذقن )
( لحيته قد قطعت حلقه ... قلت من الأذن إلى الأذن ) وكتب وقد أهدى إليه بعض أصحابه ديوكا
( وصلتنا ديوك برك تزهو ... بوجوه جميلة مستجاده )
( كل عرف يروق حسنا وإني ... أرتجي أن تكون عرفا وعاده )
(2/149)
________________________________________
وكتب إليه في المعنى
( قل للرئيس جمال الدين لا برحت ... هباته ذات تأسيس وإيناس )
( واصل رجاي بعرف الديك مقتبلا ... لن يذهب العرف بين الله والناس ) ومن لطائفه في هذا الباب قوله
( لقد عدناكم لما ضعفتم ... فلا والله ما وافيتمونا )
( أقيموا في ضناكم أو أفيقوا ... فإن عدنا فإنا ظالمونا ) ومنه قوله وقد صرف عن مباشرته
( أيا ابن نباتة جار الزمان ... وزلت وزالت قوى همتك )
( وقد كنت ذا خدم وانقضت ... فلا أحوش الله من خدمتك ) ومن نكته اللطيفة قوله في هذا الباب
( أحمد الله كم أجود في الخلق ... مقالا وما يفيد المقال )
( كلمي في الأنام سحر ولكن ... أنا والسحر باطل بطال ) وقوله
( لقد أصبحت ذا عمر عجيب ... أقضي فيه بالإنكاد وقتي )
( من الأولاد خمس حول أم ... فوا حرباه من خمس وست ) ومن لطائفه قوله
( قد لقبوا الراح بالعجوز وما ... تخرج ألقابهم عن العادة )
( ألانت الغادة التي امتنعت ... فصح أن العجوز قواده ) وقال يداعب كبير الأنف
( أقبل عند القوم يسألني ... من أي أرضيك نلت إيثارا )
( قلت من النيك ما رأى بصري ... خيرا ولكن رأيت منقارا )
(2/150)
________________________________________
ومن لطائف مجونه
( أرى أيري تكبر في جلوسي ... وفي عمر وأعطى اللؤم قومه )
( فأمسى لا يقوم لزائريه ... وإن زار العزيز فنصف قومه ) وقال في صديق باع مملوكا وتزوج امرأة جميلة
( لي صاحب ترك المليح وعاد في ... حب المليحة من ذوي الأقدار )
( قد كان عبد الأشهب المنسوب في ... حسن فأضحى وهو عبد الدار ) ومن لطائفه قوله في هذا الباب
( لقد أضحت سعاد تعاف أيري ... وتحوجها الضرورة أن تجامل )
( فتمعكه بلا قلب لديها ... وتأخذه بأطراف الأنامل ) ومنه قوله مع التضمين المخترع وهو
( دنوت إليها وهو كالفرخ راقد ... فيا خجلتي لما دنوت وإدلالي )
( وقلت امعكيه بالأنامل فالتقى ... لدى وكرها العناب والحشف البالي ) ومنه قوله
( محبوبتي دنيا جفت بعدما ... جادت وكانت نزهة الهائم )
( كانت مع الأير زمان الصبا ... وهكذا الدنيا مع القائم ) ومن لطائفه قوله
( باع صديقي لجام بغلته ... ليشتري الخبز منه والأدما )
( واها عليه راحت جرايته ... فهو على ذلك يعلك اللجما ) ومن لطائف مجونه قوله
( يا ملاذي الغوث من عائلة ... ليس من تكليفهم لي مهرب )
( طلبوا في أرجلي شيئا وقد ... نقبوا رأسي بما قد طلبوا )
(2/151)
________________________________________
ومنه قوله
( جنينة التين وجيرانها ... قد طيبت لذاتها وقتي )
( وكثرت عندي ما أشتهي ... فالتين من فوقي ومن تحتي ) وقال يداعب صديقا له طلق زوجة تسمى دنيا
( قل لابن بغلان الذي أصبحت ... كرته بين الورى خاسره )
( ظلمت دنياك وفارقتها ... ورحت لا دنيا ولا آخره ) وقوله
( تبسم الشيب بذقن الفتى ... يوجب سح الدمع من جفنه )
( حسب الفتى بعد الصبا ذلة ... أن يضحك الشيب على ذقنه ) ومن أغراضه اللطيفة في إهداء كتاب قوله
( أرسلته نعم الجليس ... إذا تغيرت البشر )
( يبقى على سنن الوفا ... أبدا ويقنع بالنظر ) وقوله
( لله تصنيف له رونق ... كرونق الحبات في عقدها )
( كادت تصانيف الورى عنده ... تموت للهيبة في جلدها ) وقال وقد عتب عليه القاضي بدر الدين لأمر
( أهلتني للعتب حتى لقد ... لذ لسمعي وهو صعب شديد )
( هذا ولو قطعتني لذلي ... وسرني أني ببدر شهيد ) وقال يداعب جنديا من أصحابه عرض ولم يقبل
( ظننا طوله يجدي ... ليوم العرض أو يرضي )
( فلا والله ما أجدى ... وراح الطول في العرض ) ومن لطائف مجونه قوله
( صفا لون شيبي ثم كدر عيشتي ... فيا عجبا للشيب من كدر صافي )
( وصار على الأكتاف يضحك من يرى ... فاها له شيبا يقطع أكتافي )
(2/152)
________________________________________
ومن أغراضه اللطيفة قوله
( كانت للفظي رقة ... ضمن الزمان بما استحقت )
( فصرفتها عن قدرتي ... وقطعتها من حيث رقت ) ومن لطائف مجونه قوله
( قالت أريد من طبيخ قدرة ... وكثرت حاجاتها وأوغلت )
( فقلت هذي قدرة يا ستنا ... من قبل أن تمسها النار غلت ) ومن لطائف مجونه قوله
( دعاني صديق لحاجاته ... فأوقعني في العذاب الأليم )
( كلام يزيد وماء يقل ... فبئس الصديق وبئس الحميم ) ومنه قوله
( ما زلت أقلع شيبة نسخت بها ... فسواد عقد شبابها مفسوخ )
( حتى غدت صفحات وجهي اية ... لا ناسخ فيها ولا منسوخ ) ومن مراثيه البديعة قوله يرثي الملك المؤيد صاحب حماة
( ألا في سبيل الله ملك مؤبد ... كنصل غدا في باطن الأرض مغمدا )
( على الرغم منا إن أتى منه لامع ... وجاوبنا من حول تربته الصدى ) قوله وقد توفي له ولد ولم يبلغ حولا
( يا راحلا من بعد ما أقبلت ... مخايل للخير مرجوه )
( لم تكتمل حولا وأورثتني ... ضعفا فلا حول ولا قوة ) ومثله قوله في ولده عبد الرحيم
( يا لهف قلبي على عبد الرحيم ويا ... شوقي إليه ويا شجوي ويا دائي )
( في شهر كانون وافاه الحمام لقد ... أحرقت بالنار يا كانون أحشائي )
(2/153)
________________________________________
ومنه قوله فيه
( آها لشمل قد وهى سلكه ... وكان ذا در بعبد الرحيم )
( فليتني لاقيت عنه الردى ... وعاش ذاك الدردرا يتيم ) وقال يرثي جارية له
( يقولون قد أخلقت جفنك بالبكى ... نعم إن جفني بالبكاء حقيق )
( دعوا الدمع للجفن القريح مؤاخيا ... فإني عدمت الدمع وهو شقيق ) وقال يهنىء بالعشر بعد تعزية بميت
( أتيتك يا أزكى البرية جامعا ... لأمرين في يوم من الدهر وافد )
( هنا وعزا لا عيب فيه لأنني ... أهني بعشر إذ أعزي بواحد ) وقال يرثي الملك الأفضل صاحب حماة
( مضى الأفضل المرجو للبأس والندى ... وصحت على رغم العداة وفاته )
( وما مات إذ ماتت بحزن نساؤه ... وماتت بأحزان البلاد حماته ) وقال في رثاء طفل
( بدا وفي حاله توارى ... فيا لها طلعة شريقه )
( جوهرة ما عملت إلا ... دموع عيني لها عقيقه ) وقال في رثاء ولده أيضا
( قالوا فلان قد جفت أفكاره ... نظم القريض فلا يكاد يجيبه )
( هيهات نظم الشعر منه بعدما ... سكن التراب وليده وحبيبه )
انتهى ما وقع عليه الاختيار ووعدت بإيراده من غرائب الشيخ جمال الدين بن نباتة وبدائعه في باب التورية على اختلاف أنواعها وقد تقدم قولي إن الراية الفاضلية هو عرابة مجدها وواسطة عقدها وقائد زمامها ومسكة ختامها وقدمت أيضا من مشى تحت الراية الفاضلية من ابن سنا الملك إلى الوداعي ولما رفع العلم النباتي كانت هذه الفرقة التي مشت تحت هذا العلم أكثر عددا وأشهر ذكرا وأعلى رتبة نظما ونثرا
(2/154)
________________________________________
وقد عن لي أن أذكر هنا لكل من عاصره ومشى تحت علمه النباتي وتحلى بنكته الأدبية نبذة من مختار مقاطيعه التي حلاوتها في الأصل نباتية ليظهر صدق قولي في تفضيل الصحابة المحمدية وأشرع بعد ذلك في إيراد نبذة من نظم التابعين لهم بإحسان وأدير هذا الكاس بحيث يتسلسل دوره إلى أهل هذا العصر والأوان والعصابة التي مشت تحت العلم النباتي وتحلت بقطر نباته هم الشيخ صلاح الدين الصفدي والشيخ زين الدين بن لوردي والشيخ برهان الدين القيراطي ومذهبي أنه أقرب الناس إلى الشيخ جمال الدين نظما ونثرا والشيخ شمس الدين بن الصائغ والشيخ بدر الدين ابن الصاحب والشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة والشيخ إبراهيم المعمار والشيخ بدر الدين حسن الزغاري والشيخ يحي الخباز الحموي والشيخ شهاب الدين الحاجبي
وممن أدركهم وعاصرهم المصنف وكتبوا إليه وكتب إليهم وأنشدوه وأنشدهم من أهل مصر والشام الشيخ زين الدين بن العجمي عين كتاب الإنشاء الشريف بالديار المصرية والقاضي فتح الدين بن الشهيد صاحب دواوين الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة وناظم السيرة النبوية نور الله ضريحه والشيخ عز الدين الموصلي والشيخ علاء الدين بن أبيك الدمشقي والشيخ جلال الدين ابن خطيب داريا والشيخ شمس الدين الرئيس الشهير بابن المزين والصاحب فخر الدين بن مكانس وولده الجناب المخدومي المجدي وسيدي أبو الفضل بن أبي الوفاء قدس الله روحه ولكن ما رأيته والشيخ شرف الدين عيسى الشهير بعويس والشيخ شهاب الدين بن العطار ولكن ما حضرته والشيخ جمال الدين ولكن ما رأيته وصاحبنا الشيخ شمس الدين المتنبي المصري والفرقة التي أطال الله بقاءها وأمست قواعد الأدب بها قائمة وختمت بهم هذه الطريقة البديعة وأخلصوا في العمل ففازوا في الحالتين بحسن الخاتمة وهم القاضي بدر الدين ابن الدماميني المالكي المخزومي فسح الله في أجله والشيخ الإمام الحافظ العلامة شهاب الدين بن حجر العسقلاني الشافعي رحمه الله تعالى والشيخ بدر الدين البشتكي رحمه الله تعالى
ونبدأ بمن تقدم ذكره أولا فأولا فمن محاسن الشيخ صلاح الدين الصفدي في باب التورية رحمه الله قوله
( أفديه ساجي العيون حين رنا ... أصاب مني الحشا بسهمين )
( أعدمني الرشد في هواه ولا ... أفلح شيء يصاب بالعين )
(2/155)
________________________________________
ومثله قوله
( لقد شب جمر القلب من فيض عبرتي ... كما أن رأسي شاب من موقف البين )
( فإن كنت ترضى لي مشيبي والبكى ... تلقيت ما ترضاه بالرأس والعين ) ومثله في تورية العين قوله
( سألتم عن منام عيني ... وقد براه جفا وبين )
( واليوم قد غاب حين غبتم ... ولم يقع لي عليه عين ) ومثله قوله
( إن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السعد في كراها وينهى )
( بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها ) ومنه قوله
( وفقيه قلت صلني ... فالبكى قرح عيني )
( قال لا تفخر بشيء ... هو دون القلتين ) ومن لطائفه قوله
( قلت وقد أعرض عني ولم ... يصغ إلى الشكوى ولم يقبل )
( لا تطمعي يا نفس في وصله ... ويا دموع العين لا تسألي ) ومن لطائفه قوله
( إن لم تصدقني تصدق بالكرى ... ليزورني فيه الخيال الزائل )
( وانظر إلى فقري لوصلك واغتنم ... أجري وقل للدمع قف يا سائل ) وقوله أيضا
( يقول الناس كيف يميل عنه ... الحبيب ويدعي صونا وعفه )
( أليس لقده في كل يوم ... يمر مع النواسم ألف عطفه )
(2/156)
________________________________________
وقوله أيضا
( وأحور أحوى فاتر الطرف قد غدا ... به قلب صب بالجوى يتضرم )
( كستني ضنى جسمي سهام جفونه ... فبرد سقامي في هواه مسهم ) وقوله مع حسن التضمين
( مقلته السوداء أجفانها ... ترشق في وسط فؤادي نبال )
( ويقطع الطرق على سلوتي ... حتى حسبنا في السويدا رجال ) وألم الشيخ زين الدين بهذه النكتة ولكن سبكها في غير هذا القالب بقوله
( من قال بالمرد فإني امرؤ ... ميلي إلى النسوة ذات الجمال )
( ما في سويدا القلب غير النسا ... ما حيلتي ما في السويدا رجال ) ومنه قوله
( بجفنه سيف فرى حده ... قلوب قوم في الهوى أسرى )
( ومن عجيب نصر ألحاظه ... وجفنها المكسور قد فرا ) ومنه قوله
( وظبي معانيه بيان بديعها ... له حار فكري إذ رأى كل معجز )
( قرأت مقامات الحريري كلها ... بعارضه مشروحة للمطرزي ) وتزاحم الشيخ صلاح الدين والشيخ زين الدين بن الوردي في هذا المعنى والنكتة بقوله ( شبهت خد حبيبي ... تشبيه فكر مبرز )
( مقامة للحريري ... وشرحها للمطرز )
(2/157)
________________________________________
والذي يشهد به الذوق أن تركيب الصفدي أحسن وأقعد ومنه قوله
( كن كيف شئت فإن قد ... رك قد علا عندي وعزا )
( مات السلو تعيش أنت ... أما رأيت الصبر عزا ) ومن لطائفه في هذا الباب قوله
( قالوا حكى بدر الدجا وجه الذي ... تهوى فقلت لهم قفوا وتربصوا )
( أنا ما أصدق ما عليه كلفة ... فإذا حكى شيئا يزيد وينقص ) ومنه قوله
( من شافعي يوما إلى مالك ... في أمر روحي القبض والبسطا )
( صوب رأي الناس في حبه ... وشعره في الأرض قد خطا ) ومنه قوله
( يقول إذ أنكرته قبلة ... غصبتها في زورة الطيف )
( هذا عذاري وجفوني فقم ... واحلف على المصحف والسيف ) ومنه قوله
( يقولون حاكاه الهلال فلا تزغ ... عن الحق واعرف ذاك إن كنت تنصف )
( فقلت إذا ما صار بدرا مكملا ... حكاه ومع هذا عليه تكلف ) وقوله
( إذا قلت قد أسرفت في التيه قال لي ... تقل في جمالي في الورى غير ما جرى )
( وابيض طرفي واقف عند حده ... واسود شعري قد تواضع للثرى ) وقوله
( محياه له حسن بديع ... غدا روض الخدود به مزهر )
( وعارضه رأى تلك الحواشي ... مذهبة فزمكها وشعر )
(2/158)
________________________________________
وقوله
( أقول وحر الرمل قد زاد وقده ... وما لي إلى شم النسيم سبيل )
( أظن نسيم الجو قد مات وانقضى ... فعهدي به في الشام وهو عليل )
النسيم العليل تلاعبوا به كثيرا ولكن قول الصفدي فعهدي به في الشام وهو عليل في غاية اللطف ومنه قوله
( كؤوس المدام تحب الصفا ... فكن لتصاويرها مبطلا )
( ودعها سواذج من نقشها ... فاحسن ما ذهبت بالطلا ) وقوله
( قلت لما شوى أوزا حبيبي ... واكتسى باللهيب ثوب ثناء )
( لو يعيش الجزار مات غراما ... في معاني محاسن الشواء ) وقوله
( كلفي ببدر صائغ ... كالبدر في جو السماء )
( سكر المحب بريقه ... وغدا يموه بالطلاء ) ومنه قوله
( شوى الأوز فأضحت ... في حمرة الخد بسطه )
( فقلت تشوى إوزا ... أم كنت تشرب بطه ) ومنه قوله
( قل للعذول يسترح من عذلي ... ما أصبح المعشوق عندي مشتهى )
( وارتد قلبي عن سيوف لحظه ... وكل شيء بلغ الحد انتهى ) ومن نكته البديعة قوله
( أقول له ما كان خدك هكذا ... ولا الصدغ حتى سال في الشفق الدجا )
(2/159)
________________________________________
( فمن أين هذا الحسن والظرف قال لي ... تفتح وردي والعذار تخرجا ) وقوله
( أصبحت نابغة الغرام لصبوة ... في غادة بجمالها متفرده )
( كم قد جلت من خدها وسيوف مقلتهاإلى النعمان والمتجرده ... ) وقوله أيضا
( أنفقت كنز مدائحي في ثغره ... وجمعت فيه كل معنى شارد )
( وطلبت منه جزاء ذلك قبلة ... فأبى وراح تغزلي في البارد ) وقوله
( قالت وقد مادت كغصن النقا ... أسرفت في العشق بلا فائده )
( فقلت منهوم الهوى لم يكن ... يشبع إن مدت له المائده ) وقوله
( سكن البدو من أحب فقالوا ... زاد أهل الغرام في البعد بعدا )
( قلت بالله هل سمعتم ببدر ... غاب عن عاشقيه لما تبدى ) ومن نكته الغريبة قوله
( سال العذار فسل سيف جفونه ... حتى غدت مهج الورى أفلاذا )
( يا صدغه والله كنا في غنى ... عن أن نراك السائل الشحاذا ) وقوله ( أقول لقاض سهم مقلته غدا ... يصيب الحشا لا تبغ قتلي ولا توذي )
( وإن كان قلبي عنده غير تائب ... فدعه ولا تحكم عليه بتنفيذ )
(2/160)
________________________________________
وقوله
( أملت أن تتعطفوا بوصالكم ... فرأيت من هجرانكم ما لا يرى )
( وعلمت أن بعادكم لا بد أن ... يجري له دمعي دما وكذا جرى ) وقوله
( لئن سمح الدهر البخيل بقربكم ... وسكن مني أنفسا وخواطرا )
( جعلت ابتذال الروح شكران وصلكم ... وقلت لدمع العين يعمل ما جرى ) وقوله
( بدا في الخد عارضه فأضحى ... عليه معنفي باللوم يغري )
( وحاول أن يرى مني سلوا ... وقال لقد تعذر قلت صبري ) وقوله
( تقول له الأغصان إذ ماس قده ... أتزعم أن اللين عندك قد ثوى )
( فقم نحتكم في الروض عند نسيمه ... ليقضي على من مال منا مع الهوى ) وقوله
( تنائى الذي أهوى فمت صبابة ... فقال عجيب كل أمرك في الهوى )
( صبرت لطرفي إذ رمتك سهامه ... ولم تتصبر إذ رمتك يد النوى ) وقوله
( أتاني وقد أودى السهاد بناظري ... يمزق جنح الليل بارق فيه )
( فناديته يا طيب الأصل هكذا ... أخذت الكرى مني وعيني فيه ) وقوله
( بأسياف الجفون قتلت نفسا ... مبرأة عن الشكوى زكيه )
( فما أقوى جفونك وهي مرضى ... وأقدرها على قتل البريه ) وقوله
( جاء بقد قد ثنته الصبا ... ورنحت أعطافه الساميه )
( ومذ غدا في لينه واحدا ... كانت له ريح الصبا ثانيه ) وقوله
( وفي القلب من هاجري لوعة ... بغير تلافيه ما تندمل )
( فيا شعره بعض هذا الجفا ... ويا ردفه أنت ما تتحمل ) وقوله
( يا قلب صبرا على الفراق ولو ... روعت ممن تحب بالبين )
( وأنت يا دمع إن أبحت بما ... تخفيه وجدا سقطت من عيني )
(2/161)
________________________________________
وقوله
( لولا شفاعة شعره في صبه ... ما كان زار ولا أزال سقاما )
( لكن تطاول في الشفاعة عنده ... وغدا على أقدامه يترامى )
وهذه النكتة تزاحم هو والشيخ زين الدين بن الوردي عليها والله أعلم من المخترع فإنهما كانا متعاصرين فقال
( كيف أنسى لشعر حبي يوما ... وهو كان الشفيع في لديه )
( شعر الشعر أنه رام قتلي ... فرمى روحه على قدميه ) وقوله
( إن قلت زرني قال لا ... بحاجب ما أظلمه )
( فما يرى جوابه ... إلا بنون العظمه )
والشيخ صلاح الدين تزاحم هو والشيخ برهان الدين القيراطي على هذه النكتة وزنا وقافية والله أعلم من المخترع منهما بقوله
( وتائه حدثته ... فلم يفه بكلمه )
( أجابني بحاجب ... لكن بنون العظمه ) ويعجبني قوله
( أضحى نسيم دمشق حياها الحيا ... يمشي الهوينا في ظلال رباها )
( فكأنه من مائها وهضابها ... ما داس إلا أعينا وجباها ) ومثله قوله
( تقول دمشق إذ تفاخر غيرها ... بمعبدها الزاهي الرفيع المشيد )
( جرى ليباهي حسنه كل معبد ... وما قصبات السبق إلا لمعبد ( ي ) ) وقوله
( لما زهر الربيع بروضه ... وغدا له فضل ينير لديه )
( قام الحمام له خطيبا بالهنا ... وجرى الغدير فخر بين يديه )
(2/162)
________________________________________
وقوله
( قالوا علا نيل مصر في زيادته ... حتى لقد بلغ الأهرام حين طمى )
( فقلت هذا عجيب في بلادكم ... أن ابن ستة عشر يبلغ الهرما ) ومن أغراضه قوله
( رب طباخ به نضجت ... مهجات غير مرحومه )
( سلوتي عنه مزورة ... أبدا والنفس مغمومه ) وقوله
( أحببت بابا حسنه بارع ... سبى من النساك ألبابا )
( أغلق في وجهي باب الرضى ... فهل تراني أفتح البابا ) وقوله
( إن اللطافة لم تزل ... بين الأكابر فاشيه )
( أرأيت عمرك في الورى ... طرفا رقيق الحاشيه ) وكتب على لسان صاحب له طلب من صاحب سرجا فلم يجهزه له قوله
( عجبا كيف لم تجد لي بسرج ... وحده واللجام دأب النفوس )
( وإذا لم تبعثه في أول الأمر ... اختيارا فابعثه بالدبوس ) وكتب إلى من أهدى له صحن قطائف قوله
( أتاني صحن من قطائفك التي ... غدت وهي روض قد تنبت بالقطر )
( فلا غرو إن صدقت حلو حديثها ... وسكرها يرويه لي عن أبي ذر ) الجماعة تجاروا في هذه الحلبة وأجادوا منهم الشيخ زين الدين بن الوردي بقوله
( بعثت قطائفا حلت ... جناها قطرها الغامر )
( فسكرها أبو ذر ... ومرسل صحنها جابر )
وأجاد الشيخ جمال الدين بن نباتة هنا وجمع بين التورية وحسن التضمين وبديع الاكتفاء والحلاوة بقوله
( أقول وقد جاء الغلام بصحنه ... عقيب طعام الفطر يا غاية المنى )
( بعيشك قل لي جاء صحن قطائف ... وبح باسم من تهوى ودعني من الكنا )
(2/163)
________________________________________
وقوله مع بديع التضمين
( رعى الله نعماك التي من أقلها ... قطائف من قطر النبات لها قطر )
( أمد لها كفي فأهتز فرحة ... كما انتفض العصفور بلله القطر ) ويعجبني هنا قول الشيخ برهان الدين القيراطي مع بديع التضمين
( لقد قطفت زهر النبات قطائف ... تخيرتها فاخترت للنفس ما يحلو )
( تقول اسمعوا مني مدائح مرسلي ... فكلي إن حدثتكم ألسن تتلو ) وأما تورية فالقطر النباتي معروف فمن ذلك قوله
( شكرا لبرك يا غيث العفاة ولا ... زالت مدائحك العلياء تنتخب )
( قد جدت بالقطر حتى زدت في طمع ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب ) وقوله
( لجود قاضي القضاة أشكو ... عجزي عن الحلو في صيامي )
( والقطر أرجو ولا عجيب ... القطر يرجى من الغمام ) ويعجبني هنا قول أبي الحسين الجزار
( أيا علم الدين الذي جود كفه ... براحته قد أخجل الغيث والبحرا )
( لئن أمحلت أرض الكنافة إنني ... لأرجو لها من سحب راحتك القطرا )
قلت الشيء بالشيء يذكر ذكرت هنا لغزا في لوزينج كتب به مولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الأدمي رحمه الله إلى علامة العصر القاضي بدر الدين بن الدماميني رحمهما الله
( يا من له في عروض الشعر أي يد ... فاق الخليل بها فضلا وتمكينا )
( ما اسم دوائره في لفظه ائتلفت ... والثلم في صدرها مستعمل حينا )
( أجزاؤه من زحاف الحشو قد سلمت ... وقد تقطع مطويا ومخبونا )
( تصحيف معكوسه لفظ يرادفه ... يا فرد يا رحلة قوم مقيمونا )
( والعبد منتظر من حله فرجا ... لا زال سعدك بالإقبال مقرونا )
(2/164)
________________________________________
فأجابه المشار إليه بقوله
( يا مرسلا من شهي النظم لي كلما ... منه ابن سكرة قد راح مغبونا )
( لله درك صدرا من حلاوته ... وجوهر النظم لم يبرح يحلينا )
( حليت لغزك إذ أبهمته فلذا ... يا فاتني رحت بالإعجاب مفتونا )
( هذا وكم قد رأينا في دوائره ... للكف قبضا يزيد العقل تمكينا )
( وليس إضماره مستحسنا فأدم ... بالكشف عنه لمن وافاك تحسينا )
( وكن لنا هاديا صوب الصواب ودم ... فينا أمينا رشيد الرأي مأمونا )
وقد ان الرجوع إلى ما كنا فيه مما اختاره من نظم الشيخ صلاح الدين الصفدي في باب التورية فمن لطائف مجونه قوله فيمن سرق شيئا من بعض شعره
( إن كان يا مولاي لا بد أن ... تأخذ شعري جملة كافيه )
( قافية البيت اطرح لفظها ... وقم خذ الكل بلا قافيه ) وقوله
( أدير بلحيتي البيضاء كاسي ... بكيس زائد مني وفطنه )
( ألم ترني وعفو الله راج ... ومن شرهي أصفيها بقطنه ) وقوله
( وجرة قدموها ... والراح فيها كمينه )
( شممت طينة فيها ... فرحت سكران طينه ) وقوله
( قلت له إذ هز لي ذقنه ... ولام فيمن همت في عشقها )
( تذكر إذ غنت فنادى نعم ... فقلت واشوقا إلى حلقها ) وقوله
( وعاذل بارد المقالة لا ... يعي صوابا وزاد في نكدي )
( وقال ذقن الحبيب باردة ... فقلت يا بردها على كبدي ) وقوله
( ملكت كتابا أخلق الدهر جلده ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد )
(2/165)
________________________________________
ومن نكت المجون التي توارد هو والشيخ جمال الدين عيلها وزنا وقافية قوله
( إذا ما قام أيرك في الدياجي ... وعندك من تحب فلا تحابي )
( ومل نحو الطواشي واعتنقه ... فمثلك لا يدل على صواب )
وقول الشيخ جمال الدين
( أرى الصواب يا أيري صفات ... تحث على التعشق والتصابي )
( فبادره فأنت به خبير ... ومثلك لا يدل على صواب ) ويحسن أن نختم هذه المجونات بقول الشيخ صلاح الدين وهو
( يا ساحبا ذيل الصبا في الهوى ... أبليته في الغي وهو القشيب )
( فاغسل بدمع العين ثوب التقى ... ونقه من قبل وقع المشيب )
الشيخ صلاح الدين سامحه الله كان من المكثرين وكان هو والشيخ شهاب الدين ابن أبي حجلة يرضيان لرغبتهما في الكثرة بالأشياء الرخيصة ولم أورد للشيخ صلاح الدين هنا غير الغالي من نظمه واختياره واختياري ومن محاسن الشيخ زين الدين بن الوردي في باب التورية ومقاطيعه التي هي أحسن من مقطعات النيل وأحلى في الأسماع من نغمات المواصيل
( إن قلت قدك غصن ... قالت لي الغصن ساجد )
( أو قلت ريقك ثلج ... قالت تشبه بارد ) ومن ذلك قوله
( يا سائلي تصبرا ... عن لثم فيه لا تسل )
( ما تستحي تبدلني ... بالصبر عن ذاك العسل )
ومن ذلك قوله
( ومليح إذا النحاة رأوه ... فضلوه على بديع الزمان )
( برضاب عن المبرد يروي ... ونهود تروى عن الرماني )
(2/166)
________________________________________
وقوله
( امام في الركوع حكى هلالا ... ولكن في اعتدال كالقضيب )
( وقال تلوث قلت الشمس حسنا ... وقال ختمت قلت على القلوب ) ومن لطائفه في هذا الباب قوله
( يشفع في شعره ... إذ مال عن قبوله )
( فهو على أقدامه ... ممدد بطوله ) ومنه قوله
( عجبت في رمضان من مسحرة ... بديعة الحسن إلا أنها ابتدعت )
( قامت تسحرنا ليلا فقلت لها ... كيف السحور وهذي الشمس قد طلعت ) ومن لطائفه قوله
( إذا تعذر حبي ... فخله يتعذر )
( فجيده حصل ما بي ... والجيد لا يتغير ) ومنه قوله
( وتاجر ما طلته دينه ... لأجتليه قال ما أمطلك )
( قلت له جيدك لي أو لمن ... فقال هات المال والجيد لك ) وقوله
( قالت إذا كنت تهوى ... أنسي وتخشى نفوري )
( صف ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري ) ومنه قوله
( أنكر حبي مدمعي ... وقال هذا من هوى )
( فقلت لا بل من فتى ... أصاب عيني بنوى ) ومن نكته اللطيفة في تضمين المثل السائر قوله
( وسمينة كانت لها ... في القلب منزلة ترقت )
( رقت فعفت وصالها ... وقطعتها من حيث رقت )
(2/167)
________________________________________
وقوله
( سألتها أي ناه ... نهاك عن حسن نوجك )
( قالت نهاني زوجي ... فقلت روحي بزوجك ) ومن أغزاله قوله
( أقول إذ قال لي حبيبي ... علام فارقتني علاما )
( خدك كان الصفا ولكن ... قد أصبح المشعر الحراما ) وقوله
( رامت وصالي فقلت لي شغل ... عن كل خود تريد تلقاني )
( قالت كأن الخدود كاسدة ... قلت كثير القلة القاني ) وقوله
( أبصروا دمعي فخافوا ... قلت لا تخشوا بكائي )
( ما عليكم من دموعي ... غير أمطار السماء ) ومنه قوله
( سل الله ربك من فضله ... إذا عرضت حاجة مقلقه )
( ولا تسأل الترك في حاجة ... فأعينهم أعين ضيقه ) وقوله
( لما شتت عيني ولم ... ترفق لتوديع الفتى )
( أدنيتها من خده ... والنار فاكهة الشتا ) وقوله
( ضممتها عند اللقا ضمة ... منعشة للكلف الهالك )
( قالت تمسكت وإلا فما ... وهذا الشذى قلت بأذيالك ) وقوله
( شكى من الخط ضعفا ... وذاك منه دلال )
( قلت استعن بمثال ... فقال ما لي مثال ) ومنه قوله
( وأغيد يسألني ... ما المبتدأ والخبر )
( مثلهما لي مسرعا ... فقلت أنت القمر ) ومن نكته مع حسن التضمين قوله
( مليح ردفه والساق منه ... كبنيان القصور على الثلوج )
( خذوا من خده القاني نصيبا ... فقد عزم الغريب على الخروج )
(2/168)
________________________________________
ومن نكته اللطيفة قوله
( مهفهف القد إذا ما انثنى ... يقول لا تخش من الرد )
( ما أنت حملي يا كثيب النقا ... ولست يا غصن النقا قدي ) وقوله
( لو نلت من خديه تقبيلة ... تزين الريحان بالورد ) وقوله
( رومية الأصل لها مقلة ... تركية صارمها هندي )
( قد فضحتني وجنتاها فقل ... في وجنة فاضحة الوردي ) وقوله من دو بيت
( يا روضة حسن ليتها لي وحدي ... الشركة فيك قد أذابت كبدي )
( ما ضرك أن تسقي بماء فرد ... والواجب أن يكون ماء الورد ) ومنه قوله
( هويت أعرابية ريقها ... عذب ولي فيها عذاب مذاب )
( رأسي بنو شيبان والطرف من ... نبهان والعذال فيها كلاب ) وقوله
( قلت وقد عانقته ... عندي من الصبح فلق )
( قال وهل يحسدنا ... قلت نعم حتى انفلق ) ومنه قوله
( تقويم قدك مال يا من ثغره ... در يقصر دونه التقويم )
( إني لأبكي من جفاك ولي أب ... والثغر يضحك منه وهو يتيم ) ومن اختراعاته قوله
( رام ظبي الترك وردا ... قلت أقصر خاب ضدك )
( عندك الورد المربى ... قال قاني قلت خدك ) وقوله
( رب فلاح مليح ... قال يا أهل الفتوه )
( كفلي أضعف خصري ... فأعينوني بقوه )
(2/169)
________________________________________
وقوله
( قلت لفرا فرى أديمي ... وزاد صدا وطال هجرا )
( قد فر صبري وفر نومي ... قال نعم مذ عشقت فرا ) وقوله
( رغيف خباز كم قد حكى ... من وجهه التدوير والحمره )
( إذا رأى ميزانه المشتري ... قال هنا الميزان والزهره ) ومنه قوله في مليح عبري
( أغيد عبري له عمة ... حكت من العشاق ألوانا )
( لقد سبى بالنور شمس الضحى ... فهل أتى من آل عمرانا ) ومنه قوله
( ووعدت أمس بأن تزور ولم تزر ... فغدوت مسلوب الفؤاد مشتتا )
( لي مهجة في النازعات وعبرة ... في المرسلات وفكرة في هل أتى ) وقوله
( أعور كالبدر له مقلة ... واحدة قامت مقام اثنتين ) ( قد سرق الرقدة من ناظري ... وقال ما جئتك إلا بعين ) وقوله
( بأبي أعور عين فاتن ... مثل بدر التم والتم بعين )
( طرفه الواحد عضب ذكر ... فله في الحسن حظ الأنثيين ) ومنه قوله
( رأيت رشيق القد أعور فاتنا ... له مقلة أغنته عن حسن ثنتين )
( إذا قال غصن البان أنت ابن قامتي ... يناديه بدر التم أنت أخو عيني ) وقوله
( جنكية شاهدت عشاقها ... وهم بها في الجهد والضنك )
( قالت أما تعشق جنكية ... قلت كذا يا ليتني جنكي ) وقوله
( تغسل عيني وجنتي ... بدمعة هاملة )
( فوجنتي قائلة ... عدوتي غاسلتي )
(2/170)
________________________________________
وقوله
( ناديت صالحة إلى ... كم أنت عنا نازحه )
( قالت نزحت لأنكم ... لا تصلحون لصالحه )
( هويت حصادا حكت قامتي ... من طول ما يهجرني منجله )
( أقول والسنبل من حوله ... مولاي أنت الشمس في السنبله ) وقوله
( أنا في حالي نقيض ... يا شموسا في البزوغ )
( هزم الصبر عليكم ... والمنى دون البلوغ ) ومن لطائفه قوله
( قال لي بند خصره ... كم كذا ترجع البصر )
( قلت لا تنفرد به ... لك شد ولي نظر ) ومن أغراضه اللطيفة قوله في صديق له بالمعرة يقال له شمس
( لي بالمعرة شمس ... رضاه غير مرادي ) ( فلا تذموه إني ... أدرى بشمس بلادي ) وكتب إليه في زفة له
( يا شمس أشعلت شمعا ... عليك عشر الأصابع )
( رغما لمن قال قبلي ... الشمع في الشمس ضائع ) ومنه قوله في آل النصيبي بحلب
( فؤادي إلى ال النصيبي مائل ... وودي لهم في محضري ومغيبي )
( فبيني وبين القوم نوع تجانس ... إذا طاب أصل الورد كان نصيبي ) وقوله
( للمقدسي بقلبي ... حب خلي الدليل )
( فمن يكن ذا خليل ... فالمقدسي خليلي )
(2/171)
________________________________________
ومن لطائف أغراضه قوله
( يا شيخ خل التصابي ... فالزهد بالشيخ أليق )
( ولا تحت كميتا ... فإن فودك أبلق )
( ولي صاحب بالمدح والهجو كسبه ... يقول أتدري كيف أصنع بالخلق )
( إذا حمروا وجهي وما بيضوا يدي ... أزرق لهم رجلي ولو خضروا عنقي ) ومثله قوله
( لي صاحب واسمه سراج ... ما قر لي عنده قرار )
( لسانه محرق لقلبي ... إن لسان السراج نار ) ومن أغراضه اللطيفة قوله
( تجادلنا أماء الزهر أزكى ... أم الخلاف أم ورد القطاف )
( وعقبى ذلك الجدل اصطلحنا ... وقد حصل الوفاق على الخلاف ) ومن لطائف مجونه
( يا من تولى قاضيا ... هذا قضاء أم قدر )
( غدروك في بستاننا ... إن القضا يعمي البصر ) ومن أغراضه البديعة قوله
( قد مات شيخي فاظهروا ... بحربه أو سلمه )
( عيشوا بجهل بعده ... فقد قضى بعلمه ) ومن أغراضه البديعة قوله
( لا تحملوني على انتقام ... فالجاه يحكي خيال طيف )
( عفوت عن مذنب فقرت ... عين عدوي وجفن سيفي )
(2/172)
________________________________________
ومن أغراضه قوله
( ديار مصر هي الدنيا وساكنها ... هم الأنام فقابلهم بتقبيل )
( يا من يباهي ببغداد ودجلتها ... مصر مقدمة والشرح للنيل ) ومن لطائف مجونه قوله
( حمامكم قيمة أسود ... هربت منه وأنا صارخ )
( قد سلخت جسمي أظفاره ... يا قوم هذا أسود سالخ ) ومن لطائف أغراضه قوله
( يا من غدا في طلاب المجد مجتهدا ... لم يثنه عنه لا مال ولا ولد )
( لا تبسطن لتقليد القضاء يدا ... أيرتضي رتبة التقليد مجتهد ) وكتب إلى قاضي القضاة شرف الدين بن البارزي
( جنبتني وأخي تكاليف القضا ... وكفيتنا مرضين مختلفين )
( يا حي عالم دهرنا أحييتنا ... فلك التصرف في دم الأخوين ) وقوله مع تضمين المثل السائر
( إني عدمت صديقا ... قد كان يعرف قدري )
( دعني لقلبي ودمعي ... يا صاح أحرف وأدري ) ومن لطائف أغراضه وقد ولي قضاء شيراز قوله
( إنما شيراز نار ... وبها القاضي مخلد )
( قلت لا أمكث فيها ... أنا من حزب محمد ) ومن أغراضه قوله
( مرض الفؤاد وصح ودي فيهم ... وأقام تذكاري وصبري نازح )
( إنسان عيني كم سهادكم بكى ... يا أيها الإنسان إنك كادح )
(2/173)
________________________________________
ومن نكته البديعة مع تضمين المثل قوله في آل البيت عليهم السلام
( يا آل بيت النبي من بذلت ... في حبكم روحه فما غبنا )
( من جاء عن بيته يحدثكم ... قولوا له البيت والحديث لنا ) ومن نكته الغريبة قوله في محتسب
( من ولي الحسبة يصبر على ... تعرض الواقف والسائر )
( فليس يحظى بالمنى والغنى ... فيهم سوى المحتسب الصابر ) وقوله
( قد عجبنا لأمير ... ظلم الناس وسبح )
( فهو كالجزار فيهم ... يذكر الله ويذبح ) وقوله في مدينة حلب
( عليك بصهوة الشهباء تلقى ... بجوشنها محاربة الزمان )
( فللعرفان في الفردوس ريح ... يفوح شذاه من باب الجنان ) ومن مجونه فيمن رتبوا له أربعة دراهم قوله
( كل يوم رتبوا أربعة ... لك فازددت علينا صعصعه )
( فلو استفتيت في سيدنا ... قلت يستأهل قطع الأربعة ) ومن لطائفه قوله
( ناعورة مذعورة ... ولهانة وحائره )
( الماء فوق كتفها ... وهي عليه دائره ) ومن نكته الغريبة قوله
( زوجة مجد الدين والدها ... قد أخذ عرض المجد أشبهاها )
( إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها )
(2/174)
________________________________________
وقوله
( مليحة مصطولة ... إن لمتها فيما أرى )
( تقول كل ظبية ... ترعى الحشيش الأخضرا ) ومن أغراضه البديعة مع حسن التضمين قوله
( كرهت وضوءا من قناة تساق من ... دماء الرعايا أو بسخرة مسلم )
( ستشرق في يوم الحساب ندامة ... كما شرقت صدر القناة من الدم ) ومما تخيرته هنا من تأليفي الذي وسمته بتحرير القيراطي رحمه الله تعالى قوله
( البدر طلعة وجهه ... وعذاره هالاته )
( وخفوق قلبي في هواه ... سعيدة حركاته ) وقوله
( أجريت دمعي فمذ أفنيت أبحره ... أجريت مني بأسياف الجفون دمي )
( إن ملت عني برمح القد يا أملي ... لتقرعن علي السن من ندم ) وقوله
( أسدي ثم ألحم تحت طاق ... له والدمع يجري كل وقفه )
( وكم يوم عبرت له زقاقا ... أحاول غفلة وأروم عطفه ) وقوله
( لما تبدى قوام قامته ... وحاجباه لناظر العين )
( رأيت موتى بسيف ناظره ... من قيد رمح وقاب قوسين )
وقوله
( تنفس الصبح فجاءت لنا ... من نحوه الأنفاس مسكيه )
( واطربت في العود قمرية ... وكيف لا تطرب عوديه ) وقوله
( ارتاح للأقمار وهي طوالع ... وشموس راحي للمغارب تجنح )
( ويهزني زجل الطيور بلحنها ... والروض بالزهر النظيم موشح )
(2/175)
________________________________________
وقوله
( يا أمير الجمال قل ... فالمراسيم تستمع )
( أنا مملوكك الذي ... لك قلبي غدا تبع ) وقوله
( في جفنه سيف مضاربه ... يا صاح اسبق لي من العذل )
( وبخده والردف لي خبر ... قد سار بين السهل والجبل ) وقوله
( شبه السيف والسنان بعيني ... من لقتلي بين الأنام استحلا )
( فأبى فالسيف والسنان وقالا ... حدنا دون ذاك حاشى وكلا ) وقوله
( هويت طباخا له نصبة ... نيرانها للقلب جنات )
( يكسر أجفانا إذا ما رنا ... لها على الأرواح نصبات ) وقوله
( أهيم بأعطاف القدود صبابة ... وإن هي زادتني جفا وتباعدا )
( ويعجبني بين الأنام تطفلي ... عليها إذا شاهدتهن موائدا ) وقوله
( أباح لي نرجس ألحاظه ... في مجلس ما فيه ما نكره )
( فقلت ورد الخد جد لي به ... أيضا فقال الكل في الحضره ) وقوله
( قال لي بالحمى غزالي لما ... لم أجد من ظبا الجفون ملاذا )
( كيف جاءت إليك أسياف جفني ... قلت جاءت على الحمى فولاذا ) وقوله
( في وصف خمر الثغر منك نوادر ... تزري بحسن نوادر ابن عتيق )
( وإذا وصفت رشيق قدك عندما ... هز القوام لنا فما ابن رشيق ) وقوله
( جفني وجفن الحب قد أحرزا ... وصفين من نيلك يا مصر )
( جفني له يوم الوداع الجفا ... وجفنه الساجي له الكسر ) وقوله
( خدمت بالأغزال أبوابه ... لما تبدى حسنه الباهر )
( ولي من الدمع على خدمتي ... جراية أطقلها الناظر )
(2/176)
________________________________________
وقوله
( الدمع والجفن فيه ... لي شاهدان بحزني )
( فالجفن يسقط دمعي ... والدمع يجرح جفني ) وقوله
( عبدك يا من جفا وصد وما ... درى بصب يموت بالكمد )
( جرى على الخد من مدامعه ... في الحب ما لا جرى على أحد ) وقوله
( في خد من همت به شامة ... ما الند في نفحه ندها )
( والعنبر الرطب غدا قائلا ... لا تدعني إلا بيا عبدها ) وقوله
( ومخايل نبت العذار بخده ... وله مخايل بالملاحة تشهد )
( لما راني قانعا بخياله ... نزل العذار بوجنتيه يسود ) وقوله
( مال إلى الهيئة ذو هيئة ... فاتنة ألبابنا باهره )
( فخاله في خده نقطة ... عذاره أضحى لها دائره ) وقوله
( أنظر إلى سطر عذار بدت ... من فوقه الشامات مثل النقط )
( صحت به نسخة حسن لمن ... قد راحت الأرواح فيه غلط ) وقوله
( جزت النقا فحويت لين غصونه ... وكثيب واديه وجيد غزاله )
( وأخذت حسن البدر منه وقد بدا ... في أفقه بتمامه وكماله ) وقوله
( ويوم توالى القطر فيه فجاءني ... بشمس الطلا بدر يفوق على البدر )
( فعانقت لما مال عسال قده ... وقبلت معسول اللمى عدد القطر ) وقوله
( يا من تبرمك صبه في عشقه ... بالروح لا تبخل فعشقي زائد )
( بالفضل جد لي إن دمعي جعفر ... والوجد يحيى والتشوق خالد ) وقوله
( يا هاجرا أوقعني هجره ... وصده في حالة صعبه )
( أخذت قلبي بالتجني وما ... تركت لي منه ولا حبه )
(2/177)
________________________________________
وقوله
( قلت له لما زها حسنه ... على بدور التم ما أحسنك )
( وقلت للائم يا لائمي ... في خده الناعم ما أخشنك ) ومن لطائف مدائحه قوله
( أوصافكم تسري أحاديثها ... مسرى النجوم الزهر في الأفق )
( كما أحاديث الندى عندكم ... تسندها الركبان من طرق ) وقوله في البجانقي الموقت
( شهاب الدين ذو فكر بسمت ... وبالفلك المحيط غدت محيطه )
( غدا في العصر شيخ الوقت حقا ... وفي أوضاعه ملك البسيطة ) ومن أغراضه قوله
( قناطر الجيزة كم قادم ... عليك يلقى فيك أقصى مناه )
( أتاك قوم لاطة فانحنى ... ظهرك للوطء وصب المياه ) وقلت في هذا المعنى
( وقالوا كميت النيل يجري وقد غدا ... عليه حلوق السبق قلت كذا جرى )
( ولكنه نحو القناطر إذ أتى ... تجرى عليها معجبا فتقنطرى ) ويعجبني من أغراضه اللطيفة قوله
( كم عالم قد اشتكى ... في الفقر طول مكثه )
( وكل نور سارح ... زيد له في حرثه ) وكتب إلى الشيخ صلاح الدين
( يا صلاح العلا صفاء ودادي ... لا يرى عن أبي الصفا تحويلا )
( فدع العتب إنني لست ممن ... لا يراعون في الأنام خليلا )
(2/178)
________________________________________
ومن لطائفه قوله فيما يكتب على طاسة
( تأمل فإني طاسة صح نقشها ... وفاق على نقش الغواني التي تسبي )
( وواصف حسني أطرب السمع قوله ... كأني في الكاسات داخلة الضرب ) وقلت في المعنى
( أنا طاسة قدري سما وبروضتي ... نهر المجرة للنجوم موارد )
( وتسارح القمر المنير لحسنه ... فقمرته وعليه نقشي قاعد ) وقلت أيضا
( أنا طاسة بيضت وجهي عندكم ... وصفا لكم قلبي بماء رائق )
( عذبت موارده ببارق بهجتي ... فتنزهوا بين العذيب وبارق ) ومن أغراضه اللطيفة في باذهنج قوله مضمنا
( بروحي أفدي باذهنجا موكلا ... بإطفاء ما يلقاه من حرق الجوى )
( إذا مدحت أوصافه قال منشدا ... على أنني راض بأن أحمل الهوى ) ومن أغراضه قوله
( أطربنا العود إلى أن غدا ... مقامنا يرقص مع صحبه )
( فشمعنا قام على ساقه ... وكأسنا دار على كعبه ) وقوله مضمنا
( درب الحجاز لقد شرفت منازلا ... قدر المنازل من سواها نازل )
( كم سرت فيها نحو مكة منشدا ... لك يا منازل في القلوب منازل ) ومما اخترته من الأبيات العامرة للمعمار رحمه الله قوله
( إن قام يتلو سورة الشمس المنيرة في ضحاها ... )
(2/179)
________________________________________
( يا حسنه فكأنه القمر المنيرإذا تلاها ... ( ي ) )
ونقلت من تذكرة الشيخ عز الدين الموصلي بخطه بيتين للمعمار وذكر أنهما خارجان عن الديوان وهما من اللطائف في هذا الباب
( لما تبدى عذار الحب قلت له ... رفقا ومهلا عليه أيها الجاني )
( ولا تخشن فما في الخد محتمل ... بان يخط عليه عرق ريحان ) ومن لطائفه في هذا الباب قوله
( وخادم قبلت مشروطه ... في خده لكن رأيت العجب )
( من ناعم حلو فناديته ... ما أنت يا مشروط إلا رطب ) وقوله
( تملك قلبي خادم قد هويته ... من الهند معسول اللمى أهيف القد )
( أقول لصحبي حين يرنو بلحظه ... خذوا حذركم قد سل صارمه الهندي ) وقوله
( لثمت عذار محبوبي الشرابي ... فقال تركت لثم الخد عجبا )
( حفظت الأنيسون كما سمعنا ... ورحت تضيع الورد المربى ) وقوله
( صاد فؤادي من بني العرب فتى ... له من الحسن اتصال ونسب )
( فصحت في الحي وقلبي طائر ... يا عربا أهل ذمام وحسب )
( عساكم أن تنشدوا حشاشة ... في حبكم ضلت وراحت يا عرب ) وقوله
( رحلوا عريب المنحنى ... وفراقهم ما كان أصعب )
( أملتهم أن يرجعوا ... والموت لي من ذاك أقرب )
( جئت الحمى لأرى الخيام ... فلم يلح في الحي مضرب ) ومنه قوله وأجاد
( كلفي بطباخ تنوع حسنه ... ومزاجه للعاشقين يوافق )
( لكن مخافي من جفاه وكم غدت ... منه قلوب في الصدور خوافق )
(2/180)
________________________________________
ومنه قوله
( رب جزار هواه ... صار لي لحما ودما )
( فزت بالألية منه ... وامتلا قلبي شحما ) وقوله
( حاكمت في شرع الهوى قاتلي ... ولي دم طل على خده )
( فاتهم الحاكم لحظا له ... تحقق الفتنة من عنده ) ( مال إلى الحق فلما رأى ... قد حبيبي مال مع قده ) وقوله
( أصاب قلبي خطائي ... بلحظه لشقائي )
( فرحت من فرط دائي ... أشكو إلى الحكماء )
( قالوا أصبت بعين ... فقلت من علم دائي )
( إن كان هذا صوابا ... فتلك عين الخطائي ) ومن لطائفه قوله
( رحت يوم الفراق أجري دموعي ... حسرة إذ قضى الزمان ببيني )
( قيل كم ذا تجري دموعك تعمى ... أوقف الدمع قلت من بعد عيني ) ومن لطائفه قوله
( شكوت للحب منتهى حربي ... وما ألاقيه من ضنى جسدي )
( قال تداوى بريقتي سحرا ... فقلت يا بردها على كبدي ) ومن لطائفه قوله
( قلت له لما وفى موعدي ... مختفيا من حاسد معتدي ) ( رب كما فرحتني بالوفا ... أسبل علي الستر يا سيدي ) وقوله
( وبي غضبان لا يرضيه إلا ... دموع ساكبات مستمره )
( فما عطفت معاطفه بوصل ... وفي عيني بعد الهجر قطره )
(2/181)
________________________________________
ومن لطائفه قوله
( لو أنصفت لأشارت بالسلام على ... متيم ما قضى من وصلها وطره )
( بأصبع إنما عضت أناملها ... حتى ولا واحد يصفو من العشره ) ومثله قوله
( لو رأى دور ثغره ... عاذلي في التبسم )
( ذهبت روحه كما ... قيل في دور درهم ) وقوله
( في خد من أحببته ... ورد بدا لم أجنه )
( وشامة ذقت لها ... حلاوة في صحنه ) ومن لطائف قوله مع التضمين
( عزمت على رقيا محاسن وجهه ... بأنوار آيات الضحى حين أقبلا )
( فلما بدا يفتر عن نظم ثغره ... بدأت ببسم الله في النظم أولا ) ومن بديع مديحه قوله
( لابن فضل الله فضل ... غمر الفضل ووفى )
( كيف لا وهو علي ... علم السر وأخفى ) وقوله
( أيا بدر المحاسن حزت جودا ... وفضلا شاع بين العالمينا )
( وكنت من الكرام فحزت حظا ... فصرت من الكرام الكاتبينا ) وقوله
( قسما بما أوليت من إحسانه ... وجميله ما عشت طول زماني )
( ورأيت من يثني على عليائه ... بالجود إلا كنت أول ثان ) ومن أغراضه قوله
( ما مصر إلا منزل مستحسن ... فاستوطنوه مشرقا أو مغربا )
( هذا وإن كنتم على سفر به ... فتيمموا منه صعيدا طيبا )
(2/182)
________________________________________
وقوله
( جاء الرخاء وفاض النيل وانفرجت ... عنا الهموم وهان القمح ثم رمى )
( وراح خزانه للنيل ينظره ... فاستكثر الماء في عينيه ثم عمى ) وقوله
( حزن الخزان لما أن رأى ... نيلنا قد عم سهلا وجبل )
( ورأى الأرض لنا قد أخرجت ... سنبلات ذات حب فاختبل )
( وبكى إذ رمدت أعينه ... زادها الله عروقا وسبل ) وقوله
( سمعت يوما سد مصر يقول ... النيل وافى زائدا عندي )
( وكان هذا خبرا صادقا ... فرحت أرويه عن السدي ) وقوله
( لائمي في الشباب دع عنك لومي ... لست ممن تروعه بالعتاب )
( أيها الشيخ هات بالله قل لي ... أي عيش يحلو بغير الشباب ) وقوله
( وشادن ليس له شارب ... ولا عذار بل له طره )
( كفايتي من ريقه شربة ... واحسرتي منه على جره ) ومن لطائف مجونه قوله
( شهر الصيام تولى ... فراقه يوم عيد )
( فقيل شيع بست ... فقلت أيضا وسيدي ) وقوله
( قلت هلال الصيام ليس يرى ... فلا تصوموا وارضوا بقول ثقه )
( فغالطوني وحققوا ورجوا ... وكل هذا من قوة الحدقه ) وقوله
( أيري مع المرد خاب متجره ... مذ عاملوه معثر النصبه )
( فضيعوا رأس مال حاصله ... إذ كسروه وقام بالثقبه )
(2/183)
________________________________________
وقوله
( أيري إذا ندبته ... لحاجة تختص بي )
( قام لها بنفسه ... ما هو إلا عصبي ) وقوله
( تأخرت لعذرها ... قلت لها تقدمي )
( أيري هذا عصبي ... يدخل معك في الدم ) وقوله
( لي أير فيه كبر وجفاء ... وهو مني يا لقومي وإلي )
( كلما أغضبني أرضيته ... وإذا أرضيته قام علي ) وقوله
( أيري مغرى باللواط الذي ... يقبح لا سيما على مثله ) ( أوقف حالي لا تسل ما جرى ... وصرت خلف الناس من أجله ) وقوله
( وبخت أيري إذ جاء ملتثما ... بذاك من غفلة فما اكترثا )
( بل قال لي حين لمته قسما ... ما جزت حمام قعره عبثا )
( كيف وفيها طهرتي وبها ... أقلب ماء وأرفع الحدثا ) وقوله
( يا ليلة قضيتها ... فهل تراها عائده )
( عمود أيري قائم ... وهي عليه قاعده ) وقوله
( وصغيرة كلفتها ... أيري فقالت ويك باعد )
( ما خلت يحمل ذا العمود ... من النسا إلا القواعد ) ومثله
( صغير نام على وجهه ... وقال حكك قلت لا فائده )
( قم أدخل العمود ياسيدي ... فقال لا تنخرم القاعده ) وقوله
( عميرة قام يبتغي نكدي ... جلدته ثم قلت يا ولدي )
( ها أنت في قبضتي تطاوعني ... وإن عصاني خصاه تحت يدي ) وقوله
( وقحبة ذات حر يابس ... يحمل كالسندان رصعي الشديد )
( تقول قم طرقه لي لا تنم ... فقلت ما لي زبرة من حديد ) وقوله
( أطعمت أيري كي ينام ... وقلت قر فما استقر )
( بل قام يسعى قائلا ... أنا من إذا طعم انتشر ) وقوله
( قد ذبت من كربي لفقد النسا ... أفور كالتنور من ناريه )
( وقد طغى الماء فمن لي بأن ... أحمل بالجود على جاريه )
(2/184)
________________________________________
وقوله
( لو رأى فقحة حبي عاذلي ... وهي تجلى في ثياب سندسيه )
( لغدا العاذل فيها عاذرا ... وتفاصلنا على بيضا نقيه ) وقوله
( سألت وصال حبي قال دعني ... فإنك في افتقار لا تجاب )
( فقلت له حبيب القلب أدعى ... بذي فقر وفي وسطي نصاب ) وقوله
( وصاحب أنزل بي صفعة ... غضبت إذ ضيع لي حرمتي )
( فقال في ظهرك جاءت يدي ... فقلت لا والعهد في رقبتي ) وقوله
( سألته في صفعة قال لي ... جناية الصفعة ما منه بد )
( صاع من التمر أحلى به ... قلت له أعطيك صاعا ومد ) وقوله
( لج العذول ولامني ... فيمن أحب وعنفا )
( فهممت ألطم رأسه ... لما بليت تأسفا )
( لكنني زلقت يدي ... وقعت على أصل القفا ) وقوله
( جئت لخل يلاطف الجرحى ... قلت له يا أخا الرضا صف لي )
( في عنقي دمل به ورم ... قال تداو بمرهم الخل ) وقوله
( قالوا عشقت الشباب جهلا ... فعلك هذا هو القبيح )
( فقلت قد قيل كل شيء ... يأتي على وجهه مليح ) وقوله
( بدا بخد الحبيب شعر ... وسفله يا أخي سالم )
( فكان كالخوخ إذ ينادي ... عليه ذا مشعر وناعم ) وقوله
( ومماجن يهوى الصفاع ... ولم يكن إذ ذاك فني )
( سلمته عنقي الدقيق ... فراح ينخله بغبن )
( ما إن أذنت له رضا ... لكنه من خلف أذني )
( لولا يد سبقت له ... لأمرته بالكف عني )
(2/185)
________________________________________
ومثله قوله
( ومازحة تهوى المجون ولم تزل ... تباسطني لطفا بطيب مجونها )
( تقول وقد تاهت بلين قوامها ... وقلبي مفتون بسحر عيونها )
( بعيشك هب لي صفعة ثم أقسمت ... على صبها المضني بنور جبينها )
( فلما جرى منها اليمين وأكدت ... مددت قفاي فسحة ليمينها ) ومن عجائبه وغرائبه قوله
( جاءت بخدين كاللجين ... فقلت ماذا سوى لحيني )
( ذات حر واسع عميق ... كأنه ترعة اللبيني )
( عليه شعر لو نسجته ... لجاء مسحا لراهبين )
( تقول لم لا تجر ألفا ... أجبتها باسط اليدين )
( إن كان قصدي عليه جرا ... غرقت فيه بجرتين ) ومنه قوله
( وإن من الخدام من ليس ترتجي ... مكارمه فالبعد عنه غنائم )
( ولا تك ممن يتهمهم بحشمة ... فليس لهم بين الرجال محاشم ) وقوله
( فلان والجماعة عارفوه ... وإن أبدى التنسك والزهاده )
( يموت على الشهادة وهو حي ... إلهي لا تمته على الشهادة ) وقوله
( لما جلوا لي عروسا لست أطلبها ... قالوا ليهنك هذا العرس والزينه )
( فقلت لما رأيت النهد منتفشا ... رمانة كتبت يا ليتها تينه ) وقوله
( أبيت من الإفلاس والفقر طاويا ... لقد زهدوني العشق قهرا وسلوني )
( وقالوا تحب البيض والسمر قلت لا ... أحب من الألوان قمحية اللون )
(2/186)
________________________________________
وقوله في المواليا
( طرفي لمح حسن رابس قرحوا تقريح ... أوسق بصدي وسمى الهجر بالتصريح )
( قذف لعرضي وخلاني من التبريح ... دمعي انحدر والعواذل تقذفوا في الريح ) وقوله
( مزحت يوما مع الحب الرشيق القد ... وقلت آهى على قبلة بصحن الخد )
( فسل سيفه من الحاظو لقتلي حد ... قلت انتهى الأمر يا حبي إلى ذا الحد ) وقوله
( رمى أصاب صميم القلب زين الزين ... وأصبحت مضنى قلق أخشى حلول الحين )
( وكنت لم أشك قبل الخل وشك البين ... سالم من العشق حتى صابني بالعين ) وقوله
( يقل لها زوجها لا تختشي من لوم ... ولا ففي كل من في الأرض وأنا الكوم )
( واتبنى واطعميني ابق من ذا اليوم ... انعس وأرقد ومثلي لا يرى في النوم ) وقوله
( قلت لمن تركتني بالجفا ناحل ... وصلك بكم وارحمي ذا العاشق الناحل )
( قالت بميتين جمل قلت لها أنا راحل ... ما لي جمال ولكن نخل في الساحل ) وقوله
( قالت لي أخبر وروي قلبي الظامي ... وأصدقني أعطيك ما خلفي وقدامي )
( عهدي بأيرك رقيق خرط لاقلامي ... وقد نما قلت أيري لم يزل نامي ) وقوله
( قالوا توق الشتا كم قد صرع أعيان ... يصدمك تعمى وذا شي يعرفوا العميان )
( انهض تحلل ودع لعبك مع الصبيان ... قلت يجي إنني لو منحني عريان ) ومن لطائف العلامة الشيخ شمس الدين بن الصائغ الحنفي رحمه الله تعالى في باب التورية قوله
( من هجر سلمى ما سلمت ومن ترى ... يقوى لحمل الشوق والهجران )
( لا تغترر يوما بحلو رضابها ... فلقد بدا من قدها مران ) وقوله
( وشادن ظلت غصون الربا ... لما رأته مقبلا ساجده )
( سألته من ريقه شربة ... فقال ذي مسألة بارده )
(2/187)
________________________________________
وقوله
( ثنى غصنا ومد عليه فرعا ... كحظي حين أطلب منه وصلا )
( وأسبله على الأرداف منه ... فلم أر مثل ذاك الفرع أصلا ) وقوله
( ركبت في بحر هواكم مركبا ... قذفت فيه بيد التبريح )
( فانحدرت مدامعي وأقبلت ... عواذلي وأقلعت في الريح ) وقوله
( هجرت فأحشائي توقد جمرها ... هذا وليست في المحبة فاتره )
( وتظل تحرقني بنيران الجفا ... ومن الذي يقوى لنار الهاجره ) وقوله
( قد أودعوا القلب لما ودعوا حرقا ... فظل في الليل مثل النجم حيرانا )
( راودته يستعير الصبر بعدهم ... فقال إني استعرت اليوم نيرانا ) وقوله
( يقول عذولي للدموع وقد جرت ... على اثر محبوب برى مهجتي بريا )
( تأنى فقد لاح العذار بخده ... فقالت له والله قد زدتني جريا ) وقوله
( قد زاد في التفنيد لي عاذلي ... على هوى من لم أطق بينها )
( حتى بدا من لحظها صارم ... ففر لما أن رأى عينها ) وقوله
( لا تنكروا اني تركت معذرا ... أضنى الفؤاد بلوعة التبريج )
( لما بدا شعر بصفحة خده ... قابلت ذاك الشعر بالتسريح ) وقوله
( عارضني العذال في عارض ... قالوا له بلطف بعدما أطنبوا )
( ما آن للعارض أن ينتهي ... قلت ولا للشيب لا تتعبوا ) وقوله
( قاس الورى وجه حبيبي بالقمر ... لجامع بينهما وهو الخفر )
( قلت القياس باطل بفرقه ... وبعد ذا عندي في الوجه نظر )
(2/188)
________________________________________
وقوله
( لما ثنى العطف ثنى مهجتي ... إليه ظبي في الهوى شارد )
( ناديت إذ صرنا بلا ثالث ... يا ثاني العطف عسى واحد ) وقوله
( قال العذول عندما ... شاهدني في شغلي )
( بمن فتنت في الورى ... فقلت دعني بعلي ) وقوله
( يا باخلين بالسلام جهدهم ... من ذا رأيتم له شح يوما بالكلام )
( لا تمنعوا عني السلام سادتي ... فأنتم قصد المعنى والسلام ) وقوله
( يا مليحا رووا لنا عنه حسنا ... وقبيح إن لم يكن تم حسنا )
( طبت لفظا مع الرواة ولكن ... ينبغي أن تكون في الدهر معنا ) وقوله
( أميل إليه كي يميل فينثني ... ويعرض أبصرت القضيب إذا انثنى )
( ويطرحني عن باله لا يعدني ... فيلبسني من طرحه حلة الضنى ) وقوله
( وليلة مرت لنا حلوة ... إن رمت تشبيها بها عبتها )
( بت مع المعشوق في روضة ... ونلت من خرطومه المشتهى ) وقوله
( لست أنسى رقة العيش الذي ... زاد في الرقة حتى انقطعا )
( فرعى الله زمانا بالحمى ... وحماه وسقاه ورعا ) وقوله
( بدا ليل العذار بخد بدر ... يفوق البدر حسنا في الكمال )
( فلا تطمع عذولي في سلوي ... فعشقي لا تغيره الليالي ) وقوله
( بروحي أفدي خاله فوق خده ... ومن أنا في الدنيا فأفديه بالمال )
( تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخال ) وقوله
( راحت مني روحي فهذي مهجتي ... من بعد ذا وجدا بها قد طاحت )
( فاترك ملامك يا عذول فإنما ... هي مهجة رحلت على من راحت ) وقوله في القاضي علاء الدين بن فضل الله
( لقد أعطى علاء الدين ما لم ... توف بشكره المداح طرا )
(2/189)
________________________________________
( نحا نحو الكرام إلي حتى ... دخلت مبردا وخرجت فرا ) وقوله في القاضي تقي الدين بن صالح مع بديع التضمين
( بجود تقي الدين أصبح دهرنا ... رقيق الحواشي معلما بالمدائح )
( فيا دهرنا حزت المفاخر فافتخر ... إذا نحن أثنينا عليك بصالح ) ومن أغراضه قوله
( أعدى احتراق النيل أكباد الورى ... فغدت تذوب تلهبا وتلهفا )
( وتزايدت نيرانها من نقصه ... فإذا به طاف البلاد وقد طفا ) ومن نكته اللطيفة وقد أهدى له بعض الوزراء في عيد الأضحى كبشا
( وزير الملك عيد ألف عيد ... فأنت الصاحب الخلق الجميل )
( لقد منيت في الأضحى بكبش ... ملي بالغنى كاف كفيل ) ومن لطائف مجونه قوله
( وناحل أضحى يصفي وقد ... حنت له راووق جريال )
( سألته كأسا أطفي بها ... نيران أحشائي فصفى لي ) وقوله
( قلت لبزاز على خلوة ... واصل فتى ينسب للخرقة )
( وخلني أصفق ولو صفقة ... فأنت ما تخسر في صفقتي ) وقوله في العنب العاصمي
( وعاصمي قد غدا طعمه ... أروى من الماء لدى الحائم )
( أورث خلي أكله هيضة ... فاعجب له من مسهل عاصم )
(2/190)
________________________________________
وقوله
( جاء نحوي معذر ... بعدما عز مطلبه )
( قلت ذا الأير ميت ... ظل يبكي ويندبه ) وقوله
( تطلبت حجرا في الظلام فلم أجد ... ومن يك مثلي حية دأبه الجحر )
( فناداني البدر الأديب إلى هنا ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ) ومن لطائف مجونه مع الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي حجلة قوله
( يكذب من ينسب البغاء إلى ... شاعرنا المنتمي إلى حجله )
( ما هو بغا كما يقال لنا ... بل هو نور يدور بالعجلة ) وقوله في الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد
( لعلاء الدين ذقن ... تملأ الكف وتفضل )
( فاعمل المنخل منها ... لدقيق العيد وانخل ) ومن لطائف الشيخ بدر الدين بن الصاحب في باب التورية قوله وتلطف ما شاء
( حبيب لي طبيب لم يزرني ... سوى بالطيف في ظلم الليالي )
( رآني ناحلا من فرط شوقي ... فأهدى لي مزوره الخيالي ) وقوله
( وعدتني بخيال ... يزور طرفي مناما )
( فشاب رأسي انتظارا ... وما بلغت احتلاما ) وقوله
( يا هلالا قد تسامى ... وله الصدغ عمامه )
( أشتهي لو نلت حظا ... منك مقدار قلامه ) ومن لطائفه في هذا الباب قوله
( يقبل الأرض لا زالت مقبلة ... من بعد ثغري بثغر الروض والزهر )
( ويسأل الله جمع الشمل منتظما ... ودمعه قائل يا منزل المطر )
(2/191)
________________________________________
وقوله
( جفني عليك ساهر ... بحرقة قد دقتها )
( ودمعتي جارية ... إن زرتني عتقتها ) وقوله في قيم حمام
( وقيم قيم في حسن صنعته ... حاز الجمال على حسن من الترف )
( لو يخدم البدر أنقى البدر من كلف ... لكنه لم يزل ما بي من الكلف ) وقوله
( فتنت بنبت من عوارض خده ... فها أنا في قيد الغرام أسير )
( ولا كان لي بالعشق قط تعلق ... ولا بالهوى قبل العذار شعور ) وقوله
( إذا جلوا لي كأسي ... بها حباب منظم )
( علمت أن زماني ... بعد القطوب تبسم ) وقوله
( يا أيها العاصر بادر إلى ... عنقودك الفاخر في كرمه )
( إياك أن تتركه ساعة ... يزبب النحس على أمه ) وقوله
( يا حابس الكاس لا تزدها ... من بعد حبس الدنان حسره )
( واغنم مزاجا لها لطيفا ... أورثه الانتظار صفره ) وقوله
( أطربنا مشبب ... من غير جعل سأله )
( يا حسن موصول له ... لم يفتقر إلى صله ) ويعجبني قوله
( غنت فأغنت عن كؤوس الطلا ... بالسكر من لذات تلك اللحون )
( فقلت إذ هيمني صوتها ... في مثل ذا الحلق تروح الذقون )
(2/192)
________________________________________
( يا مهدي الأقصاب من سكر ... صفرا حكى طول القنا طولها )
( إياك أن تقطعها ساعة ... فأحسن الأقصاب موصولها ) وقوله
( ناحت حمام البان أم تاهت أسى ... لم أدر ما عناؤها من شوقها )
( عجماء لا تظهر حرفا من شجى ... كأنها مخنوقة من طوقها ) وقوله
( وذات طوق على الأغصان تذكرني ... قوام حسنك في ضمي لمعتنقك )
( قد سودت وجهها نوحا فقلت لها ... سواد قلبي يا ورقاء في عنقك ) ويعجبني قوله
( يا ليل إن الحبيب وافى ... وخفت إسراع دهم خيلك )
( فطل وغش الصباح إني ... دخلت بالليل تحت ذيلك ) ومن نكته البديعة الغريبة في الشطرين قوله
( تأمل ترى الشطرنج كالدهر دولة ... نهارا وليلا ثم بؤسا وأنعما )
( محركها باق وتفنى جميعها ... وبعد الفنا تحيى وتبعث أعظما ) وقوله مضمنا
( أميل لشطرنج أهل النهى ... وأسلوه من ناقل الباطل )
( وكم رمت تهذيب لعابه ... وتأبى الطباع على الناقل ) ومن أغراضه
( لعبت في الشطرنج في غاية ... تقصر الأوصاف عن حدها ) ( إن صاح في الأقران لي بيدق ... تموت منه الشاة في جلدها ) ومن لطائف مجونه قوله
( شاب الحبيب فقلت أهلا بالوفا ... وازددت فيه تعشقا وتكلفا )
( والأير قام ولم يبل لمشيبه ... فالراية البيضا عليه في الوفا )
(2/193)
________________________________________
وقوله
( كم جار صرف الدهر في حكمه ... وضرني من حيث بي يعتني )
( ألبسني من شيبتي حلة ... قلت له والله عزيتني ) ومن أغراضه البديعة مع حسن التضمين قوله
( لله يوم الوفا والناس قد جمعوا ... كالروض تطفوا على نهر أزاهره )
( وللوفاء عمود من أصابعه ... مخلق تملأ الدنيا بشائره ) وقوله
( النيل ألبس حلة ... حمراء في تخليقه )
( وله أصابع زينب ... قد ختمت بعقيقه ) وقوله
( نادى منادي الوفاء مصرا ... إذ علقوا سترة علامه )
( من الغلا قد سلمت حقا ... فبت في الستر والسلامه ) وقوله
( كانت لمصر سترة ... بالنيل مذ ولى خلت )
( كأنه زوج لها ... فبعده ترملت ) ومن أغراضه البديعة قوله
( فاخرت الأقلام سمر القنا ... والسعد في الأقسام مكتوب )
( فقلت للخطي لا تستطل ... كلاكما للخط منسوب ) وقوله
( ولائم زاد لوما ... في أسود أشتهيه )
( وقال أسود تهوى ... فقلت عينك فيه ) ومن لطائف أغراضه في مليح فوال قوله
( أنا ابن الذي في الليل تسطع ناره ... كثير رماد القدر للعبء يحمل )
( يطوف بأقداح العوافي على الورى ... ويصبح بالخير الكثير يفول )
ومما اخترته من نظم الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة وقد تقدم قولي إنه كان يرضى بالرخيص لأجل الكثرة قوله
(2/194)
________________________________________
( بي من غدا ظهري عليه المنحنى ... ولحظه لحظ ظباء رامه )
( كم قلت من عذاره وقد بدا ... لي خطه يا كاتب السلامه ) وقوله
( يقول لي الحبيب أرى عذاري ... يدب الحسن من وجهي إليه )
( تكلم في وظيفة حسن خدي ... وقام بنفسه يسعى إليه ) وقوله
( وعاذل قد زاد في لومه ... وقال لما هاج بلبالي )
( بعارض المحبوب ما تنتهي ... قلت ولا بالشيب والوالي ) وقوله
( يا سائلي عن حالتي ما حال من ... أمسى بعيد الدار فاقدا إلفه )
( بي صيرفي لا يرق لحالتي ... قدمت من جور الزمان وصرفه ) وقوله
( أصبحت ما بين الورى ... كالواله المصاب )
( من هجر ذي القبطي الذي ... ما كان في حسابي ) وقوله
( يقول جاري من بعد جور ... وقد رأى حرقتي وناري )
( دمعك ما شانه ومن ذا ... عليك قد جار قلت جاري ) وقوله مضمنا
( أقول لصب قلبه يشتكي الأسى ... هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل )
( عذلتك في ابن السكري والذي أرى ... مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو ) وقوله مضمنا
( قل للهلال وغيم الأفق يستره ... حكيت طلعة من أهواه بالبلج )
( لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج ) وقوله في غلام يدعى مقبلا
( يا من تحجب عن محب صادق ... ما زال عنه كل حين يسأل )
( من لي بيوم فيه تقبل باللقا ... ويقال لي هذا حبيبك مقبل )
(2/195)
________________________________________
وقوله في جارية تدعى حكم الهوى
( حكم الهوى صدق فبت لأجل ذا ... ولهان من فرط الصبابة والجوى )
( يا عاذلي لا تلحني في حبها ... نفذ القضا وكذا جرى حكم الهوى ) ورأيت غالب مقطعات الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة في الباذهنج والفانوس ولكن نختار منها ما يحسن نظمه في هذا السلك فمن ذلك قوله في فانوس مع حسن التضمين
( وكأنما الفانوس نجم نير ... منع الظلام من الهجوم طلوعه )
( أو عاشق أجرى الدموع بحرقة ... من حر نار تحتويه ضلوعه ) وتقدمه فيه مجير الدين بن تميم فقال وأحسن التضمين
( أنظر إلى الفانوس تلق متيما ... ذرفت على فقد الحبيب دموعه )
( يبدو تلهب قلبه بدموعه ... وتعد من تحت القميص ضلوعه ) وقال فيه ابن أبي حجلة وأجاد مع حسن التضمين
( يحكي سنا الفانوس من بعد لنا ... برقا تألق موهنا لمعانه )
( فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سحت به أجفانه ) ويعجبني قوله مع حسن التضمين
( أنا في الدجا ألقى الهوى وبمهجتي ... حرق يذوب لها الفؤاد جميعه )
( فكأنني في الليل صب مدنف ... كتم الهوى فوشت عليه دموعه ) ويعجبني أيضا هنا قول مجير الدين بن تميم
( أبدى اعتذارا لنا الفانوس حين بدا ... في حالة من هواه ليس ينكرها )
( رأى الهوى مضرما ما بين أضلعه ... نار الجوى فغدا بالثوب يسترها ) ومن نظم الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة في الباذهنج قوله مع حسن التضمين
(2/196)
________________________________________
( وباذهنج غدا في الجو منظره ... من فوق مخبره يبدو على سنن )
( فانظر فديتك يا محبوب رفعته ... واستنشق الريح من تلقاه يا سكني ) وقوله
( يا باذهنجي كم كذا ... تعلو على بان الحمى )
( أبديت حمقا زائدا ... ورفعت رأسك للسما ) وألطف منه قوله مع حسن التضمين
( يا باذهنجي لا برحت من الهوى ... مثلي على حب الديار مولها )
( داري بحبك لم تزل مشغوفة ... خلعت هواك كما خلعت هوى لها ) وقوله مضمنا
( هجا الشعراء جهلا باذهنجي ... لأن نسيمه أبدا عليل )
( فقال الباذهنج وقد هجوه ... إذا صح الهوى دعهم يقولوا ) ومن نكته الغريبة في باب التورية قوله وكتب به إلى ابن الزين المعروف بلبيكم
( يا شاعرا قد حاز حسن بديهة ... وتطيعه درر النجوم إذا نظم )
( وتجيبه قبل السؤال لقصده ... وتقول يا ابن الزين لبيكم نعم ) وقوله وقد قدم الشيخ جمال الدين إلى الشام
( يا معشر الأدبا غدا تشبيبكم ... ومديحكم فيما يروق ويعذب )
( وافاكم ابن نباتة فتفقهوا ... أقواله بسكينة وتأدبوا ) وقوله من أبيات
( ومتى امتطيت من الكؤوس كميتها ... أمسيت تمشي في المسرة راكبا )
( ومتى طرقت عشى انس ديرها ... لم تلق إلا راغبا أو راهبا ) وممن قنص شوارد التورية بحبائل فكره الشيخ بدر الدين حسن الزغاري فمن ذلك قوله
(2/197)
________________________________________
( قالت وقد أنكرت سقامي ... لم أرد ذا السقم يوم بينك )
( لكن أصابتك عين غيري ... فقلت لا عين بعد عينك ) وقوله
( حبست الدمع ثم جعلت جفني ... سياجا ما له قط انفراج )
( فما زلتم بجوركم إلى أن ... تجرى الدمع وانخرق السياج ) وقوله
( قيل لي إذ رأيت أقمار تم ... عن بدور السماء للطرف تلهي )
( أي وجه أضناك قلت دعوني ... فسقامي قد صح من كل وجه ) وقوله
( سل لحتفي كالحسام الصقيل ... لحظا حديدا تحت جفن كليل )
( ثقيل ردف قادني في دجا ... شعره عنقود وليل طويل ) وقوله أيضا
( أفديه في الألكن يرمي دائما ... وسواد قلب الصب من أغراضه )
( أطلقت لحظي نحوه فأجابني ... سهم وما عاينت كشف بياضه ) وقوله مضمنا وأجاد
( يقول العاذلون نرى رمادا ... على خديه من شعر العذار )
( فقلت لهم صدقتم غير أني ... أرى خلل الرماد وميض نار ) وقوله
( فتنت بأسمر حلو اللمى ... لسلوانه الصب لم يستطع )
( يقطع قلبي وما رق لي ... ودمعي يرق وما ينقطع ) ومنه قوله في مليح بيده قوس حلقه
( وبدا العشية أغيد في كفه ... قوس كنانتها سهام جفونه )
( فسألته البقيا على عشاقه ... فنفوسهم مطوية بيمينه )
(2/198)
________________________________________
وقوله
( وافى كتابك يا خليلي بعدما ... حكمت علي ببعدك الأيام )
( لكن أرى نار اشتياقي لم تكن ... بردا علي وفيه منك سلام ) ومن نكته الغريبة قوله
( أما ترى النهر كالحسام غدا ... ينسل بين الغصون والورق )
( وليس في الجري مثل صارمه ... يشق نحوي مفارق الطرق ) ومن غاياته البديعة في هذا الباب قوله
( سرت من بعيد الدار لي نفحة الصبا ... وقد أصبحت حسرى من السير ظالعه )
( ومن عرق مبلولة الجيب بالندى ... ومن تعب أنفاسها متتابعه ) ومن لطائفه قوله
( أعجب ما في مجلس اللهو جرى ... من أدمع الرواق لما انسكبت )
( لم تزل البطة في قهقهة ... ما بيننا نضحك حتى انقلبت ) ومثله قوله وزاد لطفا بزيادة نكتة أخرى
( يا من يلوم في التصابي خلني ... فأذني عن الملام قد نبت )
( تصفية الكاسات في شواربي ... أضحكت البطة حتى انقلبت ) وتلاعب بهذا المعنى وقال
( أنا القليل العقل في صرف الذي ... أملكه في كلف المشارب )
( ولم أنل مما أضعته سوى ... تصفية الكاسات في شواربي ) ومن مجونه قوله
( يا صاحبا ما زال من أنعامه ... لثياب راجيه المؤمل رافي )
( قد قطعت فرجيتي حتى لقد ... ظهر القطوع بها على أكتافي )
(2/199)
________________________________________
وممن أتى في دقيق التورية بخاص الخاص الشيخ يحيى الخباز الحموي فمن ذلك قوله
( قال عذولي والقوم قد رحلوا ... وقصده في مقاله حيني )
( أطلق دموعا ما زلت تحبسها ... وطلق النوم قلت من عيني ) وقوله
( لم أنس طيفا زارني وانثنى ... عني وقلبي بعده يخفق )
( وما كفى حتى دموعي غدت ... من خلفه تجري وما تلحق ) وقوله مضمنا
( لئن وعدت بالوصل سلمى وأخلفت ... فسلها عسى العذر المبين يقوم )
( ولا تبدها باللوم قبل سؤالها ... لعل لها عذرا وأنت تلوم ) وقوله
( لقد تعشقت فتى سائبا ... يبدل الحاضر بالغايب )
( مدحته جهدي فلم يرتبط ... وراح كل المدح في السائب ) وقوله
( تعذر من أهواه واسود وجهه ... ورام وصالي بعدما لم يكن خلقي )
( وقال حكى صدغي نباتا أجبته ... صدقت لهذا عاد يصلح للحلق ) ومن لطائف نكته في هذا الباب قوله
( قلت لمن ينتف أصداغه ... لا تكره الريحان حول الشقيق )
( وأعتق شعور الذقن من نتفها ... فإنني شيخ أحب العتيق ) ومن لطائف نكته في هذا الباب قوله
( أصبحت في العالم أعجوبة ... عند ذوي الألباب والفهم )
( جدي حموي فاسمعوا واعجبوا ... وما كفى حتى أبي أمي )
(2/200)
________________________________________
ومن لطائفه قوله
( عاطنيها من عهد كسرى سلافا ... تتقد في الكؤوس كالنيران )
( وابن ماء السماء زوجه راحا ... أذكرتنا شقائق النعمان ) ومن رقيق أغزاله قوله
( لضعف أجفان حبي ... بالفتك فينا عتوه )
( فيا لها من جفون ... تزداد بالضعف قوه ) ومن مجونه قوله
( كسبت مملوكا ومن لطفه ... يسير باللطف على سيري )
( سميته خيرا وإن يدخل ... الأير يكن خيرا على خير ) وممن مماجناته مع الشيخ حسن الزغاري المذكور قوله
( حسن الزغاري أحمق ... يا بئس من يوافقه )
( خنقته هجوا وما ... للكلب إلا خانقه ) ومثله قوله فيه
( نبح الزغاري عند نظم موشح ... وكمال نظمي بالسفاهة نقصا )
( فضربته بعصا الهجا لما عوى ... فأصبت مصرعه ولم تضع العصا ) وقوله فيه
( قل للزغاري الذي من جهله ... أمسى بأقوال الأكابر هازي )
( هذا ابن قرصة قد سمعت هجاءه ... من ذا يجيرك من يد الخباز )
ومن لطائف الشيخ شهاب الدين الحاجبي تغمده الله برحمته في باب التورية ولم أظفر له إلا بما قل من مقاطيعه مع أني كثير الفحص عنها فإنه ما يجارى في انسجامه وسهولته ورقته ولطيف تركيبه في هذا الباب قوله
( لها عين لها غزل وغزو ... مكحلة ولي عين تباكت )
( وحاكت في فعائلها المواضي ... فيا لك مقلة غزلت وحاكت )
(2/201)
________________________________________
وقوله
( وصفت خصره الذي ... أخفاه ردف راجح )
( قالوا وصف جبينه ... فقلت ذاك واضح ) وقوله
( عودوا لصب بكى عليكم ... يا جيرة ودعوا وساروا )
( فدمع عينيه عاد بحرا ... وقلبه ما له قرار ) وقوله
( لا تبعثوا غير الصبا بتحية ... ما طاب في سمعي حديث سواها )
( حفظت أحاديث الهوى وتضوعت ... نشرا فيا لله ما أذكاها )
ووقفت له على قصيدة لامية امتدح بها الملك الأفضل صاحب حماة كلها غرر في باب التورية مطلعها
( عما جرى من أدمعي لا تسألوا ... فمدامعي أخبارها تتسلسل ) وما أحلى ما قال بعد المطلع
( وخذوا حديثا قد ألم بمهجتي ... وازداد حتى أهملته العذل ) منها
( ثاني المعاطف كنت أول عاشق ... في حبه ولكل ثان أول )
( يرنو فيحلو للمتيم لحظه ... إذ ذاك لحظ بالنعاس معسل )
( وتميل منه شمائل لم أدر من ... مشمولة أو حركتها الشمأل )
( متلون الأوصاف سيف لحاظه ... ماض ولكن هجره مستقبل ) منها قوله وأظنه سبق ابن نباتة إلى معناه وهو
(2/202)
________________________________________
( أيجود لي دهر بطيف خياله ... وأظنه برجوع ذلك يبخل )
( أم كيف يأتي الطيف جفنا بابه ... بالفتح من أرق الصبابة مقفل )
وقول الشيخ جمال الدين
( وأقسم لو جاد الخيال بزورة ... لصادف باب الجفن بالفتح مقفلا ) ومن قصيدة الحاجبي قوله
( يا ساكنين السفح كيف حجبتم ... عن ناظري البدر الذي لا يأفل )
( وفعلتم بي ما يسر عواذلي ... ما شئتم يا أهل بدر فافعلوا )
( لا تحجبوا بيني وبين غزالكم ... فعلى حجاز الصد ما لي محمل ) ومنها وهو المرقص والمطرب قوله
( يا صاح عللني بكأس مدامة ... عن ذكره إن المحب يعلل )
( صهباء إن جن الفتى بخمارها ... فهى الشفاء وفي شذاها المندل ) ومن لطائفه في هذا الباب قوله
( لم أنس أيام الصبا والهوى ... لله أيام النجا والنجاح )
( ذاك زمان مر حلو الجنى ... ظفرت فيه بحبيب وراح )
تالله لقد عز علي أن تتحجب عني عرائس الحاجبي في خدور الأوراق فإني لم أظفر من منهله العذب بغير هذه النهلة ومن عروبة الشيخ زين الدين بن العجمي في باب التورية قوله
( سهل الخدود عزيز وصل من يرم ... يوما جنى وجناته لم يستطع )
( كم رمت لثم الخد منه فقال لي ... لا تطمعن فكل سهل ممتنع )
(2/203)
________________________________________
وقوله
( حبي يمين في يمين الهوى ... فلا تشق منه بزور المقال )
( كم قال ما ملت وولى وكم ... قد سلب العشاق روحا ومال ) وقوله
( وافى وفي كميه ورد أحمر ... حيا به مذ شب تحت لثامه )
( فرشفت حلو الراح من خرطومه ... وجنيت ورد الخد من أكمامه ) وقوله
( أنظر إلى الغدران كيف تجعدت ... أمواجها فزهت وراقت منظرا )
( وحكت سطورا في طروس خطها ... قلم النسيم بلطفه لما انبرى ) ومن نكت مدائحه البديعة قوله في القاضي شهاب الدين بن فضل الله رحمه الله تعالى
( يا عمري الأصل أنت مالكي ... ونافعي بجوده دون البشر )
( لذا رفعت سندي في حكمكم ... لنافع لمالك لابن عمر ) وقال وقد أهدى له حلاوة سكب
( لفضلك يا قاضي القضاة مزية ... على السحب لا تخفى على من له لب )
( فأول جود الغيث قطر مبدد ... وغيث نداك الجم أوله سكب ) ويعجبني من زهدياته قوله
( عن طريق الذنوب قيدت خطوي ... خيفة من عقاب عقبى التجري )
( وإذا لاح نهج بر تراني ... فيه أمشي أبغي ثوابي وأجري ) وقد عن لي أن أورد هنا نبذة له من المواليا فإنه كان فارس ميدانها وقائد عنانها فمن ذلك قوله
( للحب قالوا معناك الذي إذ بلتو ... جدلو بقبله فعقلو فيك خبلتو )
( فقال أقسم لو أن البوس سبلتو ... ومات للشرق ما درتو وقبلتو )
(2/204)
________________________________________
ومن مخترعات معانيه قوله فيها
( حشيش عارضك الأخضر بدا في هدو ... في روض وجنتك يحدو للصبابه حدو )
( والوهم ما ضر خدك يا رخيم الشدو ... إلا لأن حشيشو قد طلع في بدو ) وقوله
( شدوا المحامل فصرت ساعة التحميل ... ملهوف لا حمل يعنيني ولا تحميل )
( والعين قد حلفت يا بدر في التكميل ... لا تكتحل بالكرى إن غبت عنها ميل ) وقوله
( يا من على الخلق أذيال المكارم جر ... وقد سلب نوم أجفاني وعنى فر )
( يحل لك أن قلبي يا غزير الدر ... مالو قرار ودمعي البحر وأنت البر ) وممن فتح له هذا الوصيد القاضي فتح الدين بن الشهيد رحمه الله تعالى فمنه قوله
( بستان حسنك أينعت ثمراته ... واها لغصن قوامك المياس )
( في صدره رمان نهد زانه ... حلي يوسوس في صدور الناس ) وقوله
( أفدي التي ساقت حروب الهوى ... بحسن ساقيها لمشتاقها )
( جادلت عذالي على حسنها ... فقامت الحرب على ساقها ) وقوله
( قال لا تخش رقيبي فلمن ... حبني في زورتي أوفى نصيب )
( قلت إن زرت وحانت غفلة ... فبودي وعمى عيني رقيبي ) وقوله في عين بعلبك
( ولقد أتيت لبعلبك فشاقني ... عين بها روض النعيم منعم )
( فلأهلها من أجلها أنا مكرم ... ولأجل عين ألف عين تكرم ) وقوله
( قاسوا حماة بجلق فأجبتهم ... هذا قياس باطل وحياتكم )
( فعروس جامع جلق ما مثلها ... شتان بين عروسنا وحماتكم )
(2/205)
________________________________________
فأجبته في ذلك التاريخ عن ذلك بقولي
( والله إن حماة شامة شامكم ... وعروسها بمحاسن متزايده )
( ودمشقكم بعذارها الثلجي قد ... ولت شبيبتها وأمست بارده )
ومن لطائف القاضي فتح الدين بن الشهيد قوله وقد أحضر له عواد يسمى طائر بغا بسفارة الحاجب توكل
( نهاري أنس كله بمنادم ... على عوده يغزو الحشا بتبلبل )
( وكنت أراه طائرا عز مطلبا ... ولكنني حصلته بتوكل ) وقال وقد حضر عنده من يلعب بالقانون وأطربه
( غنى على القانون حتى غدا ... من طرب يهتز عطف الجليس )
( داوى قلوبا من عليل الأسى ... وكان فيها من هواها رسيس )
( فصاحت الجلاس عجبا به ... يا صاحب القانون أنت الرئيس )
ومن نكته اللطيفة التي هو أحق بها من غيره لكونه صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالشام قوله
( كانت فتاتي لنظم بيتي ... قرينة برة أمينه )
( بكيتها والحمام قامت ... بالسجع في ندبها معينه )
( من علم الورق أن سجعي ... ليس يؤاتي بلا قرينه )
ومن لطائفه وقد جهز لبعض أصحابه رسالة القلب وهي ما لا يستحيل بالانعكاس وجهز بعده قوالب سكر
( رسالة القلب بها خدمتي ... تقدمت في الزمن الذاهب )
( وها أنا أرسل من بعدها ... قوالب السكر في الواجب )
( ليعلم المخدوم أني امرؤ ... أخدمه بالقلب والقالب ) وكتب على عمارة بيته قوله
( بنيت على وفق المكارم والعلا ... فللفتح أبوابي وصدري للضم )
( سنا الملك يبدو من موشح زينتي ... ومن أجل ذا دار الطراز على كمي )
(2/206)
________________________________________
وكتب على الرفرف
( رفعتك ما شاء الترفه رفرفا ... أزين سمائي بل أزين سماحي )
( فلا بدع أن الناس يهوون بهجتي ... ويمشون في ظلي وتحت جناحي ) وكتب على مجلس بيته
( يا من ينزه في حسني نواظره ... اسمع صفات بها قد فقت أمثالي )
( أنى مقام مقر عز جانبه ... ودون قدر مقامي المجلس العالي ) ومن لطائف الشيخ عز الدين الموصلي في باب التورية قوله رحمه الله تعالى
( يقول وقد بدا قمرا وغصنا ... حباه حسنه هيفا بلين )
( تنشق مسك أصداغي حلالا ... فهذا الطيب من عرق الجبين ) وقوله
( كالزرد المنظوم أصداغه ... وخده كالورد لما ورد )
( بالغت في اللثم وقبلته ... في الخد تقبيلا يفك الزرد ) ويعجبني من نكته الغريبة قوله
( وحاجم في الكأس أجرى دما ... من ساق ساقينا بإشفاق )
( لكنه خالف في شرطه ... وحكم الكأس على الساق ) ولعمري إنه تلطف إلى الغاية بقوله
( أعدى سقام جفونه ... جفني فأعدمني الكرى )
( حتى اعتللت بسرعة ... مثل النسيم إذا سرى ) ويعجبني قوله في باب التدبيح
( خضرة الصدغ والسواد من العين بياض المشيب قد أورثاني ... )
( واحمرار الدموع صفر خدي ... كل ذا من تلونات الزمان )
(2/207)
________________________________________
وقوله
( حديث عذار الحب باد وساقه ... له أوجه تبدي لقلبي اشتياقه )
( درى أننا نسعى إلى الحسن كلنا ... فأبدى لنا ذاك الحديث وساقه ) وقوله
( يا مقلة الحب مهلا ... فقد أخذت بثارك )
( وأنت يا وجنتيه ... لا تحرقيني بنارك ) وقوله
( حديث عذار الحب في خده جرى ... كمسك على الورد الجني مسطرا )
( فقبلته حتى محوت رسومه ... كأن لم يكن ذاك الحديث ولا جرى ) وقوله
( عيني أفاضت دموعي ... من طول صد وبين )
( ووجنة الحب قالت ... رأيت غسلي بعين ) وقوله
( عاتبت حبي على تأخره ... وقد تعنى برجة الردف )
( فقال هذا الثقيل أخرني ... عن سرعتي لانقطاعه خلفي ) وقوله
( لحديث نبت في العذار حلاوة ... وطلاوة هاجت بها العشاق )
( فإذا تجافى المرد قلت تمهلوا ... فإليكم هذا الحديث يساق ) وقوله
( هجروك البيض لما ... نصل الصبغ فضرك )
( كشف الدهر المغطى ... يا جميل الستر سترك ) وقوله
( ذو حور أصابني ... بعينه لما نظر )
( فليس قتل صبه ... إلا كلمح بالبصر ) ومن لطائف مجونه قوله
( وبي ناتف للعارضين يقول صف ... نبات عذار زان في الحسن منظري )
( فناديت يا حلو الشمائل ما الذي ... يقول لساني في النبات المكرر )
(2/208)
________________________________________
وقوله
( لما جفا المحبوب ناديته ... قابلت حبي منك بالبغض )
( فعندها نام على وجهه ... وقال وجهي منك في الأرض )
وكنت أظن أن هذه النكتة اختراع الشيخ عز الدين الموصلي إلى أن وقفت على الديوان الكبير من نظم الشيخ جمال الدين بن نباتة فوجدته قد أخذها منه بنصها اللهم إلا أن يكون وقع حافر على حافر وقول الشيخ جمال الدين في هذه النكتة
( عاتبت محبوبي وقد نكته ... بطحا فأضحى خجلا مغضي )
( فقلت دربسني وخل الحيا ... فقال وجهي منك في الأرض ) ومن لطائف مجون الشيخ عز الدين قوله
( قد لقبوا بالزاغ ذا حنكة ... كواه ذا التلقيب في القلب داغ )
( وهو غراب البين في شؤمه ... لكن إذا جئنا إلى الحق زاغ ) وقوله في تمتع الدمشقي
( وذي أدب لطيف الذات جدا ... طلبت الوصل منه فما تمنع )
( ودب لأخذ أيري قلت من ذا ... فناداني بإشفاق تمتع ) وقوله
( مذ نام أيري قال لي ... أفمه يحظى بالوصول )
( فقلت فيه قصر ... فقال ذا شيء يطول )
وممن عاصر الشيخ عز الدين الموصلي ومشى تحت علم التورية علاء الدين بن أيبك الدمشقي وكان المتعصبون على الشيخ عز الدين يناظرونه به ولعمري إن هذه المناظرة ما صدرت ممن له نظر فمن نكته البديعة قوله وقد اجتمع بمليح في منتزه من منتزهات دمشق يعرف بالسلطاني
( سلطان حسن أفتديه بناظري ... وأعيذه من نظرة الشيطان )
( يوما بزهر اللوز لما زارني ... قضيت ذاك اليوم بالسلطان )
(2/209)
________________________________________
وقوله
( أحببت من خياله وجنة ... مشرقة حمراء شبه اللهب )
( قالوا الشهيدية أعطافه ... فقلت والردف تليل الذهب ) وقوله
( أقول وقد ظمئت ووجه حبي ... له عرق على ورد الخدود )
( أرى ماء وبي ظمأ شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود ) ومن لطائف مجونه قوله
( تلطف واحتمل مزح الغواني ... وإن أوجعن منك الظهر دقا )
( وجيدك إن يلق الصفع فاصبر ... فإن الجيد في الدنيا ملقى ) ومن نظم الشيخ جلال الدين ابن خطيب داريا في باب التورية قوله
( شهدت جفون معذبي بملالة ... مني وإن وداده تكليف )
( لكنني لم أفأ عنه لأنه ... خبر رواه الجفن وهو ضعيف ) وقوله
( تقول وقد أتتني ذات يوم ... مخبرة عن الظبي الجموح )
( يسرك أن أروح إليه أجري ... فقلت لها خذي مالي وروحي ) ومن لطائف مجونه قوله
( يا معشر الأصحاب قد عن لي ... رأي يزيل الحمق فاستظرفوه )
( لا تحضروا إلا بأخفافكم ... ومن تثافل بينكم خففوه ) وقوله
( تصفحت ديوان الصفي فلم أجد ... لديه من السحر الحلال مرامي )
( فقلت لقلبي دونك ابن نباتة ... ولا تقربي الحلي فهو حرامي )
(2/210)
________________________________________
الشيخ جمال الدين رحمه الله تعالى أراد بالسحر الحلال الذي ما وجده في ديوان صفي الدين التورية لا غير وما ذاك إلا أن الشيخ صفي الدين كان أجنبيا منها ولهذا لم أنظمه في سلك القوم الذين مشوا في نظم التورية تحت العلم الفاضلي والعلم النباتي وغايته أنه رضي بالشعر الساذج المنسجم وتعرض للتورية في بعض المواضع ولكن سبكها في غير قالبها لأنه لم يكن في طباعه ويأتي الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ومن نظم الشيخ جلال الدين غفر الله له والمعنى في مراده ومفهوم قوله
( ذكر المصطفى ثلاثين دجا ... لا يجيئون في قيام الساعه )
( فيهم أعور وقد صح بالبر ... هان أن جا كواحد من جماعه ) ويعجبني قوله في آثار النبي
( يا عين إن بعد الحبيب وداره ... ونأت مرابعه وشط مزاره )
( فلقد حظيت من الزمان بطائل ... إن لم تريه فهذه آثاره ) ومن لطائف شمس الدين بن المزين في باب التورية ما أنشدنيه من لفظه لنفسه
( مدير الكاس حدثنا ودعنا ... بعيشك من كؤوسك والخبيث )
( حديثك عن قديم الراح يغني ... فلا تسقي الأنام سوى الحديث ) وأنشدني من لفظه لنفسه أيضا
( ومليح لالاه يحكيه حسنا ... فهو كالبدر في الدجى يتلالا )
( قلت قصدي من الأنام مليح ... هكذا هكذا وإلا فلا لا ) ومن نكته اللطيفة قوله
( قلت للأحدب لما ... أن رأى الوجد علاني )
( أنا أبقى وبوجدي ... فيك يا أحدب فاني )
(2/211)
________________________________________
وقد تقدم القول أن النكتة في التاجر استحقها الشيخ جمال الدين بن نباتة على الصلاح الصفدي وعلى زين الدين الوردي وهي
( وتاجر أسكرني طرفه ... والكاس فيما بيننا دائر )
( وقال لي سرك قلت اسقني ... جهرا على عينك يا تاجر ) ومن نكته المخترعة قوله
( شاب ورد الرياض من ... ورد خديك وانفرك )
( فله الناس أثبتوا ... وانتفى الورد للكرك )
ورسم الجوباني وهو إذ ذاك كافل المملكة الشامية لفضلاء دمشق أن ينظموا له ما يكتب على أسنة الرماح فنظم القاضي فتح الدين بن الشهيد
( إذا الغبار علا في الجو عثيره ... فأظلم الجو ما للشمس أنوار )
( هذا سناني نجم يستضاء به ... كأنه علم في رأسه نار )
( إن الرماح لأغصان وليس لها ... سوى النجوم على العيدان أزهار )
ونظم مولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي نور الله ضريحه وكان إذ ذاك في عنفوان شبابه ومبادي نظمه
( النصر مقرون بضرب أسنة ... لمعانها كوميض برق يشرق )
( سبكت ما لتسبك كل خصم مارق ... وتطرقت لمعاند يتطرق )
( زرق تفوق البيض في الهيجاء إذ ... يحمر من دمها العدو الأزرق )
( ينسجن يوم الحرب كل كتيبة ... تحت الغبار فنصرهن محقق )
(2/212)
________________________________________
ولعمري إن الشيخ شمس الدين بن المزين تطاول برمحه على أقرانه في ذلك العصر بقوله
( أنا أسمر والراية البيضاء لي ... لا للسيوف وسل من الشجعان )
( لم أحل في عيش العداة لأنني ... نوديت يوم الجمع بالمران )
( وإذا تعانقت الكماة بجحفل ... كلمتهم فيه بكل لسان )
( فتخالهم غنما تساق إلى الردى ... قهر المعظم سطوة الجوباني ) وكتبت من حماة المحروسة حسب ما رسم لي به قولي
( أنا في الخط إن تحمر نقطي ... فكتابي مقاتل الفرسان )
( وقوامي إذا تثنى ففرد ... ما له في تفرق الجمع ثاني )
( وسناني كالبرق بل صار منه ... قلب سيف البروق في خفقان )
( رمحه للردين ينسب لكن ... صاح لما علاه بالسنان ) ومن أغراض الشيخ شمس الدين المزين اللطيفة قوله
( حمل الدواة فرمتها ... منه مرامة عاشق )
( قالت إذا ما أنت يا ... قلم الديار بلائق ) ومن لطائف مجونه قوله
( سلماني أضافنا ... لبنا ما له ثمن )
( بيض الله وجهه ... كلما جاء باللبن ) ومن مقاطيعه التي سارت لديها الركبان قوله
( أنا دواة يضحك الجود من ... بكا يراعي جل من قد براه )
( دلوا على جودي من مسه ... داء من الفقر فإني دواه )
(2/213)
________________________________________
ومن أغراضه اللطيفة قوله
( نزلنا بالقصير فرام قلبي ... مليحا بالعذارى الغيد أزرى )
( فلما أن تعذر مال عنه ... فؤادي والجوانح نحو عذرا )
ومن مدائحه المخترعة ما أنشده لشيخنا ومولانا قاضي القضاة علاء الدين بن القضامي الحنفي نور الله ضريحه وقد مر على دمشق متوجها إلى الحجاز الشريف في محفة قوله
( محفة المجلس العلائي ... تنشر جدواه في المشاهد )
( تقول هذا قنى وأعطى ... وحج بالناس وهو قاعد )
وأمر ابن المزين أن يكتب على قبره من نظمه ما قرأته على القبر وحفظته وهو قوله رحمه الله
( بقارعة الطريق جعلت قبري ... لأحظى بالترحم من صديقي )
( فيا مولى الموالي أنت أولى ... برحمة من يموت على الطريق ) ومما قررته للشيخ شرف الدين عيسى العالية في باب التورية قوله رحمه الله تعالى
( لما رأوه مضاجعي تحت الدجا ... حجبوه عن عيني حتى أسهرا )
( قبلت خالا فوق كعبة خده ... قبل الوداع وما أتيت المشعرا ) وقوله
( ومليحة راودتها فتعللت ... بالحيض وهي تقول كالمذعور )
( هل موضع خال فقلت لها اسكتي ... فمواضعي ليست تعد ودوري ) ومن لطائف مجونه قوله وهو حكاية لحاله
( قالت لي الفروة قم دفني ... حتى أدفيك بقلبين )
( قلت لها بالله ما تشتهي ... قالت غشا قلت على عيني )
(2/214)
________________________________________
ومن مجونه مع الشيخ بدر الدين البشتكي
( البشتكي المكدي ... ذو أبنة ليس تخفى )
( قد مد للنيك رجلا ... وللخلائق كفا ) وقوله
( أيا معشر الصحب مني اسمعوا ... مقالي وكس أم من ينتكي )
( ألا فالعنوا اكلين الحشيش ... وبولوا على شارب البشتكي ) وقوله
( البشتكي البدر له لحية ... كلحية الراهب مشعوره )
( قال أنا أشعر هذا الورى ... قلنا له فاستعمل النوره ) ويعجبني من مدائحه قوله
( تهنأ بنصف كم به من حلاوة ... وجد لي بفضل لا يضيع ثوابه )
( فإن لساني صارم وفمي له ... قراب وأرجو أن يحلى قرابه ) ومن شعر عيسى في مؤلفه من قصيدة
( صبيغ دعاويه ما تنقضي ... ويخطىء في القول لا يشعر )
( تفكرت فيه وفي ذقنه ... فلم أدر أيهما أحمر ) وقوله
( أيا رب الجناب الرحب جد لي ... وكثر في العطاء ولا تقلل )
( وما تعطيه لي من خشكنان ... نهار العيد كبر أو فهلل ) وقوله
( لفضلك يا ابن فضل الله أشكو ... برأسي البرد في نومي وأمسي )
( وأرجو أن يكون الشاش شمسا ... أروم الفوز من برد بشمس )
(2/215)
________________________________________
الشيخ شرف الدين عيسى وعصريه الشيخ شهاب الدين بن العطار الاتي ذكره رحمهما الله تعالى والشيخ بدر الدين البشتكي لم أجد في أغزالهم من المقاطيع ما يغازل بغزله عيون التورية ولكن وقفت لهم على أغراض هي فوق الغرض فمن ذلك قول الشيخ شهاب الدين بن العطار
( أصبحت بطال والأولاد أربعة ... محمد وثلاث موتهم يجب )
( فإن تحيل في رزق بمدحكم ... أبو محمد البطال لا عجب ) ومن إيهامه في هذا الباب قوله
( طلبت رزقا قيل رح ناظرا ... جيوش سيس قلت رأي تعيس )
( لو أن ذي الحكام في سلطة ... ما طلبوا أني أبقى بسيس ) وقال في الشيخ شرف الدين عيسى المذكور
( عيسى ومن مدحوه ... ما شمت فيهم رئيسا )
( وما رأيت أناسا ... لكن حميرا وعيسا ) وقوله في طاهر بن حبيب
( تجادل شافعي مع مالكي ... وهذا البحث بين الناس ظاهر )
( فقال الشافعي الكلب نجس ... وقال المالكي الكلب طاهر ) ومن لطائف مجونه قوله
( هيأ البلان موسى ... خلوة تحيي النفوسا )
( قلت ما أصنع فيها ... قال تستعمل موسا ) ومن محاسن الشيخ جمال الدين عبد الله السوسي في باب التورية قوله
( أهوى غزالا عليه صبري ... قد بان في الحب وهو عذري )
( قد أسرت مقلتاه قلبي ... فرحت مملوكه بأسرى )
(2/216)
________________________________________
وقوله
( تهاون شمس الدين بي وهو صاحب ... وأظهر لي أضعاف ما تظهر العدا )
( نزلت به أبغي الندى وهو طالع ... وعند طلوع الشمس يرتفع الندى ) وقوله
( زجرت النفس عن نذل لئيم ... أقر بموعدي غلطا وأنكر )
( وقد ذكرته عنه مرارا ... وهيهات المؤنث لا يذكر ) وقوله
( تجنب أقطعا لصا جريئا ... يحن إلى الجناية كل ساعة ) ( وما قطعوه بعد الوصل إلا ... أرادوا كفه عن ذي الصناعه ) ومن محاسن الصاحب فخر الدين بن مكانس في باب التورية قوله
( بأبي عقيقة مرشف ... برت وكانت قبل عقت )
( فلثمتها ورشفتها ... وقطعتها من حيث رقت ) ومنه قوله
( يقول مفندي إذ همت وجدا ... بخد خلت فيه الشعر نملا )
( أيعرف خده للعشق أهلا ... فقلت لهم نعم أهلا وسهلا ) وقوله
( زارت معطرة الشذا ملفوفة ... كي تختفي فأبى شذا العطر )
( يا معشر الأدباء هذا وقتكم ... فتناظموا في اللف والنشر ) وقوله
( علقتها معشوقة خالها إذ عمها ... إذ عمها بالحسن قد خصصا )
( يا وصلها الغالي ويا جسمها ... لله ما أغلى وما أرخصا ) وقال وأجاد
( إن الهواءين يا معشوق قد عبثا ... بالروح والجسم في سر وفي علن )
( فالروح تفديك بالممدود قد تلفت ... والجسم حوشيت بالمقصور في كفن )
(2/217)
________________________________________
وقوله مضمنا
( ومقلة ظبي يرشق القلب سهمها ... ولكنه رشق يزال به الهم )
( على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم ) وقوله
( عارض المحبوب من فوق ... صفاء الخد فاتن )
( شبه ورد زاد لطفا ... حول ماء غير آسن ) وقوله في مجونه مضمنا
( قلت يا لائمي على بذل مالي ... فى هوى الحب دع كلام الفشار )
( فعلى فلس ذا يناح ويبكي ... لا على درهم ولا دينار ) وقوله
( شكى إلي اليتم إذ نكته ... مراهق فيه حلا هتكي )
( بت أسليه على يتمه ... وكلما سليته يبكي ) وقوله
( سكر الشيخ وطابا ... واشتهى الشيخ شبابا )
( حسب الخمرة صابا ... وجد الراح شرابا ) وقوله يمازح السراج السكندري وقد انقطع عنه
( قل للسراج إذا تكبر ... حيث بالقوم احتمى )
( أنت السراج بعينه ... لو شلت انفك للسما ) ومثله قوله فيه
( يا ذا السراج اشتري أيري فأنت به ... أولى وذلك للحق الذي وجبا )
( سكندري وتدعى بالسراج وذا ... مثل المنار إذا ما قام وانتصبا ) وقال في الصاحب بن النشو الوزير وقد أنشأ سبيلا بالجامع العمري
(2/218)
________________________________________
( أنشأ القطيم النشو لما ارتقى ... وزارة زادته في وزره )
( بالجامع العمري سبيلا وقد ... قال لنا عنه بنو مصره )
( هذا سبيل حاله فاسد ... وزيره يرشح من قعره ) ومن أغراضه البديعة قوله
( لولا الزمان للمحال قابل ... ما سلسلوا مطلق كل جدول )
( وأصبح الدولاب في رياضه ... يقول بالدور وبالتسلسل ) ومن أغراضه الغريبة قوله في ولده مجد الله بن فضل الله رحمهما الله تعالى
( أرى ولدي قد زاده الله بهجة ... وكمله في الخلق والخلق مذ نشا )
( سأشكر ربي حيث أوتيت مثله ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا ) ومن بدائع أمداحه قوله في الشهيد فخر الدين نقيب الأشراف رحمه الله تعالى
( جناب فخر الدين كهف الورى ... دامت له النعماء لا تنقضي )
( فهو الشريف الحسن المرتضى ... وخلقه ذاك الشريف الرضي ) وقال يمدح الإمام المرتضى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
( يا ابن عم النبي ان أناسا ... قد توالوك بالسعادة فازوا )
( أنت للعلم في الحقيقة باب ... يا إماما وماسواك مجاز ) ويعجبني من حسن خواتمه قوله
( وا سوأتاه إذا وقفت بموقف ... ما مخلصي فيه سوى الإقرار )
( وسواد وجهي عند أخذ صحيفتي ... وتطلعي فيها شبيه القار )
(2/219)
________________________________________
ومن محاسن ولده مجد الدين بن فضل الله تغمده الله برحمته قوله
( وأغيد بت منه ... بنار عشقيه أقلى )
( رمى من اللحظ سهما ... به نموت ونبلى ) وقوله
( قالوا وقد عبثت بنا ... قاماتهم والأعينا )
( إن رمت تلقانا فلج ... بين السيوف والقنا ) وقوله
( يقولون هل من الحبيب بزورة ... ومناكم المطلوب قلنا لهم منا )
( فقالوا لنا غوصوا على قده وما ... يحاكى إذا ما اهتز قلنا لهم غصنا ) وقوله
( لحق الله دع ظلم المعنى ... ومتعه كما يهوى بأنسك )
( وكف الصد يا مولاي عمن ... بيومك رحت تهجره وأمسك ) وقوله
( قال خلي لحبيبي صل فتى ... بك قد أضحى معنى مغرما )
( قال هل يولم إن واصلته ... قلت إن فاز بثغر أولما ) وقوله
( يا لائمي إن فقدت الصبر في قمر ... أصداغه سلبت أهل الهوى وسبت )
( كلت سيوف اصطباري عنه حين بدا ... اس العذار على وجناته ونبت ) وقوله
( من مجيري من سادة ألفوا الهجر ... لعشاقهم وزادوا النفارا )
( سأل الدمع أن يجيروه قالوا ... مثل هذا في حينا لن يجارا ) ومن اختراعاته اللطيفة
( تساومنا شذى أزهار روض ... تحير ناظري فيه وفكري )
( فقلت نبيعك الأرواح حقا ... بعرف طيب منه ونشر )
(2/220)
________________________________________
ومن أغراضه اللطيفة قوله
( سحقا لذي نظم يهيج من البغا ... ويثير في هجو الكرام عجاجا )
( أقصيته عني فظل يسبني ... ومنعته أيري فذم وهاجا ) ومن مدائحه يهنىء والده بعوده من السفر
( هنئت يا أبتي بعودك سالما ... وبقيت ما طرد الظلام نهار )
( ملئت بطون الكتب فيك مدائحا ... حتى لقد عظمت بك الأسفار ) وقال فيه أيضا وقد أهدى له هدية حسنة
( تناهيت في بري إلى أن هديتني ... ولولاك كنت الدهر في الغي ساديا )
( وأهديت لي ما حير العقل حسنه ... فلا زلت في الحالين للعبد هاديا ) ويعجبني من زهدياته قوله
( جزى الله شيبي كل خير فإنه ... دعاني لما يرضى الإله وحرضا )
( فأقلعت عن ذنبي وأخلصت تائبا ... وأمسكت لما لاح لي الخيط أبيضا )
ومن كلام الشيخ أبي الفضل بن أبي الوفاء العارف الذي دخل بحسن سلوكه إلى زوايا الأدب فأخرج منها الخبايا وأظهر البرهان تغمده الله برحمته قوله
( عبدك الصب المعنى ... عرف الفقر وذاقه )
( فلكم فاخر محتا ... جا شكا فقرا وفاقه ) ومن مخترعاته في باب التورية مع بديع التضمين قوله
( ما خادم واسمه في در مبسمه ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول )
( وريقه مع ثناياه التي انتظمت ... كأنه منهل بالراح معلول ( مع لولو )
(2/221)
________________________________________
ومن اختراعاته قوله
( على وجنتيه جنة ذات بهجة ... ترى لعيون الناس فيها تزاحما )
( حمى ورد خديه حماة عذاره ... فيا حسن ريحان العذار حماحما ( حمى حمى )
ومثله قوله
( أرسلت عيني بدمعيهما ... بين يدي من قد تمادى جفاه )
( أسأله في فمه قبلة ... فلم يميلاه ولم يعطفاه ( يعط فاه )
ومثله قوله
( سألتها رشف ريق ... مستعذب الطعم حلو )
( قالت فصفني ارتجالا ... فقلت بعد التروي ) ومن لطائف نكته في هذا الباب قوله
( ازداد خدك شعرا ... فازداد قلبي حبا )
( إذ كان وردك جمري ... فيه فصار مربى ) ومن لطائفه قوله
( ألا لا تلوموني فلست بمقلع ... إذا انحدرت من كأسها الراح في حلقي )
( سآوي إلى بحر من الخمر مترع ... أحط المراسي عنده فأمل لي ( وسقي ) وقوله
( ذكرك لي في اللوم مستحسن ... واللوم عندي غير مستحسن )
( كم قلت للمعرب في لومه ... إن جئت نحوي قط لا تلحن ) ومن لطائف مجونه مع حسن التضمين
( وخل سمته صفعا بمال ... فقال توازعوه يا صحابي )
( إذا الحمل الثقيل توازعته ... أكف القوم هان على الرقاب )
(2/222)
________________________________________
ومن أغراضه قوله
( تعنت دهر لج فينا بخطبه ... وذللنا من بعد عز وأنكانا )
( قسا وانثنى يختال في جبروته ... وجرر أذيالا علينا وأردانا )
وأنشدني من لفظه لنفسه الشيخ شمس الدين المتنبي قوله في مليح اسمه حمزة
( ترى يبدو لحمزة بعض ما بي ... ويرثي لي وينظر في بلائي )
( وأشفي بالمبرد من لماه ... واجمع بين حمزة والكساء ي ) ومن لطائف علامة الوجود فريد الدهر بدر الدين بن الدماميني المخزومي المالكي قوله
( قلت له والدجا مول ... ونحن في مجلس التلاقي )
( قد عطس الصبح يا حبيبي ... فلا تشمته بالفراق ) وقوله
( يقول بديوان المحبة وردوا ... محاسن حبي فهو في الحسن مفرد )
( فوردت في الديوان عامل قده ... فقال وذاك الخد قلت مورد ) وقوله
( وبي وجنة حمراء زاد صفاؤها ... وأبدت صفات أبدع الحسن كونها )
( فدع لائمي ينهى عن الحب جهده ... فما أنا بالسالي صفاها ولونها نهى ) وقوله
( يا عذولي في مغن مطرب ... حرك الأوتار لما سفرا )
( كم تهز العطف منه طربا ... عندما تسمع منه وترى ) وقوله
( أذاب أحشائي هوى صائغ ... قلت له والقلب رهن لديه )
( إني على فيك أرى خاتما ... فهل ترى يقعد نقشي عليه )
(2/223)
________________________________________
وقد زاد النكتة حسنا بقوله
( بدا وقد كان اختفى ... وخاف من مراقبه )
( فقلت هذا قاتلي ... بعينه وحاجبه ) وقوله
( أمنيتي أنت يا مليح ... ما مثله في الزمان ثاني )
( فكيف تبدي جفاك خوفا ... وأنت في غاية الأمان ( ني ) ) وقوله
( وعزيز الجمال أوجب ذلي ... وهواه علي أصبح فرضا )
( فهو في الحسن والجمال سماء ... صرت يا صاح منه بالذل أرضا ( ضى ) وقوله
( تناسبت أوصاف من وصله ... ينفي عن القلب جميع الكرب )
( في الخد تسهيل ومن ثغره ... يطيب للصب ارتشاف الضرب ) وقوله
( لا ما عذاريك هما أوقعا ... قلب المحب الصب في الحين )
( فجد له بالوصل واسمح به ... ففيك قد هام بلامين ) وقوله
( قلت لعطار به صبوتي ... محمودة والصبر لا يستطاب )
( أسقيتني كأس غرام به ... ذبت ومن فيك براني الشراب ) وقوله
( لله منه ملثم أشنب ... قد طاب فيه العشق للمغرم )
( قلت لعذالي لا تعجبوا ... طيب الهوى ما زال في الملثم ) وقوله
( في ليلة البدر أتى ... حبي فقرت مقلتي )
( وقال لي يا بدر قم ... فقلت هذه ليلتي ) وقوله
( قم بنا نركب طرف ... اللهو سيقا للمدام )
( واثن يا صاحي عناني ... لكميت ولجام )
(2/224)
________________________________________
ومن أغراضه اللطيفة قوله
( أقول لخل جن من فرط ماله ... ورابى فأسق الناس كأس عذاب )
( صفاتك يا هذا لعمري تناقضت ... فإنك ذو مال وأنت ترابي ) ومن مدائحه ما كتب به إلى قاضي القضاة ناصر الدين التنيسي قوله
( قد نلت يا قاضي القضاة مطالبي ... بكنوز ود منك أورثت الغنى )
( وأخافني الدهر الظلوم فمذ رآني ... داعيا لجناب جودك أمنا ) ومن مدائحه فيه قوله وقد ولاه وظيفة العقود في مبادي العمر
( يا حاكما ليس يلفى ... نظيره في الوجود )
( قد زدت في الفضل حتى ... قلدتني بالعقود ) وكتب إلى برهان الدين المحلي
( يا سر يا معروفه ليس يحصى ... ورئيسا ذكا بفرع وأصل )
( مذ علا في الورى محلك عزا ... قلت هذا هو العزيز المحل ( ي ) ) وكتب إلى شهاب الدين الفارقي
( قل للذي أضحى يعظم حاتما ... ويقول ليس لجوده من لاحق )
( إن قسته بسماح أهل زماننا ... أخطا قياسك مع وجود الفارق ( ي ) ) ويعجبني من أغراضه البديعة قوله
( لئن عقدت بنت الكروم عقودها ... على حمل نفى الهم والهم زائد )
( فنحن شهود في المقام لعقدها ... على أولياء اللهو واللوز عاقد ) ومن لطائف مجونه قوله
( أمنت صدوده فدنوت منه ... على مهل بشيء زاد حسنا )
( وعاجلني الرقيب فخاف أيري ... وأنزل إذ رأى خوفا وأمنا ( ي ) )
(2/225)
________________________________________
ومما اختاره سيدنا الشيخ العالم العلامة أبو الفضل أحمد بن حجر العسقلاني روى الله من سحاب الرحمة ثراه من نظمه لنفسه رحمه الله تعالى في باب التورية ورسم لي أن يكون واسطة لهذا العقد وكتب ذلك بخطه الكريم في كراسة وأتحف بها العبد لأنظمها في عقود هذه الأسلاك وكتب في ديباجة الكراسة قوله
( يا سيدا طالعه ... إن راق معناه فعد )
( وافتح له باب الرضا ... وإن تجد عيبا فسد ) وقوله
( سألت من لحظه وحاجبه ... كالقوس والسهم موعدا حسنا )
( ففوق السهم من لواحظه ... وانقوس الحاجبان واقت رنا ) وقوله
( سألوا عن عاشق في ... قمر باد سناه )
( أسقمته مقلتاه ... قلت لا بل شفتاه ) وقوله
( أتى من أحبائي رسول فقال لي ... ترفق وهن واخضع تفز برضانا )
( فكم عاشق قاسى الهوان بحبنا ... فصار عزيزا حين ذاق هوانا ) وقوله
( ضنيت جوى فواصلني حبيبي ... وعاد إلى الجفاء فعاد ما بي )
( فقلت أعد وصالا قال كلا ... فها أنا ذبت من رد الجواب ( بي ) ) وقوله مع بديع الاقتباس
( خاض العواذل في حديث مدامعي ... لما رأوا كالبحر سرعة سيره )
( فحبسته لأصون سر هواكم ... حتى يخوضوا في حديث غيره ) وقوله
( يا عاذلي وسهام اللحظ ترشقني ... عن قوس حاجب بدر خده قبسي )
( إن تستطع لنجاتي في الهوى سببا ... فاستنبط السلم لي من أسهم وقس ( ي ) ) وقوله
( ولم أنس إذ زار الحبيب بروضة ... فغارت من المعشوق أعينها المرضى )
( ولاحت بخد الورد حمرة خجلة ... حياء رأينا طرف نرجسها غضا )
(2/226)
________________________________________
وقوله
( يا مبدعا في حسنه واصل أخا ... هم له عام وما واصلنا )
( فقال هل صيف في مشتاته ... قلت نعم وفي هموم شتى ) وقوله
( محبوبتي واصلتني ... والهم عني تشتت )
( وذاب قلب حسودي ... لما وفت وتفتت ) وقوله
( أحبب بوقاد كنجم طالع ... أنزلته برضا الغرام فؤادي )
( وأنا الشهاب فلا تعاند عاذلي ... إن ملت نحو الكوكب الوقاد ) وقوله
( نحن أهل الهوى بلوناه قدما ... بين خوف من أهله وأمان )
( وشربنا خمر الهوى كل حين ... بكؤوس قد أترعت وأوان ( ني ) ) وقوله
( ورشا مذ نشا وعينا التصابي ... بعدما كان ذا اشتباه علينا )
( وجهلنا الغرام حتى أرانا ... منه تحت اللثام خدا وعينا ) وقوله
( سرت وخلفتني غريبا ... في الربع أصلى جوى بنارك )
( أغث حشا أحرقت غراما ... في ربعك المعتلي ودارك ) وقوله
( وبدر تم جميل ... محجب بالدلال )
( إذا هممت بأني ... أسلو هواه بدا لي ) وقوله
( نهاني حبيبي أن أطيع عواذلي ... لكي أتهنى بالوصال الذي سرا )
( فقلت فدتك النفس سمعا وطاعة ... فلم أر نهيا منه أهنى ولا أمرا ) وقوله
( وأهيف حياني بطيب وصاله ... ومن ريقه الخمر الحرام حلالي )
( أدار لي الكأسين خمرا وريقة ... ونزهني عن جفوة وملال ( لي ) ) وقوله
( تجرد من أحب فقال لي من ... يلوم وأظهر الحسد المكتم )
( أجاد لك الحبيب بلمس جسم ... له كالخز قلت نعم وأنعم )
(2/227)
________________________________________
وقوله
( تيه فلان الدين مع فقره ... أقوى دليل أنه جاهل )
( لثوبه بالصقل من فوقه ... قعاقع ما تحتها طائل ) ومن أغراضه اللطيفة قوله
( أشكو إلى الله ما بي ... وما حوته ضلوعي )
( قد طابق السقم جسمي ... بنزلة وطلوع ) وقوله وهو مما كتبه على مجموع الكرماني
( نظرت لما سطرته من فوائد ... لها الفضل إذ وافت محاسنها يعزى )
( فلله ما سطرت منها لخاطري ... فلم يكف طرفي منه شيء ولا أجزا ) وقوله
( قد جئت في علم الأصول لنا وفي ... علم الفروع بخالص الإبريز )
( وبرزت في هذا وفي هذا على الرازي ... بالإحسان والتبريز ( ي ) ) ويعجبني من وعظياته قوله
( يا أيها الشيخ المطيع هواه دع ... هذي الدعاية قد أتى داعي الردى )
( وخيوط هذا الشيب لا تنسج بها ... ثوب التصابي فهي ما خلقت سدى ) وقوله
( خليلي ولى العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا )
( فحتى متى نبني بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وما تبنى ( تبنا ) ومن نظم الشيخ بدر الدين البشتكي رحمه الله في هذا النوع قوله
( بدا بوجه جميل ... قد شرف الحسن قدره )
( في شمسه كل صب ... يود يبذل بدره )
(2/228)
________________________________________
هذا الذي ظفرت به من أغزاله في هذا الباب ومن مجونه قوله
( وافى بذقن بعد أن ... قاسيته حلوا ومرا )
( فقبضت لحيته وأيري ... في استه وهلم جرا ) وقال من كتابه المسمى برفع شان العمشان
( أقول لناتف خديه مهلا ... أترضى اللائطين مدى الدهور )
( فدع نتف العوارض عنك كيما ... تناك بلحية مثل الحرير ( ي ) ) ومثله قوله في الشيخ بدر الدين بن الدماميني المخزومي
( تبا لقاض جار في أحكامه ... حتى على المنثور والمنظوم )
( خان الشريعة مذ أطاع بني وفا ... وانقاد للفساق كالمخزوم ( ي ) ) ومن مدائحه قوله
( وقاس الورى بالنيل نائلك الذي ... حلا وصفا والنيل يبدو مرنقا )
( فقلت وهل ينقاس من خلقه الوفا ... بمن بالوفا في العام يوما تخلقا ) وكتب إليه سيدنا ومولانا قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر العسقلاني في رمضان
( أليس عجيبا بأنا نصوم ... ولا نشتكي من أذى الصوم غما )
( ونسغب والله في نسكنا ... إذا نحن لم نرو نثرا ونظما ) فأجابه بقوله
( ألا يا شهابا رقى في العلا ... فأمطرنا نوؤه العذب قطرا )
( إلى فقرة منك يا فقرنا ... ونستغن إن قلت نظما ونثرا )
(2/229)
________________________________________
ومما فضل لي من صبابات هؤلاء الفضلاء في مناهل التورية قولي
( هويته أعجميا فوق وجنته ... لامية عوذتها أحرف القسم )
( في وصفها ألسن الأقلام قد نطقت ... وطال شرحي في لامية العجم ) وقولي
( خال الحبيب يقول لي لما بدا ... من تحت عارضه كسر غامض )
( أنا فارضي في الغرام بخده ... فغدا مقامي تحت ذيل العارض ) وقولي
( عزمت على السلو لطول هجري ... فجاءتني عوارضه تعارض )
( وكان العذر يقبل في سلوي ... ولكن ما سلمت من العوارض ) وقولي
( دويرة العارض عني حميت ... برشقة من جفنه مشتقة )
( فاترك ملامي يا عذولي إنني ... قتلت بين دورة ورشقة ) وقولي
( ولما راني الشعر وهو مذيل ... وجانب ذاك الصدغ وهو مطرف )
( بدا بخمار من خمار بريقه ... فقلت لهم هذا الجناس المحرف ) وقولي
( أقول لثغر الحب مت ولم أجد ... سبيلا إلى برد الحشايا أخا الصفا )
( فقال ارتشف من خمر ريقي نهلة ... ألم تره من برده قد تقرقفا ) وقولي
( لما تعذر من أحب تعذر الصبر ... الجميل فلم أطق أن أصبرا )
( قال العذول الصبر أعظم مسعد ... في العشق قلت أما تراه تعذرا ) وقولي مع بديع الاقتباس
( ناحت مطوقة الرياض وقد رأت ... تلوين دمعي بعد فرقة حبه )
( لكن به لما سمحت تباخلت ... فغدت مطوقة بما بخلت به ) وقولي في مدح حماة
( ذكرت أحبتي بالمرج يوما ... فقوت أدمعي نيران وهجي )
( وبت أكابد الأحزان وحدي ... وكل الناس في هرج ومرج )
(2/230)
________________________________________
وقولي فيه أيضا
( مرج حماة بنواعيره ... زاد على المقياس في روضته )
( واغتاظ نمروذ دمشق لذا ... فقلت لا أفكر في غيظته )
وجلست يوما في قطاف السفرجل على عين الغيضة الموصوفة بست الشام مع جماعة من أهل العلم والأدب فنظم كل منهم ما يليق بذلك المقام على قدر مقامه فنظمت قولي
( تقول ست الشام لما غازلت ... بعينها فأنعشت حياتي )
( وانتقشت بمرجها وأبرزت ... نهدا حلا لأنه نباتي )
( خذني بغير ضرة فإنني ... بديعة في الحسن والصفات )
( واستجلني عروسة يتيمة ... شامية وعش بلا حماة ) وقولي في وادي رشعين وعينه بظاهر مدينة طرابلس
( أرض وادي رشعين مفتوحة العين ... لها نقطة على النيرين )
( ما حللنا هناك إلا وقالت ... أجلسوهم على محاجر عيني ) وقولي بوادي المنافس بظاهرها أيضا
( وادي المنافس من مغنى طرابلس ... بطيب أنفاسه أبدى نفائسه )
( وكاد يلحق بالشقرا وأبلقها ... فلا تلوموا إذ أقوى منافسه ) وقولي برأس العين ببعلبك
( ولما نزلنا بعلبك تفكهت ... عيوني وأذواقي وصلت على البين )
( وطالبتها يوما برؤية مرجها ... وخضرته قالت على الرأس والعين ) ومن أغزالي البديعة قولي
( ماس في الروض وانثنى ... بخدود مورده )
( فرأينا غصونه ... وهي خشب مسنده )
(2/231)
________________________________________
وقلت موريا ومقتبسا ومكتفيا
( قالوا وقد فرطت في تصبري ... وما برى بوصله سقاما )
( اصبر عسى تسقى بماء ريقه ... قلت لهم يا حسرتا على ما ) وقولي
( أرخت لنا ذوائبا من شعرها ... عشرا وفرق الفجر فيهم يسري )
( فصرت بالفجر لها معوذا ... لما بدا بين ليال عشر ) وقولي موريا مع بديع التضمين
( سرنا وليل شعره منسدل ... وقد غدا بنومنا مضفرا )
( فقال صبح ثغره مبتسما ... عند الصباح يحمد القوم السرى ) وقولي
( قف واستمع طربا فليلى في الدجا ... باتت معانقتي ولكن في الكرى )
( وجرى لدمعي رقصة بخيالها ... أترى درى هذا الرقيب بما جرى ) وقولي
( كم صحت في ظلمة الليالي ... ويلاه من نومي المشرد )
( والدمع في وجنتي ينادي ... أواه من شملي المبدد ) وقولي
( يقول معذبي حسن تخير ... سواي فقلت قد عز اصطباري )
( وكم في الناس من حسن ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختياري ) وقولي
( ارشفني ريقه وعانقني ... وخصره يلتوي من الدقه )
( فصرت من خصره وريقته ... أهيم بين الفرات والرقه ) وقولي
( أبصروا عند وداعي ... عقدها وهو مفرط )
( لمتها في ذاك قالت ... برح الشوق وأفرط )
(2/232)
________________________________________
وقولي
( سجدت جفوني هيبة لما بدا ... محراب حاجبه بغير حجاب )
( الله أكبر وهو يغزو مهجتي ... حربا ولم أخرج عن المحراب ) وقولي
( طلبت منه قبلة فقال لي ... وقد بدا يشرع في الإعراض )
( نسيت فعل سيف لحظي قلت لا ... يا قاتلي وكيف أنسى الماضي ) وقولي
( قيل لي لما عرتني شدة ... وتناءى فرج عني مده )
( يا أخا الأشواق ماذا تبتغي ... قلت أبغي فرجا من بعد شده ) وقولي
( مذ جفاني ممرض القلب ولم ... ألق في الضعف وفي الكسر انجبارا )
( قلت للعارض يا اسي إذا ... درت داري ممرض القلب فدارا ) وقولي
( طلبت تقبيل من أحب وقد ... أنكرت في الخد نقطة حسنه )
( فرق لي قلبه وقال إذا ... قبلت خدي لا تنكر الحسنه ) وقولي موريا ومضمنا
( حثثت عزمي شوقا إليكم ... فلم أطق مكثه بأرض )
( وحيث لم أحظ بالتلاقي ... فغايتي أن ألوم حظي ) وقولي
( جاء بصبح ثغره مبتسما ... يمشي بليل الشعر في دلال )
( قلت له دمت لقلبي هكذا ... ما دامت الأيام والليالي ) وقولي مرتجلا في جبهة دمشق من دو بيت
( لما ملأ الجبهة بالأنوار ... لمناه على ذلك خوف العار )
( قال انصرفوا سئمت من بلدتكم ... والجبهة من منازل الأقمار ) وقولي
( مذ أظهر ورده لنا ريحانه ... ناديت لتلك المقلة الكسلانه )
( قد دب عذاره على وجنته ... قومي انتبهي قالت أنا نعسانه ) وقولي
( أحببته متأدبا ونظمت في ... حسن ابتدائي فيه نظم المرقص )
( وأشار في حسن الختام أجبته ... حسن الختام يكون بعد تخلصي )
(2/233)
________________________________________
وقولي
( يحاضرني بأبيات ولكن ... يعيرني إذا طال اجتماعي )
( فإن أنشدت أشعار السلام ... يطارحني بأبيات الوداع ( عي ) ) وقولي
( قلت للخال إذ بدا ... في نقا جيده السعيد )
( فزت يا عبد قال لي ... أنا عبد لكل جيد ) وقولي
( قال أراك الحمى تعوض ... بغصن قدي إذا جفاكا )
( فقلت من بعد قد حبي ... والله ما أشتهي أراكا ) وقولي
( رمت يوم العيد منه وقفة ... ليرى من بعده حالي وضعفه )
( فطر القلب وولى قائلا ... يا معنى ما لعيد الفطر وقفه ) وقولي
( قال نهد الحب صفني مذ غدا ... قاعدا في الصدر بالتصدير يجهر )
( قلت إذ برز في تحقيقه ... أنت بالتحقيق والله مصدر ) وقولي
( أسياف لحظ قاتلي ... لما تعدت حدها )
( وعربدت من سكرها ... قلت استحي فردها )
( وقال لي موريا ... لا بد أن أحدها ) وقولي
( عاتبته ودموعي غير جارية ... لأن دمعي من طول البكى نشفا )
( فقال لم أر وكف الدمع قلت له ... حسيبك الله يا بدر الدجا وكفا ) وقولي
( قالت وقد قبلتها في جيدها ... تصبو إلى غيري وتخلص من يدي )
( فأجبت حين تقلدت بمدامعي ... يا هند خوضي في دمي وتقلدي ) وقولي
( بنقطة الخال وطعم اللمى ... وخضرة الشارب يا عاتبي )
( قد ملت للنقطة بعد التقى ... وقلت بالمشروب والشارب )
(2/234)
________________________________________
وقولي
( أرداف من أهواه قد تثاقلت ... لما تجافى الشعر يوم البين )
( وبعد ذا وجنته تلونت ... وساقه والله ذو وجهين ) وقولي
( برامة لي ظبي ... تخشى الأسود مرامه )
( كم هام قلبي فيه ... بين العذيب ورامه ) وقولي
( هويت غصنا لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجد تغريد )
( قالت لواحظه أنا نسود على ... بيض الظبا قلت أنتم أعين سودوا ( د ) ) وقولي
( قلت له إن جفن مقلته ... يشبه سهما بجعبة رشقه )
( خفت من الفتك رحت أملقه ... سابقني مدمعي جرى ملقه ) وقولي
( في سويداء مقلة الحب نادى ... لحظه وهو يقنص الأسد صيدا )
( لا تقولوا ما في السويدا رجال ... فأنا اليوم من رجال السويدا ) وقولي
( بروحي أفتدي ظبيا نفورا ... يحق له بروحي أن يفدى )
( جلا لصدا قليبي فرد يوم ... بوصل منه ثم جفا وصدا ) وقولي موريا مضمنا
( ومذ كلمت جسمي سيوف لحاظها ... شكوت إليها قصتي وهي تبسم )
( فلم أر بدرا ضاحكا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتا يتكلم ) وقولي
( جاد النسيم على الربا ... بندى يديه وقال لي )
( أنا ما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي ) وقولي
( رأيت مع المنثور بعض وقاحة ... ولم أدر ما بين الغدير وبينه )
( تلون منه ثم مد أصابعا ... إلى وجهه قصدا وخضر عينه )
(2/235)
________________________________________
وقولي
( حيا بها عاصرها في كأسها ... مشرقة باسمة كالثغر )
( وقال هذي تحفة في عصرنا ... قلت اسقنيها يا إمام العصر ) وقولي
( لما غدا حباب كأسي شاعرا ... لنظم خمرياته يحرر )
( أوقفت ساقينا على نظامه ... فقال لي والله هذا جوهر ) وقولي
( لما غدا راحي نحيلا باليا ... وكاد أن لم يك في الزجاج )
( وجاز بالماء إلى بحرانه ... ورق قالوا صنه بالعلاج )
( فجئته مستقصيا أعراضه ... وجدته معتدل المزاج ) وقولي
( في حب كأسي لامني ... من ليس يدري حالتي )
( فقلت دعني إنني ... وجدت فيها راحتي ) وقولي مماجنا
( أعنابكم إن حرموا ماءها ... وحرفوا فيها على الشارب )
( لا تحرموني التين إني امرؤ ... أعشقه بالقلب والقالب ) وقولي
( أدخلت أيري فيه ... أصبحت منه المقاتل )
( فقلت كيف تراه ... فقال والله داخل ) وقولي
( العلم ابن الكوير قال معي ... لطف وظرف حواهما الكرم )
( وقامتي بانة مهفهفة ... فقلت لا بانة ولا علم ) وقولي
( قالوا صفي الدين أشعاره ... ما للورى في طرقها ممشى )
( وهكذا إنشاؤه مسكر ... قلت لهم والله ما أنشا ) وقولي
( ديوان نظمي جاء وهو محرر ... برقيق نظم لفظه يستعذب )
( فإذا بدى لا تستقلوا حجمه ... وحياتكم فيه الكثير الطيب )
انتهى ما أوردته في باب التورية من كتاب الله وحديث نبيه وكلام أصحابه رضي الله عنهم أجمعين ومن نظم فحول العرب والمولدين إلى أن ارتفع العلم الفاضلي وأوردت محاسنه ومحاسن من مشى تحت علمه المحمدي إلى أن اتصل هذا السند بأعيان أهل العصر
قلت ولولا الحياء من العصابة النباتية وأنا منها لعززت العلمين من الوداعي
(2/236)
________________________________________
بثالث فأوردت هنا من مطرب عطر مفرداته ما يغني عن المثاني والمثالث فإنه أحد أئمة هذا المذهب وإذا ذكرت التورية فهو عذيقها المرجب وعلى كل تقدير ففرسان العلمين المشهورين الفاضلي والنباتي هم الذين أبرزوا عروس التورية من خدرها وحققوا للناس من تساذج عن نقوش القاعدة وسفل عن علو قدرها ولم أخل بذكر الشهاب محمود وكان محمود الحشمة في ألفاظه على كل ناظم وناثر إلا أن التورية كانت غير مذهبه ووقوعها في نظمه ونثره من النوادر وتمذهب بها القاضي شهاب الدين بن فضل الله ولكن ما تفقه في هذا المذهب ولا حرره ولا أبدر فيها بدر الدين بن حبيب وكانت ليالي سطورها بنظمه غير مقمرة ولهذا خدمها حذاق الأدب وحافظوا على الخدمة وثابروا وأنشدوا من رضي بالشعر الموزون
( إذا كنت لا تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنا وازن وما أنا شاعر )
قلت ومما تخيرته من نظم القاضي شهاب الدين بن فضل الله رحمه الله من النكت التي وقعت له عفوا من غير كد ولا تكلف قوله
( جاؤوا بأنواع من الطيب لنا ... تحملها معشوقة ممشوقه )
( قلت خذوا الطيب لكم جميعه ... بشرط أن لا تأخذوا المعشوقه ) ومما اخترته من نظم بدر الدين بن حبيب رحمه الله تعالى قوله
( وجنته الحمراء لما اكتست ... خضرة أذناب الطواويس )
( عابوا لفرط الحسن دينارها ... فقلت خلوه على كيسي )
قلت وقد عن لي أن أورد هنا نبذة من نظم من كانت التورية غير مذهبه لأجعلها في مهالك الأشكال وموانع العقادة جل مطلبه وما علي ممن تأخر عصرا أو تقدم فإن الغرض أن يصير عقد التورية وهو بنظم من شعر بها منظم وما خفي أن من حذاق الأدب من وقعت له التورية عفوا وصار العفو محلا عند القدرة ومنهم من نقب عنها وعسعس عليه ظلام التكليف فلم يبرزها نيرة كالشيخ صفي الدين فإنها كانت غير مذهبه وحاولها مرارا فأتى بها مغصوبة ولم يبلغ من اقتناص شواردها بحبائل فكره مطلوبه كقوله
(2/237)
________________________________________
( وساق من بني الأتراك طفل ... أتيه به على جمع الرقاق )
( أملكه قيادي وهو رقي ... وأفديه بعيني وهو ساقي )
قلت لا شك أن مراده بالمعنى الواحد من التورية ساقي الراح وهو ظاهر صحيح وبالمعنى الآخر أن يكون هذا الساقي ساقا للشيخ صفي الدين وهو غير ممكن ولعمري إن هذا مسلك من ليس له في باب التورية مدخل وهذه النكتة أبرزتها معلمة الطرفين وأنا إذ ذاك مبتدىء لم أبلغ من البلاغة أشدي ولا ثبت عند قضاة الأدب رشدي بقولي موريا ومضمنا
( يا حسن ساق يقول إن ذهبت ... مدامكم تكيفوا بأحداقي )
( شمر عن ساقه لنا وسقى ... قامت حروب الهوى على ساق )
قلت ومما عقده الشيخ صفي الدين في هذا الباب بيت بديعيته الذي نظمه شاهدا على هذا النوع وهو قوله في مدح النبي
( خير النبيين والبرهان متضح ... في الحجر عقلا ونقلا واضح اللقم )
قلت ومن تواريه التي يستشهد بها على رفضه ولا بد أن الله تعالى يقابله فيها على قبح سريرته وقلة أدبه قوله
( إذا شاهدت عيناك وجه معذبي ... وقد زارني بعد القطيعة والهجر )
( رأيت بقلبي من تلقيه مرحبا ... وسيف علي في لحاظ أبي بكر )
وكذلك الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جابر الأندلسي ناظم البديعية كان عن نظم التورية بمعزل ولم ترض أن تنزل من أبياته بمنزل وبيت نظمه في بديعيته شاهدا على هذا النوع في غاية العقادة والسفالة وهو قوله
( لا يرفع العين للراجين يمنحهم ... بل يخفض الرأس قولا هاك فاحتكم )
وهذه البديعية غالبها سافل على هذا النمط والتورية تجل عن أن تكون من مخدرات هذا البيت ولكن أورد له الشيخ أبو جعفر في شرحه الذي كتبه على بديعيته ما هو منقول في هذا الباب وهو قوله
(2/238)
________________________________________
( وقفت للوداع زينب لما ... رحل الركب والمدامع تسكب )
( مسحت بالبنان دمعي وحلو ... سكب دمعي على أصابع زينب )
قلت ورتبة الشيخ صفي الدين بالنسبة إلى ابن جابر معلوم أنها عالية ولكن التورية ما دخلت إلى بيت من بيوته إلا خرجت غير راضية
ومن التواري التي وقعت لناظمها عفوا بل سحرا من غير كد قول القائل
( قاسوك بالغصن في التثني ... قياس جهل بلا انتصاب )
( فذاك غصن الخلاف يدعى ... وأنت غصن بلا خلاف ) ومن ذلك قول جلال الدين شاعر ماردين قديما
( ويوم برد يد أنفاسه ... تخمس الأوجه من قرصها )
( يوم تود الشمس من برده ... لجرت النار إلى قرصها ) ومثله قول شرف الدين بن منقذ
( ولرب ليل تاه فيه نجمه ... وقطعته سهرا فطال وعسعسا )
( وسألته عن صبحه فأجابني ... لو كان في قيد الحياة تنفسا ) ومثله قول ابن نبيه وكانت التورية غير مذهبه
( تعلمت علم الكيمياء بحبه ... غزال بجسمي ما بعينيه من سقم )
( فصعدت أنفاسي وقطرت أدمعي ... فصح بذا التدبير تصفية الجسم ) ومثله قول ظهير الدين بن البارزي
( يا لحية الحب التي ... طال لها تلفتي )
( هل أنت مسك الترك أو ... هل أنت مسك تبت ) ومثله قول أمين الدين السليماني
( أضيف الدجا معنى إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر )
( وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر )
(2/239)
________________________________________
ومثله قول محاسن الشواء
( ولما أتاني العاذلون عدمتهم ... وما منهم إلا للحمى قارض ) ( وقد بهتوا لما رأوني ساهيا ... وقالوا به عين فقلت وعارض ) ومثله قول سعد الدين الفارقي
( قف بي على نجد فإن قبض الهوى ... روحي فطالب خد ليلى بالدم )
( وإذا دجا ليل الفراق فناده ... يا كافرا أحللت قتل المسلم ) ومثله قول شهاب الدين بن أبي الحوف
( أقول لعقد أذهل الطرف حسنه ... على جيد خود وصلها كل مقصودي )
( أخذت نظاما راق معنى فقال لي ... وما زلت في عمري أدور على الجيد ) ومثله قول إبراهيم بن عبد الله الغرناطي
( يارب كأس لم تشج شمولها ... فأعجب لها جسما بغير مزاج )
( لما رأينا السحر من أشكالها ... جملا نسبناه إلى الزجاج ) ومثله قول مجير الدين بن حبان الشاطبي
( تؤمون الحجاز وما علمتم ... بأن القلب بيتكم العتيق )
( وألفاظي العذيب وأضلعي المنحنى ودموع مقلتي العقيق ... ) ومثله قول الشريف محمد بن قاضي الجماعة بغرناطة وهو
( حدائق أنبتت فيها الغوادي ... ضروب النور رائقة البهاء )
( فما يبدو بها النعمان إلا ... نسبناه إلى ماء السماء )
(2/240)
________________________________________
ومنه قول لسان الدين بن الخطيب
( جلس المولى لتسليم الورى ... ولفضل البرد في الجو احتكام )
( فإذا ما سألوا عن يومنا ... قلت هذا اليوم برد وسلام ) ومنه قول الشيخ شمس الدين الأدفوي
( كم للنسيم على الربا من نعمة ... وفضيلة بين الورى لن تجحدا )
( ما زارها وشكت إليه فاقة ... إلا وهز لها الشمائل بالندا ) ومثله في الحسن واللطف قول الشيخ موفق الدين الحكيم
( لله أيامنا والشمل مجتمع ... نظما به خاطر التفريق ما شعرا ) ( والهف قلبي على عيش ظفرت به ... قطعت مجموعه المختار مختصرا ) ومنه قول عبد العزيز الآمدي
( إن الذي في وجهه جنة ... حفت بمكروه من العذل )
( مقلته في وسط قلبي غدت ... أرملة تأكل بالغزل ) ومنه قول القائل وأجاد
( ويد الشمال عشية مذ أرعشت ... دلت عى ضعف النسيم بخطها )
( كتبت سقيما في صحيفة جدول ... فيد الغمامة صححته بنقطها ) ومثله في الحسن قول علاء الدين بن البطريق ناظر الجيش ببغداد
( دار السراج بديعة ... فيها تصاوير بمكنه )
( تحكي كتاب كليلة ... فمتى أراها وهي دمنه ) ويعجبني في هذا الباب قول القائل في حمام
( إن حمامك التي نحن فيها ... أي ماء لها وأية نار )
( قد نزلنا فيها على ابن معين ... وروينا عنه صحيح البخار ( ي ) )
(2/241)
________________________________________
ومن المخترعات في هذا الباب قول الشيخ شمس الدين الواسطي يهجو عوادا وزامرا
( شبهت ذا العواد والزامر إذ ... ضاقت علينا بهم المناهج )
( بعقرب يضرب وهو ساكت ... وأرقم ينفخ وهو خارج ) ويعجبني قوله من دو بيت
( إن ضرمني بجذوة التذكار ... حبي وبرى عظمي شكرت الباري )
( فالعاذل في هواه لا عقل له ... ما أبلد عاذلي وأذكى ناري ) ومنه قول القاضي علاء الدين بن الجويني صاحب الديوان ببغداد
( يا طيب مبيتنا بواد السمر ... في بهجة ليلة بضوء القمر )
( وافى بفراقنا نسيم سحرا ... ما أبرد ما جاء نسيم السحر ) ومن الغايات في هذا الباب قول الشيخ صدر الدين بن الوكيل
( كم قال معاطفي حكتها الأسل ... والبيض سرقن ما حوته المقل )
( والان أوامري عليهم حكمت ... البيض تحد والقنا تعتقل ) ومثله قوله
( يا غاية منيتي ويا معشوقي ... من بعدك لم أمل إلى مخلوق )
( يا خير نديم كان لو يؤنسني ... من بعدك صليت على الراووق ) ويعجبني من نظم المواليا في هذا الباب قول القائل
( حبي ومحبوبتي مذ بان يوم البين ... زاروا عشا ليلة الاثنين قبل الحين )
( فصرت أنظر إلى زينه وألمح زين ... وأقول يا قلب ما أحلى ليلة الاثنين ) ومثله في اللطف قول الاخر
( سمعتها وهي داخل دارها في الصحن ... تنشد رمل صحنت قلبي المعنى صحن )
( يا ليتها مع تغنيها وطيب اللحن ... ترفع أجر ودع يدخل على اللحن )
(2/242)
________________________________________
ومثله قول الآخر
( قالت لها أختها قصدي يسمعنا ... ما النحو قالت لها نحن بأجمعنا )
( للرفع والنصب أنا وأنتى ومن معنا ... للجر والزوج حرف جاء للمعنى ) ومنه قوله
( ستي الكبيرة لها الخدام والحرمه ... تحلف على النيك بالمصحف وبالختمه )
( جاها الطواشي أفشخت لو ناك من كلمه ... راحت يمين القواقية على قرمه ) ومثله في اللطف قول القائل
( يا منيتي زدت لهواتي تنشفها ... واحرمتني الشفة الحمراء أرشفها )
( تحب بيضا وأجفانك تحشفها ... بالله أنظر ظلاماتي وكشفها ) ويعجبني قول الشيخ حامد الحكاك
( ثار الغرام الذي في مهجتي خامد ... وسال دمعي الذي كنت أعهده جامد )
( وأنا ببغداد والمحبوب في امد ... مصيبتي عظمت وأنا لها حامد )
وقد طال الشرح وأوردت في باب التورية من المحاسن ما يكفي قديما وحديثا وأوردت بعد ذلك ما وقع فيها من النظم عفوا وتكليفا وقد تعين علي إيراد ما وعدت به في ديباجة هذا الباب من فقه التورية والكلام على أنواعها وأقسامها فإن القول على اختلاف عبارات الحدود قد تقدم والكل راجع إلى مقصود واحد إذ القصد من لفظ التورية أن يكون مشتركا بين معنيين أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية فيريد المتكلم المعنى البعيد ويوري عنه بالقريب فيوهم السامع أول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك ولهذا سمي هذا النوع إيهاما
أنواع التورية
والتورية أربعة أنواع مجردة ومرشحة ومبينة ومهيأة
النوع الأول التورية المجردة وهي التي لم يذكر فيها لازم من لوازم المورى به وهو المعنى القريب ولا من لوازم المورى عنه وهو المعنى البعيد وأعظم أمثلة هذا النوع قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) لأن الاستواء على معنيين أحدهما الاستقرار في المكان وهو المعنى القريب والثاني الاستيلاء والملك وهو المعنى
(2/243)
________________________________________
البعيد المورى عنه وهو المراد لأن الحق سبحانه منزه عن المعنى الأول ولم يذكر من لوازم هذا شيئا ولا من لوازم ذاك فالتورية مجردة بهذا الاعتبار ومنه قول النبي في خروجه إلى بدر وقد قيل له ممن أنتم فلم يرد أن يعلم السائل فقال من ماء وأراد أنا مخلوقون من ماء فورى عنه بقبيلة من العرب يقال لها ماء ومن ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الهجرة وقد سئل عن النبي فقيل من هذا فقال هاد يهديني أراد أبو بكر هاديا يهديني إلى الإسلام فورى عنه بهادي الطريق الذي هو الدليل في السفر ومنه قول القاضي عياض في سنة كان فيها شهر كانون معتدلا فأزهرت فيه الأرض
( كأن نيسان أهدى من ملابسه ... لشهر كانون أنواعا من الحلل )
( أو الغزالة من طول المدى خرفت ... فما تفرق بين الجدي والحمل )
فالتورية هنا مجردة والشاهد في الغزالة والجدي والحمل فإن الناظم لم يذكر قبل الغزالة ولا بعدها شيئا من لوازم المورى به كالأوصاف المختصة بالغزالة الوحشية من طول العنق وسرعة الالتفات وسرعة النفرة وسواد العين ولا من أوصاف المورى عنه كالأوصاف المختصة بالغزالة الشمسية من الإشراق والسمو والطلوع والغروب فإن قيل إن الغزالة قد رشحت بذكر الجدي والحمل وهما مرشحان بالغزالة فالجواب إن لازم التورية من شرطه أن يكون لفظه غير مشترك والغزالة هنا مشتركة وكذلك الجدي والحمل
ومنه قول القاضي محيي الدين بن زيلاق وقد أهدى لصاحب الموصل حملا
( يا أيها المولى الذي ... ببابه كل أمل )
( لو لم تكن بدرا لما ... أهدى لك الثور حمل )
فالتورية وقعت بين البدر والثور والحمل ولم يذكر لواحد منهما لازما فالبدر مشترك بين اسم الممدوح وبدر السماء والثور مشترك بين الحيوان والبرج في السماء وكذلك الحمل ومنه قول بعضهم من كان وكان
( لو سنبله خلف ظهرو ... ناظر إليها المشترى )
( ولو ذنب ما يقارن ... حتى يرى الميزان )
(2/244)
________________________________________
ومنه قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر يصف واديا
( وبطحاء من واد يروقك حسنه ... ولا سيما إن جاد غيث مبكر )
( به الفضل يبدو والربيع وكم غدا ... به العيش يحيى وهو لا شك جعفر )
فالتورية وقعت هنا في الفضل والربيع ويحيى وجعفر والاشتراك في كل من الأربعة ظاهر
النوع الثاني التورية المرشحة وهي التي يذكر فيها لازم المورى به سميت بذلك لتقويتها بذكر لازم المورى به ثم تارة يذكر اللازم قبل لفظ التورية وتارة بعده فهي بهذا الاعتبار قسمان فالقسم الأول منها هو ما ذكر لازمه قبل لفظ التورية وأعظم أمثلته قوله تعالى ( والسماء بنيناها بأيد ) فإن قوله بأيد يحتمل الجارحة وهذا هو المعنى القريب المورى به وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح البنيان ويحتمل القوة وعظمة الخالق وهذا المعنى البعيد المورى عنه وهو المراد فإن الله سبحانه منزه عن المعنى الأول ومنه قول يحيى بن منصور من شعراء الحماسة
( فلما نأت عنا العشيرة كلها ... أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر )
( فما أسلمتنا عند يوم كريهة ... ولا نحن أغضينا الجفون على وقر )
الشاهد في الجفون فإنها تحتمل جفون العين وهذا هو المعنى القريب المورى به وقد تقدم لازما من لوازمه على جهة الترشيح وهو الإغضاء لأنه من لوازم العين وتحتمل أن تكون جفون السيوف أي أغمادها وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو مراد الناظم
ومن ألطف ما وقع في هذا القسم قول شمس الدين الحكيم بن دانيال الكحال
( يا سائلي عن حرفتي في الورى ... وصنعتي فيهم وإفلاسي )
( ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس )
الشاهد هنا في أعين الناس فإنها تحتمل الحسد وضيق العين وهو المعنى
(2/245)
________________________________________
القريب المورى به وقد تقدم لازمه على جهة الترشيح وهو درهم الإنفاق لأنه من لوازم الحسد ويحتمل العيون التي يلاطفها بالكحل وهذا هو المعنى المورى عنه وهو مراد الناظم الكاحل
انتهى القسم الأول من التورية المرشحة والقسم الثاني منها هو ما ذكر لازمه بعد لفظ التورية ومن أمثلته اللطيفة قول الشاعر
( مذ همت من وجدي في خالها ... ولم أصل منه إلى اللثم )
( قالت قفوا واستمعوا ما جرى ... خالي قد هام به عمي )
الشاهد في الخال فإنه يحتمل خال النسب وهذا هو المعنى القريب المورى به وقد ذكر لازمه بعد لفظ التورية على جهة الترشيح وهو العم ومنه قول الشاعر
( أقلعت عن رشف الطلا ... واللثم في ثغر الحبب )
( وقلت هذي راحة ... تسوق للقلب التعب )
الشاهد هنا في الراحة التي هي ضد التعب وقد ذكر التعب بعدها على جهة الترشيح لها وهذا هو المعنى القريب المورى به ويحتمل الراحة التي هي من أسماء الخمر وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو مراد الناظم
النوع الثالث التورية المبينة وهي ما ذكر فيها لازم المورى عنه قبل لفظ التورية أو بعده فهي بهذا الاعتبار أيضا قسمان فالقسم الأول هو ما ذكر لازمه من قبل واستشهدوا عليه بقول البحتري
( ووراء تسدية الوشاح ملية ... بالحسن تملح في القلوب وتعذب )
الشاهد هنا في تملح فإنه يحتمل أن يكون من الملوحة التي هي ضد العذوبة وهذا هو المعنى القريب المورى به ويحتمل أن يكون من الملاحة التي هي عبارة عن الحسن وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو مراد الناظم وقد تقدم من لوازمه على جهة التبيين ملية بالحسن
قلت هذا الشاهد الذي استشهدوا به من نظم البحتري فيه نظر ولكن يأتي
(2/246)
________________________________________
الكلام عليه في موضعه ومن أحسن الشواهد على هذا القسم قول الشيخ شرف الدين ابن عبد العزيز شيخ شيوخ حماة رحمه الله تعالى
( قالوا أما في جلق نزهة ... تنسيك من أنت به مغرى )
( يا عاذلي دونك من لحظه ... سهما ومن عارضه سطرا )
الشاهد هنا في موضعين وهما السهم وسطرا فإن المعنى البعيد هما الموضعان المشهوران بمنتزهات دمشق وذكر النزهة بجلق قبلهما هو المبين لهما وأما المعنى القريب فسهم اللحظ وسطر العارض
القسم الثاني من التورية المبينة هو الذي يذكر فيه لازم المورى عنه بعد لفظ التورية ومن أمثلته البديعة قول الشاعر
( أرى ذنب السرحان في الأفق ساطعا ... فهل ممكن أن الغزالة تطلع )
الشاهد هنا في موضعين أحدهما ذنب السرحان فإنه يحتمل أول ضوء الفجر وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو مراد الناظم وقد بينه بذكر لازمه بعده بقوله ساطعا ويحتمل ذنب الحيوان المعروف وهذا هو المعنى القريب المورى به واستشهدوا على هذا القسم بقول ابن سناء الملك وهو
( أما والله لولا خوف سخطك ... لها علي ما ألقى برهطك )
( ملكت الخافقين فتهت عجبا ... وليس هما سوى قلبي وقرطك )
الشاهد هنا في الخافقين فإنه يحتمل أن يريد قلبه وقرط محبوبه وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو مراد الناظم وقد بينه بالنص عليه فإنه صرح بعد الخافقين بذكر القلب والقرط ويحتمل أن يريد ملك المشرق والمغرب وهذا هو المعنى القريب المورى به
النوع الرابع التورية المهيأة وهي التي لا تقع فيها التورية ولا تتهيأ إلا باللفظ الذي قبلها أو باللفظ الذي بعدها أو تكون التورية في لفظين لولا كل منهما لما تهيأت في الاخر فالمهيأة بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام القسم الأول من التورية المهيأة وهو
(2/247)
________________________________________
الذي تتهيأ فيه التورية من قبل وقد استشهدوا على ذلك بقول ابن سناء الملك يمدح الملك المظفر صاحب حماة
( وسيرك فينا سيرة عمرية ... فروحت عن قلب وأفرجت عن كرب )
( وأظهرت فينا من سميك سنة ... فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب )
الشاهد هنا في الفرض والندب وهما يحتملان أن يكونا من الأحكام الشرعية وهذا هو المعنى القريب المورى به ويحتمل أن يكون الفرض بمعنى العطاء والندب صفة الرجل السريع في قضاء الحوائج الماضي في الأمور وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه ولولا ذكر السنة لما تهيأت التورية فيهما ولا فهم من الفرض والندب الحكمان الشرعيان اللذان صحت بهما التورية
القسم الثاني من التورية المهيأة وهو الذي تتهيأ فيه التورية بلفظة من بعد ومن أمثلته نثرا قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الأشعث بن قيس إنه كان يحوك الشمال باليمين فالشمال يحتمل أن يكون جمع شملة وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه ويحتمل أن يراد بها الشمال التي هي إحدى اليدين وهذا هو المعنى القريب المورى به ولولا ذكر اليمين بعد الشمال لما تنبه السامع لمعنى اليد ومنه نظما قول الشاعر
( لولا التطير بالخلاف وأنهم ... قالوا مريض لا يعود مريضا )
( لقضيت تحبا في جنابك خدمة ... لأكون مندوبا قضى مفروضا )
فالمندوب هنا يحتمل الميت الذي يبكى عليه وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو المراد ويحتمل أن يكون أحد الأكام الشرعية وهو المعنى القريب المورى به ولولا ذكر المفروض بعده لم يتنبه السامع لمعنى المندوب ولكنه لما ذكرت تهيأت التورية بذكره ومثله قول أبي الحسين الجزار
( يا عذولي دعني من العذل إن ... النصح في مذهب الهوى تحريض )
( مت لما نأى فها أنا مندوب ... فراق وحبه مفروض )
الكلام على هذا الشاهد كالكلام على الذي قبله
(2/248)
________________________________________
القسم الثالث من التورية المهيأة وهو الذي تقع التورية فيه في لفظين لولا كل منهما لما تهيأت التورية في الآخر واستشهدوا على ذلك بقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي وهو
( أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان )
( هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني )
الشاهد في البيت الأول في الثريا وسهيل فإن الثريا يحتمل أن يكون أراد بها بنت علي بن عبد الله بن الحرث بن أمية الأصغر وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو المراد والقريب ثريا السماء وهذا هو المعنى القريب المورى به وسهيل يحتمل أيضا سهيل بن عبد الرحمن بن عوف وقيل كان رجلا مشهورا من اليمن وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه ويحتمل النجم المعروف بسهيل وهذا هو المعنى القريب المورى به ولولا ذكر الثريا التي هي النجم لم يتنبه السامع لسهيل وكل واحد منهما صالح للتورية
والتورية هنا لا تصلح أن تكون مرشحة ولا مبينة لأن الترشيح والتبيين لا يكون كل منهما إلا بلازم خاص والفرق بين اللفظ الذي تتهيأ به التورية واللفظ الذي تترشح به واللفظ الذي تتبين به أن اللفظ الذي تقع به التورية مهيأة لو لم يذكر لما تهيأت التورية أصلا واللفظ المرشح والمبين إنما هما مقويان للتورية فلو لم يذكرا لكانت التورية موجودة
وسبب نظم هذين البيتين أن سهيلا المذكور تزوج الثريا المذكورة وكان بينهما بون بعيد في الخلق فإن الثريا كانت مشهورة في زمانها بالجمال وسهيل بالعكس وهذا مراد الناظم بقوله عمرك الله كيف يلتقيان وأيضا هي شامية الدار وسهيل يماني انتهى الكلام على التورية المهيأة وهي آخر أنواع التورية
وهنا تنبيه فيه فائدة وهو أن مشايخ هذا العلم قالوا ليس كل لفظ مشترك بين معنيين تتصور فيه التورية كاللغات التي تدور على الألسنة وإنما تتصور حيث يكون المعنيان ظاهرين إلا أن أحدهما أسبق إلى الفهم من الآخر
وقد عن لي أن أختم باب التورية بفائدة تكون مسكا لختامها وبدرا لتمامها وهي أن بعض علماء هذا الفن قالوا إن التورية إذا جاءت بلازمين فتكافا ولم يترجح أحدهما على الآخر فكأنهما لم يذكرا وصار المعنى القريب والمعنى البعيد بذلك في درجة
(2/249)
________________________________________
واحدة وتلحق هذه التورية بالمجردة وتعد فيها قسما ثانيا وتصير مجردة بهذا الاعتبار واستشهدوا على ذلك بقول الشاعر
( غدوت مفكرا في سر أفق ... أرانا العلم من بعد الجهاله )
( فما طويت له شبك الدراري ... إلى أن أظفرته بالغزاله )
وقالوا إن الشبك من لوازم الغزالة الوحشية والدراري من لوازم الغزالة الشمسية قلت أما قوله في تقريره إن اللازمين إذا تكافآ ولم يترجح أحدهما على الاخر تصير التورية كالمجردة فقريب وأما الشاهد ففيه نظر فإنه صدر بقوله غدوت مفكرا في سر أفق فالتفكر في سر هذا الأفق الذي أراه العلم من بعد الجهالة لازم خاص يرجح جانب الغزالة الشمسية وأما الشبك فاستعارة مرشحة بالحسن لنجوم الدراري وهي أيضا مما يرشح جانب الشمس عند طيها الذي أراد به الناظم غيابها ولو كانت الشمس مجردة من الدراري ربما كان للغزالة الوحشية بعض مقاربة وعين الشمس هنا ما تغطى على الترجيح والله أعلم
واستشهدوا أيضا على هذا بقول مجير الدين بن تميم
( وليلة بت أسقى في غياهبها ... راحا تسل شبابي من يد الهرم )
( ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم )
وقالوا أيضا إن الصبح من لوازم الغزالة الشمسية والرعي من لوازم الغزالة الوحشية قلت أما الصبح فمن لوازم الغزالة الشمسية كما قالوا وأما رعي نرجس الظلم فليس من لوازم الغزالة الوحشية وإنما هو استعارة مرشحة بالحسن للنجوم وهي مثل استعارة الشباك والدراري والغزالة الوحشية ليس لها هنا مرعى فإنها أجنبية من رعي نرجس الظلم الذي هو عبارة عن النجوم والله أعلم
وقد تقدم قولي على الشاهد الذي أوردوه للبحتري في التورية المبينة بذكر لازم المورى عنه من قبل وقلت فيه نظر وهو قوله
( ووراء تسدية الوشاح ملية ... بالحسن تملح في القلب وتعذب )
هذا الشاهد تعارض فيه اللازمان وتكافآ وهو أقرب إلى المجردة وما ذاك إلا أن الشاهد في قوله تملح يحتمل أن يكون من الملوحة ولازمه تعذب وهو المعنى
(2/250)
________________________________________
القريب ويحتمل أن يكون من الملاحة وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه ولازمه ملية بالحسن وقد تعارض اللازمان وهذا هو الشاهد على هذا القسم الذي اختاروه أن يكون قسما ثانيا للتورية المجردة وأقرب منه قول الشيخ زين الدين بن الوردي
( قالت إذا كنت تهوى ... أنسي وتخشى نفوري )
( صد ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري ) ومثله قول الشيخ جمال الدين بن نباتة
( حملت خاتم فيه فصا أزرقا ... من كثرة اللثم الذي لم أحصه )
( لولاه ما علم الرقيب فيا له ... من خاتم نقل الحديث بفصه )
والأشباه والنظائر من هذا القسم كثير والغرض أن اللازمين إذا تعارضا وتكافآ في التورية يلحق هذا القسم بالتورية المجردة
انتهى الكلام على التورية وقد قدمت من نظم الجماعة الذين مشوا تحت العلمين المشهورين ما هو أشهر من الأعلام فالمتأمل إذا جمع بين طرفي هذا الباب وعرف الأنواع والأقسام وضع كل شيء في محله فإني كشفت له اللثام عن وجه التورية وأما أبيات البديعيات فقد تقدم ذكرها والله أعلم بالصواب
(2/251)
________________________________________
ذكر المشاكلة
( من اعتدى فبعدوان يشاكله ... لحكمة هو فيها خير منتقم )
المشاكلة في اللغة هي المماثلة والذي تحرر في المصطلح عند علماء هذا الفن أن المشاكلة هي ذكر الشيء بغير لفظه لوقوعه في صحبته كقوله تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) فالجزاء عن السيئة في الحقيقة غير سيئة والأصل وجزاء سيئة عقوبة مثلها ومثله قوله تعالى ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ) والأصل تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما عندك فإن الحق تعالى وتقدس لا يستعمل في حقه لفظ النفس إلا أنها استعملت هنا مشاكلة لما تقدم من لفظ النفس ومنه قوله تعالى ( ومكروا ومكر الله ) والأصل أخذهم بمكرهم ومنه قوله تعالى ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) أي فعاقبوه فعدل عن هذا لأجل المشاكلة اللفظية
وفي الحديث قوله فإن الله لا يمل حتى تملوا الأصل فإن الله لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا عن مسألته فوضع لا يمل موضع لا يقطع الثواب على جهة المشاكلة وهو مما وقع فيه لفظ المشاكلة أولا ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته
( ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا )
(2/252)
________________________________________
أي فنجازيه على جهله فجعل لفظة نجهل موضع فنجازيه لأجل المشاكلة ومثله قول الشاعر وتلطف ما شاء
( قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا )
أراد خيطوا فذكره بلفظ اطبحوا لوقوعه في صحبة طبخه
قلت قد تقرر أن هذا النوع أعني المشاكلة اللفظية أن يأتي المتكلم في كلامه باسم من الأسماء المشتركة في موضعين فتشاكل إحدى المشاكلتين اللفظتين الأخرى في الخط واللفظ ومفهومهما مختلف ومن إنشادات التبريزي في هذا الباب قول أبي سعيد المخزومي
( حدق الآجال آجال ... والهوا للمرء قتال )
فلفظة الآجال الأولى أسراب البقر الوحشية والثانية منتهى الأعمار وبينهما مشاكلة في اللفظ والخط قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير هذا الشاهد وأمثاله داخل في باب التجنيس قلت قول الشيخ زكي الدين ظاهر ليس في صحته سقم وهذا البيت الذي أنشده التبريزي من أحسن الشواهد على الجناس التام ولو اعتمد البديعيون على المشاكلة المعنوية لخلصوا من هذا الاعتراض وعلى كل تقدير فالمعارضة تعدت حكم الالتزام في نظم هذا النوع أعني المشاكلة اللفظية وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع قوله عن النبي
( يجزي إساءة باغيهم بسيئة ... ولم يكن عاديا منهم على إرم ) وبيت العميان
( سقاهم الغيث ماء إذ سقى ذهبا ... فغير كفيه إن أمحلت لا تشم ) وبيت الشيخ عز الدين
( يجزي بسيئة للضد سيئة ... معنى مشاكلة من خير منتقم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( من اعتدى فبعدوان يشاكله ... لحكمة هو فيها خير منتقم )
(2/253)
________________________________________
ذكر الجمع مع التقسيم
( جمع الأعادي بتقسيم يفرقه ... فالحي للأسر والأموات للضرم )
هذا النوع أعني الجمع مع التقسيم هو أن يجمع الناظم بين شيئين فأكثر ثم يقسم كقول أبي الطيب المتنبي
( الدهر معتذر والسيف منتصر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع )
( للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا ) وقد يتقدم التقسيم ويتأخر كقول حسان بن ثابت
( قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حالوا النفع في أشياعهم نفعوا )
( سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع )
فالأول أحسن وأوقع في القلوب وعليه مشى أصحاب البديعيات
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( أبادهم فلبيت المال ما جمعوا ... والروح للسيف والأجساد للرخم )
(2/254)
________________________________________
وبيت العميان في بديعيتهم
( والمال والماء في كفيه قد جريا ... هذا لراج وذا للجيش حين ظمي ) وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله
( علم ومال على جمع تقسمه ... هذا لغمر وهذا نفع مغترم ) وبيت بديعيتي
( جمع الأعادي بتقسيم يفرقه ... فالحي للأسر والأموات للضرم )
(2/255)
________________________________________
ذكر الجمع مع التفريق
( سناه كالبرق إن أبدوا ظلام وغى ... والعزم كالبرق في تفريق جمعهم )
هذا النوع أعني الجمع مع التفريق هو أن يجمع الشاعر بين شيئين في حكم واحد ثم يفرق بينهما في ذلك الحكم كقوله تعالى ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) فكأنه يقول الشمس والقمر كوكبان فهذا نهاري وهذا ليلي فجمع بينهما إذ هما كوكبان ثم فرق بأن هذا يضيء نهارا وهذا يضيء ليلا فوقع الفرق في الشيء الذي وقع به الجمع
واستشهدوا على هذا النوع بقول الفخر عيسى
( تشابه دمعانا غداة فراقنا ... مشابهة في قصة دون قصة )
( فوجنتها تكسو المدامع حمرة ... ودمعي يكسو حمرة اللون وجنتي )
هذا الناظم جمع بين الدمعين في الشبه ثم فرق بينهما بأن دمعها أبيض فإذا جرى على خدها صار أحمر بسبب احمرار خدها وأن دمعه أحمر لأنه يبكي دما وجسده من النحول أصفر فإذا جرى عليه الدمع حمره ومنه قول البحتري
( ولما التقينا والتقا موعد لنا ... تعجب رائي الدر منا ولاقطه )
( فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه )
(2/256)
________________________________________
وبيت الصفي الحلي
( سناه كالبرق يجلو كل مظلمة ... والعزم كالنار يفني كل مجترم ) وبيت العميان في تركيبه قلق حيث قالوا
( فلذ بمن كفه والبحر ما افترقا ... إلا بكف وبحر في كلامهم ) وبيت الشيخ عز الدين شن فيه الغارة على بيت الشيخ صفي الدين الحلي بقوله
( وعزمه النار في جمع يفرقه ... ووجهه النور يجلو ظلمة الغشم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( سناه كالبرق إن أبدوا ظلام وغى ... والعزم كالبرق في تفريق جمعهم )
(2/257)
________________________________________
ذكر الإشارة
( ومن إشارته في الحرب كم فهم الأنصار ... معنى به فازوا بنصرهم )
هذا النوع أعني الإشارة ما فرعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى وشرحه بأن قال هو أن يكون اللفظ القليل مشتملا على المعنى الكثير بإيماء ولمحة تدل عليه كما قيل في صفة البلاغة هي لمحة دالة وتلخيص هذا الشرح إنه إشارة المتكلم إلى المعاني الكثيرة بلفظ يشبه لقلته واختصاره بإشارة اليد فإن المشير بيده يشير دفعة واحدة إلى أشياء لو عبر عنها بلفظ لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة ولا بد في الإشارة من اعتبار صحة الدلالة وحسن البيان مع الاختصار لأن المشير بيده إن لم يفهم المشار إليه معناه فإشارته معدودة من العبث
وكان النبي سهل الإشارة كما كان سهل العبارة وهذا ضرب من البلاغة يمتدح به
والإشارة قسمان قسم للسان وقسم لليد ومن شواهد الإشارة في الكتاب العزيز قوله ( وغيض الماء ) فإنه سبحانه أشار بهاتين اللفظتين إلى انقطاع مادة الماء من نبع الأرض ومطر السماء وذهاب الماء الذي كان حاصلا على وجه الأرض قبل الإخبار ولو لم يكن كذلك لما غاض الماء ومنه قوله تعالى ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) فالمح أيها المتأمل كل ما تميل النفوس إليه من اختلاف الشهوات وملاذ الأعين في اختلاف المرئيات لتعلم أن بلاغة هذا اللفظ القليل جدا عبرت عن المعاني
(2/258)
________________________________________
التي لا تنحصر عدا ومنه قوله تعالى ( ... فأوحى إلى عبده ما أوحى ) ومن المنظوم قول زهير في هذا النوع
( فإني لو لقيتك فاتجهنا ... لكان لكل منكرة لقاء ) يعني قابلت كل منكرة بمثلها ومن أمثلة هذا النوع قول امرىء القيس
( بعزهم عززت فإن يذلوا ... فذلهم أنالك ما أنالا ) فانظركم تحت قوله أنالك ما أنالا من أنواع الذل ومثله قوله
( فلأشكرن غريب نعمته ... حتى أموت وفضله الفضل )
( أنت الشجاع إذا هم نزلوا ... عند المضيق وفعلك الفعل )
فالحظ كم تحت قوله وفضله الفضل بعد إخباره بأنه يشكر غريب نعمته حتى يموت من أصناف المدح وترجيح فضله على الشكر وفي قوله غريب نعمته غاية المدح إذ جعل نعمته غريبة لم يقع مثلها في الوجود وكم تحت قوله وفعلك الفعل بعد إخباره بمنزل القوم عند المضيق الدال على صبرهم وشجاعتهم وما في ذلك من ترجيح شجاعته عليهم ومنه قوله في صفة الفرس
( على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري غير كز ولا واني )
فإنه أشار بقوله أفانين إلى جمع صنوف عدو الخيل المحمودة والذي يدل على ذلك قوله قبل سؤاله فإن الأفانين المحمودة كانت منه عفوا من غير طلب ولا حث وهذا كمال الوصف ولو عدت هذه المعاني بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة إلى ألفاظ كثيرة
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته
( يولي الموالين من جدوى شفاعته ... ملكا كبيرا عدا ما في نفوسهم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( ما تشتهي النفس يهدى في إشارته ... يعطي فنونا بلا من ولا سأم ) وبيت بديعيتي
( ومن إشارته في الحرب كم فهم ... الأنصار معنى به فازوا بنصرهم )
(2/259)
________________________________________
ذكر التوليد
( توليد نصرتهم يبدو بطلعته ... ما السبعة الشهب ما توليد رملهم )
قلت هذا النوع أعني التوليد ليس تحته كبير أمر وهو على ضربين من الألفاظ والمعاني فالذي من الألفاظ تركه أولى من استعماله لأنه سرقة ظاهرة وما ذاك إلا أن الناظم يستعذب لفظة من شعر غيره فيقتضبها ويضمنها غير معناها الأول في شعره كقول امرىء القيس في وصف الفرس
( وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل ) فاستعذب أبو تمام قيد الأوابد فنقلها إلى الغزل فقال
( لها منظر قيد الأوابد لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحب )
والتوليد من المعاني هو الأجمل والأستر وهو الغرض ههنا وذلك أن الشاعر ينظر إلى معنى من معاني من تقدمه ويكون محتاجا إلى استعماله في بيت من قصيدة له فيورده ويولد منه معنى آخر كقول القطامي
( قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل ) وقال من بعده ونقص الألفاظ وزاد تمثيلا وتوكيدا وتذييلا
(2/260)
________________________________________
فمعنى صدر هذا البيت معنى بيت القطامي بكماله ومعنى عجزه نوع التذييل وما تقدم ذكره وهو مولد
قال ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير أغرب ما سمعت في التوليد قول بعض العجم
( كأن عذاره في الخد لام ... ومبسمه الشهي العذب صاد )
( وطرة شعره ليل بهيم ... فلا عجب إذا سرق الرقاد )
فإن هذا الشاعر ولد من تشبيه العذار باللام وتشبيه الفم بالصاد لصا وولد من معناه ومعنى تشبيه الطرة بالليل ذكر سرقة النوم فحصل في البيت توليد وإغراب وإدماج
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على هذا النوع
( من سبق لا يرى سوط لها سملا ... ولا جديد من الأرسان واللجم )
بيت صفي الدين هنا غير صالح للتجريد وقد تكرر عليه هذا النقد في كثير من الأبيات فإن بيته لم يظهر له معنى إن لم ينشد البيت الذي قبله وهذا العيب سماه علماء هذا الفن التضمين ويأتي الكلام عليه في موضعه ولكن هوأقبح ما يكون في البديعيات لأن المراد من بيت البديعيات أن يكون بمجرده شاهدا على النوع المذكور ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده
وبيت صفي الدين مولد من قول أبي عبد الله بن الحجاج
( خرقت صفوفهم بأقب نهد ... مراح السوط متعوب العنان ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين
( ما لي بتوليد مدحي في سواه هدى ... لمعشر شبهوا الهندي بالجلم )
وبيت عز الدين هنا صالح للتجريد فإن ضميره عائد إلى النبي وأما قوله
(2/261)
________________________________________
لمعشر شبهوا الهندي بالجلم فإنه ذكر في شرحه أنه ولده من قول أبي الطيب المتنبي
( فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما أراه من الإحسان عميانا )
ثم قال في الشرح ما شبه السيف بالمقص إلا أعمى قلت ومن أين لنا أن تشبيه السيف بالجلم مولد من بيت المتنبي وألفاظها ومعانيها ظاهرة للمتأمل
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( توليد نصرتهم يبدو بطلعته ... ما السبعة الشهب ما توليد رملهم ) معنى هذا البيت ولدته من قول أبي تمام
( والنصر من شهب الأرماح لامعة ... بين الخميس علا في السبعة الشهب )
ولكن ذكر التوليد هنا وهو اسم النوع البديعي مع النصرة لا تخفى محاسنه على حذاق الأدب فإنه التوليد في التوليد وذكر الرمل هنا توليد اخر وقد جمعت في صدر هذا البيت وعجزه بين التوليد الذي هو المراد من التورية في تسمية النوع وبين التذييل بقولي بعد تتمة الفائدة ما توليد رملهم وبين مراعاة النظير بذكر التوليد والرمل والسبعة الشهب والنصرة وجمعت بين قسمي التوليد في اللفظ والمعنى والذي بينهما من توليد المحاسن الظاهرة الزائدة على بيت أبي تمام غير خاف على المتأمل المنصف والله أعلم
(2/262)
________________________________________
ذكر الكناية
( قالوا طويل نجاد السيف قلت وكم ... لناره ألسن تكني عن الكرم )
الكناية هي الإرداف بعينه عند علماء البيان وإنما علماء البديع أفردوا الإرداف عنها والكناية هي أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكن يجيء إلى معنى هو ردفه في الوجود فيومىء إليه ويجعله دليلا عليه مثال ذلك قولهم طويل النجاد كثير الرماد يعنون بذلك أنه طويل القامة كثير القرى فلم يذكروا المراد بذكره الخاص به ولكن توصلوا إليه بمعنى اخر هو رديفه في الوجود ألآ ترى أن القامة إذا طالت طال النجاد وإذا كثر القرى كثر الرماد ومن أحسن الأمثلة على هذا النوع قول الشاعر
( بعيدة مهوى القرط أما لنوفل ... أبوها وأما عبد شمس وهاشم ) أراد أن يذكر طول جيدها فأتى بتابعه وهو بعد مهوى القرط ومثله قول ليلى الأخيلية
( ومخرق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما )
كنت عن الإفراط في الجود بخرق القميص لجذب العفاة له عند ازدحامهم عليه لأخذ العطاء
والأبلغ في هذا الباب والأبدع أن يكني المتكلم عن اللفظ القبيح باللفظ الحسن
(2/263)
________________________________________
والمعجز في ذلك قوله تعالى ( كانا يأكلان الطعام ) كناية عن الحدث وقوله جل جلاله ( وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) يريد بذلك ما يكون بين الزوجين وعلى الجملة لا تجد معنى من هذه المعاني في الكتاب العزيز إلا بلفظ الكناية لأن المعنى الفاحش متى عبر المتكلم عنه بلفظه الموضوع له كان الكلام معيبا من جهة فحش المعنى ولهذا عاب قدامة على امرىء القيس قوله
( فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول )
( إذا ما بكى من تحتها انصرفت له ... بشق وتحتي شقها لم يحول )
قال أعني قدامة عيب هذا الشعر من جهة فحش المعنى والقران منزه عن ذلك ولو استعار امرؤ القيس لمعناه الفاحش لفظ الكناية لسلم من العيب وهذا القدر ينتقد على مثله وفي السنة النبوية من الكنايات ما لا يحصى كقوله لا يضع العصا عن عاتقه كناية عن الضرب أو كثرة السفر وحكى ابنرالمعتز أن العرب كانت تقول لمن به أبنه أنت تحت العصا وأنشد
( زوجك زوج صالح ... لكنه تحت العصا )
ومن نخوة العرب وغيرتهم كانت كنايتهم عن حرائر النساء بالبيض وقد جاء القران العزيز بذلك فقال سبحانه ( كأنهن بيض مكنون ) وقال امرؤ القيس في معلقته
( وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهواتها غير معجل )
أي بيضة خدر يعني امرأة كالبيضة في صيانتها لايرام خباؤها لعزتها ومن لطائف الكنايات قول بعض العرب
( ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام )
(2/264)
________________________________________
( سألت الناس عنك فخبروني ... هناة ذاك تكرهه الكرام )
( وليس بما أحل الله بأس ... إذا هو لم يخالطه الحرام )
فإن هذا الشاعر كنى بالنخلة عن المرأة وبالهناة عن الرفث فإن العرب كانت تكني بها عن مثل ذلك وأما الكناية بالنخلة عن المرأة فمن ألطف الكنايات
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته عن الكناية قوله
( كل طويل نجاد السيف يطربه ... وقع الصوارم كالأوتار والنغم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( داع كثير رماد القدر إن وصفت ... كناية بطنها والظهر بالدسم )
قول الشيخ عز الدين كثير رماد القدر معلوم أنه أراد بذلك الكرم وأما تتمة البيت فالدسم الظاهر من القدر في ظاهرها تعافه النفس ولفظة الدسم سافلة بعيدة عن حشمة الألفاظ
وبيت بديعيتي
( قالوا طويل نجاد السيف قلت وكم ... لناره ألسن تكني عن الكرم )
تقدم القول إن الناس كنوا بطول النجاد عن طول القامة وبكثرة الرماد عن كثرة القرى ولكن الكناية بألسن النار عن كثرة الكرم والقرى لا تخفى استعارتها التي كادت تقوم مقام الحقيقة من المحاسن الظاهرة والله أعلم بالصواب
(2/265)
________________________________________
ذكر الجمع
( ادابه وعطاياه ورأفته ... سجية ضمن جمع فيه ملتئم )
هذا النوع أعني الجمع هو أن يجمع المتكلم بين شيئين فأكثر في حكم واحد كقوله تعالى ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) جمع سبحانه وتعالى المال والبنون في الزينة ومنه قوله تعالى ( الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان ) فجمع بين الشمس والقمر في الحسبان وجمع بين النجم والشجر في السجود ومنه قوله من أصبح امنا في سربه معافا في بدنه ويروى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها فجمع الأمن ومعافاة البدن وقوت اليوم في حوز الدنيا بحذافيرها وهي النواحي والواحد حذفار ومنه قول الشاعر
( إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة ) فجمع بين الشباب والفراغ والجدة في المفسدة وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في الجمع قوله
( آراؤه وعطاياه ونقمته ... وعفوه رحمة للناس كلهم ) وبيت العميان في بديعيتهم
( قد أحرز السبق والإحسان في نسق ... والعلم والحلم قبل الدرك للحلم )
(2/266)
________________________________________
وبيت الشيخ عز الدين
( للفصل والفضل والألطاف منه يرى ... والعلم والحلم جمع غير منخرم )
قلت حشو لفظة يرى في بيت الموصلي أذهب طلاوة الانسجام وبيت بديعيتي
( ادابه وعطاياه ورأفته ... سجية ضمن جمع فيه ملتئم )
(2/267)
________________________________________
ذكر السلب والإيجاب
( إيجابه بالعطايا ليس يسلبه ... ويسلب المن منه سلب محتشم )
هذا النوع أعني السلب والإيجاب ذكر ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير أنه من مستخرجاته ولكن رأيت لأبي هلال العسكري تقريرا حسنا على هذا النوع وهو أن يبني المتكلم كلامه على نفي شيء من جهة وإثباته من جهة أخرى والذي قرره ابن أبي الأصبع هو أن يقصد المادح إفراد ممدوحه بصفة لا يشركه فيها غيره فينفيها في أول كلامه عن جميع الناس ويثبتها لممدوحه بعد ذلك كقول الخنساء في أخيها
( وما بلغت كف امرىء متطاولا ... من المجد إلا والذي نلت أطول )
( ولا بلغ المهدون للناس مدحة ... وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل )
قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع ويروى متناولا ونصبها على أنها مفعول به وما هنا أبلغ وعلى هذه الرواية رسمنا هذا الشاهد وأخذ أبو نواس معنى البيت الثاني ولكن لم يتمكن منه إلا في بيتين ومع ذلك قصر عنه تقصيرا زائدا فقال
( إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني )
( وإن جرت الألفاظ منا بمدحة ... لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني )
هذا كله عين كلام الخنساء ولكن فاته وإن أطنبوا في بيت الخنساء وقولها وما بلغ المهدون وكل هذه المبالغات قصر عنها أبو نواس والفرق بين فأنت الذي نعني وبين الذي فيك أفضل ظاهر وأعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ) ومنه قول امرىء القيس
(2/268)
________________________________________
( هضيم الحشا لا يملأ الكف خصرها ... ويملأ منها كل حجل ودملج ) وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع
( أغر لا يمنع الراجلين ما طلبوا ... ويمنع الجار من ضيم ومن حرم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين قوله
( لم ينف ذما بإيجاب المديح فتى ... إلا وعاقدت فيه الدهر بالسلم ) وبيت بديعيتي
( إيجابه بالعطايا ليس يسلبه ... ويسلب المن منه سلب محتشم )
(2/269)
________________________________________
ذكر التقسيم
( هداه تقسيمه حالي به صلحت ... حيا وميتا ومبعوثا مع الأمم )
التقسيم أول أبواب قدامة وهي في اللغة مصدر قسمت الشيء إذا جزأته وفي الاصطلاح اختلفت فيه العبارات والكل راجع إلى مقصود واحد وهو ذكر متعدد ثم إضافة ما لكل إليه على التعيين ليخرج اللف والنشر هذه عبارة صاحب التلخيص وذكر بعضها في الإيضاح
وقال السكاكي هو أن يذكر المتكلم شيئا ذا جزأين أو أكثر ثم يضيف إلى كل واحد من أجزائه ما هو له عنده
ومنهم من قال هو أن يريد المتكلم متعددا أو ما هو في حكم المتعدد ثم يذكر لكل واحد من المتعددات حكمه على التعيين
وتعجبني بلاغة زكي الدين بن أبي الأصبع فإنه قال التقسيم عبارة عن استيفاء المتكلم أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه ومثل ذلك قوله تعالى ( هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ) ليس في رؤية غير الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار ولا ثالث لهذين القسمين ومن لطيف ما وقع في هذه الجملة من البلاغة تقديم الخوف على الطمع إذ كانت الصواعق لا يحصل فيها المطر في أول برقة ولا يحصل إلا بعد تواتر البرقات فإن تواترها لا يكاد يكذب ولهذا كانت العرب تعد سبعين برقة ثم تنتجع فلا تخطىء الغيث والكلأ وإلى هذا المعنى أشار المتنبي بقوله
( وقد أرد المياه بغير هاد ... سوى عدي لها برق الغمام )
(2/270)
________________________________________
فلما كان الأمر المخوف من البرق يقع في أول برقة أتى ذكر الخوف في الاية الكريمة أولا ولما كان الأمر المطمع إنما يقع من البرق بعد الأمر المخوف أتى ذكر الطمع في الاية الكريمة ثانيا ليكون الطمع ناسخا للخوف لمجيء الفرج بعد الشدة ومنه قوله تعالى ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) فاستوفت الاية الكريمة جميع الهيئات الممكنات ومنه قوله تعالى ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) فاستوفت الاية الكريمة جميع الأقسام التي يمكن وجودها فإن العالم جميعه لا يخلو من هذه الأقسام الثلاثة ومنه قوله تعالى ( له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ) فالاية الشريفة جامعة لأقسام الزمان الثلاثة ولا رابع لها والمراد الحال والماضي والمستقبل فله ما بين أيدينا المراد به المستقبل وما خلفنا المراد به الماضي وما بين ذلك الحال
وفي الحديث النبوي قوله ما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت ومنه قوله من أقام الصلاة كان مسلما ومن اتى الزكاة كان محسنا ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا فإنه صلوات الله عليه استوعب الوصف الذي من الدرجات العليا والوسطى والسفلى ومنه قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنعم على من شئت تكن أميره واستغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره فإنه استوعب أقسام الدرجات وأقسام أحوال الإنسان بين الفضل والكفاف والنقص
ويحكى أن بعض وفود العرب قدم على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكان فيهم شاب فقام وتقدم في المجلس وقال يا أمير المؤمنين أصابتنا سنون سنة أذابت الشحم وسنة أكلت اللحم وسنة أنقت العظم وفي أيديكم فضول أموال فإن كانت لنا لا تمنعونا وإن كانت لله ففرقوها على عباده وإن كانت لكم فتصدقوا إن الله يجزي المتصدقين قال عمر بن عبد العزيز ما ترك لنا الأعرابي في واحدة عذرا
ووقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال رحم الله من تصدق من فضله أو واسى من كفاف أو اثر من قوت قال الحسن ما ترك الأعرابي في واحدة عذرا
(2/271)
________________________________________
ومن النظم قول زهير بن أبي سلمى في معلقته
( وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم ) ونقل أبو نواس جد زهير إلى الهزل فقال
( أمر غد أنت منه في لبس ... وأمس قد فات فاله عن أمس )
( فإنما الشأن شأن يومك ذا ... فباكر الشمس بابنة الشمس ) وقال ابن حيوس وأجاد في تقسيمه
( ثمانية لم يفترقن جميعها ... فلا افترقت ما ذب عن ناظر شقر )
( ضميرك والتقوى وكفك والندى ... ولفظك والمعنى وسيفك والنصر )
ومنه قول الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض قدس الله روحه
( يقولون لي صفها فأنت بوصفها ... خبير أجل عندي بأوصافها علم )
( صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى ... ونور ولا نار وروح ولا جسم ) وأنشد سيبويه بيتا بديعا على هذا الباب وهو قوله
( فقال فريق القوم لا وفريقهم ... نعم وفريق أيمن الله ما ندري ) ويعجبني قول الحماسي في هذا الباب ( وهبها كشيء لم يكن أو كنازح ... عن الدار أو من غيبته المقابر ) ويعجبني قول أبي تمام في مجوسي أحرق بالنار
( صلى لها حيا وكان وقودها ... ميتا ويدخلها مع الفجار ) ومنه قول عمرو بن الأهتم
( اشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل أو هارب أو أسير ) وبيت صفي الدين مأخوذ من قول عمرو بن الأهتم
( أفنى جيوش العدا غزوا فلست ترى ... سوى قتيل ومأسور ومنهزم )
(2/272)
________________________________________
وبيت العميان في بديعيتهم
( غيثان أما الذي من فيض أنمله ... فدائم والذي للمزن لم يدم ) وبيت الشيخ عز الدين
( تقسيمه الدهر يوما أمسه كغد ... في الحلم والجود والإيفاء للذمم )
قلت قد تقدم شرح هذا النوع وتقرر أن الاثنين في التقسيم لا يمكن أن يكون لهما ثالث والثلاثة لا يجوز أن يكون لها رابع وقد تقدم في الاثنين قوله تعالى ( هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ) وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في المطر وتقدم في تقسيم الثلاثة قول النبي ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت ولا رابع لهذه الثلاثة
ورأيت باب الزيادة في بيت الشيخ عز الدين مفتوحا فإنه يحتمل الحلم والجود وإيفاء الذمم والشجاعة والصبر والقناعة والدين وهلم جرا وتقدم أن بيت صفي الدين الحلي مأخوذ من بيت عمرو بن الأهتم
( إشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل أو هارب أو أسير )
فهذه الثلاثة لا تحتمل رابعا وكذلك بيت صفي الدين فإنه مأخوذ من هنا وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( هداه تقسيمه حالي به صلحت ... حيا وميتا ومبعوثا مع الأمم )
وهذه الثلاثة أيضا لا يمكن أن يكون لها رابع وهذا النوع ليس في تحصيله على واضعه مشقة زائدة على حذاق الأدب لا سيما مثل الشيخ عز الدين والذي أقوله إنه لم تضق عليه المسالك إلا بالتزام التورية في تسمية النوع والله أعلم
(2/273)
________________________________________
ذكر الإيجاز
( أوجز وسل أول الأبيات عن مدح ... فيه وسل مكة يا قاصد الحرم )
هذا النوع أعني الإيجاز اعتنت به فصحاء العرب وبلغاؤها كثيرا فإنهم كانوا إذا قصدوا الإيجاز أتوا بألفاظ استغنوا بواحدها عن ألفاظ كثيرة كأدوات الاستفهام والشروط وغير ذلك فقولك أين زيد مغن عن قولك أزيد في الدار أم في المسجد إلى أن تستقري جميع الأماكن وقولك من يقم أقم معه مغن عن إن يقم زيد أو عمرو أقم معه وما بالدار من أحد مغن عن قولك ليس فيها زيد ولا عمرو فغالب كلام العرب مبني على الإيجاز والاختصار وأداء المقصود من الكلام بأقل عبارة
وهذا النوع على ضربين إيجاز قصر وإيجاز حذف فإيجاز القصر اختصار الألفاظ وهو كقوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة ) فهذا اللفظ الوجيز المعجز المختصر غاية في الإيجاز والإيضاح والإشارة والكناية والطباق وحسن البيان والإبداع ومنه قوله تعالى ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) وعظ في ذلك بألطف موعظة وذكر بألطف تذكرة واستوعب جميع أقسام المعروف والمنكر وأتى بالطباق اللفظي والمعنوي وحسن النسق والتسهيم وحسن البيان والإيجاز وائتلاف اللفظ ومعناه والمساواة وصحة المقابلة وتمكين الفاصلة ومن ذلك قول الشاعر
( يا أيها المتحلي دون شيمته ... إن التخلق يأتي دونه الخلق )
(2/274)
________________________________________
وإيجاز الحذف عبارة عن حذف بعض لفظه لدلالة الباقي عليه كقوله تعالى ( وسئل القرية التي كنا فيها ) وكقول الشاعر
( ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا ) أي ومعتقلا رمحا ومثله قول الشاعر علفتها تبنا وماء باردا أي وسقتها ماء باردا وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على الإيجاز
( واستخدم الموت ينهاه ويأمره ... بعزم مغتنم في زي مغترم )
تقديره بعزم رجل مغتنم ومثله في زي مغترم ولكنه ما تحته في بلاغة الإيجاز كبير أمر
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وقول الشيخ عز الدين
( وسل زمانك تلف الكتب راوية ... إيجاز معنى طويل الذكر مرتسم )
الشيخ عز الدين إيجازه وسل زمانك أي أهل زمانك وأما بقية البيت فلا أفهم له معنى فإن البيت الذي قبله متعلق بمدح النبي ماش في أثر الأبيات التي قبله وأما رواية الكتب لإيجاز هذا المعنى الطويل المرتسم فإنه نوع من المعميات والله علم
وأما بيت بديعيتي فهو قولي عن النبي
( أوجز وسل أول الأبيات عن مدح ... فيه وسل مكة يا قاصد الحرم )
الضمير في لفظة فيه عائد إلى النبي والإيجاز البديع البليغ الغريب في قولي وسل أول الأبيات فإنه إشارة إلى أول بيت وضع للناس والإيجاز الثاني في قولي وسل مكة أي وسل أهل مكة فهذا البيت المبارك فيه إيجازان بليغان وفيه التورية بتسمية النوع وفيه المناسبة البديعة بين مكة والبيت والحرم ومراعاة النظير أيضا بين الإيجاز والمدح إوتال وفي الأبيات تورية أخرى ونوع التمكين في القافية ظاهر
(2/275)
________________________________________
ذكر المشاركة
( بالحجر ساد فلا ند يشاركه ... حجر الكتاب المبين الواضح اللقم )
هذا النوع أعني الاشتراك جعله ابن رشيق وابن أبي الأصبع ثلاثة أقسام قسمان منها من العيوب والسرقات وقسم من المحاسن وهو أن يأتي الناظم في بيته بلفظة مشتركة بين معنيين اشتراكا أصليا أو فرعيا فيسبق ذهن سامعها إلى المعنى الذي لم يرده الناظم فيأتي في آخر البيت بما يؤكد أن المقصود غير ما توهمه السامع كقول كثير عزة
( وأنت الذي حببت كل قصيرة ... إلي ولم تعلم بذاك القصائر )
( عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا شر النساء الحباتر )
فإنه أثبت في البيت الثاني ما أزال به وهم السامع من أنه أراد القصار مطلقا وقد يلتبس الاشتراك بالتوهيم على من لا يحققه والفرق بينهما أن الاشتراك لا يكون إلا باللفظة المشتركة والتوهيم يكون بها وبغيرها من تحريف أو تصحيف أو تذييل والفرق بينه وبين الإيضاح أن الإيضاح في المعاني خاصة لا تعلق له بالألفاظ وهذا نوع اشتراك اللفظة وبيت الشيخ صفي الدين على هذا النوع قوله
( شيب المفارق يروى الضرب من دمهم ... ذوائب البيض بيض الهند لا اللمم )
(2/276)
________________________________________
هذا البيت الاشتراك فيه بين البيض فلولا بيض الهند التي ترشح بها جانب السيوف بذكر الهند لسبق ذهن السامع إلى أنه أراد الذوائب البيض ولكن بيت الشيخ صفي الدين لم يخل من بعض عقادة
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( وللغزالة تسليم به اشتركت ... مع التي هي ترعى نرجس الظلم )
هذا البيت يصلح أن يعد من باب الإشارة في الجناس المعنوي فإن الشيخ عز الدين أضمر أحد الركنين وأظهر الآخر وهذا حد جناس الإشارة من المعنوي فإنه ذكر الغزالة في أول البيت وأضمر الغزالة الشمسية في الشطر الثاني وهذا النوع تقدم تقريره ولو صرح الشيخ عز الدين في الشطر الثاني بلفظة الغزالة وذكر معها الإشراق والنور بحيث يزيل وهم السامع أن المراد الغزالة الوحشية ويتحقق أن المراد الغزالة الشمسية أو بالعكس كان نوع الاشتراك في بيته خالصا مع ما فيه من النظر وهو أن كلا من الغزالتين سلم على النبي ولكنه أظهر لفظ الغزالة الثانية فتحتم أنه صار جناسا معنويا ولعمري إنه أحسن من بيته الذي استشهد فيه على الجناس المعنوي في أول بديعيته
( وكافر نعم الإحسان في عذل ... كظلمة الليل عن ذا المعنوي عمي )
فإنه أظهر في أول البيت لفظة كافر والليل يسمى كافرا فأضمر لفظة كافر الذي هو الليل وتالله إن بيته الذي نظمه شاهدا على نوع الاشتراك يستحق الجناس المعنوي استحقاقا ذوقيا وهو أسجم من هذا البيت وأرق للمعنى وأوقع في الأسماع وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( بالحجر ساد فلا ند يشاركه ... حجر الكتاب المبين الواضح اللقم )
هذا البيت يجب أن يعتمد عليه في هذا النوع ولا يخفى على أهل الذوق السليم ما في تركيبه والعميان ما نظموه في بديعيتهم وبيت عز الدين تقرر أن الجناس المعنوي احق به واشتراك بيتي في لفظة الحجر فإني قلت في أول بيتي بالحجر ساد وهذه اللفظة مشتركة بين العقل وسورة الحجر فلما قلت في الشطر الثاني حجر الكتاب المبين زال الالتباس عن السامع وعلم المراد وترشح عنده جانب السورة المنزلة على الممدوح فيه
(2/277)
________________________________________
ذكر التصريع
( تصريع أبواب عدن يوم بعثهم ... يلقاه بالفتح قبل الناس كلهم )
هذا النوع أعني التصريع هو عبارة عن استواء آخر جزء في صدر البيت وآخر جزء في عجزه في الوزن والروي والإعراب وهو أليق ما يكون بمطالع القصائد وفي وسطها ربما تمجه الأذواق والأسماع وهذا وقع في معلقة امرىء القيس فإنه صرع المطلع بقوله
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل ) وقال في أثناء هذه القصيدة
( ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل )
قلت وعلى كل تقدير ليس في نوع التصريع كبير أمر حتى يعد من أنواع البديع ولكن القوم كلما تغالوا في الرخص رغبوا في الكثرة وبيت الشيخ صفي الدين الحلي ( لاقاهم بكماة عند كرهم ... على الجسوم دروع من قلوبهم ) والعميان ما نظموه وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( لا زال بالعزمات العز والهمم ... يصرع الضد بالتشطير في القمم )
(2/278)
________________________________________
وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي
( تصريع أبواب عدن يوم بعثهم ... يلقاه بالفتح قبل الناس كلهم )
أنظر أيها المتأمل المنصف إلى بديع التورية وترشيحها عند ذكر الأبواب بالفتح هو فتوح في هذا الباب مع سهولة التركيب وحسن الانسجام وتمكين القافية
(2/279)
________________________________________
ذكر الاعتراض
( فلا اعتراض علينا في محبته ... وهو الشفيع ومن يرجوه يعتصم )
هذا النوع أعني الاعتراض هو عبارة عن جملة تعترض بين الكلامين تفيد زيادة في معنى غرض المتكلم ومنهم من سماه الحشو وقالوا في القبول منه حشو اللوزينج وليس بصحيح والفرق بينهما ظاهر وهو أن الاعتراض يفيد زيادة في غرض المتكلم والناظم والحشو إنما يأتي لإقامة الوزن لا غير وفي الاعتراض من المحاسن المكملة المعاني المقصودة ما يتميز به على أنواع كثيرة ومن معجزه في القران ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ) ومنه قوله تعالى ( فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) ومن الشواهد الشعرية قول بعضهم
( إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان )
فقوله وبلغتها من الاعتراضات التي زادت المعنى فائدة في غرض الشاعر وهو الدعاء للمخاطب وأمثلته كثيرة وبيت الشيخ صفي الدين الحلي يقول فيه عن النبي
( فإن من أنفذ الرحمن دعوته ... وأنت ذاك لديه الجار لم يضم )
(2/280)
________________________________________
فقوله وأنت ذاك هو الاعتراض بعينه فإنه زاد المعنى وسماه قدامة التفاتا وهو قريب
والعميان ما نظموه وبيت الشيخ عز الدين
( فلا اعتراض علينا في السؤال به ... أعني الرسول لكي ننجو من الضرم )
فقول الشيخ عز الدين أعني الرسول هو الاعتراض الذي أراده وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( فلا اعتراض علينا في محبته ... وهو الشفيع ومن يرجوه يعتصم )
فقولي بين الكلامين هو الشفيع هو الاعتراض البديع المتمكن فإن في قول عز الدين أعني الرسول ركة تدل على ضعف التركيب وكذلك قول الشاعر في مخلص مديحه أعني فلانا يدل على ضعف رويته وقلة تصرفه فإنهم عدوا ذلك من المخالص الواهية ولم يجنح إليه إلا عوام أهل الأدب ومثل الشيخ عز الدين ينتقد عليه ذلك والله أعلم
(2/281)
________________________________________
ذكر الرجوع
( وما لنا من رجوع عن حماه بلى ... لنا رجوع عن الأوطان والحشم )
هذا النوع أعني الرجوع ذكره ابن المعتز وأبو هلال العسكري وسماه بعضهم استدراكا واعتراضا وليس بصحيح قال القاضي جلال الدين القزويني في التلخيص والإيضاح هو العود على الكلام السابق بالنقض لنكتة كقول زهير
( قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم )
والنكتة فيه كأنه لما وقف بالديار عرته روعة ذهل بها عن رؤية ما حصل لها من الغير فقال لم يعفها القدم ثم رجع إلى عقله وتحقق ما هي عليه من الدروس فقال بلى عفت وعليه بيت الحماسة
( أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكل ليس منك قليل ) ويعجبني هنا قول أبي البيداء
( وما لي انتصار إن غدا الدهر جائرا ... علي بلى إن كان من عندك النصر )
وأما من سمى هذا النوع استدراكا واعتراضا فتسميته غير صحيحة والذي أقول إن هذا الرجوع لا فرق فيه بين السلب والإيجاب وقد تقدم قول أبي هلال العسكري إن السلب والإيجاب هو أن يبني المتكلم كلامه على نفي شيء من جهة وإثباته من جهة
(2/282)
________________________________________
أخرى وقال القاضي جلال الدين الرجوع هو العود على الكلام السابق بالنقض وكل من التقريرين لائق بالنوعين وللمتأمل أن ينظر في ذلك ليحسن ذوقه
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( أطلتها ضمن تقصيري فقام بها ... عذري وهيهات إن العذر لم يقم ) وبيت العميان
( قلوا ببدر ففلوا غرب شانئهم ... به وما قل جمع بالرسول حمي ) وبيت الشيخ عز الدين
( رمت الرجوع عن الأمداح أنظمها ... سوى مديح سديد القول محترم )
قلت ليس في بيت الشيخ عز الدين رجوع إلا عن حشمة الألفاظ وفخامتها في مديح النبي فإن قوله سديد القول دون من أنزل الله القرآن في أوصافه ويعجبني قول ابن نباتة في لاميته
( ماذا عسى الشعراء اليوم مادحة ... من بعد ما مدحت حم تنزيل )
وأيضا فإنه كان يجب على الشيخ عز الدين أن يقول في النوع البديعي الذي هو الرجوع رجعت عن الأمداح حتى يصح النقض في الشطر الثاني وإنما قال رمت كأنه يرى أن يرجع وعلى الجملة فالبيت قاصر من كل وجه
وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي بقولي ( وما لنا من رجوع عن حماه بلى ... لنا رجوع من الأوطان والحشم )
هذا البيت لم يحتج إلى إطلاق عنان القلم في ميادين الطروس بوصف ما فيه من المحاسن إذ في مدح أهل الذوق من علماء هذا الفن ما يغني عن ذلك والله أعلم
(2/283)
________________________________________
ذكر الترتيب
( ترتب الحيوانات السلام له ... والنبت حتى جماد الصخر في الأكم )
هذا النوع أعني الترتيب من استخراجات التيفاشي ذكره في كتابه وسماه بهذا الاسم وقال هو أن يجنح الشاعر إلى أوصاف شتى في موضوع واحد أو في بيت وما بعده على الترتيب ويكون ترتيبها في الخلقة الطبيعية ولا يدخل الناظم فيها وصفا زائدا عما يوجد علمه في الذهن أو في العيان كقول مسلم بن الوليد ( هيفاء في فرعها ليل على قمر ... على قضيب على حقف النقا الدهس )
فإن الأوصاف الأربعة على ترتيب خلقة الإنسان من الأعلى إلى الأسفل وبيت صفي الدين الحلي
( كالنار منه رياح الموت إن عصفت ... روى صرى مائة أرض الوغى بدم )
ترتيب بيت صفي الدين على العناصرالأربعة وهي الماء والنار والهواء والتراب
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين
( له الملائك والإنسان أجمعهم ... والجن والوحش في الترتيب كالخدم )
(2/284)
________________________________________
هذا البيت ذكر الشيخ عز الدين في شرحه أنه على ترتيب المخلوقات الملائك والإنس والجن والوحش ولكن وضع هذا الترتيب غير منتظم على ما قرره التيفاشي
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( ترتب الحيوانات السلام له ... والنبت حتى جماد الصخر في الأكم )
معلوم أن الموجودات ثلاثة وهي حيوان ونبات وجماد والثلاثة على ترتيب خلقة الإنسان من الأعلى إلى الأسفل فإذا قلنا جسم نام خرج الجماد لإنه لا ينمو وإذا قلنا جسم نام متحرك بإرادته خرج النبات وإذا قلنا جسم نام متحرك بإرادته ناطق خرج باقي الحيوان وبقي الإنسان وهذا حده والله أعلم بالصواب
(2/285)
________________________________________
ذكر الاشتقاق
( محمد أحمد المحمود مبعثه ... كل من الحمد تبيين اشتقاقهم )
هذا النوع أعني الاشتقاق استخرجه الإمام أبو هلال العسكري وذكره في آخر أنواع البديع من كتابه المعروف بالصناعتين وعرفه بأن قال هو أن يشتق المتكلم من الاسم العلم معنى في غرض يقصده من مدح أو هجاء أو غيره كقول ابن دريد في نفطويه
( لو أوحي النحو إلى نفطويه ... ما كان هذا العلم يعزى إليه )
( أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صياحا عليه )
وهذا النوع ما ذكره القاضي جلال الدين القزويني في التلخيص ولا في الإيضاح ولا ذكره الشهاب محمود في حسن التوسل ولا نظمته العميان ولا غيرهم من أصحاب البديعيات غير الشيخ صفي الدين الحلي وبيت بديعيته التي ذكر أنه جمعها من سبعين كتابا قوله
( لم يلق مرحب منه مرحبا ورأى ... ضد اسمه عند هد الحصن والأطم )
الشيخ صفي الدين اشتق من اسم مرحب الترحاب حتى يقابله بضده وهذا هو الغرض الذي أراده الناظم وبيت الشيخ عز الدين في المعارضة قوله
(2/286)
________________________________________
( ميم وحا في اشتقاق الاسم محو عدا ... والميم والدال مد الخير للأمم )
هذا البيت يشق علي أن أشرح اشتقاقه وأذكر ما فيه من التعسف والزيادة وعدم القبول للتجريد فإنه أراد أن يمشي على طريق ابن دريد في الاشتقاق فلم يأت بغير الشقاق وما ذاك إلا أن اسم نفطوبة سداسي قسمه الناظم في الاشتقاق نصفين جعل النصف الأول نفطا والثاني صياحا وهذا الاشتقاق صحيح على هذا التفصيل وقالوا هو في محمد رباعي من أين للشيخ عز الدين غفر الله له هذا حتى تصح معه لفظة محو مع أني راجعت شرحه فوجدته قال الميم والحاء من اسم محمد فيهما محو لأعدائه وأيضا فلم نجد أحدا استشهد في بيت من بيوت بديعيته وصدر بيته بقوله ميم وحا في اشتقاق الاسم محو عدا إلا الشيخ عز الدين فإن المراد من بيت البديعية أن يكون صالحا للتجريد خاليا من العقادة ليصح الاستشهاد به على ذلك النوع
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( محمد أحمد المحمود مبعثه ... كل من الحمد تبيين اشتقاقهم )
قد تقدم تقرير أبي هلال العسكري في هذا النوع وهو أن يشتق المتكلم معنى لغرض يقصده والغرض هنا إن كلا من محمد وأحمد وصفتهما المحمودة مشتق من الحمد وشرف هذا المدح ظاهر والله أعلم
(2/287)
________________________________________
ذكر الاتفاق
( ووصفه لابنه قد جاء تسمية ... فإنه حسن حسب اتفاقهم )
الاتفاق عزيز الوقوع جدا وهو أن تتفق للشاعر واقعة وأسماء مطابقة لتلك الواقعة تعلمه العمل في نفسها إما بالمشاهدة أو بالسماع فإن السبق إلى معاني الوقائع يشترك الناس في مشاهدتها وفي سماعها فضل لا يجحد وإن حصل للشاعر في ذلك قران سعادة سارت الركبان بقوله وترنم الحادي والملاح به كما اتفق للرضي بن أبي حصينة المصري في حسام الدين لؤلؤ صاحب الملك الناصر يوسف حين غزا الفرنج الذين قصدوا الحجاز من بحر القلزمن فظفر الحاجب بهم فقال ابن أبي حصينة يخاطب الفرنج
( عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه ... والدر في البحر لا يخشى من الغير )
وأحسن من ذلك وأبدع ما اتفق للشيخ شمس الدين الكوفي الواعظ في الوزير مؤيد الدين العلقمي حيث قال
( يا عصبة الإسلام نوحي والطمي ... حزنا على ما حل بالمستعصم )
( دست الوزارة كان قبل زمانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي )
فاتفق أن المذكورين كانا وزيرين وأن المورى بهما الفرات والعلقمي نهران معروفان وقد طابق الناظم بينهما بالفرات الحلو والعلقم المر
(2/288)
________________________________________
ومنه قول ابن الساعاتي وقد حضر الملك الناصر بيت يعقوب من حصون الشام يخاطب الفرنج دعوا بيت يعقوب فقد جاء يوسف
ومنه قول ابن أبي الأصبع وقد اجتمع الملك الأشرف موسى بالملك الظاهر وهو الخضر بن يوسف بن أيوب
( غدا مجمع البحرين شاطي فراتنا ... ألم تر موسى فيه قد لقي الخضرا )
واتفق لي مع الملك ما يناسب هذه الاتفاقات البديعية فإني أنشدته وقد كسر النيل في شهر مسرى وبلغه في يوم الكسران نوروز قد وصل من الشام إلى غزة وقصد الديار المصرية فقلت
( أيا ملكا بالله أضحى مؤيدا ... ومنتصبا في ملكه نصب تمييز )
( كسرت بمسرى نيل مصر وتنقضي ... وحقك بعد الكسر أيام نيروز )
الاتفاق البديع الغريب في هذا البيت أن كسر نوروز بعد كسر مسرى ويسميه المصريون الكسر النيروزي ولم يبق بعده كسر واتفق لي نظير ذلك بالحضرة المؤيدية وهو أن المقر التاجي نائب السلطنة الشريفة نقل عنه إلى المسامع الشريفة كلام فثبت فيه براءته فأنشدته الحضرة الشريفة المؤيدية ما حصل به للخواطر الشريفة الرضا الزائد وهو قولي
( سبع وجوه لتاج مصر ... تقول ما في الوجوه شبهي )
( وعندنا ذو الوجوه يهجى ... وأنت تاج بفرد وجه ) وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع
( ومن غدا اسم أمه نعتا لأمته ... فتلك آمنة من سائر النقم )
اتفاق هذا البيت في اشتراك لفظي آمنة وآمنة والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( محمد واسمه بالاتفاق له ... وصف يشاكله في اسمه العلم )
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي وأذكر فيه وصفه الشريف لابنه الحسن
(2/289)
________________________________________
رضي الله عنه
( ووصفه لابنه قد جاء تسمية ... فإنه حسن حسب اتفاقهم )
اتفاق هذا البيت في اشتراك لفظي حسن وحسن الوصف هو أن النبي أشار إلى الحسن رضي الله عنه وقال إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين آه
(2/290)
________________________________________
ذكر الإبداع
( إبداع أخلاقه إيداع خالقه ... في زخرف الشعر فاسجع بها وهم )
الإبداع هو أن يأتي الشاعر في البيت الواحد بعدة أنواع أو في القرينة الواحدة من النثر وربما كان في الكلمة الواحدة ضربان من البديع ومتى لم يكن كذلك فليس بإبداع كقوله تعالى ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ) هذه الاية الشريفة استخرج منها زكي الدين بن أبي الأصبع أنواعا كثيرة من البديع منها المناسبة التامة بين ابلعي وأقلعي والمطابقة اللطيفة بين الأرض والسماء والمجاز في قوله ويا سماء ومراده مطر السماء والاستعارة في قوله أقلعي والإشارة في قوله تعالى وغيض الماء فإنه بهاتين اللفظتين عبر عن معان كثيرة والتمثيل في قوله تعالى وقضي الأمر فإنه عبر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بغير لفظ الموضوع له والإرداف في قوله تعالى واستوت على الجودي فإنه عبر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظ المعنى والتعليل لأن قوله تعالى غيض الماء علة الاستواء وصحة التقسيم إذ قد استوعب سبحانه أقسام أحوال الماء حالة نقصه والاحتراس في قوله تعالى وقيل بعدا للقوم الظالمين إذ الدعاء عليهم مشعر بأنهم مستحقون الهلاك احتراسا من ضعيف يتوهم أن الهلاك شمل من يستحق ومن لا يستحق فأكد بالدعاء على المستحقين والمساواة لأن لفظ الآية الشريفة لا يزيد على معناها وحسن النسق لأنه سبحانه وتعالى قص القصة
(2/291)
________________________________________
وعطف بعضها على بعض بحسن ترتيب وائتلاف المعنى لأن كل لفظة لا يصلح معها غيرها والإيجاز لأنه سبحانه وتعالى قص القصة بأقصر عبارة والتسهيم لأنه من أول الآية إلى قوله أقلعي يقتضي اخرها والتهذيب لأن مرادات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن وعليها رونق الفصاحة لسلامتها من التعقيد والتقديم والتأخير والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في قرارها مطمئنة في مكانها والانسجام وهو تحدر الكلام بسهولة كما ينسجم الماء وباقي مجموع الآية الشريفة هو الإبداع الذي هو المراد هنا مع تكرار الأنواع البديعية
وسهوت عن تقديم حسن البيان وهو أن السامع لا يتوقف في معرفة معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء من هذه النظائر وهذا الكلام تعجز عنه قدرة البشر
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته علىالإبداع قوله
( ذل النضار كما عز النظير لهم ... بالفضل والبذل في علم وفي كرم )
الشيخ صفي الدين في بيته من أنواع البديع التجنيس والتسجيع واللف والنشر والكناية عن الكرم في قوله ذل النضار وائتلاف المعنى مع المعنى
والعميان ما نظموا هذا في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي ذكر فيه ستة عشر نوعا ما أمكن العبد استيعابها وتركته لحذاق الأدب وهو قوله
( كم أبدعوا روض عدل بعد طولهم ... وأترعوا حوض فضل قبل قولهم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( إبداع أخلاقه إبداع خالقه ... في زخرف الشعر فاسجع بها وهم )
الشطر الأول من هذا البيت مشتمل على التورية وعلى جناس التصحيف وعلى الجناس المطلق وعلى الترصيع والمماثلة والتسجيع وائتلاف المعنى مع المعنى والسهولة والشطر الثاني فيه التورية ومراعاة النظير والاعتراض والانسجام ظاهر في البيت بكماله والإبداع الذي هو المراد هنا والله أعلم
(2/292)
________________________________________
ذكر المماثلة
( فالخير ماثله والعفو جاوره ... والعدل جانسه في الحكم والحكم )
هذا النوع أعني المماثلة هو أن تتماثل ألفاظ الكلام أو بعضها في الزنة دون التقفية كقوله تعالى ( والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ ) وقد تأتي بعض ألفاظ المماثلة مقفاة من غير قصد لأن التقفية في هذا الباب غير لازمة كقول امرىء القيس
( كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر العطر ) وأما الشاهد الذي هو على أصل هذا الباب في الزنة دون التقفية فكقول الشاعر
( صفوح صبور كريم رزين ... إذا ما العقول بدا طيشها )
والفرق بين المماثلة والمناسبة توالي الكلمات المتزنة وتفرقها في المناسبة قلت هذا النوع أعني المماثلة ما تستحق عقود أنواع البديع بسموها أن ينتظم النوع السافل في أسلاكها وما أعلم وجه الإبداع فيه ما هو ولا نرى من استخراجه وعده بديعا غير الكثرة وقد حسن أن أنشد ههنا
( وكثر فارتابت ولو شاء قللا ... )
وبالله ما اختلج في فكري من حين تأدبت أن أرصعه في قصيدة من قصائدي ولكن حكم المعارضة أوجب ذلك
(2/293)
________________________________________
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( سهل خلائقه صعب عرائكه ... جم غرائبه في الحكم والحكم ) والعميان ما نظموا وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( يبدي مماثلة يعطي مناسبة ... يجزي مجانسة في الكلم والكلم ) وبيت بديعيتي
( فالخير ماثله والعفو جاوره ... والعدل جانسه في الحكم والحكم )
(2/294)
________________________________________
ذكر حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي
( الحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يلحق بالكلي للعظم )
هذا النوع الغريب اخترعه الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع وهو أن يأتي المتكلم إلى نوع فيجعله بالتعظيم له جنسا بعد حصر أقسام الأنواع فيه والأجناس كقوله تعالى ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر ) فإنه سبحانه وتعالى يعلم ما في البر والبحر من أصناف الحيوانات والجماد حاصر الجزئيات المولدات فرأى الاقتصار على ذلك لا يكمل به التمدح لاحتمال أن يظن ضعيف أنه جل جلاله بعلم الكليات دون الجزئيات فإن المولدات وإن كانت جزئيات بالنسبة إلى جملة العالم فكل واحد منها كلي بالنسبة إلى ما تحته من الأجناس والأنواع والأصناف فقال لكمال التمدح ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) وعلم سبحانه وتعالى أن علم ذلك يشاركه فيه كل ذي إدراك فتمدح بما لايشاركه فيه أحد فقال عز من قائل ( ولا حبة في ظلمات الأرض ) ثم ألحق هذه الجزئيات بالكليات فقال ( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) وأمثاله من النظم قول الشاعر
( إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر )
( فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر )
( فبشرت امالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر )
(2/295)
________________________________________
المراد من النوع البيت الثالث فإن الشاعر قصد تعظيم الممدوح وتفخيم أمر داره التي قصد فيها ومدح يومه الذي لقيه فيه فجعل الممدوح جميع الورى وجعل داره الدنيا ويومه الدهر فجعل الجزء كليا بعد حصر أقسام الجزئي أما جعله الجزئي كليا فلأن الممدوح جزء من الورى والدار جزء من الدنيا واليوم جزء من الدهر وأما حصر أقسام الجزئي فلأن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان وظروف مكان وقد حصر ذلك وهذا النوع صعب المسالك في نظمه عزيز الوقوع والتحصيل وقد فر العميان من نظمه وبيت الشيخ صفي الدين الحلي فيه
( شخص هو العالم الكلي في شرف ... ونفسه الجوهر القدسي في عظم )
الشيخ صفي الدين جعل الجزئي كليا فقط وهو القسم الأول لكون الواحد لا يسع جميع القيود وبيت الشيخ عز الدين
( فألحق الجزء بالكلي منحصرا ... إذ دينه الجنس للأديان كلهم ) هذا البيت ما وجدت فيه للكلام فسحة لأمور وبيت بديعيتي
( ألحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يلحق بالكلي للعظم )
النبي صالح أن يكون هنا كليا العلو مقداره وعظمه فقولي عن الأنبياء فالجزء يلحق بالكلي للعظم لا يخفى ما فيه من المبالغة والمغالاة في وصف الممدوح هذا مع تحرير هذا النوع الذي يدق عن أفهام كثيرة وإيضاحه مع التورية باسمه وسهولة تركيبه وانسجامه وما أعلم له في هذا الباب نظيرا وما أوضحه وزاده طلاوة وحسنا إلا تشريفه بالمديح النبوي
(2/296)
________________________________________
ذكرالفرائد
( وشم وميض بروق من فرائده ... وانظم حنانيك عقدا غير منفصم )
الفرائد نوع لطيف مختص بالفصاحة دون البلاغة لأن المراد منه أن يأتي الناظم أو الناثر بلفظة فصيحة من كلام العرب العرباء تتنزل من الكلام منزلة الفرائد من العقد وتدل على فصاحة المتكلم بها بحيث أن تلك اللفظة لو سقطت من الكلام لم يسد غيرها مسدها كقوله تعالى ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) قوله تعالى الرفث فريدة لا يقوم غيرها مقامها وكقوله تعالى ( هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ) فقوله سبحانه وتعالى أهش بها على غنمي فريدة يعز على الفصحاء أن يأتوا بمثلها في مكانها ومنه قول عنترة في معلقته
( يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحا دار عبلة واسلمي )
فعمي صباحا فريدة في مكانها وروي أن أبا ذر أتى النبي فقال عم صباحا فقال النبي إن الله قد أبدلني ما هو خير منها فقال ما هي قال السلام
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( ومن له جاور الجزع اليبيس ومن ... بكفه أورقت عجزاء ذي سلم )
(2/297)
________________________________________
الفريدة في بيت الحلي هي العجزاء والعجزاء هي العصا المعقدة والعميان ما نظموا هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين
( كم حصحص الحق إذ وافت فرائده ... وفي الوطيس بدا ثبتا بلا برم )
الفريدة في بيت الشيخ عز الدين هي لفظة الوطيس وأما برم فما أبرم فيها أمرا
وبيت بديعيتي أقول فيه وأنا مستمر على خطابي لمن رام مديح النبي فإني قلت في البيت الذي قبله
( ألحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يلحق بالكلي للعظم ) وقلت بعده في الفرائد
( وشم وميض بروق من فرائده ... وانظم حنانيك عقدا غير منفصم )
الفرائد في هذا البيت ثلاثة وهي شم وحنانيك ومنفصم والوميض صالح لذا والله أعلم بالصواب
(2/298)
________________________________________
ذكر الترشيخ
( يس زادت على لقمان حكمته ... وبان ترشيحه في نون والقلم )
هذا النوع أعني الترشيح هو أن يأتي المتكلم بكلمة لا تصلح لضرب من المحاسن حتى يؤتى بلفظه ترشحها وتؤهلها لذلك كقول التهامي في مرثيته المشهورة
( وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفير هار )
فلولا ذكر الشفير لما كان في الرجاء تورية برجا البئر ولكان من رجوت الأمر لقوله أولا وإذا رجوت المستحيل قلت وهذا النوع تقدم ذكره في باب التورية المرشحة وقد تقدم أيضا أن التورية أربعة أنواع مجردة ومرشحة ومهيأة ومبينة فالمرشحة هي التي يذكر فيها لازم من لوازم المورى به قبل لفظ التورية أو بعده وسميت مرشحة لترشيحها وتقويتها بذكر لازم المورى به وتقدم هذا في باب التورية المرشحة ولكن ذكروا في تكرير الترشيح هنا فائدة لم يكن لمكررها حلاوة وهي إذا قيل ما الفرق بين التورية والترشيح وقد جعلت مثاليهما واحدا قلت الفرق بينهما من وجهين أحدهما من أنواع البديع ما لا يحتاج إلى ترشيح وهي التورية المجردة المحضة والثاني أن الترشيح لا يختص بالتورية دون بقية الأبواب بل يعم المطابقة والاستعارة وغيرهما في كثير من الأبواب ألا ترى إلى قول أبي الطيب المتنبي
( وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما )
(2/299)
________________________________________
فإن قوله يا جنتي رشحت لفظة جهنم للمطابقة ولو قال مكانها يا منيتي لم يكن في البيت مطابقة البتة وأما ترشيح الاستعارة فكقول بعض العرب
( إذا ما رأيت النسر عزى ابن دأية ... وعشش في وكريه طارت له نفسي )
فإنه شبه الشيب بالنسر لاشتراكهما في البياض وشبه الشعر الأسود بابن دأية وهو الغراب لاشتراكهما في السواد واستعار التعشش من الطائر للشيب لما سماه نسرا ورشح به إلى ذكر الطيران الذي استعاره لنفسه من الطائر فقد ترشح باستعارة الى استعارة ولولا خشية الإطالة لذكرت ترشيح التشبيه وترشيح غيره من الأنواع
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي يقول فيه عن النبي
( إن حل أرض أناس شد أزرهم ... بما أباح لهم من حط وزرهم )
لفظه شد في البيت للشيخ صفي الدين رشحت لفظة حل للمطابقة ولو أبقاها على حالها في معنى الحلول لم يكن في البيت مطابقة البتة
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله
( في الفتح ضم من الأنصار شملهم ... جبرا لكسر بترشيح من الرحم )
الترشيح في بيت الشيخ عز الدين ظاهر فإنه رشح الفتح للتورية بصريح الضم ورشح الضم للتورية بذكر الكسر
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( يس زادت على لقمان حكمته ... وبان ترشيحه في نون والقلم )
فذكر لقمان رشح يس للتورية وذكر نون والقلم رشح لقمان للتورية والفرق بين قولي وبان ترشيحه في نون والقلم وبين قول الشيخ عز الدين بترشيح من الرحم ظاهر وأما سهولة التركيب وعذوبة الانسجام وتمكين القافية فلم أحتج معهما إلى إقامة دليل والله تعالى أعلم
(2/300)
________________________________________
ذكر العنوان
( به العصا أثمرت عزا لصاحبها ... موسى وكم قد محت عنوان سحرهم )
هذا النوع أعني العنوان هو أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو ذم أو عتاب أو غير ذلك ثم يأتي لقصد تكميله بألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدمة وقصص مبالغة كقول أبي تمام لأحمد بن أبي داود
( تثبت أن قولا كان زورا ... أتى النعمان قبلك عن زياد )
( فأثر بين حي بني جلاح ... لدى حرب وبين بني مصاد ) ( وغادر في صدور الدهر قتلي ... بني بدر على ذات الأصاد )
فأتى بعنوان يشير إلى قصة النابغة حين وشى به الواشون إلى النعمان فجر ذلك حروبا انطوت عليها قطعة من الدهر وذكر في البيت الثالث عنوانا آخر أشار فيه إلى ما جرى بين بني عبس وبين بني بدر على غدير ذات الأصاد
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( والعاقب الحبر في نجران لاح له ... يوم التباهل عقبى زلة القدم )
الشيخ صفي الدين أشار بعنوانه إلى عبد المسيح عالم النصارى حين قال لهم
(2/301)
________________________________________
النبي يوم التباهل ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) وكان قد خرج النبي محتضنا الحسين اخذا بيد الحسن عليهما السلام وفاطمة تمشي خلفهما سلام الله عليهم أجمعين فحين راهم العاقب قال للنصارى لا تباهلوا محمدا فإني أرى معه وجوها لو أقسم على الله أن يزيل بها الجبال لأزالها فانصرفوا وقبلوا الجزية والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( بشرى المسيح أتت عنوان دعوته ... وقبله كل هاد صادق القدم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( هبه العصا أثمرت عزا لصاحبها ... موسى وكم قد محت عنوان سحرهم )
هذا البيت عنوانه ظاهر لم يحتج فيه إلى شرح ولكن التورية في العنوان وترشيحها بلفظة محت لا يخفي ما فيها من المحاسن لأنها اسم النوع الذي هو القصد هنا وأما قولي به العصا أثمرت فهي مناسبة ليس لها في الحسن مناسب
(2/302)
________________________________________
ذكر التسهيم
( كذا الخليل بتسهيم الدعاء به ... أصابهم ونجا من حر نارهم )
هذا النوع مأخوذ من الثوب المسهم وهو الذي يدل أحد سهامه على الآخر الذي قبله لكون لونه يقتضي أن يليه لون مخصوص به لمجاورة اللون الذي قبله ومن المؤلفين من جعل التسهيم والترشيح شيئا واحدا والفرق بينهما أن الترشيح لا يدل على غير القافية والتسهيم تارة بدل على عجز البيت وتارة يدل على ما دون العجز وتعريفه أن يتقدم من الكلام ما يدل على ما يتأخر تارة بالمعنى وتارة باللفظ كأبيات أخت عمرو ذي الكلب فإن الحذاق بمعاني الشعر وتأليفه يعلمون معنى قولها
فأقسم يا عمرو لو نبهاك يقتضي أن يكون تمامه إذا نبها منك داء عضالا دون غيره من القوافي لأنه لو قال مكان داء عضالا ليثا غضوبا أو أفعى قتولا أو ما ناسب ذلك لكان الداء العضال أبلغ إذ كل منهما ممكن مغالبته والتوقي منه والداء العضال لا دواء له هذا مما يعرف بالمعنى وأما ما يدل على الثاني دلالة لفظية فهو قولها بعده
( إذا نبها ليث عريسة ... مقيتا مفيدا نفوسا ومالا ) وكذلك قولها
( وخرق تجاوزت مجهولة ... بوجناء حرف تشكي الكلالا )
( فكنت النهار به شمسه ... )
(2/303)
________________________________________
يقتضي أن يتلوه وكن دجا الليل فيه الهلالا ومنه قول البحتري
( أحلت دمي من غير جرم وحرمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي )
( فليس الذي قد حللت بمحلل ... )
ومن هنا يعرف المتأدب أن تمامه وليس الذي قد حرمت بحرام
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( كذاك يونس ناجى ربه فنجى ... من بطن حوت له في اليم ملتقم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( تسهيمه في الوغى حسم لمتصل ... تسليمه في الرضا وصل لمحتشم )
قلت الشيخ عز الدين رماه التسهيم في العكس فتشوش إذ صار كل من النوعين يتجاذبه وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( كذا الخليل بتسهيم الدعاء به ... أصابهم ونجا من حر نارهم )
لفظة التسهيم في هذا البيت انحصر فيها ثلاثة أنواع أحدها تسمية النوع والثاني الاستعارة البديعية والثالث التورية المرشحة فإن لفظة التسهيم رشحت التورية بذكر الإصابة وتحرير النوع ظاهر في دلالة الأول على الثاني
(2/304)
________________________________________
ذكر التطريز
( شملي بتطريز مدحي فيه منتظم ... يا طيب منتظم يا طيب منتظم )
هذا النوع أعني التطريز هو أن يبتدىء المتكلم أو الشاعر بذكر جمل من الذوات غير منفصلة ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة بحسب العدد الذي قرره وقدره في تلك الجملة الأولى وعدد الجمل التي وصفت بالذوات عدد تكرر واتحاد لا عدد تغير كقول ابن الرومي
( قرون في رؤوس في وجوه ... صلاب في صلاب في صلاب ) ومثله قوله
( كأن الكأس في يدها وفيها ... عقيق في عقيق في عقيق ) ومثله قول ابن المعتز
( فثوبي والمدام ولون خدي ... شقيق في شقيق في شقيق ) وأبدع من الجميع وألطف قولي من قصيدتي المصغرة
( لفيظك والمقيلة مع نظيمي ... سحير في سحير في سحير ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التطريز
( فالجيش والنقع تحت الظل مرتكم ... في ظل مرتكم في ظل مرتكم )
(2/305)
________________________________________
قلت هذا البيت لايخلو أن يكون للعقادة فيه بعض تراكم
والعميان ليس في بديعيتهم تطريز وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله تعالى في بديعيته قوله
( الدين والنقع تطريز لمحترم ... في نصر محترم في نصر محترم )
هذا البيت لم أفهم منه غير لفظة التطريز الذي هو اسم النوع
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( شملي بتطريز مدحي فيه منتظم ... يا طيب منتظم يا طيب منتظم )
( هذا البيت بهجة التطريز ظاهرة على أركانه وقد جمعت فيه بين التطريز الذي هو المراد والتورية واللف والنشر والترشيح والاستعارة ومراعاة النظير والسهولة والانسجام التام والجناس التام والله أعلم
(2/306)
________________________________________
ذكر التنكيت
( وآله البحر ال إن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم )
هذا النوع أعني التنكيت يستحق لغرابته أن ينتظم في أسلاك البديع ويغار عليه أن يعد مع المماثلة والموازنة ومع التطريز والترصيع وقد تقدم الكلام على سفالة هذه الأنواع
والتنكيت عبارة عن أن يقصد المتكلم شيئا بالذكر دون أشياء كلها تسد مسده لولا نكتة في ذلك الشيء المقصود ترجح اختصاصه بالذكر وعلماء هذا الفن أجمعوا على أنه لولا تلك النكتة التي انفرد بها لكان القصد إليه دون غيره خطأ ظاهرا عند أهل النقد وجاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى ( وأنه هو رب الشعرى ) فإنه سبحانه خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم وهو رب كل شيء لأن من العرب من عبد الشعرى وكان يعرف بابن أبي كبشة ودعا خلقا إلى عبادتها فأنزل الله تعالى ( وأنه هو رب الشعرى ) التي ادعيت فيها الربوبية دون سائر النجوم وفي النجوم ما هو أعظم منها ومنه قوله تعالى ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) فإنه سبحانه وتعالى خص تفقهون دون تعلمون لما في الفقه من الزيادة على العلم والمراد الذي يقتضيه معنى هذا الكلام الفقه في معرفة كنه التسبيح من
(2/307)
________________________________________
الحيوان البهيمي والنبات والجماد الذي تسبيحه بمجرد وجوده الدال على قدرة موجده ومخترعه ومن الأمثلة الشعرية قول الخنساء
( يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره بكل غروب شمس )
فخصت هذين الوقتين بالذكر وإن كانت تذكره كل وقت لما في هذين الوقتين من النكتة المتضمنة للمبالغة في وصفه بالشجاعة والكرم لأن طلوع الشمس وقت الغارات على العدا وغروبها وقت وقود النيران للقرى
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التنكيت
( وآله أمناء الله من شهدت ... لقدرهم سورة الأحزاب بالعظم )
الشيخ صفي الدين خصص سورة الأحزاب هنا بالذكر لأن فيها تصريحا بمدح آل البيت عليهم السلام بقوله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ولولا هذا الاختصاص كانت كغيرها من السور
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله
( ففي براءة تنكيت بمدحته ... معناه في الشرح يشفي داء ذي البكم )
ذكر الشيخ عز الدين في شرحه أن النكتة المقصودة في بيته في سورة براءة هي قوله تعالى ( ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي
( وآله البحر آل إن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم )
التنكيت في هذا البيت بديع وغريب في بابه فإنني خصصت الندى بالذكر عند مقايسته بالبحر في قولي إن البحر عند ندى كفوفهم كالآل والآل هو الذي يحسبه الظمآن ماء ولو قلت انهار كفوفهم أو جداول كفوفهم لسد كل واحد منهما مسده بزيادة زائدة ولكن في الندى نكتة ليست فيهما وهي الغلو في أن البحر يصير عند هذا الندى سرابا وهذا الذي أوجب تخصيص الندى بالذكر دون غيره وقد اجتمع في هذا البيت التنكيت الذي هو القصد هنا والتورية والغلو ومراعاة النظير والجناس والله أعلم
(2/308)
________________________________________
ذكر الإرداف
( وفي الوغى رادفوا لسن القنا سكنا ... من العدا في محل النطق بالكلم )
نوع الإرداف قالوا إنه هو والكناية شيء واحد قلت وإذا كان الأمر كذلك كان الواجب اختصارهما وإنما أئمة البديع كقدامة والحاتمي والرماني قالوا إن الفرق بينهما ظاهر والإرداف هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له بل يعبر عنه بلفظ هو رديفه وتابعه كقوله تعالى ( واستوت على الجودي ) فإن حقيقة ذلك جلست على المكان فعدل عن اللفظ الخاص بالمعنى إلى لفظ هو رديفه وإنما عدل عن لفظ الحقيقة لما في الاستواء الذي هو لفظ الإرداف من الإشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل وهذا لا يحصل من لفظ جلست وقعدت ومن الأمثلة الشعرية على الإرداف قول أبي عبادة البحتري يصف طعنة
( فأوجرته أخرى فأحللت نصلها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد )
ومراده القلب فذكره بلفظ الإرداف والفرق بين الإرداف وبين الكناية أن الإرداف قد تقرر أنه عبارة عن تبديل الكلمة بردفها والكناية هي العدول عن التصريح بذكر الشيء إلى ما يلزم لأن الإرداف ليس فيه انتقال من لازم إلى ملزوم والمراد بذلك انتقال المذكور إلى المتروك كما يقال فلان كثير الرماد ومراده نقله إلى ملزومه وهي كثرة الطبخ للأضياف
(2/309)
________________________________________
وبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله تعالى على الإرداف قوله
( بقتبه أسكنوا أطراف سمرهم ... من الكماة محل الضغن والأضم )
الشيخ صفي الدين زاحم البحتري في بيته إلى أن نزع قلبه من صدره بل جل قصده في إردافه هنا القلب وكان الواجب العدول عنه لشهرته في هذا الباب عند أهل البديع
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( للطعن والضرب إرداف يحل به ... في موضع العقل يحكيه ذوو الحكم ) وبيت بديعيتي قلت قبله عن آل النبي مشيرا إلى الغلو في كرمهم
( وآله البحر آل أن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم ) وأردفته بقولي في الشجاعة
( وفي الوغى رادفوا لسن القنا سكنا ... من العدا في محل النطق بالكلم )
أنظر أيها المتأمل في بديع هذا الإرداف الغريب الذي ميزته على أقرانه من البحتري إلى الشيخ عز الدين بحسن مراعاة النظير الذي أسكنت به الألسنة بالأفواه بقولي في محل النطق بالكلم مع التورية بتسمية النوع والله سبحانه أعلم
(2/310)
________________________________________
ذكر الإيداع
( وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم )
هذا النوع أعني الإيداع يغلب عليه التضمين والتضمين غيره فإنه معدود من العيوب والعيب المسمى بالتضمين هو أن يكون البيت متوقفا في معناه على البيت الذي بعده كقول النابغة
( وهم وردوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ إني )
( شهدت لهم مواطن صادقات ... أنبئهم بود الصدر مني )
والإيداع الذي نحن بصدده هو أن يودع الناظم شعره بيتا من شعر غيره أو نصف بيت أو ربع بيت بعد أن يوطىء له توطئة تناسبه بروابط متلائمة بحيث يظن السامع أن البيت بأجمعه له وأحسن الإيداع ما صرف عن معنى غرض الناظم الأول ويجوز عكس البيت المضمن بأن يجعل عجزه صدرا أو صدره عجزا وقد تحذف صدور قصيدة بكمالها وينظم لها المودع صدورا لغرض اختاره وبالعكس وقد تقدم وتقرر أن الأحسن في هذا الباب أن يصرف الشاعر ما أودعه في شعره عن معناه الذي قصد صاحبه الأول ويجوز تضمين البيتين بشرط أن ينقلهما من معناهما الأول إلى صيغة أخرى كما حكي أن الحيص بيص قتل جرو كلب وهو سكران فأخذ بعض الشعراء كلبة وعلق في رقبتها قصة وأطلقها عند باب الوزير فإذا فيها مكتوب
( يا أهل بغداد إن الحيص بيص أتى ... بخزية ألبسه العار في البلد )
(2/311)
________________________________________
( أبدى شجاعته بالليل مجترئا ... على جري ضعيف البطش والجلد )
( فأنشدت أمه من بعد ما احتسبت ... دم الأبليق عند الواحد الأحد )
( أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدة يدي أصابتني ولم ترد )
( كلاهما خلف من بعد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي )
البيتان الأخيران لامرأة من العرب قتل أخوها ابنها فقالت ذلك تسلية ومنهم من أودع شعره بيتين وكل بيت منهما لشاعر كقول القاضي شهاب الدين محمود
( وبتنا على حكم الصبابة مطعمي ... زفيري وأشجاني وشربي المدامع )
( وخلي يعاطيني كؤوس ملامة ... وينشدني والهم للقلب صادع )
( أتطمع من ليلى بوصل وإنما ... تقطع أعناق الرجال المطامع )
( فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع )
البيت الأخير للنابغة قلت غاية الأوائل أن ينقلوا المعنى الأول في الإيداع إلى معنى اخر إن كان في بيتين أو بيت واحد أو نصف بيت ولكن الفرقة التي مشت تحت العلم الفاضلي وتحلت بالقطر النباتي وهلم جرا لم يرضوا بنقله مجردا من التوربة أو ما يناسبها من أنواع البديع ومما يؤيد قولي هذا قول القاضي جلال الدين القزويني في التلخيص وأحسنه ما زاد على الأصل بنكتة كالتورية والتشبيه وممن أبدع في نقله إلى التورية علامة هذا الفن الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى بقوله
( أتاني علي البانياسي منشدا ... فيا لك من شعر ثقيل مطول )
( مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل ) ومثله قوله في مليح اسمه حبيب وهو
( حبيب حبيب القلب أخلى منيزلا ... به كان في عرس المسرة ينجلي )
( فيا صاحبي الذكر قد لذا بالبكا ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل )
وما يشك من عنده ذوق أن المقطوعين في الإيداع تميز المحاسن التورية وغريب النقل إلى غرض كل من الناظمين وكذلك تقطيع أعناق الرجال في إيداع الشهاب محمود فإنهم نقلوه إلى الصفع وجاءت توريته في غاية الحسن وهذا هو المذهب
(2/312)
________________________________________
الذي انتهت غايات المتأخرين إليه ومن ذلك قول الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضا وهو
( أقول لمعشر جلدوا ولا طوا ... وباتوا عاكفين على الملاح )
( ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح ) وقولي
( ومذ كلمت قلبي سيوف لحاظها ... شكوت إليها قصتي وهي تبسم )
( فلم أر بدرا ضاحكا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتا يتكلم ) وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة
( دنوت إليها وهو كالفرخ راقد ... فيا خجلتى لما دنوت وإذلالي )
( فقلت امعكيه بالأنامل فالتقى ... لدى وكرها العناب والحشف البالي ) وقولي
( طاول الليل بالذؤابة قبس ... وتثنى عجبا بلطف وكيس )
( فحلا لي السهاد مذ طال ليلي ... يا خليلي من ذؤابة قيس ) وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة
( تصدى إلى أيري فقلت له اتئد ... وحقك لو عاينته وهو ثائر )
( رأيت الذي لاكله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر )
وأنشدني من لفظه لنفسه الكريمة مولانا المقر الأشرف المرحومي القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة كان تغمده الله برحمته ما اختلف هو والشيخ جمال الدين بن نباتة في إيداعه واتفقا في معناه والمعنى في البيتين المذكورين قبل وأما الترشيح فعندي أن التورية في بيتي المقر الناصري أرجح وهما قوله
( أقول وقد أبى عن أخذ أيري ... وسالت من محاجره دموع )
( إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع )
(2/313)
________________________________________
الذي ترجح عندي أن قوله وجاوزه أعقد من قول الشيخ جمال الدين لا كله والذي أقوله إن كلا منهما في بابه بديع وغريب وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة
( لم أنس موقفنا بكاظمة ... والعيش مثل الدار مسود )
( والدمع ينشد في مسائله ... هل بالطلول لسائل رد ) ومثله قولي
( قف واستمع طربا فليلى في الدجا ... باتت معانقتي ولكن في الكرى )
( وجرى لدمعي رقصة بخيالها ... أترى درى ذاك الرقيب بما جرى ) ومن إيداعاتي الغريبة قولي من إعجاز الملحة
( تنكر الحال علينا عندما ... سال عليه العارض المسلسل )
( فعنه سلني إن ترد تعريفه ... فإنه منكر يا رجل )
ومما انفرد به الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى تضمين أعجاز الملحة والذي يؤيد انفراده حسن تخلصه من الغزل وهو ماش علىالتضمين إلى مدح قاضي القضاة ولم يزل مستمرا على غرر المدائح اللائقة بالقاضي إلى حسن الختام
وضمن الشيخ زين الدين بن الوردي نبذة عن اعجاز الملحة ولم يفرغها في غير قوالب الغزل فإن التخلص من الغزل إلى المدح من المستحيلات في هذا الباب ولكن الشيخ جمال الدين بن نباتة كان في ذلك العصر نسيج وحده ومن المعلوم أن الجماعة مثل الشيخ زين الدين بن الوردي والشيخ صلاح الدين الصفدي والشيخ برهان الدين القيراطي وغيرهم ممن عاصره ما منهم إلا من تطفل على موائد حلاواته النباتية وقد عن لي أن أورد هنا نبذة من التضمين للشيخين وأجعل كلا من أبيات الشيخين وقفا محبسا على أصحاب الذوق السليم قال الشيخ جمال الدين في المطلع
( صرفت فعلي في الأسى وقولي ... بحمد ذي الطول الشديد الحول ) وقال الشيخ زين الدين رحمه الله تعالى في المطلع
( يا سائلي عن الكلام المنتظم ... هو الذي في لفظ من أهوى قسم )
هذا المطلع من إيداع الذي قصر فيه باع الشيخ زين الدين بن الوردي فإنه صدر
(2/314)
________________________________________
مطلعه بالصدر وهو جائز ولكنه غير المراد فإن الشيخ جمال الدين تقدمه بتضمين الإعجاز ونسج إيداعه على هذا المنوال ومن أغزال الشيخ جمال الدين البديعة في هذا الباب قوله
( أفدي غزالا مثلوا جماله ... في مثل قد أقبلت الغزاله )
( ما قال مذ ملك قلبي واسترق ... كقولهم رب غلام لي أبق )
( للقمرين وجهه مطالع ... فهي ثلاث ما لهن رابع )
( لأحرف الحسن على خديه خط ... وقال قوم إنها اللام فقط )
( منفرد بالوصل في دار الهنا ... مثاله الدار وزيد وأنا )
( لا يختشي تلاعب الظنون ... والأمر مبني على السكون )
( في خده التبري هان نشبي ... وقيمة الفضة دون الذهب )
( فاصرف عليه ثروة تسام ... فما على صارفها ملام )
( وإن رأيت قده العالي فصف ... وقف على المنصوب منه بالألف )
( والعارض النوني ما أنصفته ... وإن تكن باللام قد عرفته )
( واهاله من حرف نون قد عرف ... كمثل ما تكتبه لايختلف )
( يأتي بنقط الخال في الإعجام ... وتارة يأتي بمعنى اللام )
( للحظة المسكر فعل يطرب ... مفعوله نحو سقى ويشرب )
( ولا تلم فيه عويشقا تلف ... ولا سكيران الذي لاينصرف )
( جسمي وذاك الخصر والجفن الدنف ... هن حروف الاعتلال المكتنف )
( فيا مليحا عنه أخرت القمر ... اما لا هوان وإما لصغر )
( كرر فما أحلى بسمعي السامي ... قولك يا غلام يا غلامي )
( وارفق بمضناك فما سوى اسمه ... ولا تغير ما بقي من رسمه )
( وقد حكى العذار في الوقوف ... فاعطف على سائلك الضعيف )
( وافخر بمعنى لحظك المعشوق ... في كل ما تأنيثه حقيقي )
( يا لك لحظا بسعاد أزرى ... وجاء في الوزن مثال سكرى )
( يا ناصبا أوصاف ذياك الصبي ... تم الكلام عنده فلتنصب )
( هيهات بل دع عنك ما أضنى وما ... وعاص أسباب الهوى لتسلما )
(2/315)
________________________________________
( وكرر الأمداح في علي ... قاضي القضاة الطاهر النقي )
( بكل معنى قد تناهى واستوى ... في كلم شتى رواها من روى )
( بادر بنا ذاك الحمى العالي وصف ... إذا اندرجت قائلا ولا تقف )
( دونك والمدح زكيا معجبا ... نحو لقيت القاضي المهذبا )
( فالجود والعلم عليه أرسي ... وهكذا أصبح ثم أمسي )
( واهرع إلى قار قراه نافع ... وافزع إلى حام حماه مانع )
( يقول للضيف نداه جب وجل ... ومثله ادخل وانبسط واشرب وكل )
( وإن ظفرت عنده بموعد ... تقول كم مال أفادته يدي )
( لله ما ألينه عند العطا ... وما أحد سيفه إذا سطا )
( إن قال قولا بين الغرائبا ... وقام قس في عكاظ خاطبا )
( وإن سخا أتى على ذي العدد ... والكيل والوزن ومذروع اليد )
( معطل السمع عن العذال ... فما له مغير بحال )
( الفضل جنس بيته المهنا ... ونوعه الذي عليه يبنى )
( سام به أهل العلا جميعا ... وارفع ولا رد ولا تقريعا )
( وإن ذكرت أفق بيت قد نما ... فانصب وقل كم كوكب تحوي السما )
( بيت عظيم المجد والعلاء ... عند جميع العرب العرباء )
( إذا اجتليت في العطا جبينه ... أو استثرت للرجا يمينه ) منها والبيت مضمن بكماله
( تقول قد خلت الهلال لائحا ... وقد وجدت المستشار ناصحا )
( كم بالغنى عنه تولى راجل ... وواقف بالباب أضحى سائل )
( قال له الشرع امض ما تحاوله ... واقض قضاء لا يرد قائله )
( وأنت يا قاصده سر في جدد ... واسع إلى الخيرات لقيت الرشد )
( ولا تقل كان غماما ورحل ... كان وما انفك الفتى ولم يزل )
( باب سواه اهجر عداك عيب ... وصغر الباب وقل بويب )
( أود به أنسى أحاديث المطر ... فليس يحتاج لها إلى خبر )
(2/316)
________________________________________
( خذ بحر شعر جبته للذكر ... وغصت في البحر ابتغاء الدر )
( حتى ملا عيني نداه عينا ... وطبت نفسا إذ قضيت الدينا )
( دونكها معسولة الآداب ... ممزوجة بملحة الإعراب )
( مضى بها الليل مضي الأنجم ... وبات زيد ساهرا لم ينم )
( فافتح لها باب القبول تجتلى ... وإن تجد عيبا فسد الخللا )
( لا زلت مسموع الثنا ذا منن ... جائلة دائرة في الألسن )
( ما لعداك راية تقام ... فليس إلا الكسر والسلام ) وقال الشيخ زين الدين بن الوردي
( في صدغه للحسن آيات تخط ... وقال قوم إنها اللام فقط )
قلت الشيخ جمال الدين تقدمه في هذا البيت بالإيداع وهنا بحث لطيف أبحثه مع حذاق الأدب قال الشيخ جمال الدين بن نباتة لأحرف الحسن علي خديه خط ومراده بذكر الأحرف هنا مخالفة القوم له على أنها ليست بأحرف وإنما هي حرف اللام فقط وقال الشيخ زين الدين في خده للحسن آيات تخط فلم يبق لقول من خالفه بقوله وقال قوم إنها اللام فقط موضع ولا محل وأين الآيات التي تخط من اللام ولعمري إن هذا الإيداع على هذا التقدير يصير بينه وبين العجز من بيت الملحة بعض مباينة وكان الأليق للشيخ زين الدين الإعراض عن إيداع هذا البيت بعد الشيخ جمال الدين فإنه لم يترك لغيره مجالا فيه والله أعلم وقال الشيخ زين الدين بن الوردي رحمه الله تعالى
( زمانه غض فلا يخشى فرط ... إذ ألف الوصل متى يدرج سقط )
( بسيف جفنه قتلت نفسي ... فإنه ماض بغير لبس )
( فيا غزال إن أبنت ما اعتدى ... فأسقط الحرف الأخير أبدا )
( قلت لمذكر لحي خل الفند ... واسع إلى الخيرات لقيت الرشد )
وهذا الإيداع أيضا نسخه الشيخ زين الدين من قول الشيخ جمال الدين وسبكه في غير قالبه وأين هذا من قول الشيخ جمال الدين في إشاراته إلى قاصد ممدوحه
( وأنت يا قاصده سر في جدد ... واسع إلى الخيرات لقيت الرشد )
(2/317)
________________________________________
قال الشيخ زين الدين
( وإن يكن عدلك في المؤنث ... فقل لها خافي رجال العبث ) منها وأجاد إلى الغاية
( قوامه أشبه شيء بالألف ... كمثل ما تكتبه لا يختلف ) ومثله في الحسن قوله
( يا خصره من ردفه فز بالمنح ... ولا تسل أخف وزنا أم رجح )
تركيب هذا البيت غاية في هذا الباب لأنه قدم ذكر الألف في الأول وقال في عجز بيت الملحة كمثل ما تكتبه لا يختلف بخلاف قوله في ذلك البيت آيات وقوله في عجز بيت الملحة وقال قوم إنها اللام فقط وقال
( عذاره الرقيم فز بلثمه ... ولا تغير ما بقي من رسمه )
ولكن مرسوم الشيخ جمال الدين أمثل وأين قول الشيخ جمال الدين وارفق بمضناك فما سوى اسمه حتى يقول بعد التوطئة ولا تغير ما بقي من رسمه من قول الشيخ زين الدين عذاره الرقيم فز بلثمه وقال الشيخ زين الدين بعد بيته الأول
( تقول فيه خضرة يسيره ... كما تقول ناره منيره )
( دينار وجهه به شححت ... وكم دنينير به سمحت )
( يا ليته يعطف بالوصال ... والعطف قد يدخل في الأفعال )
( لا ما حلا لي في هواه العذل ... لشبهه الفعل الذي يستقبل ) منها وأجاد
( عيناه أفنت أكثر العشاق ... وهكذا تفعل في البواقي )
( في ثغره جواهر غوالي ... جلوتها منظومة اللآلي )
( صورته كالبدر فوق الغصن ... فانظر إليها نظر المستحسن )
( وخل عنك يا عذول العذلا ... وإن تجد عيبا فسد الخللا )
وهذا البيت أيضا منسوخ من إيداع الشيخ جمال الدين والبون بينهما بعيد فإن
(2/318)
________________________________________
الشيخ جمال الدين اعتذر للممدوح في آخر القصيدة عن التقصير كما جرت عادة الشعراء بقوله
( فافتح لها باب القبول تجتلى ... وإن تجد عيبا فسد الخللا )
هذا مع مطابقة الفتح بالسد في هذا الباب وهذا غاية وأما اعتذار الشيخ زين الدين للعاذل وقوله له عن محبوبه وإن تجد عيبا فسد الخللا فالمحبوب عند محبه أجل من هذا القدر والله أعلم وختام الشيخ زين الدين بن الوردي رحمه الله قوله
( حتى رثى لي وألان القولا ... والحمد لله على ما أولى )
ولعمري إني اختصرت من إيداع الشيخ زين الدين بن الوردي جانبا لم أرضه له
ومن الإيداعات التي برز فيها الشيخ زين الدين بن الوردي قصيدته التي امتدح بها النبي وضمن فيها أعجاز قصيدة أبي العلاء المعري وبعض صدورها وهي القصيدة الرائية التي امتدح بها أبو العلاء المعري ابن القصيصي ونقلها الشيخ زين الدين بن الوردي إلى مستحقها وقد عن لي أن أجمع هنا بين الأصل والفرع لتظهر مزية الشيخ زين الدين فإنه أظهر في إيداعه العجائب وأتى بالغرائب ومطلع الشيخ زين الدين خال من الإيداع وهو
( أدر أحاديث سلع والحمى أدر ... والهج بذكر اللوى أو بانة العطر ) ومطلع الشيخ أبي العلاء المعري
( يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانا على السهر ) قال الشيخ زين الدين بعد المطلع
( وقف على الجزع واذكرني لساكنه ... لعل بالجزع أعوانا على السهر ) وقال في إيداع صدر مطلع أبي العلاء
( إذا تبسم ليلا قل لمبسمه ... يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ) قال أبو العلاء يخاطب البرق
( وإن بخلت على الأحياء كلهم ... فاسق المواطر حيا من بني مطر )
(2/319)
________________________________________
وقال أبو العلاء في قصر الليل على العاشق ليلة الوصل
( يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر ) نقله الشيخ زين الدين إلى المديح وأجاد إلى الغاية بقوله عن النبي
( تشرف الركن إذ قبلت أسوده ... وزيد فيه سواد القلب والبصر ) قال أبو العلاء
( لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر ) فنقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي فقال يخاطب النبي
( عذبت وردا فلم تهجر على خصر ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر ) قال أبو العلاء يخاطب محبوبته
( قلدت كل مهاة عقد غانية ... وفزت بالشكر في الآرام والعفر ) نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي وما أحق المادح والممدوح به فقال
( إن الغزالة لما أن شفعت نجت ... وفزت بالشكر في الآرام والعفر ) قال الشيخ أبو العلاء
( أقول والوحش ترميني بأعينها ... والطير تعجب مني كيف لم أطر ) نقله الشيخ زين الدين وقال ( ضمنت مدح رسول الله مبتهجا ... والطير تعجب مني كيف لم أطر ) قال أبو العلاء
( في بلدة مثل ظهر الضب بت بها ... كأنني فوق روق الظبي من حذر ) نقله الشيخ زين الدين وقال
( ولي ذنوب متى أذكر سوالفها ... كأنني فوق روق الظبي من حذر )
(2/320)
________________________________________
قال أبو العلاء يخاطب صاحبيه
( لا تطويا السير عني يوم نائبة ... فإن ذلك ذنب غير مغتفر ) قال الشيخ زين الدين بعد قوله ولي ذنوب
( ومطمعي أنها لا شرك [ إلا ] بشركها ... فإن ذلك ذنب غير مغتفر ) قال أبو العلاء
( يا روع الله سوطي كم أروع به ... فؤاد وجناء مثل الطائر الحذر ) نقله الشيخ زين الدين وقال
( ولي فؤاد متى تفخر سوى مضر ... فؤاد وجناء مثل الطائر الحذر ) قال أبو العلاء في المخلص بعد روع الوجناء
( باهت بمهرة عدنانا فقلت لها ... لولا القصيصي كان المجد في مضر ) قال الشيخ زين الدين لله دره
( والله لو أن أهل الأرض قاطبة ... مثل القصيصي كان المجد في مضر ) قال أبو العلاء مشيرا إلى ممدوحه وأساء الأدب
( وقد تبين قدري أن معرفتي ... من تعلمين سيرضيني عن القدر ) نقله الشيخ زين الدين بن الوردي إلى المديح النبوي وقال بحق
( يا نفس لا تيأسي يوم المعاد فلي ... من تعلمين سيرضيني عن القدر ) قال أبو العلاء وكذب عن القصيصي في قوله
( ولو تقدم في عصر مضى نزلت ... في وصفه معجز الآيات والسور ) نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي وقال رحمه الله حيث قال
( وأين شعري من الهادي الذي نزلت ... في وصفه معجزات الاي والسور )
(2/321)
________________________________________
قال الشيخ أبو العلاء يخاطب ممدوحه
( وافقتهم في اختلاف من زمانكم ... والبدر في الوهن مثل البدر في السحر )
نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي وقال يخاطب النبي وسبى العقول بقوله
( وأنت في القبر حي ما اعتراك بلى ... والبدر في الوهن مثل البدر في السحر ) قال أبو العلاء يخاطب ممدوحه
( أعاذ مجدك عبد الله خالقه ... من أعين الشهب لا من أعين البشر )
والبيت نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي بكماله ولكن كان فارس ميدانه وقائد عنانه وكأنه كان معدا لقصيدته حتى يبرزه في محله من مديح النبي وهو
( لله قولي لعبد الله والده ... قولا إلى فص علياه على قدر )
( أعاذ مجدك عبد الله خالقه ... من أعين الشهب لا من أعين البشر ) قال أبو العلاء يخاطب ممدوحه
( سافرت عنا فظل الناس كلهم ... يراقبون إياب العيد من سفر ) نقله الشيخ زين الدين إلى المديح فقال يخاطب النبي
( كم راقبت أمم منك القدوم كما ... يراقبون إياب العيد من سفر ) قال أبو العلاء يخاطب الممدوح
( لو غبت شهرك موصولا بتابعه ... وأبت لانتقل الأضحى إلى صفر ) قال الشيخ زين الدين يخاطب النبي
( سل تعط واشفع تشفع ما ترده يكن ... لو شئت لانتقل الأضحى إلى صفر )
(2/322)
________________________________________
قال أبو العلاء في ختام قصيدته
( ولا تزال بك الأيام ممتعة ... بالآل والحال والعلياء والعمر ) قال الشيخ زين الدين في ختامه
( وارتجي بك من ذي العرش عافية ... في الآل والحال والعلياء والعمر )
رحم الله الشيخ زين الدين هذه القصيدة معدودة من محاسنه ولولا خشية الإطالة لاستوعبتها بكمالها فإنها بديعة في باب الإيداع انتهى
وأما اعجاز قصيدة امرىء القيس اللامية المعلقة فإن جماعة من أهل الأدب ثابروا على تضمينها وتضمين البعض منها وسبكوها في قوالب مختلفة الأنواع
كتب إلي مولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي الحنفي سقى الله ثراه من دمشق المحروسة إلى حماة المحروسة في صدر رسالته
( أحن إلى تلك السجايا وإن نأت ... حنين أخي ذكرى حبيب ومنزل )
( وأهدي إليها من سلامي معطرا ... بمسك سحيق لابريا القرنفل )
( وأذكر ليلات بكم قد تصرمت ... بدار حبيب لا بدارة جلجل )
( شكوت إلى صبري اشتياقي فقال لي ... ترفق ولا تهلك أسى وتجمل )
( وقلت له إني عليك معول ... وهل عند رسم دارس من معول )
فأجبته وصدرت الرسالة بقولي
( سرت نسمة منكم إلي كأنها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل )
( فقلت لليلي مذ بدا صبح طرسها ... ألا أيها الليل الطويل ألا انجل )
( جنت ما حلا ذوقا فقلت تقربي ... ولا تبعدينا عن جناك المعلل )
( ورقت فأشعار امرىء القيس عندها ... كجلمود صخر حطه السيل من عل )
( فقلت قفا نضحك لرقتها على ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل )
(2/323)
________________________________________
وتطارح الشيخ جمال الدين والشيخ صلاح الدين قبلنا في جانب كثير منها ولكن الشيخ جمال الدين تنازل فيها إلى الغاية فقال
( رأى فرسي إصطبل عيسى فقال لي ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ) وأما الشيخ صلاح الدين فإنه كتب إلى الشيخ جمال الدين في معنى العتب المفرط
( أفي كل يوم منك عتب يسوءني ... كجلمود صخر حطه السيل من عل )
( وترمي على طول المدى متجنيا ... بسهميك في أعشار قلب مقتل )
( فأمسى بليل طال جنح ظلامه ... علي بأنواع الهموم ليبتلي )
( وأغدو كأن القلب من وقدة الجوى ... إذا جاش فيه حميه غلي مرجل )
( تطير شظاياه بصدري كأنها ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل )
( وسالت دموعي من همومي ولوعتي ... على النحر حتى بل دمعي محملي )
( إذا عاين الأخوان ما بي من الأسى ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل )
( ترفق ولا تجزع على فائت الوفا ... فما عند رسم دارس من معول )
( ولي فيك ود طال ما قد شددته ... بأمراس كتان إلى صم جندل )
( ولي خطرات فيك منها جوانحي ... صبحن سلافا من رحيق مفلفل )
( كأن أمانيها كؤوس مدامة ... غذاها نمير الماء غير محلل )
( سلوت غوايات الشبيبة والصبا ... وليس فؤادي عن هواها بمنسلي )
( وأجلو محيا الود فيك لأهله ... متى ما ترق العين فيه يسهل )
( فكر على جيش الجناية عائدا ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل )
( تجد خفرات الأنس منها كواعبا ... ترائبها مصقولة كالسجنجل )
(2/324)
________________________________________
( وخل الجفا وارجع إلى معهد الوفا ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجمل )
( حلا ودك الماضي وإن لم تعد أعد ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل )
فأجابه الشيخ جمال الدين متهكما في المطلع والتهكم فيه غاية لا تكاد تخفى على حذاق الأدب بقوله
( فطمت ولائي ثم أقبلت عاتبا ... أفاطم مهلا بعض هذا التدلل )
( بروحي ألفاظ تعرض عتبها ... تعرض أثناء الوشاح المفصل )
( فأحييت ودا كان كالرسم عافيا ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل )
( تعفي رياح العذر منك رقومه ... لما نسجتها من جنوب وشمأل )
( نعم قوضت منك المودة وانقضت ... فيا عجبا من رحلها المتحمل )
( أمولاي لا تسلك من الظلم والجفا ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل )
( ولا تنس مني صحبة تصدع الدجا ... بصبح وما الإصباح مني بأمثل )
( صحبتك لا ألوي على صاحب عطا ... بجيد معم في العشيرة مخول )
( وحاولت من إدناء ودك ما نأى ... فأنزلت فيه العصم في كل منزل )
( يقلب لي وجدي به سوط سائق ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل )
( وكم خدمة عجلتها ومحبة ... تمتعت من لهو بها غير معجل )
( وكم أسطر مني ومنك كأنها ... عذاري دراري في ملاء مذيل )
( وقلب خليل ينشد الود همه ... ألا أيها الليل الطويل ألا انجل )
(2/325)
________________________________________
( وكم ناصح كذبت دعواه إذ غدت ... علي وآلت حلفة لم تحلل )
( ولحية لاح غاظها ضحكي على ... أثيث كقنو النخلة المعثكل )
( ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل )
( نزعت لسكري ساحبا من صبابتي ... على إثرها أذيال مرط مرحل )
( إلى أن تبدى عذره متمطيا ... وأردف اعجازا وناء بكلكل )
( فلاطفته في حالتيه ولم أقل ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل )
( وضن بأسطار كأن يراعها ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل )
( ويقرع سمعي من معاريض لفظه ... مداك عروس أوصلاية حنظل )
( وعدنا لود يملأ القلب عوده ... بشحم كهداب الدمقس المفتل )
( أعدت صلاح الدين عهد مودة ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل )
( فدونك عتبي اللفظ ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل )
( وعادات حب هن أشهر فيك من ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل )
والذى أقوله المهيع الذي اخترعه الصاحب فخر الدين بن مكانس ومشى عليه في تضمين هذه المعلقة يعد من المعلقات في بابه فإنه ضمنها في مداعبة رجل من أصحابه كان كبير الأنف وأتى بما لا اختلج في صدر متأدب ولا سمع بعده المرقص والمطرب وهو قوله
( تأنف عن وصف الغزال تغزلي ... بلحية أنف ذي عقاص ومرسل )
أنظر أيها المتأدب ما ألطف تأنف هنا وألطف منه قوله بلحية أنف فإن العقاص
(2/326)
________________________________________
جمع عقيصة وهو ما جمع من الشعر والمرسل الشعر المسرح ومراده أن لحية هذا الأنف غزيرة الشعر مسرحة وقال مشيرا إليها
( من البق فيها جملة قد تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل )
( فيا قبح شعر فوق أنف معرقص ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل )
الأثيث الكثير والمتعثكل الذي دخل بعضه في بعض لكثرته وتدلى وهكذا قنو النخلة الذي شبه به الصاحب فخر الدين هذا الأنف ولعمري إن هذا الإيداع من السحر في نقله إلى هذه الصفة الغريبة وقال بعده
( وقالوا اختبا في شعره فكأنه ... كبير أناس في بجاد مزمل )
هذا التشبيه بالنسبة إلى كبر الأنف نوع من الغلو وهو من المخترعات في بابه فإن امرأ القيس شبه به جبل ثبير فقال
( كأن ثبيرا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل )
والعرانين جمع عرنين وهو الأنف والوبل ما عظم من المطر والبجاد كساء مخطط من الشعر الأبيض والأسود فنقله الصاحب فخر الدين في إيداعه إلى الأنف لما فيه من الشعر الأبيض والأسود الذي انتسج في أنفه كالبجاد ولما اختفى في ذلك الشعر بكبير أناس في بجاد مزمل أي ملتف وقد تقدم قولي إنه من المخترعات ( مقلص كلتا الجانبين كأنه ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل )
وهذا التشبيه أيضا من العجائب فإن هذا الأنف لم يبرح سائلا فشبهه الصاحب برجل ناقف حنظل فإن ناقف الحنظل كثير الدمع لشدة حرارته وقال
( ترى القمل والصيبان في عرصاته ... وقيعانه كأنه حب فلفل )
( وفي جوفه شعر طويل كأنه ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل )
( فيالك شعرا فوق أنف معظم ... يلوح كداب الدمقس المفتل )
( وكم قلت إذ أرخى ذوائب أنفه ... علي بأنواع الهموم ليبتلي )
( ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل )
(2/327)
________________________________________
الصاحب فخر الدين رحمه الله ضمن هنا عجزا وبيتا كاملا بنصف بيت واحد وفي هذا من الروية والقوة ما يزيد على الوصف وأما قوله بعدما أرخى هذا الرجل ذوائب أنفه ألا أيها الليل الطويل ألا انجل فإن هذا نوع من السحر بل السحر بعينه ومن المبالغة المفرطة في هذا الباب قوله
( كأن الفسا إن قيس مع ريح أنفه ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل )
( ترى شعرات الأنف سدت خدوده ... لما نسجتها من جنوب وشمأل )
( وقد درست بالأنف آثار وجهه ... فهل عند رسم دارس من معول )
( كأني بمولانا على وصف أنفه ... تولى بأعجاز وناء بكلكل )
( وجرد شعر الأنف منه وجاءنا ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل )
( مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل )
هذا الذي وقع عليه الاختيار من اختراع الصاحب فخر الدين تغمده الله برحمته ورضوانه ولعمري إنه من الاختراع الذي لم يسبق إليه ولا حام فكر من قبله عليه انتهى
وكان الأمير مجير الدين بن تميم يجنح إلى نوع الإيداع كثيرا وأتى فيه بالعجائب والغرائب وقال من شغفه بالتضمين
( أطالع كل ديوان أراه ... ولم أزجر عن التضمين طيري )
( أضمن كل بيت فيه معنى ... فشعري نصفه من شعر غيري ) ومن تضامينه
( أفدي الذي أهوى بفيه شاربا ... من بركة راقت وطابت مشرعا )
( أبدت لعيني وجهه وخياله ... فأرتني القمرين في وقت معا ) وله أيضا
( وشبابة قد كنت أهوى سماعها ... وقد صرت منها بعدما تبت أنفر )
( وها أنا قد فارقتها غير نادم ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر )
(2/328)
________________________________________
وأورد العميان في شرح بديعيتهم بيتين ذكروا أن تضمينهما لبعض المتقدمين من المغاربة وهما على طريقتهم ولكن أعجباني وهما
( وفرع كان يوعدني بأسر ... وكان القلب ليس له قرار )
( فنادى وجهه لا خوف فاسكن ... كلام الليل يمحوه النهار )
ومن التضامين البديعة قول زكي الدين بن أبي الأصبع وقد جعل مطلع أبي الطيب عجزين لبيتين فلم يلحق فيهما فإنه نقلهما من فخامة التحمس إلى زخارف الغزل بقوله
( إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكرت ما بين العذيب وبارق )
( ويذكرني من قدها ومدامعي ... مجر عوالينا ومجرى السوابق ) ومن تضامين ابن تميم
( عاينت في الحمام أسود واثيا ... من فوق أبيض كالهلال المسفر )
( فكأنما هو زورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر ) وقال في الفانوس
( يقول لي الفانوس حين أتوا به ... وفي قلبه نار من الوجد تسعر )
( خذوا بيدي ثم اكشفوا الثوب تنظروا ... ضنى جسدي لكنني أتستر ) وله
( أزهر اللوز أنت لكل زهر ... من الأزهار يأتينا إمام )
( لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدهر ابتسام ) وقال
( لو كنت إذ أبصرتها موارة ... للشمس في أمواهها لألاء )
( لرأيت أعجب ما ترى من بركة ... سال النضار بها وقام الماء ) وقال غيره وسبكه في غير هذا القالب
( لو كنت في الحمام والحنا على ... أعطافه ولجسمه لألاء )
( لرأيت ما يسبيك منه بقامة ... سال النضار بها وقام الماء )
(2/329)
________________________________________
وقال
( يا من يقول بأن رشف ... لمى الحبائب لم يرق )
( وغدا يعنفني به ... دع عنك تعنيفي وذق ) وقال
( لما رأيت البدر في ساعدي ... ونرجس الأنجم قد صوحا )
( أفنيت رشفا فيه ريق الدجا ... من قبل أن ترشف شمس الضحا ) وقوله
( صهباء ريقته رشفت سلافها ... وتغلبت فعجزت أن أتكلما )
( وإذا سئلت أقل لمن هو سائل ... إني لأعلم ما تقول وإنما ) ومن محاسن الشيخ سراج الدين الوراق قوله
( توارت من الواشي بليل ذوائب ... له من جبين واضح تحته فجر )
( فدل عليها شعرها بظلامه ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ) نقله الشيخ شمس الدين بن الصائغ إلى المداعبة وزاده تورية بقوله ( تطلبت حجرا في الظلام فلم أجد ... ومن يك مثلي حية دأبه الحجر )
( فناداني البدر الأديب إلى هنا ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ) ويعجبني من تضمين ابن أبي الاصبع قوله وهو منقول من الحماسة إلى الغزل
( له من ودادي مثل كفيه صافيا ... ولي منه ما ضمت عليه الأنامل )
( ومن قده الزاهي ونبت عذاره ... صدور رماح أشرعت وسلاسل ) وقوله
( هذا الذي أنا قد سمحت بحبه ... كرما بلؤلؤ دمعي المتنظم )
( لا تحرموني ضم أسمر قده ... ليس الكريم على القنا بمحرم ) ومن تضامين الشيخ محمود البديعة قوله
( من حاتم عد عنه واطرح فبه ... في الجود لا بسواه يضرب المثل )
( لو مثل الجود سرحا قال حاتمهم ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل )
(2/330)
________________________________________
ومن محاسن تضامين شمس الدين محمد بن العفيف البديعة قوله
( قالوا غدا تندم عن لثمه ... في خده إذ يغلب السكر )
( فقال لي مبسمه دعهم ... اليوم خمر وغدا أمر ) وقال
( جلا ثغرا وأطلع لي ثنايا ... يسوق بها المحب إلى المنايا )
( وأنشد ثغره يبغي افتخارا ... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ) ومن تضامين مجير الدين بن تميم التي تطفل الناس عليها بعده قوله
( إن تاه ثغر الأقاحي إذ تشبهه ... لله حبك واستولى به الطرب )
( فقل له عندما يحكيه مبتسما ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب ) ومن تضامين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر البديعة قوله
( وناطقة بالروح عن أمر ربها ... تعبر عما عندها وتترجم )
( سكتنا وقالت للقلوب فأطربت ... فنحن سكوت والهوى يتكلم ) ومن تضامين الشيخ صلاح الدين الصفدي قوله
( ملكت كتابا أخلق الدهر رسمه ... وما أحد في دهره بمخلد )
( إذا عاينت كتبي الجديدة جلده ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد ) وقال
( قل للرقيب يسترح من عذلي ... ما أصبح المعشوق عندي مشتهى )
( وارتد قلبي عن سيوف لحظه ... وكل شيء بلغ الحد انتهى ) وقال مضمنا ومكتفيا
( رشفت ريقك حلوا ... فلم يكن لي صبر )
( وسوف أحظى بوصل ... وأول الغيث قطر ) ومن تضامين الشيخ عز الدين الموصلي
( وعلق يرى للترك فيه تحمس ... يقود عليه أحدب ويعاشره )
( إذا جاءه اللوطي يطلب وصله ... ثنى طرفه نحو الحسام يشاوره )
(2/331)
________________________________________
وله أيضا
( جاد لنا كالشادن الربيب ... لحظته بالنظر المريب )
( فقال في السكرة عند نومه ... يا رب سلمها من الدبيب ) وقال
( نادمت قوما لا خلاق لهم ولا ... ميل إلى طرب ولا سمار )
( يستيقظون إلى نهيق حميرهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار ) وقال
( لحديث نبت في العذار حلاوة ... وطلاوة هامت به العشاق )
( فإذا نهاني المرد قلت تمهلوا ... فإليكم هذا الحديث يساق ) ومن تضامين الشيخ برهان الدين المعمار التي أجاد فيها قوله
( عزمت على رقبى محاسن وجهه ... بأنوار ايات الضحى حين أقبلا )
( فلما بدا يفتر عن نظم ثغره ... بدأت ببسم الله في النظم أولا ) وكتب الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري إلى الشيخ سيف الدين الآمدي
( لئن تقدم قوم عصر سيدنا ... فكم تقدم خير المرسلين نبي )
( وإن يكن علمه فرعا لعلمهم ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب ) ( وإن أتت قبله كتب مؤلفة ... فالسيف أصدق إنباء من الكتب ) ومن الغايات في هذا الباب قول الشيخ بدر الدين بن الصاحب
( لله يوم الوفا والناس قد جمعوا ... كالروض تطفوا على نهر أزاهره )
( وللوفاء عمود من أصابعه ... مخلق تملأ الدنيا بشائره ) ومما جاد به الشيخ برهان الدين القيراطي في تضمينه
( قل في اخضرار عذاره وقوامه ... خلع الربيع على غصون البان )
( وانشر من الأغزال في أردافه ... حللا فواصلها على الكثبان ) ومن غايات الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة في هذا الباب قوله
( قل للهلال وغيم الأفق يستره ... حكيت طلعة من أهواه بالبلج )
( لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على مافيك من عوج )
(2/332)
________________________________________
ومن تضامين علاء الدين بن أيبك الدمشقي البديعة قوله
( أقول وقد ظمئت ووجه حبي ... له عرق على ورد الخدود )
( أرى ماء وبي ظمأ شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود ) ومن تضامين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قوله
( لقد قال لي إذ رحت من خمر ريقه ... أحث كؤوسا من ألذ مقبل )
( بلثم شفاهي بعد تقبيل مبسمي ... تنقل فلذات الهوى في التنقل ) وظريف في هذا الباب قول الشيخ بدر الدين بن المنيجي
( ولما خلونا والمسرة بيننا ... وقد عز شرب الراح فينا عن الشرب )
( تعوض كل بالحشيش عن الطلا ... ومن لم يجد ماء تيمم بالترب ) ومن تضامين شهاب الدين بن أبي حجلة البديعة قوله
( يحكي سنا الفانوس من بعد لنا ... برقا تألق موهنا لمعانه ) ( فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه ) وقال فيه
( أنا في الدجا ألقى الهوى وبمهجتي ... حرق يذوب لها الفؤاد جميعه )
( وكأنني في الليل صب مغرم ... كتم الهوى فوشت عليه دموعه ) وقال وأجاد
( يا صاح قد حضر الشراب ومنيتي ... وحظيت بعد الهجر بالإيناس )
( وكسا العذار الخد حسنا فاسقني ... واجعل حديثك كله في الكاس ) ومن تضامين الشيخ برهان الدين القيراطي
( تجمعت من نطف ذاته ... حتى بدا في قالب فاسد )
( وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد )
(2/333)
________________________________________
وقال مضمنا في قطائف
( لقد نطقت زهر الثنا بقطائف ... تخيرتها فاختر لنفسك ما يحلو )
( تقول اسمعوا مني مدائح مرسلي ... وكلي إن حدثتكم السن تتلو ) وله في باذهنج وأجاد
( بروحي أفدي باذهنجا موكلا ... بإطفاء ما ألقاه من حرق الجوى )
( إذا فتحت في الحر منه طوابق ... أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ) وقال فيه
( أيا باذهنجا صح فيه لنا الهوا ... صفاتك ما وفي بهن خطاب )
( وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن عشقي في هواك صواب ) وقال فيه الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة وأجاد
( هجا الشعراء جهلا باذهنجي ... لأن نسيمه أبدا عليل )
( فقال الباذهنج وقد هجوه ... إذا صح الهوى دعهم يقولوا ) ويعجبني من قصائد الشيخ برهان الدين القيراطي قوله
( وموسوس عند الطهارة لم يزل ... أبدا على الماء الكثير مواظبا )
( يستصغر البحر الكبير لذقنه ... ويظن دجلة ليس تكفي شاربا ) ومن غاياته في هذا الباب قوله
( ولما بدا والليل أسود فاحم ... قد انتشرت في الخافقين غياهبه )
( أضاء بدر الثغر عند ابتسامه ... دجا الليل حتى نظم الجزع ثاقبه ) وقال بدر الدين حسن الزغاري وأجاد
( وبي سامري مربى في عمامة ... قد اكتسبت من وجنتيه احمرارها )
( موردة دارت بوجه كأنما ... تناولها من خده فأدارها )
(2/334)
________________________________________
ومثله قول الشيخ عز الدين الموصلي
( وسامري أعار البدر منه سنا ... سموه نجما وهذا النجم غرار )
( تهتز قامته من تحت عمته ... كأنه علم في رأسه نار ) ومن تضامين محيي الدين بن قرناص الحموي
( أفديه أغيد زارني تحت الدجا ... وعليه من فرعيه ليل ساجي )
( والفرق بين الشعر فوق جبينه ... عريان يمشي في الدجا بسراج ) وقال أيضا
( سقى الله روضا قد تبدى لناظري ... به شادن كالغصن يلهو ويمرح )
( وقد نضحت خداه من ماء ورده ... وكل إناء بالذي فيه ينضح ) وقوله في كاحل
( دعوا الشمس من كحل الجفون فكفه ... تسوق إلى الطرف الصحيح الدواهيا )
( فكم أذهبت من ناظر بسواده ... وخلت بياضا خلفها ومآقيا ) وقال الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة
( ومتى امتطيت من الكؤوس كميتها ... أمسيت تمشي في المسرة راكبا )
( ومتى طرقت عشى انس ديرها ... لم تلق إلا راغبا أو راهبا ) وقال ابن الوردي تعجبت من اشتهار بيتين ما أحكمهما بانيهما ولا اعتنى بمعانيهما وهما
( مقامات الغريب بكل أرض ... كبنيان القصور على الثلوج ) ( يذوب الثلج تنهدم البنايا ... وقد عزم الغريب على الخروج )
فخلصتهما من مقامات الغريب بكل أرض وأوقدت فكرتي فذاب الثلج وانهدمت البنايا المستحقة للنقض وجعلتهما أسمى من السماء ونقلتهما من كثافة الأرض فقلت
( مليح ردفه والساق منه ... كبنيان القصور على الثلوج )
( خذوا من خده القاني نصيبا ... فقد عزم الغريب على الخروج )
(2/335)
________________________________________
قلت وقد سألني بعض حذاق الأدب عن بيت ابن مطروح الذي لم تصل أفواه البلغاء إلى لثم أعتابه ولا الحضور إلى جنابه ولا وجدوا طاقة للدخول من بابه فضمنته تضمينا لو سمعه ابن مطروح لطرح نفسه خاضعا وسلم إلي مفاتيح بيته طائعا وهو قوله
( لبسنا ثياب العناق ... مزررة بالقبل ) فقلت
( ولما خلعنا العذار ... فككنا طويق الخجل )
( لبسنا ثياب العناق ... مزررة بالقبل )
ومن تضامين الشيخ زين الدين بن الوردي ما ذكره في ديوانه أنه كان له صاحب يدعي بالمجد حصل له أذية مفرطة من زوجته وأبيها وجدها فكتب إليه الشيخ
( زوجة مجد الدين والداها ... في ثلب عرض المجد أشبهاها )
( إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها )
ومن تضميني الذي ما حام فكر من ضمن اعجاز الملحة عليه ولا سبقني جواد من فحول العربية إليه قولي مداعبا
( نصبت أيري إذ نحوت نيكه ... وهو يريد رفعها لي ابتدا )
( وبعد ذا للجر قد أضفته ... وفي المضاف ما يجر أبدا )
وأنشدني من لفظه الكريم قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر من هذا الباب بيتين كان مولانا قاضي القضاة علاء الدين يترنم بهما
( تيه فلان الدين مع فقره ... أقوى دليل أنه جاهل )
( لثوبه بالصقل من فوقه ... قعاقع ما تحتها طائل ) وقال أيضا في المجون
( وشاعر فاسق أتى امرأة ... من خلف إذ سامه المليح قلى )
( وقال إذا عاتبوه معتذرا ... تلجي الضرورات في الأمور إلى )
(2/336)
________________________________________
ومن تضاميني الغريبة
( حثثت عزمي شوقا إليكم ... فلم أطق مكثة بأرض )
( وحيث لم أحظ بالتلاقي ... فغايتي أن ألوم حظي ) وقولي
( يقول معذبي حسن تخير ... سواء فقلت قد عز اصطباري )
( وكم في الناس من حسن ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختياري )
وأنشد المقر المرحومي محمد بن منهال ناصر الدين عين الموقعين بدمشق المحروسة بيتين لابن الوردي والأصل للحريري صاحب المقامات
( لوجنة صيادكم نسخة ... حريرية ملحة في الملح )
( يقول لنبت العذار اجتهد ... ومد الشباك وصد من سنح )
فنظمت في ذلك المجلس بيتين اعترفت لهما القصور العوالي بالقصر وما شك أحد أن أبا بكر مقدم على عمر
( غدا طير أفراحنا سانحا ... يحوم على ورد عذب القدح )
( فقلنا لدر الحباب اجتهد ... ومد الشباك وصد من سنح ) ومن تضاميني الغريبة ما ضمنته قول عنترة في معلقته
( وإذا سكرت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم )
( وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي ) فقلت
( جاد النسيم على الربا ... بندى يديه وقال لي )
( أنا ما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي ) وبيت الشيخ صفي الدين في هذا النوع ( إذا راه الأعادي قال قائلهم ... حتام نحن نساري النجم في الظلم ) الشيخ صفي الدين ضمن في بيته الشطر الأول من مطلع المتنبي وشطره الثاني وما سراه على خف ولا قدم
(2/337)
________________________________________
وبيت العميان
( واسمح بنفسك وابذل في زيارته ... كرائم المال من خيل ومن نعم ) والعميان ضمنوا الشطر الثاني من بيت الشريف الرضي وشطره الأول ماض من العيش لو يفدى بذلت له وبيت الشيخ عز الدين
( إيداعه الفضل في الأصحاب شرفهم ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم )
والشيخ عز الدين ضمن الشطر الثاني من بيت المتنبي من قصيدته التي ضمن فيها الشيخ صفي الدين الشطر الأول وهو قوله
( ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم ) وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على المديح النبوي تابع لقولي وهو
( وآله البحر آل أن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم )
( وفي الوغى رادفوا لسن القنا سكنا ... من العدا في محل النطق بالكلم )
( وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم )
وأنا أيضا ضمنت في بيتي شطرا ثانيا من ميمية المتنبي والشطر الأول ولا تشك إلى خلق فتشمته ووجه الاستحقاق هنا سافر لمستجلي محاسن هذا النوع والله أعلم
(2/338)
________________________________________
ذكر التوهيم
( والبعض ماتوا من التوهيم واطرحوا ... والسمر قد قبلتهم عند موتهم )
قلت هذا النوع أعني التوهيم وتقدمه باب الترشيح كان الأليق بهما أن ينتظما في سلك باب التورية ويذكر التوهيم مع ايهامها والترشيح مع المرشحة وقد تقرر كل من النوعين وتقدم في بابه والذي مشى عليه الشيخ صفي الدين هنا هو إيهام التورية وهوقوله
( حتى إذا صدروا والخيل صائمة ... من بعد ما صلت الأسياف في القمم )
فذكر صيام الخيل هنا يوهم السامع أن السيوف صلت من الصلاة ومراده الصليل وهو صوت الحديد وأعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى ( والنجم والشجر يسجدان ) بعد قوله ( الشمس والقمر بحسبان ) فإن ذكر الشمس والقمر هنا يوهم السامع أن المراد بالنجم أحد النجوم والمراد به النبت الذي لا ساق له
قال ابن أبي الأصبع وقد يأتي التوهيم للمطابقة كقول أبي تمام رحمه الله تعالى
( تردى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر )
فإنه أوهم بالمطابقة بين الأحمر والأخضر وليس يطابق إذ الأحمر لا يطابق
(2/339)
________________________________________
الأخضر وفرع منه ضربا آخر فقال هو أن يأتي المتكلم بكلمة توهم بما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها ومراده خلاف ذلك كقول أبي الطيب
( وإن الفئام التي حوله ... لتحسد أرجلها الأرؤس )
فإن الأرجل أوهمت السامع أن لفظة الفئام بالقاف ومراد الشاعر الفئام بالفاء وهي الجماعات الكثيرة هكذا روي هذا البيت والمبالغة تقتضيه فإن القيام بالقاف يصدق عليه أقل الجمع انتهى وبيت عز الدين الموصلي
( يا سائرا مفردا أعربت لحنك في ... توهيم منع رضاع الشاء من حلم )
قلت هذا البيت المبارك عجزت عن حل معناه إذ ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده ولا بمدح النبي ولم أزل في حيرة إلى أن وقفت على شرح المصنف فوجدته قد قال الحلم مشتق من الحلمة وهي رأس الثدي ويحصل في جلد الشاة دود فتقول العرب حلمت وحلم أديمها أي وجد الدود في جلدها ثم قال ومعنى البيت أني أخاطب سائرا في الطريق منفردا بنفسه عن الناس لايرغب في مرافقة أحد فقلت له وأنت تتوهم بترك اجتماعك بالناس معنى لا تظهره كما يوهم الراعي بمنع رضاع الشاء أن جلودها حلمت وحلم بين حلم الشاة وحلم الأديب قلت والله ما ازددت إلا حيرة في تفسير هذا الشرح والذي أقوله إن الشرح والنظم في العقادة وعدم الفائدة كفرسي رهان وبيت بديعيتي تقدم قبله وهو
( وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم ) وقلت بعده في التوهيم
( والبعض ماتوا من التوهيم واطرحوا ... والسمر قد قبلتهم عند موتهم )
فذكر الموت في البيت يوهم السامع أن نساءهم السمر قد أدارتهم إلى جهة القبلة كما هو المعهود والتوهيم هنا في التقبيل وفي السمر والمراد بالسمر الرماح وبالتقبيل الطعن في الأفواه التي تنزل هنا منزلة التقبيل واستعارة التقبيل للرماح في غاية الحسن فإنهم شبهوا سنان الرمح باللسان وشبهوا مواقع الطعن بالثغور ويعجبني هنا قول ابن المزين في الرمح
(2/340)
________________________________________
( أنا أسمر والراية البيضاء لي ... لا بالسيوف وسل من الشجعان )
( لم يحل بي عيش الغداة لأنني ... نوديت يوم الجمع بالمران )
( وإذا تفاخمت الكماة بجحفل ... كلمتهم فيه بكل لسان )
(2/341)
________________________________________
ذكر الألغاز
( وكل ما ألغزوه حله لسن ... مذ طال تعقيده أزرى بفهمهم )
هذا النوع أعني الألغاز يسمى المحاجاة والتعمية وهي أعم أسمائه وهو أن يأتي المتكلم بعدة ألفاظ مشتركة من غير ذكر الموصوف ويأتي بعبارات يدل ظاهرها على غيره وباطنها عليه وأبدع ما فيه أنه لم يسفر في أفق الحلى غير وجه التورية وأما تعسف الفرقة التي ليس لها إلمام بالتورية في الألغاز فأمرهم مسلم إليهم وأما علماء هذا الفن فإنهم ما قرروا غير ما قررناه فمن ذلك قول أبي العلاء في ابرة
( سعت ذات سم في قميصي فغادرت ... به أثرا والله شاف من السم )
( كست قيصرا ثوب الجمال وتبعا ... وكسرى وعادت وهي عارية الجسم ) وقول ابن حراز في خيمة
( ومضروبة من غير ذنب أتت به ... إذا ما هدى الله الأنام أظلت )
قلت لغز أبي العلاء ولغز محيي الدين لم تسفر فيهما الوجوه الحسان إلا من وراء ستور التورية ومنه قول ابن حراز فيمن اسمه عثمان
( حروفه معدودة خمسة ... إذا مضى حرف تبقى ثمان ) ومن ألطف الألغاز في القلم
( وذي خضوع راكع ساجد ... ودمعه من جفنه جاري )
( مواظب الخمس لأوقاتها ... منقطع في خدمة الباري )
(2/342)
________________________________________
وقول ابن عبد الظاهر في شربه في كوز الوزير
( وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا قلب )
( إذا استولى على حب ... فقل ما شئت في الصب )
ومن لطائف ما وقع في باب الألغاز أن شيخ الشيوخ بحماة كتب إلى والده ملغزا في باب بقوله
( ما واقف بالمخرج ... يذهب طورا ويجي )
( لست أخاف شره ... ما لم يكن بمرتج ) فكتب إليه والده في الكتاب
ذهاب ومجيء وخوف وشر هذا باب خصومة والسلام
وقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر ملغزا في باب
( أي شيء تراه في الدور والكتب ... مجازا هذا وذاك محقق )
( هو زوج وتارة هو فرد ... وهو في أكثر الأحايين يطرق )
( وطليق في نشأتيه ولكن ... بحديد من بعد ذلك يوثق )
( وهو في القلب يستوي وتراه ... بان تصحيفه لمن يترمق )
( فأجبني عنه بقيت مطاعا ... لست في حلبة الفضائل تسبق ) وقال الشيخ برهان الدين القيراطي في باذهنج وأجاد
( أهواؤنا المختلفة ... قد أصبحت مؤتلفه )
( في شامخ بأنفه ... على العوالي أنفه )
( وذي جناح لم يطر ... وكل طير ألفه )
( جناحه طول المدا ... يبدي علينا رفرفه )
( في الريح ضاع قول من ... على هواه عنفه )
( عليله الصحيح كم ... شفى قلوبا دنفه )
( وروحه لطيفة ... وذاته منحرفه )
(2/343)
________________________________________
( عن قبلة الدين أرى ... حب الهوا قد صرفه )
( ولم تكن مع الهوا ... أعطافه منعطفه )
( هواه تحت طوعه ... كيف يشاء صرفه )
( ما زال غير شاكر ... ساكنه مذ ألفه )
( ولكما أسرف في ... بذل شكرنا سرفه )
( أنفاسه كم أودعت ... مجلسنا تلطفه )
( كم رنحت من غصن ... وقامة مهفهفه )
( معتله هو الصحيح ... عند من قد عرفه ) وقال محيي الدين ملغزا في قمري
( ما معمى ورأسه ... في عداد المطير )
( كم له من مترجم ... كم له من مسحر )
( كم خواف له بدت ... لالتماع المبصر )
( كله معجم وإن ... زال بعض اسمه قري ) وقال المقر المرحومي الأميني صاحب دواوين الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة ملغزا في فاختة
( وما طائرا يهوى الرياض تنزها ... ويسرح في أفنانها ويغرد )
( هجاء اسمه خمس حروف تعدها ... وخمساه حرف إن تأملت مفرد )
( وبعدهما تصحيف باقيه إن ترد ... بيانا له أفعى تبين وتشهد )
( وفيه أخ إن تهت عنه فأخته ... تدل على ما قد عنيت وترشد ) هذا اللغز ورد إلى الديار المصرية وحله بقية السلف الشيخ زين الدين بن العجمي وأجاب عنه بقوله
( أيا من له مجد أثيل وسودد ... غدا دون مرقاه سماك وفرقد )
( تفيد يسار المقترين يمينه ... ويسراه من يمنى الغمامة أجود )
(2/344)
________________________________________
ونقل الشيخ جمال الدين الدميري في كتابه حياة الحيوان لغزا في بجع
( ما طائر في قلبه ... يلوح للناس عجب )
( منقاره في وسطه ... والعين منه في الذنب )
وكتب علامة العصر الشيخ بدر الدين الدماميني إلى المجدي فضل الله بن مكانس ملغزا في قدح فقال ما اسم حبيب إلى النفوس شبيه بالبدر حليف للشموس إن قلب كان لقلبه من العين مكان المناسبه أو سقط قلبه مع الفعل كان ضدا للأقوال الكاذبه وإن صحف بعد العكس أنبأ عن الذكاء وهذا غاية الشرح وإن غير ثانيا علم رب الكلام المحرر أنه دال على الطرح حاشيتاه مع التصحيف الة للصيد معينة على المكر والكيد وإن قطع طرفه كان صراح باقيه قواما وإن عكس على الطرف صار بتصحيفه مداما وإن زال أوله كان العكس عقابا بالمتعاطي إثمه أو صحف اشتاقت الشفاه إلى تقبيله ولثمه وربما كان الحد عند تصحيفه الاخر منافيا لاسمه مباينا في الحقيقة لحده ورسمه
فكتب الجناب المجدي الجواب وألغز في ورد بقوله يقبل الأرض التي أطالت بالجفاء حرمانه وتداركته بعد إجراء دموعه فعظمت في الحالين شانه وانتهى المملوك إلى اللغز الذي تمتع بملحه وشرب بقدحه فابتهل شكرا ومالت أعطافه بالقدح الفارغ سكرا فوجده كما قال مولانا حبيبا إلى النفوس مجتهدا في التوصل بما حازه إلى الرؤوس وكتب في الجواب لغزا وخالف نفسه إذ قالت لا ينبغي مجاراة هذا الجواد لزا وهو ما عاطل يتحلى به المجالس ويتفكه به في المجالس تحمر وجناته من الشرب وتحمد آثاره في البعد والقرب إن قلبته وجدته تاجا وإن تركته على حاله زادك ابتهاجا يعذب بالنار وغيره الجاني ويريك إن بدلت أوله برد الأماني يستخرج وهو داخل ويرى دمعه من نار قلبه هاطل لا تبرح به في غبطه ولا تجد فيه مع انهماله نقطه فإن حذفت أوله وحرفت باقيه وجدته أمرا بالشراب وإن فعلت كذا في ثانيه رأيت ما بقي مولدا للمحبة بين الأحباب وور إن حذفت آخره كمن وري وغص في بحر الفكر على عكس ثلثيه لتستخرج درا والمملوك يسأل الصفح فإنه لولا المحبة ما أجاب ولا طرق بعد فقد أبيه هذا الباب
فكتب إليه الشيخ بدر الدين الجواب يقبل الأرض وينهي ورود الجواب الذي شفى القلوب بوروده واللغز الذي نسي بوروده بان الحمى وطيب وروده فوجده روض
(2/345)
________________________________________
( سؤالك عن أنثى طروب ولم تزل ... على عودها في الروض تشدو وتنشد )
( وتجذبني بالطوق عند نشيدها ... لنحو التصابي لا أطيق أفند )
( ومذ بان منها الطرف أمست لعكسها ... تخاف الردى ممن لها يترصد )
( وإن حذفت ثاني الأخير فإنه ... على العكس خاف بل يلوح ويشهد )
( فأولها مع ما يليه وحرفها ... لنا فاه بالمعنى الذي فيه يقصد )
( وحرفان منها فرد حرف لناطق ... واف لمن بالعكس في ذاك يجحد )
( بقيت بقاء الدهر عزك باذخ ... وفي مفرق الجوزا لواؤك يعقد ) وقال ملغزا في درة
( أي شيء من الجمادات يلفى ... وتراه من بعد ذا حيوانا )
( وترى ذلك الجماد عزيزا ... غاليا منه رصعوا تيجانا )
( وترى الروح منه في حيوان ... ذي جناح ويألف الطيرانا )
( وإذا ما شدا على العود يوما ... فوق دف يحرك الأغصانا )
( أو بدا في مقفص فابن برد ... عند أسجاعه يصير مهانا )
( كله طائر وفي ثلثيه ... لك ذو أربع مع العكس بانا )
( كله عاطل به تتحلى ... كل خود وتستقل الجمانا )
( وتراه عند الملوك عظيما ... وبتصحيفه حقيرا مهانا )
( عكسه في تصحيفه زد بنقص ... فالمعمى هنا فكن يقظانا )
( وإذا لم تدر التصاحيف ذره ... للذي فيه فهو يدري البيانا )
( وبتحريفه تؤدب من شئت ... إذا كان يجهل العرفانا )
( ثلثاه در نفيس وفي فيه ... إذا جاء يصحب المرجانا )
( لكن الثلث عنده نصف وحش ... ذب عنا تصحيفه ما اعترانا )
( وهو في البر نافر وإذا ما ... حضروه قد يألف الإنسانا )
( فافترسه بالحل إن كنت ليثا ... فهو لغز عن فضله قد أبانا ) وعلى ذكر القمري والفاختة أوردت هنا ما ألغزته في القفص وهو قولي
( أي مغنى أعواده بيت شدو ... مرقص مطرب وبالقلب صفق )
( ولمجموعه النباتي حسن ... فزت من بعضه بسجع المطوق )
(2/346)
________________________________________
بلاغة عدم العائب والعاتب وترعرع زهره حيث أمطرته من الأنامل المجدية خمس سحائب فلو شاهده ابن الوردي لاحمر خجلا أو صاحب زهر الأدب لتلون وجلا ثم تأمل حل اللغز فوجده قد كشف المشكل وجلى واعترف أنه لم يمر بذوقه أطيب من ذلك الحل ولا أحلى وتحقق أن مولانا أوسع المملوك في مقام الأدب بفضله إيناسا وتناول منه قدحا أعاده بألفاظه المسكرة كاسا وانتهى المملوك إلى اللغز المخدومي فقال
( مولاي مجد الله يا من فضله ... يروي وجود كفوفه يروي الصدى )
( ألغزت في اسم عاطل حليته ... فينا بدر اللفظ أو قطر الندى )
( إن أورد التحريف في أثنائه ... قد كان للشاني هلاكا أو ردى ) وقال مجيبا له أيضا عن الورد
( لله لغزك يا مولى فضائله ... قد عطر الكون منها طيب أنفاس ) ( أتى بورد فحياني على قدحي ... به وأبهجني ما بين جلاسي )
( وقد أسا جرح كسرى حين أقبل لي ... روحي الفداء لذكر الورد والآس )
فاستحلى المملوك بالتحريف ورده وود لو اقتطف من أغصان حروفه ورده ورده إلى ذل القصور عاريا عن ملابس عزه وأنشد قول ابن قلاقس وقد تقلى بنار عجزه
( إذا منعتك أشجار المعالي ... جناها الغض فاقنع بالشميم )
فراح على بهرج هذا الرأي الكاسد واقتنع بالشميم على رغم أنف الحاسد وعلم أن تلك الورود لا تخرج إلا من تلك الخضره وأن هذه الفاكهة لا تخرجها إلا أغصان أقلام لها باليد المخدومية بهجة ونضره وتمشى المملوك من هذا اللغز في بساتين الوزير على الحقيقه ورأى كل ورقة فاحمرت الوجنات الحمر فتحير أهي وردة أم شقيقه وتفكه به معجبا بثمار غرسه منشدا لمن كرر النظر في صحيفتي طرسه
( إن كنت تزعم ما في خده عجبا ... فانظر إلى الورد في خديه منثورا ) فلقد ظفرت من نفسه الوردي بالعنبر الورد وعوذته عند تبديل الثلاثة بالواحد
(2/347)
________________________________________
الفرد وتأملت بقصور راحتي نكتة برد الأماني فانعقد لسحر البيان لساني وتيقنت أنه لايقوى على فهم هذا البرد إلا كل حديد النظر ووجدت تصحيف هذه الكلمة يا شمس الفضائل للعقول قمر وعلمت أن الفكر لا يجاري من بديهته من بحر الفضائل رويه وأن الخاطر لا يقوى على سلطان هذا اللغز لأن شوكته قوية وقلت للذهن رد بعضه لتنتهل شرابا سائغا وزد تصحيفه ليكون في التعريف بمعناه مبالغا وتمتعت من ورده بالمشموم ثم تذكرت البعد عن جناب المخدوم فاستقطر البين ماء الورد من حدقي ولمولانا الصفح عن مقابلة هذا الدر بالسقط وتمر هجر بهذا الحشف الملتقط
قلت وعلى ذكر القدح والورد حسن أن نورد هنا لغزا في المدام وقفت عليه للشيخ صلاح الدين الصفدي بخطه
( وما شيء حشاه فيه داء ... وأوله وآخره سواء )
( إذا ما زال آخره فجمع ... يكون الحد فيه والمضاء )
( وإن أهملت أوله ففعل ... له بالرفع والنصب اعتناء ) قلت لا بد للمدام من ماء من حيث الممازجة
ووقفت بالديار المصرية على لغز للشيخ زين الدين بن العجمي ألغزه في الماء فأعجبني وهو قوله سألتك أعزك الله عن سائل لا حظ له في الصدقة ولم يكن متصل النسب بالأشراف وتراه كثير الرجفان من غير أن يخاف كم رد سائله نهرا وعفر وجه قائده في التراب قسرا مذكر كثير الحيض لطيف الانبساط سريع الفيض مطلق التصرف وعليه الحجر وطال ما قبل العشاء أبدى لنا الفجر يتشعب ويتكسر ويتعوج ويتدور وتبدو له خمسون عينا وأكثر يحمل القناطير المقنطرة ويعجز عن حمل إبره سريع الاستحالة قل أن يثبت على حاله بعيد الغوص ليس له قرار ويعاجل صفاء وراده بالاكدار ويسكن في تخوم الغبرا وينم على أحوال السماء نثرا بعيد الغوص رقيق القلب على كل عديم وكيف لا وهو المولى الحميم يجود بأفخر الحلى ولا يرد
(2/348)
________________________________________
من نداه مؤملا كم عمر سبيلا وقطع طريقا وأخاف سبيلا وكم طغى واحترق وأظهر الجفاء وهو كثير الملق صقيل يجلو الصدا ويظهر على شدة البرد تجلدا قد جمع فيه الخوف والرجا والكدر والصفا فسبحان من جمع فيه هذه الأضداد وأرسله رحمة للعباد
ويعجبني فيه قول أبي الفضل بن الخازن
( وخل صفاء زرته بعد هجعة ... فألفيت شخصي في حشاه مصورا )
( وأودعته سري فأفشاه للورى ... فيا حسن ما أفشى الغداة وأظهرا )
( أبو حليف للثريا وأمه ... به حامل في بطن منخفض الثرى )
( سطيح له جسم بغير جوارح ... يباري الرياح الذريات إذا جرى )
( تزر عليه الريح ثوبا موردا ... وتكسوه شهب الليل ثوبا مدثرا )
قلت وعلى ذكر الماء يحسن أن نورد هنا لغزا في القربة كتب الشيخ بدر الدين الدماميني إلى المقر الأميني أمين الدين الحمصي كاتم السر بدمشق صاحب ديوان الإنشاء بالشام لغزا في قربة تزاحم سرب الأدب على الشرب منها ولو عاش صريع الدلاء ود أن يكون راوية عنها وهو قوله
( أكاتب سر الملك والفاضل الذي ... ثناه على الأفكار فرض مرتب )
( يحدث عن سهل رواة كلامه ... إذا ما أتاه اللغز يرويه مصعب )
( فديتك ما ذات أطالعكم بها ... ويبحث في الأسفار عنها وتطلب )
( تشدوكم في الأرض قار أمالها ... وصدق إذا ما قيل تملى وتكتب )
( وما هي في التحقيق راوية وكم ... لها خبر في الذوق يحلو ويعذب )
( مليحة شكل يألف الحب صبها ... زمانا وفي وقت لها يتجنب )
( وتبلغ منها للحياض حقيقة ... ولكن رأينا قلبها وهو طيب )
( يزيد مريدوها إذا ما تصوفت ... ويشكرها أهل الزوايا ويطنبوا )
(2/349)
________________________________________
( لها أربع لكن بساق رأيتها ... على السعي في الأحياء بالنفع تدأب )
( وما نال إثما في تعاطيه بعدما ... رأيناه من تلك العتيقة يشرب )
( وشم فمها المفتوح كم راح سائلا ... وما نطقت حرفا عن القصد يعرب )
( وترضع أحيانا وما حان رضعها ... وكم من فتى في حملها راح يرغب )
( وتحمل ما فيه الحياة لربها ... فيا حبذا منها البسيط المركب )
( وترسله فاعجب له من مسلسل ... غدا مرسلا عنه الرواية تعجب )
( وكم من خليع شمته إذ تعتقت ... يمد إليها الراح لهوا ويطرب )
( وكم قد تعبدنا بتحريف لفظها ... ولم أر بالتحريف من يتقرب )
( وتصحيفها يا جبهة الدهر بلدة ... حواها من الأقطار شرق ومغرب )
( وتوجد في الأفلاك عالية لها ... ويألفها بعض الجواري ويصحب )
( ويا من لرق الفضل أصبح مالكا ... فما لي إلا نحو علياه مذهب )
( تلفت للغز نحو بابك قد أتى ... وكل غدا من ظرفه يتعجب ) وقال بعضهم ملغزا في قربة السباحة
( وذات فم طورا تسبح ربها ... ولم تكتسب أجرا بتسبيحها قط )
( معانقة الصبيان مضمرة الهوى ... كأن بقايا قوم لوط لها رهط )
قلت أما لغز الشيخ بدر الدين في القربة فنسيج وحده وما ذاك إلا أنه لم يحتج فيه إلى عقادة من تمذهب بغير مذهبنا ولم يسبكه في غير قوالب التورية وقد أذكرني لغزا ألغزته في قصب السكر بطرابلس المحروسة وقد أنشدني بعض المخاديم وهو المقر المرحومي الشهابي الدنيسري لغزا في قصب السكر أيضا وهو
( وحاملة درا حكى الخمر لذة ... ونشرا يروي شربه ويقوت )
( تعيش إذا لم يبد منها فإن بدا ... فمهجتها في اثر ذاك تفوت )
( فلم تر عيني مرضعا في مثالها ... من الخلق تسقي درها وتموت )
وقال بعد الإنشاد ولا أعلم في هذا الباب مثل هذا اللغز لأنه سالم من التعقيد
(2/350)
________________________________________
والتصحيف والتحريف والعكس والحذف والابدال فنظمت هذا اللغز في يوم الإنشاد وهو
( وعسالة تبدو بغير أسنة ... ولا طعن فيها وهي داخلة الصدر )
( ممشقة هيفاء حلو مذاقها ... به يطرح المران في المهمه القفر )
( منعمة لفاء مهضومة الحشا ... تكاد بأن تنقد من رقة الخصر )
( وتحلو على البيض الرشاق شمائلا ... إذا ما تثنت في غلائلها الخضر )
( يلذ قبيل العصر في الظهر رشفها ... وبرد لماها من أليم الجوى يبري )
( وإن سقيت ماء سقتك سلافة ... بطيب مزاج وهي طيبة النشر )
( وينبت حلو الثغر حلو نباتها ... فيرشف أرياقا ألذ من الخمر )
( وإن لمعت في ثغرها وتبلجت ... دع ابن جلا يقرع ثناياه في الثغر )
( على عودها كم للرباب مواقع ... وموصولها يغني عن الناي والزمر )
( وإن قطعوا موصولها شببت به ... أولو الذوق تشبيبا شفى غلة الصدر )
( وترفع بعد النصب والكسر جرها ... فتجزم ما للفارسي من الذكر )
( وهمزاتها همزات وصل وقطعها ... إذا ما أميلت جائز لك يا مقري )
( وفي أول الأعراف تروي من الظما ... وتضرم نيران الجوى وهي في العصر )
( ومن حلها إن أفرغت في قوالب ... يقول الورى هذا هو السكر المصري )
( ومن أجل ذا عنها ابن سكرة روى ... وأما النباتي قال من ههنا قطري )
( كذا ابن الجلاوي قلبه معها يرى ... كسيرا وكم قد أوردته لظى الجمر )
( فيا من حلا ذوقا وحل بدائعي ... وفي عقد الألغاز يا نافث السحر )
( تأملت بعد الحل كيف تنوعت ... حلاوتها حتى رقت منبر الشكر )
( بنية فكر من حماة تغربت ... وغربتها والله قد أشغلت فكري )
(2/351)
________________________________________
( ومن شط ذاك النهر يا بحر قد أتت ... فلا تنهروها فهي في جيرة البحر )
( سعت من أبي بكر لأحمد خدمة ... وأحمد من أولى الورى بأبي بكر )
( فلا زلت في حل وظعن مؤملا ... لكل غريب جاء حتى من الشعر )
قلت وبعد قصب السكر يحلو أن نورد هنا شيئا مما ألغزوه في العسل فمن ذلك ما كتب به الشيخ شرف الدين عيسى العالية إلى سيدنا الشيخ الإمام العالم العلامة بدر الدين بن الدماميني وهو
( يا أيها المولى الرئيس ومن له ... ألفت مدحا كالجواهر نظمه )
( اسمع سمعت الخير أمرا محكما ... يمضي على الألغاز جمعا حكمه )
( قالوا من الأطيار حقا أصله ... أكرم به لغزا يروقك طعمه )
( لكنه ما حاز منقارا ولا ... ريشا وأجنحة ولست أذمه )
( من أين يعرف ما اسم شيء ربما ... أكلته في بعض المجاعة أمه ) فأجابه الشيخ بدر الدين بقوله
( يا فاضلا نثر المحاسن نظمه ... وللغزه قد ذل عجزا خصمه )
( وتطرزت حلل البديع بمنطق ... منه علا بين الأفاضل رسمه )
( شرف لأعراض البدائع سابق ... ومن الفضائل قد توفر قسمه )
( ألغزت في اسم عاطل حليته ... بنفيس در صح فينا يتمه )
( فإذا أضفت القلب منه لأصله ... قلنا بهذا الفعل قد وضح اسمه )
( وإذا عكست الأصل منه فهو إن ... أعربت لحن ليس يجهل حكمه )
( قد كانت الأذهان منه خلية ... فحوت به شهدا لذيذا طعمه )
( ورأى ابن سكرة حلاوة طعمه ... فقضى بتقطير المرارة وهمه )
( ورأى بعين لغزك الحلو الجنى ... حلو المذاق فحار فيه فهمه )
( وأعاذه بعلى أمير النحل إذ ... أضحى عليا في الفصاحة نظمه )
( فاصفح بفضلك عن جواب سافل ... يا طالعا في خير أفق نجمه )
قلت وعلى ذكر العسل يحلو أيضا أن نورد هنا ما ألغزه مولانا المقر المرحومي القاضي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي في سكر نبات وكتب به إلي وهو
(2/352)
________________________________________
( يا قاضي الأدب احكم لي فذا أدبي ... حلا مذاقا ووقع لي بتحسين )
( واقبل شهادة ما أهديته تر من ... تصحيف معكوسه ثان يزكيني ) ورسم لي بحل اللغز والجواب فألغزت مع الحل لغزا زائد الحلاوة في قطر وهو
( أهديت لغزا حلا ذوقا مكرره ... فانحل مذ حل في قلبي بتمكين )
( وفزت منه بشكر في مصحفه ... وجاء منه بثان قلت يكفيني )
( تصحيف معكوسه من غير تزكية ... وحكمه ثابت عندي بتبيين )
( حماة منبته لكن بمصر له ... مزية تزدري نبت الرياحين )
( فحل منه لنا لغزا مجانسه ... يحل أحشاء أرضينا فيرضيني )
( يرادف اسم رباب فهو يطربني ... هذا وتصحيفه في العيد يأتيني )
( حلو رقيق بلا حشو لذائقه ... لأن قطر النباتي عنه ينسيني )
( فلا برحت برغم الكسر تجبرني ... وكلما مر لي عيش تحليني )
قلت وعلى ذكر القطر يحلو أن نورد هنا شيئا من بديع ما ألغزوه في الكنافة والقطائف فمن ذلك ما ألغزه الشيخ برهان الدين إبراهيم القيراطي في النوعين وهو قوله
( هذان لغزان قد حلا ببابك يا ... قاضي البرية ما هذان خصمان )
( اسمان كل خماسي إذا كتبت ... حروفه فهما لا شك حرفان )
( تباينا في الورى شكلا إذا نظرا ... وصورة وهما في الأصل مثلان )
( هما إلى الصين منسوب مقرهما ... أن أحضرا في مكان بين أخوان )
( لذا كنى وهو بين الناس ليس له ... من كنية ما انتحى في ذلك اثنان )
( في البر يلقى وإن فتشت عنه تجد ... في لجة البحر ملقى خمسة الثاني )
( نبت أرى النار قد أبدت له ورقا ... فاعجب له ورقا ينمو بنيران )
( يحيا إذا ما سقاه القطر وابله ... وجاده بسحاب منه هتان )
( ذو رقة فإذا صحفته ظهرت ... كثافة منه فاستره بكتمان )
( وهذا وكم من بدور فيه قد طلعت ... في آخر الشهر لم تمحق بنقصان )
( فقدها خيط فجر أبيض عجل ... بالبرق يسطو عليها سطوة الجاني )
(2/353)
________________________________________
( واللغز الآخر في اسم ذات ألسنة ... لم يبد منها لنا بالنطق حرفان )
( يا حسنها ألسنا أضحت حلاوتها ... يحلو المديح لها من كل ملسان )
( بالطي والنشر في حال قد اتصفت ... والطي والنشر فيما قيل ضدان )
( كم سكرت ففتحنا بالدخول بها ... أبوابها فتلقتنا بإحسان )
( حسناء أجمع أهل العقد كلهم ... والحل منها عليها بعد عرفان )
( وصالها حل بالإجماع في زمن ... فيه الوصال حرام عند أعيان )
( ثلثا ثلاثة أخماس لها وجدا ... شيئا يجيء بإيضاح وتبيان )
( وما ذكرت من الأخماس قد نطقت ... صدقا بذكر اسمها من غير بهتان )
( وخمسها جبل لكن بقيتها ... في مكة يرتجى فوزا بغفران )
( ما مل راو من القالي أماليه ... عنها وما خاطر القالي لها شاني )
( في الجوف منها قلوب جمة جمعت ... ولا يكون بجوف الشخص قلبان )
( كم ظل يطرحها من ليس ذا شرف ... جهرا ويوصف مع هذا بإتقان )
( بالحل أنعم سقى القطر المواطىء من ... إقدام سعيك من إرواء ظمآن )
وكتب مولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الادمي الحنفي رحمه الله إلى علامة العصر سيدنا ومولانا الشيخ بدر الدين بن الدماميني رحمه الله ملغزا في لوزينج وأجاد إلى الغاية وهو
( يا من له في علوم النظم أي يد ... فاق الخليل بها فضلا وتمكينا )
( ما اسم دوائره في نظمها ائتلفت ... والثلم في صدرها مستعمل حينا )
( أجزاؤه من زحاف الحشو قد سلمت ... هذا ويقطع مطويا ومخبونا )
( تصحيف معكوسه لفظ يرادفه ... يا فرد يا رحلة قوم مقيمونا )
( والعيد منتظر من حله فرجا ... لا زال سعدك بالإقبال مقرونا ) فحله المشار إليه رحمه الله وأجاد إلى الغاية والجواب
( يا مرسلا من شهي النظم لي كلما ... منها ابن سكرة قد راح مغبونا )
( لله درك صدرا من حلاوته ... وجوهر النظم لم يبرح يحلينا )
(2/354)
________________________________________
( حليت لغزك إذ أبهمته فلذا ... يا فاتني رحت بالإعجاب مفتونا )
( هذا وكم قد رأينا في دوائره ... للكف قبضا يزيد العقل تمكينا )
( وليس إضماره مستحسنا فأين ... بالكشف عنه لمن وافاك تحسينا )
( وكن لنا هاديا صوب الصواب ودم ... فينا أمينا رشيد العقل مأمونا )
والله تعالى يمن على أفواه شاكريه بما هو أشهى من اللوزينج وأحلى ويحلي أعناق المتأدبين من كلمه بما هو أنفس من الدر وأغلى
وكتب الشيخ بدر الدين المشار إليه أيضا لغزا في دواة وجهزه إلى المقر المرحومي الأميني المقدم ذكره وهو هذا
( كتبت وأعذاري إليك تقرر ... ونظمي بها يا كاتب السر يجهر )
( أتتك بأبيات المعاني فرضتها ... وحكت حبير اللفظ وهو محرر )
( وحليت أهل العصر إذ كنت خاتما ... لهم فعليك الان يعقد خنصر )
( وما أنت إلا البحر جاش عبابه ... ولكن رأينا منك علما يجسر )
( فما كلمة أفديك دام اعتلالها ... وفيها دواء إن عراها تغير )
( ويحفظها ذو السر وهي التي وشت ... وذلك من عاداتها ليس يترك )
( وما مسها إلا وجادت بنفسها ... وصحف ترى المقصود بالنفس يظهر )
( وتحمل سمر الخط رايات ملكها ... على الرأس عباسية حين تخطر )
( كحيلة طرف تعشق العين شكلها ... ويحسن مراها إذا ما تحبر )
( مؤنثة كم ذكرتنا بلونها ... عهود الصبا والشيء بالشيء يذكر )
( وكم قد أرانا ريقها من مسلسل ... يلذ به في الذوق ورد ومصدر )
( وكم لاقت الأحبار منها محاسنا ... فعادت لها الجهال بالعي تحصر )
( مسودة إن ترض فالعيش أخضر ... وإن غضبت فالموت لا شك أحمر )
( ويعذب للسمر الرقاق رضابها ... فتنهل منها موردا لا يكدر )
( لقد أحكمت والنسخ ما زال دأبها ... بذلك قد جاء الكتاب المسطر )
( وما هي إلا ذات متربة غدت ... وكم ذي غنى عن قصدها ليس يفتر )
(2/355)
________________________________________
( ولسنا نراها غير سائلة ولم ... تفه بسؤال فاعترانا التحير )
( فانعم بحل اللغز يا خير منعم ... فأنت به والله أجدى وأجدر )
( فلا زالت الأقلام تسعى لشكركم ... على رأسها طول المدى لا تقصر ) فكتب المقر المرحومي الأميني الجواب بعد أيام وهو قوله
( مواقع أقلام لها الفضل ينشر ... وروضة اداب بها القلب يجبر )
( تحرر معنى حسنه نسيج وحده ... فيا حبذا الاسكندري المحرر )
( تشق على الأفهام شقة شأوها ... فكم من بليغ عن مداها يقصر )
( أتت سهلة الألفاظ ممنوعة الذرا ... حماها من العلياء لا يتسور )
( تشير إلى الحبلى التي عز وضعها ... فأحشاؤها فيها الأجنة تقبر )
( ينامون لا تغشاهم سنة الكرى ... فإن هب فرد ظل يسعى ويحضر )
( وإن أرشفته من زلال رضابها ... تهادى بها نشوان يمشي ويعثر )
( وأما إذا اعتموا السواد فكلهم ... خطيب له فوق الأنامل منبر )
( وينطق عن علم وطول نباهة ... وعما رآه في المنام يعبر )
( تطاول سمر الخط أنى تشامخت ... سموا ومع هذا على الطول تقصر )
( وكل بني الآداب تلفى بيوتهم ... تقام بها بين الأنام وتعمر )
( فأكرم بما قد ولدته وأنشأت ... وربت ويكفيها بذلك مفخر )
( نجية وجهي إن جلست ووجهها ... تجاهي وجاهي عندها ليس يحقر )
( وقد فتحت فاها فقالت وقصرت ... وأنى استقالت فهي في ذاك تعذر )
( فلا زلتم أهل الجمال وخيركم ... لدى النقص مثلي فهو حظ موفر )
( بمدحكم الأقلام يضحك سنها ... بحق وأفواه الدواة تقطر ) ويعجبني من الألغاز في التورية قول شهاب الدين الغزاوي في قوس وهو
( ما عجوز كبيرة بلغت سنا ... طويلا وتتقيها الرجال )
( ولها في البنين سهم وقسم ... وبنوها كبار قدر نبال ) ومن غريب ما أعجبني في هذا الباب قول القائل في كمون وهو
(2/356)
________________________________________
( يا أيها العطار اعرب لنا ... عن اسم شيء قل في سومك )
( تنظره بالعين في يقظة ... كما ترى بالقلب في نومك ) ومثله قول شمس الدين الهيتي في ورق وهو
( وشيء بلا جرم يصلب تارة ... ويقطع حينا في حضور وأسفار )
( ومن قدم قد بيض الله وجهه ... على أنه ما انفك يوما عن القار ) ومن لطائف الشيخ شمس الدين بن الصاحب في هذا الباب قوله في سهم
( لله مملوك إذا ... ما قام في الشغل اعترض )
( لكنه في لحظة ... محصل لك الغرض ) وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله ملغزا في قلم
( مولاي ما اسم لنا حل دنف ... وما به علة ولا سقم )
( لسان قوم فإن حذفت وإن ... صحفت بعض الحروف فهو فم ) وقال ملغزا في علي
( أمولاي ما اسم جلي إذا ... تعوض عن حرفه الأول )
( لك الوصف من شخصه سالما ... وإن قلعت عينه فهو لي ) ويعجبني في هذا الباب قول ابن المرجاني ملغزا في مشط وهو
( يا إماما سألته حل لغز ... شط منه مزار أهل الذكاء )
( أهمل الثلث باعتناء وقلب ... تره جاء قائد الشعراء ) ويعجبني قول الشيخ صلاح الدين ملغزا في قريشة
( أي شيء يروق للناس أكلا ... ذو بياض وأصله من حشيشه )
( خمسه أثقل الجمادات وزنا ... فتعجب له وباقيه ريشه )
(2/357)
________________________________________
ويعجبني لغز ابن منقذ في الضرس وهو
( وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يسعى لنفعي ويسعى سعي مجتهد )
( لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت ... عيني عليه تفارقنا إلى الأبد )
ومن الغايات التي لم تدرك في هذا الباب قول القاضي صدر الدين بن الادمي رحمه الله ملغزا في كشتوان
( ما رفيق وصاحب لك تلقاه ... معينا على بلوغ المرام )
( هو للعين واضح وجلي ... وتراه في غاية الإبهام ) واستظرف قول بعض مواليا ملغزا في بدرة
( محبوبتي وجهها يغني عن المقباس ... واسمها ينقذ العاشق من الإفلاس )
( إن تعكسوا تجدوا ضدين في الأجناس ... هذا نفور وهذا يقبل الإيناس )
وسألني جماعة من فضلاء أهل الأدب بالديار المصرية أن أنظم لهم لغزا في كرمة وأطلق لهم عنان القلم في ذلك فقلت
( أخبروني عن فاضل بأصول ... وفروع يسمو على كل فاضل )
( أسبغ الله ظله فهو ظل ... سابغ وافر مديد وكامل )
( وأبو محجن يقول ادفنوني ... تحته إن أتاني الموت عاجل )
( كم إلينا قد مد كفا نديا ... فصير العيش أخضرا في المنازل )
( نقط الطل فوقه وضحته ... عند توقيعها به وهو عاطل )
( ما تبدى لنا بعين ولكن ... حرفته وصحفته الأفاضل )
( فرأينا للترك فيه اسم عين ... بفتور الأجفان جاءت تغازل )
( إن تذكره أحرف الكل تبدي ... كرما والندى من الكف هاطل )
( أو تؤنثه يقبل الهاء في الحال ... ومن بعد ذا يرى وهو حامل )
( ويقل شطره لمن عابه مه ... لك هم بالعكس عندي حاصل )
( هو حلو وفيه مرك يبدو ... عند تحريف عكسه المتماثل )
(2/358)
________________________________________
( وبلا أول يرى فعل أمر ... واقلب الفعل منه فالأمر حاصل )
( وهو خشب مسندات ولكن ... حاز نجلا يبدو رقيق الغلائل )
( ومن العز جسمه الغض يدمى ... وتراه من بعد ذا وهو ذابل )
( وإذا ما فرطت فيه تراه ... لم يحل عنك وهو نعم الخصائل )
( ذو بياض وحمرة ولدا لي ... فرحا راح ساريا في المفاصل )
( فتراه يوما عقود بلخش ... نظمت سلكها بغير أنامل )
( وتراه يبدو عقود جمان ... ما لها غير ثغر حبي مماثل )
( وتراه طورا سلافة راح ... ولدر الحباب فيها حواصل )
( وعلى عوده يغني علينا ... أعجمي به تهيج البلابل )
( لك منه فواكه وشراب ... كل غض إليك تلقاه واصل )
( وحلاواته بها كل قلب ... كسروه والكسر للقلب حامل )
( وترى وصله بمصر قليلا ... وهو بالشام لا يزال يواصل )
( وتراه بذات عرق مقيما ... في نعيم وظله غير زائل )
( وإذا قلت في المخيم بالغور ... رأيناك فيه أصدق قائل )
( ولقد جاءنا بعتب لطيف ... عند تصحيفه لمن هو هازل ) ( كيف لا والكتاب عن جنتيه ... قد أتى مخبرا بكل الفصائل )
( فتفكه من حله بقطوف ... دانيات لكل آت وراحل )
( وأقم تحت ظله فهو لغز ... ظله ظاهر على كل قائل )
( ثم دم للألغاز في الحل والعقد ... غني إذا أتى اللغز سائل )
قلت ومما ألحقوه بالألغاز ما حكي عن بعض ولاة الطوف ببغداد جاؤوا إليه بغلامين غلب عليهما السكر فقال لأحدهما من أبوك فقال
( أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود )
( ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود )
(2/359)
________________________________________
فأطلقه وعظم في عينه وقال هذا أبوه من بيت كبير وقال للآخر من أبوك فقال
( أنا ابن من دانت الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها )
( تأتيه بالرغم وهي صاغرة ... يأخذ من مالها ومن دمها )
فقال الوالي ما أشك أن هذا أبوه كان ملكا شجاعا فأمر بإطلاقهما فلما انصرفا كان في المجلس رجل نبيه فقال للوالي الشاب الأول كان أبوه فوالا والثاني كان أبوه حجاما فأعجب الوالي منه ذلك فقال
( كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك مضمونه عن النسب )
( إن الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي ) وبيت الشيخ صفي الدين على الألغاز في بديعيته
( حران ينقع حر الكر غلته ... حتى إذا ضمه برد المقيل ظمي )
الشيبخ صفي الدين ألغز هنا في السيف فإنه يروى في حر الكر بالدماء وإذا أدخل القراب الذي كنى به عن برد المقيل كان ظامئا
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( إن المنافق لغز قلبه زغل ... وهو المعمى كمثل الأرزة الرزم )
قلت الشيخ عز الدين غفر الله له لم يأت في بيته بغير الجناس المقلوب في لغز وزغل وأما التعمية بالأرزة الرزم فما علمت ما المراد منهما حتى نظرت في شرحه فوجدته قد قال الرزم القائم والأرزة شجرة الصنوبر فما ازددت في التعمية غير تعمية وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( وكلما ألغزوه حله لسن ... مذ طال تعقيده أزرى بفهمهم )
(2/360)
________________________________________
قد تقدم وتقرر أن أحسن التعمية في اللغز ما أسفر بعد الحل عن تورية بديعة في بابها وهذا البيت أيضا بديع في هذا الباب فإن اللغز في الرمح والتورية في لسن لأن لسان الرمح لسان القائل في التورية للتكليم وفي التعقيد المشترك بين تعقيد اللغز وتعقيد الرمح وأما المناسبة بين الحل والتعقيد والإزراء بالفهم بعد ذكر الألغاز فمحاسنها لا تخفى على حذاق الأدب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
(2/361)
________________________________________
ذكر سلامة الاختراع
( وقده باختراع سالم الف ... يبدو بترويسه من رأس كل كمي )
هذا النوع أعني سلامة الاختراع هو أن يخترع الشاعر معنى لم يسبق إليه كقول عنترة في وصف الذباب
( وخلا الذباب بها فليس بنازح ... غردا كفعل الشارب المترنم )
( هزجا يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم )
هذا المعنى إذا تأمله المتأدب وتخيله في فكره يجده غريبا في بابه فإنه قال إن هذا الذباب لما خلا بهذه الروضة التي أعاد الضمير إليها في قوله بها صار هزجا مترنما يحك ذراعه بذراعه من الطرب الذي اعتراه فشبهه عنترة برجل أجذم قاعد يقدح زنادا بذراعيه والأجذم المقطوع اليد والتقدير في البيت قدح الأجذم المكب على الزناد انتهى
ومنه قول ابن الرقاع في تشبيه قرن الخشف
( يزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها )
( وعدوا قول ابن الرومي من المخترعات التي لم يسبق إليها فإنه قال في تشبيه الرقاقة حين يبسطها الخباز
(2/362)
________________________________________
( لم أنس بالأمس خبازا مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر )
( ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر )
( إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر ) وأجمعوا على أن قول أبي الطيب من الاختراعات التي لم يسبق إليها وهو قوله
( حلفت وفيا إن رددت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا )
قلت أما أبو الطيب فإنه شن الغارات على معاني المتقدمين كثيرا وما خفي ما أورده عليه الحاتمي في الحاتمية وكان قد عن لي أن أورد في هذا الشرح المبارك له ولمن تقدمه ولمن تأخر عنه جملة مستكثرة مما وقع لهم من معانيهم من سلامة الاختراع بالنسبة إلى اطلاعي وخفت أن يقع اختياري على معنى أعده لصاحبه من سلامة الاختراع فيأتي من تبحر في اطلاعه على معنى له لغيره ممن تقدمه فأضربت عن ذلك وجنحت إلى ذكر ما وقع لي في نظمي من سلامة الاختراع التي لم أسبق إليها ولا حام طائر فكر غيري عليها فمن ذلك قولي من قصيدة رائية
( وحمرة الخد أبدت خيط عارضه ... فخلت كأس مدام وهو مشعور )
( ومذ بدت نسمات الثغر باردة ... بدا بإغضاء ذاك الجفن تكسير ) وقلت منها في وصف القلم
( له يراع سعيد في تقلبه ... إن خط خطا أطاعته المقادير ) ومنها
( وأشقر يده البيضاء غرته ... له إلى الرزق فوق الطرس تيسير )
( بل أسمر عينه السوداء يلحظها ... وهدب أجفانها تلك المشاعير )
(2/363)
________________________________________
ومثله قولي من القصيدة
( كذا محابره سود العيون فإن ... دنت أياديه فهي الأعين الحور ) ومنه قولي من قصيدة ميمية
( حين قابلت خده بدموعي ... أثرت خلت ثوب خز منمنم ) ومنه قولي في وصف حماة من قصيدة طائية
( ينظم بالشطين در ثمارها ... عقودا لها العاصي رأيناه كالسمط )
( وقد مد ذاك النهر ساقا مدملجا ... وراح بنقش النبت يمشى على بسط )
( لوينا خلاخيل النواعير فالتوت ... وأبدت لنا دورا على ساقة الشط ) وقلت من قصيدة أخرى
( وعاص رحيب الصدر قد خر طائعا ... ودولا به كالقلب يخفق في الصدر ) وقلت من قصيدة أخرى
( وهززت فيه كل عود أراكة ... أضحى بهاتيك الثغور مطيبا ) والمعنى المخترع قولي بعده
( ودخلت كل خباء زهر قد غدا ... بدموع أجفان الغمام مطنبا ) ومن اختراعاتي التي لم أسبق إليها وسارت الركبان بها قولي في المدائح المؤيدية
( فرج على الملجون نظم عسكرا ... وأطاعه في النظم بحر وافر )
( فانبت منه زحافه في وقعة ... يا من بأحوال الوقائع شاعر )
( وجميع هاتيك البغاة بأسرهم ... دارت عليهم من سطاك دوائر ) والمعنى المخترع فيها قولي
( وعلى ظهور الخيل ماتوا خيفة ... فكأن هاتيك السروج مقابر )
(2/364)
________________________________________
ومنها في سلامة الاختراع قولي
( وإذا مددت يراع رمحك ماله ... إلا قلوب الدارعين محابر )
( ونعال خيلك كالعيون ومالها ... إلا جماجم من قتلت محاجر ) ومنه قولي متغزلا في مليح مشطوب
( بالصدع أبدى شطبة ... من شكله محوط )
( سألته عن أمرها ... فقال زاد اللغط )
( قلتم بدا لي عارض ... مشكل منقط )
( جئت شطبت فوقه ... وقلت هذا غلط ) ولي من قصيدة بديعة مشتملة على وصف متنزهات حماة المحروسة
( والنبت يضبطها بشكل معرب ... لما يزيد الطير في التلحين ) والمعنى المخترع قولي بعده
( والغصن يحكي النون في ميلانه ... وخياله في الماء كالتنوين ) وقلت في مطلع قصيدة
( ألف القد مدها لي بعزه ... وعليها من عطفة الصدغ همزه ) وقلت من قصيدة فائية
( وعارضه في الوضع لام وصدغه ... إذا مدها من فوقه تتكوف )
ولعمري إن الشرح قد طال ولولا خشية الإطالة لذكرت من هذا الباب قدرا وافيا بالنسبة إلى ما أدى إليه اجتهادي وقلت إني مخترعه وبشهادة الله إني ما تطفلت بالنسبة إلى علمي على معنى لغيري اللهم إلا أن تكون أحكام المواردة قد حكمت علي فالحكم لله العلي الكبير
(2/365)
________________________________________
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على سلامة الاختراع قوله
كادت حوافرها تدمي جحافلها ... حتى تشابهت الأحجال بالرثم )
( جحفلة الفرس شفته العليا والرثم بياض شفتيه وكأنه يقول إن هذه الفرس لسرعة جريانها اتصلت أحجالها إلى شفتها فتشابها في البياض
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله في بديعيته قوله
( سلامة لاختراعي في علا هممي ... اسمي وفعلي كحرف عند رسمهم )
وقال في الشرح إسمي علا وفعلي علا والحرف المشبه بهما على هذا المعنى على الذي هو معدود من حروف الجر قلت لو ألحق الشيخ عز الدين ما قاله هنا بالألغاز لكان أقرب وأليق فإن سلامة الاختراع وغرابة المعنى عنه بمعزل وبيت بديعيتي تقدمه قولي في الألغاز بالرمح بقولي
( وكلما ألغزوه حله لسن ... مذ طال تعقيده أزرى بفهمهم )
ولم أخرج عن الرمح بل قلت مخترعا فيه اختراعا بعد من المرقص والمطرب بعد بيت الألغاز وهو
( وقده باختراع سالم ألف ... يبدو بترويسه من رأس كل كمي )
تقدم قولي أنه كان عن لي أن أورد هنا من سلامة الاختراع للمتقدمين والمتأخرين جمل مستكثرة ولم يصدني عن ذلك إلا الخيفة ممن تبحر علي في المطالعة فيورد ما أثبت من المعنى المخترع لزيد أنه مسبوق إليه من عمرو فأردت أن أخلص من هذا الاعتراض وأورد هنا نبذة من مخترعات ابن حجاج فإنه منوال ما نسج عليه غيره وقد تقدم قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في ديباجة كتابه المسمى بتلطيف المزاج من شعر ابن الحجاج وأما أشعار أبي عبد الله الحسيني بن حجاج فإنه أمة غريبة تبعث وحدها وذرية تبلغ بإتقان اللهو رشدها فمن ذلك قوله
( يا ديمة الصفع صبي ... على قفا المتنبي )
(2/366)
________________________________________
( وأنت يا ريح بطني ... على عذاريه هبي )
( ويا قفاه تقدم ... واقعد قليلا بجنبي )
( وإن صفعتك ألفا ... فلا تقولن حسبي )
( وقد تعشقت معنى ... طرطورك المتعبي )
( يا لحية هي عن أهل ... شيخنا النذل تنبي )
( قومي ادخلي جوف بطني ... فقد وقعت بقلبي )
( وأنت عندي مكان ... السواد من عين صلبي ) ومنه قوله
( كأنما باب سور مبعرها ... عنقود كرم مزبب العنب )
( كأنما الأير فوق عصعصها ... راكب حمارة على قتب ) ومنه قوله ( جارية قد سمطت فيشتي ... بوهج حمى سرمها الصالب )
( أخذت في الليل مجس استها الحامي ... وقد نامت إلى جانبي )
( أوجب إخراج دم فاسد ... من عين قيفال استها الضارب )
( لبظرها الأسود دنية ... تصلح للقاضي أبي السائب )
( خطبت بالأمس عليها استها ... فأنعمت للخاطب الراغب )
( وبات أيري رافضي الخصى ... يعطي قفا مبعرها الناصب ) وقال أيضا
( قوموا افتحوا باب سرمها ولجوا ... فكل عضو من استها شرج )
( قوموا فعين استها لرؤيتكم ... بالليل فوق الفراش تختلج )
( إن لم يسعكم ممر عصعصها ... فثم بالطول تحته أزج ) ( وفي استها خاتم للولبه ... طوق محلى وفصه سبج )
( إذا الخصي صافح استها خريت ... تحتي وبالبيض تعمل العجج ) وقال أيضا
( بأبي من تمكنت من فؤادي ... فأنا الدهر كله في اجتهاد )
( قدها في القياس من قوم يأجوج ... ولكن بظرها قوم عاد )
(2/367)
________________________________________
( وقفت لي فبستها من قعود ... بوسة بردت غليل فؤادي )
( ولها شعرة ولا زبد البحر ... بياضا وعصعص كالمداد )
( وحر أشمط العذارين الحى ... فيه سمت النساك والعباد )
( بظرها فوقه كدنية الحاكم ... يوم انحداره في السواد )
( ما توهمته وحقك إلا ... بعض أصحابنا بني حماد )
( يوم حاملتها فلما أحست ... في خراها بمثل شرط الفصاد )
( جذبت لحيتي وقالت أيا شيخ ... ترى أنت كافر بالمعاد )
( أنت ممن يبغي خلافا على الله ... ويسعى في أرضه بالفساد )
( قلت كفي إنا وجدنا على هذا ... أيور الآباء والأجداد )
( عرفيني وخبريني متى كانت ... سيوف الخصي بلا أغماد ) ومن غاياته في هذا الباب قوله
( مولاي يدعوك شيخ لا وقار له ... حتى القيامة سكران ومخمور )
( ما فيه للشيب إكرام فيزجره ... عن الخمور ولا للسن توقير )
( يقول بالأمرد المصقول عارضه ... مقسما فيه تأنيث وتذكير )
( وبالفتاة التي تنور مدخلها ... بعد العشا لشوى الخصيان مسجور )
( وبالعجوز التي في أصل عنبلها ... غداة بعث المخاصي ينفخ الصور )
( زبال زرع استها يسقى بدالية ... وبظرها واقف في الزرع ناطور )
( لها حر أشمط قد شاب مفرقه ... عليه بظر طويل فيه تدوير )
( كأنه شاعر قد جاء من حلب ... شيخ على رأسه المحلوق طرطور )
هذا الاستطراد في البيت الأخير استطرد فيه إلى أبي الطيب وهو في غاية اللطف والظرف وقد تقدمت إشارته إلى طرطوره في الأبيات المتقدمة البائية ومن اختراعاته في هذا الباب قوله ( أحب من الكس تقبيله ... إذا كان في شفتيه لعس )
(2/368)
________________________________________
( ويعجبني منه أنى إذا ... نقرت أنفه بقمدي عطس )
( وواسعة السرم تشكو استها ... إذا مسها النيك ضيق النفس )
( فتاة لدرب استها حارس ... يعلق من خصيتيه جرس ) ويعجبني قوله من قصيدة
( في إستها سدرة إذا نفضوها ... جمعوا لي من تحتها كف نبق )
( وهو نبق بلا نوى أسود اللون ... إذا لكته تحمض شدقي )
(2/369)
________________________________________
ذكر التفسير
( وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى ... كم فسروا من بدور في دجى الظلم )
هذا النوع أعني التفسير من مستخرجات قدامة وسماه قوم التبيين وهو أن يأتي المتكلم أو الشاعر في بيت بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه دون تفسيره إما في البيت الآخر أو في بقية البيت إن كان الكلام يحتاج إلى التفسير في أوله والتفسير يأتي بعد الشرط وما هو في معناه وبعد الجار والمجرور وبعد المبتدأ الذي يكون تفسيره خبره بشرط أن يكون المفسر مجملا والمفسر مفصلا فمن بديع التفسير الذي وقع في بيت واحد قول بعض المغاربة
( صالوا وجادوا وضاؤوا واحتبوا فهم ... أسد ومزن وأقمار وأجبال )
فإنه أحسن الترتيب في عجز البيت كله وجعل المفسر في الصدر بحيث أتى كل قسم مستقلا بنفسه
ومثال ما وقع من التفسير بعد الحروف المتضمنة معنى الشرط قول الفرزدق
( لقد جئت قوما لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملا ثقل مغرم )
( لألفيت منهم معطيا ومطاعنا ... وراءك شزرا بالوشيج المقوم )
والفرزدق ما راعى حسن الترتيب في بيته فإن عندهم عدم الترتيب مع حسن الجوار وقرب الملائم لا ينقص حسن الكلام البليغ ألا ترى إلى قوله تعالى ( يوم
(2/370)
________________________________________
تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم ) ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك ( وأما الذين ابيضت وجوههم )
ومن الأمثلة الواقعة بعد الجار والمجرور في باب التفسير قول شرف الدين القيرواني
( لمختلفي الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن )
( فللخامل العليا وللمعدم الغنى ... وللمذنب العقبى وللخائف الأمن ) ومما جاء من التفسير بعد المبتدأ قول ابن الرومي
( آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم )
( منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم )
قالوا إن هذا أبلغ ما وقع في التفسير من الأمثلة الشعرية فإنه راعى فيه الترتيب أحسن مراعاة ومن بديع هذا النوع قول محمد بن وهيب في المعتصم
( ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحق والقمر ) ومثله في الحسن قول محمد بن شمس الخلافة
( شيئان حدث بالقساوة عنهما ... قلب الذي يهواه قلبي والحجر )
( وثلاثة بالجود حدث عنهم ... البحر والملك المعظم والمطر )
ومن معجز التفسير ما جاء في الكتاب العزيز وهو قوله تعالى ( والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ) فذكر سبحانه الجنس الأعلى أولا حيث قال كل دابة فاستغرق أجناس كل ما دب ودرج ثم فسر سبحانه هذا الجنس بعد ذلك بالأجناس المتوسطة والأنواع حيث قال فمنهم ومنهم ومنهم مراعيا للترتيب وذلك أنه قدم ما يمشي على غير آلة لكون الآية سيقت لبيان القدرة وتعجب السامع وما يمشي بغير آلة أعجب مما يمشي
(2/371)
________________________________________
بالة فلذلك كان تقديمه ملائما لمقصود الآية الشريفة ثم ثنى بالأفضل فأتى بما يمشي على رجلين وهو الادمي والطير لتمام خلق الإنسان وكمال صورته ولما في الطير من عجيب الطيران الدال على الخفة مع ما فيه من الكثافة الأرضية وثلث بما يمشي على أربع لأنه أحسن الحيوان البهيمي وأقواه فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المحاسن وهي صحة التفسير وصحة التقسيم مع مراعاة الترتيب والإشارة وائتلاف اللفظ مع المعنى وحسن النسق والفرق بين التفسير والإيضاح أن التفسير تفصيل الإجمال والإيضاح رفع الإشكال لأن المفسر من الكلام لا يكون فيه إشكال وبيت صفي الدين على التفسير قوله
( هم النجوم بهم يهدى الأنام ... وينجاب الظلام ويهمي صيب الديم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله
( ذكر الإمام وابنيه يفسره ... علي والحسنان أكرم بذكرهم ) الشيخ عز الدين ما أفادنا في التفسير هنا شيئا
وبيت بديعيتي أقول فيه عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى ... كم فسروا من بدور في دجى الظلم )
هذا هو التفسير الذي لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه في الشطر الأول من البيت إلا بتفسيره من الشطر الثاني على الترتيب وأما ذكر الإمام علي كرم الله وجهه وذكر ولديه عليهما السلام في بيت الشيخ عز الدين رحمه الله فإنه غير محتاج إلى تفسير والله أعلم
(2/372)
________________________________________
ذكر حسن الاتباع
( ذكراه يطربهم والسيف ينهل من ... أجسامهم لم يشن حسن اتباعهم )
هذا النوع أعني حسن الإتباع هو أن يأتي المتكلم إلى معنى اخترعه الغير فيحسن اتباعه فيه بحيث يستحق بوجه من الوجوه الزائدة التي توجب للمتأخرين استحقاق معنى التقدم إما باختصار لفظه أو قصر وزن أو عذوبة لفظ أو تمكين قافية أو تتميم نقص أو تحلية من البديع توجب الاستحقاق كاتباع أبي نواس جريرا في قوله
( إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا ) فنقل أبو نواس المعنى من الفخر إلى المدح بقوله
( وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد )
فزاد زيادات منها قصر الوزن وحسن السبك وإخراج كلامه من الظن إلى اليقين وأيضا فإن ذكر العالم أعم من ذكر الناس في بيت جرير
وعدوا من الشواهد الحسنة في حسن الاتباع قول منصور النميري في زينب أخت الحجاج وأترابها وهو
( وهن اللواتي إن برزن قتلنني ... وإن غبن قطعن الحشا حسرات )
(2/373)
________________________________________
فأحسن اتباعه ابن الرومي بقوله
( ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم )
قلت وقع السهام ونزعهن بعد ويلاه في بيت ابن الرومي تركت بيت النميري أطلالا بالية وقال أبو عبادة البحتري
( أخجلتني بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء )
( صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجبا وبر راح وهو جفاء ) وأحسن أبو العلاء وقال
( لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر )
لأنه استوعب معنى البيتين في صدر بيته وأخرج العجز مخرج المثل السائر مع الإيجاز والإيضاح وحسن البيان وقال عنترة
( إني امرؤ من خير عبس منصبا ... شطري وأحمي سائري بالمنصل )
فأحسن اتباعه منصور الفقير في شريف نسبه وكان شرفه من جهة أبيه لا من جهة أمه بقوله
( إن فاتني بأبيه ... فلم يفتني بأمه )
( ورام شتمي ظلما ... سكت عن نصف شتمه )
فإن هذا الفقيه أحسن غاية الإحسان من وجوه أحدها الإيجاز فإنه عمل معنى عنترة الذي جاء به في بيت تام من الكامل في بيت من المجتث وأتى بالمطابقة المعنوية فأما قوله سكت عن نصف شتمه ففيه من التأدب الديني مع رسول الله والاحتراس ما يزيد على الوصف وقال ابن الرومي
( تخذتكم درعا حصينا لتدفعوا ... نبال العدا عني فكنتم نصالها )
(2/374)
________________________________________
( وكنت أرجي منكم خير ناصر ... على حين خذلان اليمين شمالها )
( فإن كنتم لا تحفظون مودتي ... ذماما فكونوا لا عليها ولا لها )
( قفوا وقفة المعذور عني بمعزل ... وخلوا نبالي للعدا ونبالها ) فأحسن ابن سنان الخفاجي اتباعه بقوله
( أعددتكم لدفاع كل ملمة ... عونا فكنتم عون كل ملمة )
( وتخذتكم لي جنة فكأنما ... نظر العدو ومقاتلي من جنتي )
( فلأنفضن يدي يأسا منكم ... نفض الأنامل من تراب الميت ) ويعجبني هنا قول القائل
( وأخوان حسبتهم دروعا ... فكانوها ولكن للأعادي )
( وخلتهم سهاما صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي )
( وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي ) وقال ابن الرومي
( سد السداد فمي عما يريبكم ... لكن فم الحال عني غير مسدود ) وأحسن زكي الدين بن أبي الأصبع اتباعه فقال
( هبني سكت فما لسان ضرورتي ... أهجى لكل مقصر عن منطقي ) وقال سليك بن سلكة
( وتبسم عن ألمى اللثاة مفلج ... خليق الثنايا بالعذوبة والبرد )
( وما ذقته إلا بعيني تفرسا ... كما شيم برق في السحابة من بعد ) وقال نصيب
( كأن على أنيابها الخمر شجها ... بماء الندى في آخر الليل عابق )
( وما ذقته إلا بعيني تفرسا ... كما شيم في أعلى السحابة بارق )
(2/375)
________________________________________
وأحسن بشار بن برد اتباعهما بإيجازه وقال
( يا أطيب الناس ريقا غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك ) وقال السموأل
( يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه اجالهم فتطول ) فأحسن بشار اتباعه بزيادة محاسن فقال أفناهم الصبر إذ أبقاهم الجزع وقال الأسود ابن يعفر
( يسعى بها ذو توأمين كأنما ... قنأت أتأمله من الفرصاد ) وأحسن أبو نواس إتباعه بزيادة من المحاسن وقال
( تبكي فتذري الدمع من نرجس ... وتلطم الورد بعناب )
استوفى أبو نواس المعنى في نصف بيت وأخذه الرأواء الدمشقي من أبي نواس وزاد عليه زيادة عجيبة بقوله
( وأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد ) وقال مسلم بن الويد
( تجري محبتها في قلب عاشقها ... مجرى المعافاة في أعضاء منتكس ) فأحسن أبو نواس اتباعه فقال
( فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم ) وجميع ذلك مأخوذ من قول بعض الملوك باليمن
( منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي )
( تجري على كبد السماء كما ... يجري حمام الموت في النفس )
نقل أبو هلال العسكري في الصناعتين عن الصولي أنه قال حدثني أبو بكر بن هارون بن عبد الله المهلبي قال كنا في حلقة دعبل الشاعر فجرى ذكر أبي تمام
(2/376)
________________________________________
فقال دعبل كان يتبع معاني فيأخذها فقال له رجل في مجلسه مثل ماذا أعزك الله فقال قلت
( وإن امرأ أسدى إلي بشافع ... إليه ويرجو الشكر مني لأحمق ) فأخذه أبو تمام وقال
( وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله )
فقال الرجل أحسن والله فقال دعبل كذبت والله قبحك الله فقال الرجل إن كان سبقك بهذا المعنى وتبعته فما أحسنت وإن كان أخذه منك فقد أجاد فصار أولى به منك على الحالين فغضب دعبل وقام وقال بشار
( من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج ) فأحسن اتباعه سلم الخاسر وقال
( من راقب الناس مات غما ... وفاز باللذة الجسور ) فلما سمع بشار هذا البيت قال قد ذهب ابن الفاعلة ببيتي
وممن زاد على المتقدمين بحسن سبكه وعذوبة لفظه ابن المعتز رحمه الله بقوله
( ولاح ضوء هلال كاد يفضحه ... مثل القلامة قد قدت من الظفر ) وهو مأخوذ من قول الأول
( كأن ابن ليلته جانح ... إلى مسقط الأفق من خنصر ) وقال أبو لعتاهية
( كم نعمة لا تستقل بشكرها ... لله في طي المكاره كامنه ) فأحسن أبو تمام اتباعه فقال
( قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله أدنى القوم بالنعم )
(2/377)
________________________________________
فزاد عليه إلا أنه أتى بعكس المعنى وما يعرف للمتقدمين معنى شريف إلا نازعهم إياه المتأخرون وطلبوا الشركة معهم فيه إلا قول عنترة وخلا الذباب بها فليس بنازح فإنه ما نوزع في هذا المعنى على جودته وقد رامه بعض المجتهدين فافتضح وتقرر ذلك في بيت سلامة الاختراع وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على حسن الاتباع قوله
( ينازع السمع فيها الطرف حين جرت ... فيرجعان إلى الآثار في الأكم ) بيت الشيخ صفي الدين مأخوذ من قول القائل
( وطرف يفوت الطرف في جريانه ... ولكن للأسماع فيه نصيب ) والعميان ما نظوا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( والجزع حن إليه بعد فرقته ... حسن اتباع لتلك الأربع الحرم )
ذكر الشيخ عز الدين في شرحه أنه اتبع الفرزدق في قوله في مديح الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي عليهما السلام وهو هذا
( هذا ابن من تعرف البطحاء وطأته ... والركن يعرفه والبيت والحرم ) وبيت بديعيتي تقدمه قولي في حق الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى ... كم فسروا من بدور في دجى الظلم ) ثم إني قلت بعده في حسن الاتباع عن الصحابة
( ذكراه يطربهم والسيف ينهل من ... أجسامهم لم يشن حسن اتباعهم ) هذا المعنى سبقني إليه الشيخ شرف الدين بن الفارض وكنت في صغري أترنم به وهو قوله
( فلي ذكرها يحلو على كل صيغة ... ولو مزجوه عذلي بخصام )
الشيخ شرف الدين قرر إن ذكر محبوبه يحلو ولو كان في محل خصام من
(2/378)
________________________________________
العذال وقولي أبلغ في حق الصحابة رضي الله عنهم لأن ذكر النبي يطربهم والسيوف تنهل من أجسامهم وأين الطرب في هذا المقام من يحلو في ذلك المقام وأين المخاصمة بالألسن من التكليم بألسنة السيوف والزيادة التي ما على حسنها من مزيد قولي لم يشن حسن اتباعهم فإن شدة الحرب وتكليم النفوس ما شان حسن السيوف وذهاب الأنفس ما شان حسن اتباعهم للنبي يوما من الأيام والتورية في حسن الاتباع الذي هو المراد من تسمية النوع محاسنها لا تخفى على المنصفين من أهل الأدب والله أعلم
(2/379)
________________________________________
ذكر المواردة
( كأنما الهام أحداق مسهدة ... ونومها واردته في سيوفهم )
هذا النوع أعني المواردة هو أن يتوارد الشاعران على بيت أو بعض بيت بلفظه ومعناه فإن كان أحدهما أقدم من الآخر وأعلى رتبة في النظم حكم له بالسبق وإلا فلكل منهما ما نظمه كما جرى لامرىء القيس وطرفة بن العبد في معلقتيهما وهو قول امرىء القيس
( وقوفا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل )
قال طرفة أسى وتجلد فلما تنافسا في ذلك وأحضر طرفة بن العبد خطوط أهل بلده في أي يوم نظم هذا البيت كان اليوم الذي نظما فيه واحدا وقد يقع مثل ذلك أو دونه في بيت يخالف وزن البيت الأصلي وبيت الشيخ صفي الدين على المواردة قوله
( تهوى الرقاب مواضيهم فتحسبها ... حديدها كان أغلالا من القدم ) وبيت الشيخ صفي الدين ذكر في شرحه أنه نظم بيتا من جملة أبيات وهو
( تهوى مواضيك الرقاب كأنما ... من قبل كان حديدها أغلالا ) ثم ذكر أنه سمع بعد ذلك بيتا لا يعلم قائله وهو
( تهوى الرقاب مواضيه فتحسبها ... تود لو أصبحت أغلال من أسرا )
فأسقط البيت الذي له فلما تعددت عليه الأنواع في نظم البديعية ووصل إلى
(2/380)
________________________________________
المواردة ألجأته الضرورة إلى نظمها ليكون البيت المنظوم منتظما في سلك شواهد بديعيته بحيث لا تخلو من هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله
( بيت المدائح تستوفي علاه ولو ... تواردت في مديح غير منصرم )
الشطر الأول من هذا البيت ذكر الشيخ عز الدين في شرحه أنه توارد هو وأبو الطيب المتنبي عليه
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم ومعنى المواردة في بيت بديعيتي أني كنت مدحت تمر بغاء الأفضلي الشهير بمنطاش ورياحين الشبيبة غضة ونشوة الابتداء تحث على دور كاسات الأدب وكان المشار إليه إذ ذاك كافل المملكة الحموية بقصيدة رائية سارت ببديع محاسنها الركبان واحتوت على معان لم أسبق إليها وتمثلت في غصون نظمها بين يدي شيخي وهو مولانا قاضي القضاة علاء الدين أبو الحسن على القضامي الحنفي رحمه الله وقد علق بخاطري منها أبيات فأنشدته في ذلك الوقت ما علق بخاطري وهو قولي منها
( له مطالعة في الحرب حين يرى ... دم العدا فوق طرس الأرض قد سطرا )
( إن راسل القوم انشا في رسائله ... سجعات ضرب بها الهامات قد نثرا )
( كتابه السيف والخطي له قلم ... والرسل أسهم حتف توضح الخبرا )
( إن كان قد نظم الأعدا مكيدتهم ... فقل لهم إنه من قبلهم شعرا )
( لأنه ببديع الحسن لف لنا ... شملا ولكن لأرقاب العدا نشرا )
( وخط من فوق ألواح الصدور لهم ... بابا من الخوف في أحشائهم وقرا )
( وصار يكتب بالهندي ويعجم بالخطي ... فعل شجاع قد قرا ودرى )
( تراه بالرمح بدرا حاملا غصنا ... وبالتريسة غصنا حاملا قمرا )
( إن جس عودا لضرب مال سامعه ... والخيل يرقصها إن حرك الوترا )
وصار كلما أنشدته بيتا من هذه الأبيات يترنم كثيرا ويرسم لي بإعادته حتى انتهيت إلى قولي
(2/381)
________________________________________
( كأنما الهام أحداق أضر بها ... سهد وأسيافه في الحرب طيب كرى )
فلما سمع هذا البيت لم يترنم كما ترنم للأبيات التي قبله وقال أبو الطيب هو أبو عذرة هذا المعنى ولكن أحسنت الاتباع بقولك أضربها سهد وبقولك في الشطر الثاني طيب كرى فإن فيهما زيادتين حسنتين فالتزمت له بيمين أنني ما ملكت ديوان المتنبي يوما من الأيام ولا طالعته عند الغير وما كنت في ذلك الوقت أطالع غير ديوان الشيخ جمال الدين بن نباتة وديوان الشيخ صفي الدين الحلي فتعجب مولانا قاضي القضاة من ذلك وبالغ في الجبر والثناء ولكني أسقطت البيت من القصيدة خوفا من قدح حاسد فلما وصلت بديعيتي إلى نوع المواردة ألجأت الضرورة إلى نظمه في سلك أنواعها
وبيت المتنبي الذي حصلت المواردة به قوله
( كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد ) وبيت بديعيتي
( كأنما الهام أحداق مسهدة ... ونومها واردته في سيوفهم )
والترشيح أيضا هنا ظاهر في قولي مسهدة والترشيح في تورية المواردة بتسمية النوع وزيادة المعنى غير خاف على أهل الأدب
(2/382)
________________________________________
ذكر الإيضاح
( هذا وتزداد إيضاحا مخافتهم ... في كل معترك من بطش ربهم )
هذا النوع أعني الإيضاح هو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس فلا يفهم من أول وهلة حتى يوضحه في بقية كلامه كقول الشاعر
( يذكرنيك الخير والشر كله ... وقيل الخنى والحلم والعلم والجهل )
( فألقاك عن مكروهها متنزها ... وألقاك في محبوبها ولك الفضل ) معنى البيت الأول ملتبس وما ذاك إلا أنه يقتضي المدح والذم ولكنه أوضحه بقوله
( فألقاك عن مكروهها متنزها ... وألقاك في محبوبها ولك الفضل )
وقد يكون الإيضاح في الوصف الذي لا يتعلق به مدح ولا هجاء وذلك أن يخبر المتكلم بخبر واحد عن شيء واحد يحصل فيه الإشكال فيوضح ذلك الإشكال بما يفهم منه كشف اللبس عن الحد الأول كقول ابن حيوس
( ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كأسه الملأى وعن إبريقه )
( فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه )
فإنه لو اقتصر على البيت الأول أشكل الأمر من جهة الوجه فإنه وإن كان حسنا لا يغني النديم عن الخمر فأزال اللبس في البيت الثاني وأوضحه وقد تقدم وتقرر الفرق بين الإيضاح والتفسير
(2/383)
________________________________________
وبيت الشيخ صفي الدين قوله
( قادوا الشواذب كالأجبال حاملة ... أمثالها ثبتة في كل مصطدم ) العميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( للخير والشر إيضاحا به فبذا ... أمر وعن ذاك نهي حب نصحهم ) والذي أقوله إن الشيخ عز الدين غفر الله له لم يتضح في بيته غير الإشكال
وبيت بديعيتي تقدم قولي قبله في وصف الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بحسن الاتباع والصبر والإقدام إلى أن قلت في المواردة
( كأنما الهام أحداق مسهدة ... ونومها واردته في سيوفهم ) ثم إني قلت بعده في الإيضاح
( هذا وتزداد إيضاحا مخافتهم ... في كل معترك من بطش ربهم )
الإطناب والمبالغة في وصف الصحابة رضي الله عنهم قد تقدم بالشجاعة التي هي فوق الوصف فلما قلت في هذا البيت إن مخافتهم تزداد إيضاحا في كل معترك ظهر اللبس فأوضحته بقولي من بطش ربهم والتورية بتسمية النوع الذي هو المطلوب هنا محاسنها لم تفتقر إلى الإيضاح والله الموفق
(2/384)
________________________________________
ذكر التفريع
( ما العود إن فاح نشرا أو شدا طربا ... يوما بأطرب من تفريع وصفهم )
هذا النوع أعن التفريع وهو ضد التأصيل هو أن يصدر الشاعر أو المتكلم كلامه باسم منفي بما خاصة ثم يصف ذلك الاسم المنفي بأحسن أوصافه المناسبة للمقام إما في الحسن وإما في القبح ثم يجعله أصلا يفرع منه جملة من جار ومجرور متعلقة به تعلق مدح أو هجاء أو فخر أو نسيب أو غير ذلك ثم يخبر عن ذلك الاسم بأفعل التفضيل ثم يدخل من على المقصود بالمدح أو الذم أو غيرهما ويعلق المجرور بأفعل التفضيل فتحصل المساواة بين الاسم المجرور بمن وبين الاسم الداخل عليه ما النافية لأن حرف النفي قد نفى الأفضلية فتبقى المساواة بين ذلك أن تقول ما الزهر إذا بكى الغمام فضحك بأحسن من أخلاق زيد فالمساواة بين الزهر والأخلاق ههنا ثابتة بالشروط المذكورة ومن الأمثلة الشعرية قول الأعشى
( ما روضة من رياض الحسن معشبة ... غناء جاد عليها مسبل هطل )
( يضاحك الزهر منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل )
( يوما بأطيب منها طيب رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل )
(2/385)
________________________________________
وقد يجيء الفرع والأصل في بيت واحد كقول أبي تمام
( ما ربع مية معمورا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب )
( ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب )
فذكر في البيت الأول الأصل والفرع وكذلك في البيت الثاني فالأصل هو الاسم المنفي مع ما ذكر من أوصافه والفرع هو أفعل التفضيل مع ما يتعلق به
ويعجبني في هذا الباب قول إبراهيم بن سهل الاشبيلي نم قصيدة وهو
( وما وجد أعرابية بان دارها ... وحنت إلى بان الحجاز ورنده )
( إذا انست ركبا تكفل شوقها ... بنار قراه والدموع بورده ) ( وإن أوقدوا المصباح ظنوه بارقا ... يحيي فهشت للسلام ورده )
( بأعظم من وجدي بموسى وإنما ... يرى أنني أذنبت ذنبا لوده )
ومن إنشاء القاضي شهاب الدين محمود في هذا الباب قوله وما أم طفل قذفها الزمن العنيد في بعض البيد في أرض موحشة المسالك قليلة السالك قد لمع صوابها وتوقدت هضابها وصرخ بومها ونفر ظليمها وحضر سمومها وغاب نسيمها فلما خافت على ولدها من الظمأ الهلاك أجلسته إلى جنب كثيب هناك ثم ذهبت في طلب الماء للغلام لئلا يقضي عليه الأوام فانتهى بها المسير إلى روضة وغدير وآثار مطي بوارك تدل على أن الطريق هنالك فعادت إلى ولدها مسرعه وكل أعضائها إليه عيون متطلعه فلما شارفت جنب الكثيب رأت ولدها في فم الذيب
( بأكثر مني حسرة وتلهفا ... وأعظم مني حرقة وتأسفا )
( وأغزر دمعا عندما قيل لي الذي ... كلفت به أضحى على البعد مزمعا )
وذكر صاحب الإيضاح للتفريع قسما ثانيا لم يذكره غيره ولا نسج على منواله أصحاب البديعيات فألغيته أيضا والشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع اخترع قسما ثالثا
(2/386)
________________________________________
ولكن وجدت هذا النوع الذي نحن بصدده أحلى في الأذواق وأوقع في القلوب وعلى سننه مشى أصحاب البديعيات فألغيت أيضا ما اخترعه ابن أبي الأصبع رحمه الله
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على هذا النوع في وصف الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( ما روضة وشع الوسمي بردتها ... يوما بأحسن من اثار سعيهم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله
( ما الدوح تفريعه بالزهر متسق ... نظما بأطيب من تعريف ذكرهم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( ما العود إن فاح نشرا أو شدا طربا ... يوما بأطيب من تفريع وصفهم )
هذا البيت فيه نوع التفريع الذي هو القصد هنا والتورية بتسميته والاستخدام ومرعاة النظير وفيه الانسجام والتمكين والله أعلم
(2/387)
________________________________________
ذكر حسن النسق
( من ذا يناسقهم من ذا يطابقهم ... من ذا يسابقهم في حلبة الكرم )
هذا النوع أعني حسن النسق ويسمى التنسيق من محاسن الكلام وهو أن يأتي المتكلم بالكلمات من النثر والأبيات من الشعر متتاليات متلاحمات تلاحما مستحسنا مستبهجا وتكون جملها ومفرداتها منسقة متوالية إذا أفرد منها البيت قام بنفسه واستقل معناه بلفظه كقول شرف الدين القيرواني
( جاور عليا ولا تحفل بحادثة ... إذا ادرعت فلا تسأل عن الأسل )
( سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل )
فالحظ حسن النسق وصحة هذا التركيب فيه واستيعاب هذا التقسيم ووضوح هذا التفسير ومنه قول أبي نواس
( وإذا جلست إلى المدام وشربها ... فاجعل حديثك كله في الكاس )
( وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس )
حسن النسق هنا لأمرين بين فنين متضادين في هذين البيتين وهما المجون والزهد حتى صارا كأنهما فن واحد
(2/388)
________________________________________
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي قوله
( والذئب سلم والجني أسلم والثعبان كلم والأموات في الرحم ... )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( فالضيق أذهب والتوفيق سبب والتنسيق رتب في تصديق حكمهم ... )
وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على وصف الصحابة رضوان الله عليهم بقولي
( من ذا يناسقهم من ذا يطابقهم ... من ذا يسابقهم في حلبة الكرم )
(2/389)
________________________________________
ذكر التعديد
( تعديد فضلهم يبدي لسامعه ... علما وذوقا وشوقا عند ذكرهم )
هذا النوع أعني التعديد ذكره الإمام فخر الدين الرازي وغيره وسماه قوم الإعداد وهو عبارة عن إيقاع أسماء منفردة على سياق واحد فإن روعي في ذلك ازدواج أو مطابقة أو تجنيس أو مقابلة فذلك الغاية في حسن النسق مثاله قوله تعالى ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) ومن امثلة الشعرية قول أبي الطيب المتنبي
( الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم ) وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع قوله
( يا خاتم الرسل يا من علمه ... والعدل والفضل والإيفاء للذمم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت عز الدين في بديعيته قوله
( تعديد أوصافهم في المدح يعجزنا ... أهل التقى والنقا والمجد والهمم ) وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على مدح الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بقولي
( تعديد أوصافهم يبدي لسامعه ... علما وذوقا وشوقا عند ذكرهم )
(2/390)
________________________________________
ذكر التعليل
( نعم وقد طاب تعليل النسيم لنا ... لأنه مر في آثار تربهم )
هذا النوع أعني التعليل هو أن يريد المتكلم ذكر حكم واقع أو متوقع فيقدم قبل ذكره علة وقوعه لكون رتبة العلة تتقدم على المعلول كقوله تعالى ( ولولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) فسبق الكتاب من الله تعالى علة النجاة من العذاب وكقوله لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة فخوف المشقة على الأمة هو علة في التخفيف عنهم من الأمر بالسواك عند كل صلاة ومن أمثلته الشعرية قول البحتري
( ولو لم تكن ساخطا لم أكن ... أذم الزمان وأشكو الخطوبا ) فوجود سخط الممدوح هو علة في شكوى الشاعر
ومنه قول ابن هانىء الأندلسي
( ولو لم تصافح رجلها صفحة الثرى ... لما صح عندي علة للتيمم )
وفي رواية لما كنت أدري وعلى كلتي الروايتين ففي الغلو قبح وإساءة أدب كيف أنه لم يدر علة للتيمم إلا بما ذكر وقد علمت صحة التيمم من نص الكتاب والسنة
ولقد أحسن ابن رشيق القيرواني في تعليل قوله جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا حيث قال
(2/391)
________________________________________
( سألت الأرض لم جعلت مصلى ... ولم كانت لنا طهرا وطيبا )
( فقالت غير ناطقة لأني ... حويت لكل إنسان حبيبا )
فتخلص مما وقع فيه ابن هانىء لكونه سأل الأرض عن العلة وتلطف في استخراج علة مناسبة لا حرج عليه في إيرادها وقد يتقدم المعلول على العلة في هذا الباب وعلى هذا المنوال نسج ابن رشيق
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التعليل قوله
( لهم أسام سوام غير خافية ... من أجلها صار يدعى الاسم بالعلم ) وبيت العميان
( لم تبرق السحب إلا أنها فرحت ... إذ ظللنه فأبدت حسن مبتسم ) وبيت الشيخ عز الدين قوله
( تعليل طيب نسيم الروض حين سرى ... بأنه نال بعضا من ثنائهم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن الصحابة
( نعم وقد طاب تعليل النسيم لنا ... لأنه مر في آثار تربهم )
(2/392)
________________________________________
ذكر التعطف
( تعطف الخير كم أبدوا لمذنبهم ... والخير ما زال في أبواب صفحهم )
التعطف شبيه بالترديد في إعادة اللفظة بعينها في البيت والفرق بينهما أن التعطف شرطه أن تكون إحدى كلمتيه في مصراع والأخرى في مصراع آخر
قلت وهذا النوع أيضا من الأنواع التي تقدمت وقررت أن ليس تحتها كبير أمر وأن رتبة البديع أعلى من هذه الأنواع السافلة ولكن تقدم قولي إن القوم كلما طلبوا الكثرة تغالوا في الرخيص والشروع في المعارضة ملزم وقد استشهدوا على هذا النوع أعني التعطف بقول أبي الطيب المتنبي
( فساق إلي العرف غير مكدر ... وسقت إليه المدح غير مذمم ) وبيت الشيخ صفي الدين على هذا النوع الرخيص قوله
( وصحبه من لهم فخر إذا افتخروا ... ما أن يقصر عن غايات فضلهم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( تعطفوا برضا أحبابهم وعلى ... أعدائهم عطفوا بالصارم الخذم ) وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على وصف الصحابة رضي الله عنهم بقولي
( تعطف الخير كم أبدو لمذنبهم ... والخير ما زال في أبواب صفحهم ) وقلت بعده مشيرا إليهم
(2/393)
________________________________________
ذكر الاستتباع
( يحمون مستتبعين العفو إن ظفروا ... ويحفظون وفاهم حفظ دينهم )
الاستتباع هو استفعال من تتبع الرجل إذا اقتفى أثره وفي الاصطلاح هو أن يذكر الناظم أو الناثر معنى مدح أو ذم أو غرض من أغراض الشعر فيستتبع معنى آخر من جنسه يقتضي زيادة في وصف ذلك الفن كقول أبي الطيب المتنبي
( نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد )
فإنه مدحه بالشجاعة على وجه استتبع مدحه بكونه سببا لإصلاح الدنيا حيث جعلها مهنأة بخلوده ومثله قوله
( إلى كم ترد الرسل فيما أتوا به ... كأنهم فيما وهبت ملام )
فمدحه بالشجاعة إيماء وألغز في رد الرسل عما أتوا به وصدهم عن مطلوبهم والتهاون بمرسلهم واستتبع في آخر البيت مدحه بالكرم لعصيان الملام في الهبات
ويعجبني هنا قول أبي بكر الخوارزمي
( سمح البديهة ليس يمسك لفظه ... فكأنما ألفاظه من ماله )
فإنه مدحه بذلاقة اللسان على وجه استتبع الكرم وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا لنوع قوله ( الباذلو النفس بذل الزاد يوم قرى ... والصائنو العرض صون الجار والحرم )
(2/394)
________________________________________
وبيت العميان
( تجري دماء الأعادي من سيوفهم ... مثل المواهب تجري من كفوفهم ) وبيت الشيخ عز الدين
( يستتبعون ببذل العلم بذل ندى ... ويحفظون المعالي حفظ عرضهم ) وبيت بديعيتي
( يحمون مستتبعين العفو إن ظفروا ... ويحفظون وفاهم حفظ دينهم )
(2/395)
________________________________________
ذكر الطاعة والعصيان
( طاعاتهم تقهر العصيان قدرهم ... له العلو فجانسه بمدحهم )
هذا النوع أعني الطاعة والعصيان استنبطه أبو العلاء المعري في شرحه الذي سماه معجز أحمد عند نظره في شعر أبي الطيب وهو قوله
( يرد يدا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد )
وسماه الطاعة والعصيان وقال إنما أراد أبوالطيب أن يقول يرد يدا عن ثوبها وهو مستيقظ بحيث تطيعه المطابقة في قافية البيت بقوله راقد فلم يطعه الوزن في ذلك ولما عصاه الوزن عدل إلى لفظة قادر وجعلها مكان مستيقظ لما فيها من معنى اليقظة وزيادة فأطاعه التجنيس المقلوب بين قادر وراقد وعصته المطابقة بين راقد ومستيقظ فلم يخل بيته عن معنى بديعي وقيل إن هذا النوع لم يسمع له مثال قبل أبي العلاء ولا بعده في سائر كتب البديع لقلة وقوعه وتعذر اتفاقه وإنما وقع للمتنبي نادرا
قلت أنا تابع في هذا النوع مذهب علامة هذا العلم وهو الشيخ زكي الدين ابن أبي الأصبع تغمده الله برحمته ورضوانه فإنه كشف عن وجه الإشكال وأرشد من كان متعلقا بحبال المحال فإن القوم أضربوا عن هذا النوع وهو ظاهر لأن الشيخ زكي الدين قال إضرابهم عن النظر فيه إما لحسن ظنهم بالمعري وموضعه من الأدب واعتقادهم فيه العصمة من الخطأ والسهو وإما أن يكون مر عليهم ما مر عليه في هذا البيت إذ ليس في البيت شيء أطاع الشاعر ولا شيء عصاه ودليل ذلك قول المعري إن المتنبي أراد مستيقظا ليحصل بينها وبين لفظة راقد طباقا فعصته لفظة مستيقظ
(2/396)
________________________________________
لامتناعها من الدخول في هذا الوزن وهذا محال لأن المتنبي لو أراد أن يقول يرد يدا عن ثوبها وهو ساهر لحصل له غرضه من الطباق ولم يعصه الوزن وإنما المتنبي قصد أن يكون في بيته طباق وجناس فعدل عن لفظة ساهر إلى قادر لأن القادر ساهر وزيادة وحصل بين راقد وقادر الطباق المعنوي وجناس العكس لأن الطباق أنواع منها المعنوي كما أن الجناس أنواع منها العكس ومذهب المتنبي ترجيح المعاني على الألفاظ ولا سيما وبالعدول عن الطباق اللفظي حصل في البيت الطباق والجناس معا وما كان فيه الطباق والجناس معا أفضل مما ليس فيه سوى الطباق ولوعدل المتنبي إلى ما ذكره المعري لفاته هذا الفضل والله أعلم
وقد ثبت من هذا البحث أن بيت المتنبي لا يصلح أن يكون شاهدا على هذا الباب لأنه لم يعصه فيه شيء ولم يطعه غيره وكذلك بيت الشيخ صفي الدين في بديعيته وهو قوله
( لهم تهلل وجه بالحياء كما ... مقصوره مستهل من أكفهم )
فإنه ذكر في شرحه أنه أراد الجناس بين الحياء والحيا ولما عصاه الوزن وتعذر التجنيس عدل إلى لفظة مقصوره وهي ردف لفظة الحيا فأطاعه الجناس المعنوي بإشارة ردفه إليه آه
قلت والذي قرره الشيخ صفي الدين أيضا محال ولو قال
( لهم تهلل وجه بالحياء كما ... لنا الحيا مستهل من أكفهم )
لحصل له ما أراد من الجناس وخلص من ثقل مقصوره وحصل لبيته طلاوة في الأذواق وخلا من العقادة وتحقق المتأمل أن عصيان الوزن هنا محال وكذلك بيت الشيخ عز الدين وهو
( أطاعه وعصاه المؤمنون ومن ... ناواه ذا الفرق بين الانس والنعم )
فإنه ذكر في شرحه أنه أراد الطباق بين المؤمنين والكافرين فعصاه الوزن وتعذرت المطابقة فأتى بلفظة ناواه فأطاعته المطابقة وعصاه الوزن
قلت والذي قرره الشيخ عز الدين أيضا ههنا محال ولو قال
( أطاعه وعصاه المؤمنون وجمع الكافرين ولم يحفل بجمعهم ... )
(2/397)
________________________________________
لحصل له ما أرد من المطابقة بين المؤمنين والكافرين وخلص من ثقل ناواه وتجشم الانس والنعم التي زلزلت أركان بيته وأما قوله أطاعه وعصاه فهذه المطابقة تحصيل الحاصل لأنها تسمية النوع الذي هو المراد هنا وجل القصد أن عصيان الوزن في بيت أبي الطيب وبيت الشيخ صفي الدين وبيت الشيخ عز الدين محال
وبيت بديعيتي أقول فيه عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( طاعاتهم تقهر العصيان قدرهم ... له العلو فجانسه بمدحهم )
هذا البيت أردت أن أجانس فيه بين العلو والغلو فلم يطع فيهما الوزن فلما عصى ذلك عدلت إلى لفظة مجانسة فحصل الجناس المعنوي بإشارة ردفه إليه فهذا البيت مشتمل على الطاعة والعصيان حقيقة فإن الناظم أراد فيه جناس التصحيف فعصاه الوزن وأطاعه الجناس المعنوي والعميان ما نظموه في بديعيتهم والله أعلم
(2/398)
________________________________________
ذكر المدح في معرض الذم
( في معرض الذم إن رمت المديح فقل ... لا عيب فيهم سوى إكرام وفدهم )
هذا النوع أعني المدح في معرض الذم من أنواع ابن المعتز وهو أن ينفي صفة ذم ثم يستثني صفة مدح كقولك لا عيب في زيد سوى أنه يكرم الضيف وأعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما )
ومن الشواهد الشعرية قول النابغة الذيباني
( ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ) ومنه قول الشاعر
( ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم ... تعاب بنسيان الأحبة والوطن ) ومنه أيضا قول الشاعر
( ولا عيب في هذا الرشا غير أنه ... له معطف لدن وخد منعم ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... يسلو عن الأهل والأوطان والحشم )
(2/399)
________________________________________
وبيت العميان في بديعيتهم
( لا عيب فيهم سوى أن لا ترى لهم ... ضيفا يجوع ولا جارا بمهتضم )
قلت بين قول الشيخ صفي الدين عن الضيف أنه يسلو عن الأهل والأوطان والحشم وبين قول العميان عن الضيف أنه لا يجوع بون بعيد وبيت الشيخ عز الدين
( في معرض الذم إن رمت المديح فهم ... لا عيب فيهم سوى الإعدام للنعم ) وبيت بديعيتي
( في معرض الذم إن رمت المديح فقل ... لا عيب فيهم سوى إكرام وفدهم )
(2/400)
________________________________________
ذكر البسط
( هم معشر بسطوا جودا سقاه حيا ... فأخضر العيش في أكناف أرضهم )
هذا النوع أعني البسط من مستخرجات ابن أبي الأصبع والبسط بخلاف الإيجاز لكونه عبارة عن بسط الكلام لكن شروطه زيادة الفائدة كقول النبي الدين النصيحة فقيل لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم فبسط هذه اللفظة الجامعة ليفرد الأئمة بالذكر من جملة المسلمين ولم يكن الاقتصار على الأئمة لأجل نقص المعنى إذ تمامه لا يكون إلا بذكر عامة المسلمين فأتى بذلك البسط ليفيد تتميم المعنى بعد تخصيص من يجب تخصيصه بالذكر
ومن الأمثلة الشعرية المستحسنة على البسط قول البحتري في الخيري وهو المنثور الأصفر
( قد نفض العاشقون ما صنع الهجر بألوانهم على ورقه ... )
فإن حاصل هذا الكلام الإخبار بصفرة الخيري فبسط اللفظ الذي لو اقتصر عليه لما حصل به المراد لما في البسط من حسن إدماج الغزل في الوصف بغير لفظ التشبيه ولا قرينة إذ مفهوم اللفظ أن صفرة المنثور تشبه ألوان المهجورين وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( سهل الخلائق سمح الكف باسطها ... منزه قوله عن لا ولن ولم )
(2/401)
________________________________________
والعميان ما نظموه في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( ذو بسط كف وخلق زانه خلق ... أثنى عليه إله العرش بالعظم ) وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على مدح الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( هم معشر بسطوا جودا سقاه حيا ... فأخضر العيش في أكناف أرضهم )
(2/402)
________________________________________
ذكر الاتساع
( نور القبائل ذو النورين ثالثهم ... وللمعالي اتساع في عليهم )
هذا النوع أعني الاتساع يتسع فيه التأويل على قدر قوى الناظم فيه وبحسب ما تحتمل ألفاظه من المعاني كقول امرىء القيس
( إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل )
فإن هذا البيت اتسع النقد في تأويله فمن قائل تضوع المسك منهما بنسيم الصبا ومن قائل تضوع المسك منهما تضوع نسيم الصبا ومن قائل تضوع المسك منهما بفتح الميم يعني الجلد بنسيم الصبا وهو أضعف الوجوه والوجه الثاني مذهب ابن أبي الأصبع وهو أنور الوجوه ومن ذلك فواتح السور التي أقسم الله بها فإنهم اتسعوا في تأويلها ولم يترجح من ذلك إلا أنها أسماء للسور
وبيت الحلي في بديعيته قوله
( بيض المفارق لا عار يدنسهم ... شم الأنوف طوال الباع والأمم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
(2/403)
________________________________________
بان اتساع المعالي في الصحابة كالفاروق ثم شهيد الدار ذي الحرم ... ) وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على مدح الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( نور القبائل ذو النورين ثالثهم ... وللمعالي اتساع في عليهم )
(2/404)
________________________________________
ذكر جمع المؤتلف والمختلف
( جمعت مؤتلفا فيهم ومختلفا ... مدحا وقصرت عن أوصاف شيخهم )
هذا النوع أعني جمع المؤتلف والمختلف ذكر المؤلفون فيه أقوالا كثيرة غير سديدة ومثلوه بأمثلة غير مطابقة ولم يحرره ويطابقه بالأمثلة الصحيحة اللائقة غير الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع والذي تحرر عنده أن هذا النوع عبارة عن أن يريد الشاعر التسوية بين ممدوحين فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحهما ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة فضل لا ينقص بها مدح الآخر فيأتي لأجل الترجيح بمعان تخالف معنى التسوية كقوله تعالى ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) فحصلت المساواة في الحكم والعلم فساوى بينهما في أهلية الحكم ثم رجح سليمان فقال ففهمناها سليمان ثم راعى حق الوالد فقال وكلا آتينا حكما وعلما فحصلت المساواة في الحكم والعلم وكقول الخنساء في أخيها وقد أرادت مساواته بأبيها مع مراعاة حق الوالد بزيادة مدح لا ينقص به حق الولد ( جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الفخر )
( وهما وقد برزا كأنهما ... صقران قد حطا على وكر )
( حتى إذا نزت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر )
(2/405)
________________________________________
( وعلا طباق الأرض أيهما ... قال المجيب هناك لا أدري )
( برقت صفيحة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري )
( أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله في بديعيته قوله
( هم هم في جميع الفضل ما عدموا ... سوى الإخاء ونص الذكر والرحم )
قلت الحلي أساء الأدب في نظم هذا البيت وكان يجب أن يؤدب على نظمه فإنه بخس فيه حق صحابة رسول الله وكذب في الثلاثة التي استثناها وقال إن الصحابة رضي الله عنهم عدموها وقوله هم هم في جميع الفضل لا يفهم منه مدح لأنه سلبهم الفضل في الشطر الثاني من البيت ولهذا قال الشيخ عز الدين في بديعيته مشيرا إلى هذا البيت
( هم هم في جميع الفضل ما عدموا ... ما قاله الرافضي النذل في الكلم )
وعلى هذا الترتيب الفاسد فما اجتمع في بيت الصفي غير المختلف لأن المؤتلف عنه بمعزل
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله
( جمع لمؤتلف فيهم ومختلف ... في العلم والحلم مع تقديم ذي قدم )
وبيت بديعيتي يجب أن لا يستشهد على هذا النوع بغيره فإني قلت فيه عن الصحابة رضي الله عنهم
( جمعت مؤتلفا فيهم ومختلفا ... مدحا وقصرت عن أوصاف شيخهم )
(2/406)
________________________________________
ذكر التعريض
( تعريض مدح أبي بكر يقدمني ... في سبق حليهم مع موصليهم )
هذا النوع أعني التعريض نوع لطيف في بابه وهو عبارة عن أن يكني المتكلم بشيء عن آخر لا يصرح به ليأخذه السامع لنفسه ويعلم المقصود منه كقول القائل ما أقبح البخل فيعلم أنك أردت أن تقول له أنت بخيل وكقول بعضهم للآخر لم تكن أمي زانية يعرض بأن أمه زانية والتعريض نوع من الكناية ومن أمثلته الشعرية قول الحجاج يعرض بمن تقدمه من الأمراء
( لست براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم )
والشواهد على هذا النوع كثيرة ولكن أردت أن أجعل العمدة فيه على بيتي المنتظم في سلك بديعيتي فإنه من الأمثلة البديعة وليس في هذا النوع له مثال ولكن نبدأ ببيت الشيخ صفي الدين رحمه الله لأجل الترتيب وهو
( ومن أتى ساجدا لله ساعته ... ولم يكن ساجدا في العمر للصنم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله قوله
( تطويل تعريض شانئهم يعظمهم ... والرفض أقبح شيء موجب الأضم )
(2/407)
________________________________________
وبيتي الذي أطنبت في وصفه هو قولي بعد
( جمعت مؤتلفا فيه ومختلفا ... مدحا وقصرت عن أوصاف شيخهم )
( تعريض مدح أبي بكر يقدمني ... في سبق حليهم مع موصليهم )
(2/408)
________________________________________
ذكر الترصيع
( نعم ترصع شعري واعتلت هممي ... وكم ترفع قدري وانجلت غممي )
هذا النوع أعني الترصيع هو عبارة عن مقابلة كل لفظة من صدر البيت أو فقرة النثر بلفظة على وزنها ورويها وهو مأخوذ من مقابلة ترصيع العقد ومن أمثلته الشريفة في الكتاب العزيز قوله تعالى ( إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ) ومثله قوله تعالى ( إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ) ومنه قول الحريري في المقامات يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ويقرع الأسماع بزواجر وعظه
وإن كان مع الترصيع زيادة بديع كطباق أو مقابلة أو جناس كان ذلك زيادة حسنة ومن أمثلته الشعرية قول أبي فراس
( وأفعالنا للراغبين كرامة ... وأموالنا للطالبين نهاب ) ومنه قول الشاعر
( فيا يومها كم من مناف منافق ... ويا ليلها كم من مواف موافق )
والمبرز في هذا النوع هو الذي يخلي نظم بيته من الحشو والحشو فيه عبارة عن تكرار الألفاظ التي ليست من الترصيع بحيث لا يأتي في صدر بيته بلفظة إلا ولها أخت تقابلها في العجز حتى في العروض والضرب كقول ابن النبيه
( فحريق جمرة سيفه للمعتدى ... ورحيق خمرة سيبه للمعتفي )
فهذا البيت وقع الترصيع في جميع ألفاظه فإن المقابلة فيه حاصلة بين حريق
(2/409)
________________________________________
ورحيق وبين جمرة وخمرة وبين سيفه وسيبه وبين المعتدي والمعتفي وأبو فراس بيته خال من ترصيع العروض والضرب والشاهد الثاني كرر فيه ناظمه حرف النداء فدخل عليه الحشو
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في الترصيع قوله
( من حاسر بغرار العضب ملتحف ... وسافر بغبار الحرب ملتثم )
صفي الدين فاته في هذا البيت ترصيع العروض والضرب وقد تسامحوا فيهما ولكن الغاية ما قررته في نظم هذا النوع وأيضا فإن الشيخ صفي الدين غير عاجز عن ذلك فإن أتى في بيته بالحشو مع عدم ترصيع العروض والضرب وناهيك أن العميان تبصروا له ونظموه في بديعيتهم وهو
( فهجر ربعي لذاك الربع مغتنمي ... ونثر جمعي لذاك الجمع معتصمي )
هذا البيت استشهد به العميان على الترصيع الواقع في جميع ألفاظ البيت ولكن ذاك في مقابلة ذاك اعتذر عنهما الشيخ شهاب الدين أبو جعفر الشارح وقال إن معناهما مختلف فإن الإشارة الأولى للربع والثانية للجمع وعلى كل تقدير فللنظر فيهما مجال
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( كم رصعوا كلما من در لفظهم ... كم أبدعوا حكما في سر علمهم )
الشيخ عز الدين رصع حتى في العروض والضرب ولكن كرر في بيته لفظة كم ودخل عليه الحشو وهو من وفي والكمال لله
وبيت بديعيتي أقول فيه بعد قولي في بيت التعريض
( نعم ترصع شعري واعتلت هممي ... وكم ترفع قدري وانجلت غممي )
التنبيه على محاسن هذا البيت كالتنبيه على محاسن بيت ابن النبيه وفي حقوق هذا النوع في نظمه وأما الجماعة المذكورون معه فما منهم إلا من بخسه بعض حقه لما أدخله في بيته وقد تميز بيتي على بيت ابن النبيه أيضا في ترصيع نظمه بزيادة جوهرتين فإني قابلت فيه خمسة بخمسة وابن النبيه وبقية القوم قابلوا أربعة بأربعة والزيادة على ابن النبيه أيضا في تسمية النوع الذي هو الترصيع ولعمري إنها تورية ما رصع في العقود نظيرها وهذا البيت مشتمل على الترصيع والتورية والجناس اللاحق واللزوم والتمكين والموازنة ومراعاة النظير والسهولة والانسجام والله أعلم
(2/410)
________________________________________
ذكر السجع
( سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي ... وصرت كالعلم في العرب والعجم )
السجع مأخوذ من سجع الحمام واختلف فيه هل يقال في فواصل القرآن أسجاع أو لا فمنهم من منعه ومنهم من أجازه والذي منع تمسك بقوله تعالى ( كتاب فصلت آياته ) فقال قد سماه فواصل وليس لنا أن نتجاوز ذلك
والسجع ينقسم أربعة أقسام المطرف والموازي والمشطر والمرصع القسم الأول المطرف وعلى منواله نسج نظام البديعيات وهو أن يأتي المتكلم في أجزاء كلامه أو في بعضها بأسجاع غير متزنة بزنة عروضية ولا محصورة في عدد معين بشرط أن يكون روي الأسجاع روي القافية كقوله تعالى ( ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ) وكقولهم جنابه محط الرحال ومخيم الآمال ومن الأمثلة الشعرية قول أبي تمام
( تجلى به رشدي وأثرت به يدي ... وفاض به ثمدي وأورى به زندي )
الثاني الموازي وهو أن تتفق اللفظة الأخيرة من القرينة مع نظيرتها في الوزن والروي كقوله تعالى ( سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ) ومنه قول النبي اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممكسا تلفا ومنه قول الحريري في المقامات ألجأني
(2/411)
________________________________________
حكم دهر قاسط إلى أن أنتجع أرض واسط وقوله وأودى بي الناطق والصامت وربى لي الحاسد والشامت ومن لبأمثلته الشعرية قول أبي الطيب المتنبي
( فنحن في جذل والروم في وجل ... والبر في شغل والبحر في خجل )
القسم الثالث المشطر وهو أن يكون لكل نصف من البيت قافيتان مغايرتان لقافيتي النصف الأخير وهذا القسم مختص بالنظم كقول أبي تمام
( تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتقب في الله مرتعب ) الرابع المرصع وقد تقدم الكلام عليه
قلت وإذ كنت منشىء ديوان الإنشاء الشريف أنشأت جميع ما يحتاجون إليه من الفوائد التي أخذتها عن علماء هذا الفن فإن قصر الفقرات يدل على قوة المنشىء وأقل ما يكون من كلمتين كقوله تعالى ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر ) وأمثال ذلك كثيرة في القران العزيز لكن الزائد على ذلك هو الأكثر وكان بديع الزمان يكثر من ذلك كقوله كميت نهد كأن راكبه في مهد يلطم الأرض بزبر وينزل من السماء بخبر لكن قالوا التذاذ السامع بما زاد على ذلك أكثر لتشوقه إلى ما ورد منه متزايدا على سمعه وأما الفقر المختلفة فالأحسن أن تكون الثانية أزيد من الأولى بقدر غير كثير لئلا يبعد على السامع وجود القافية فتذهب اللذة وإن زادت القرائن على اثنتين فلا يضرتساوي القرينتين الأوليين وإن زادت الثانية على الأولى يسيرا والثالثة على الثانية فلا بأس ولا يكون أكثر من المثل ولا بد من الزيادة في آخر القرائن
مثاله في القرينتين ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) فالثانية أطول من الأولى ومثاله في الثالثة قوله تعالى ( وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ) ومن قواعد الإنشاء أن تكون كل فاصلة مخالفة لنظيرتها في المعنى لأن اللفظ إذا كان
(2/412)
________________________________________
من القرينة بمعنى نظيره من الأخرى كان معيبا كقول الصاحب بن عباد يصف منهزمين طاروا واقين بظهورهم صدورهم وبأصلابهم نحورهم فالظهور بمعنى الأصلاب والصدور بمعنى النحور ومنه قول الصابي يسافر رأيه وهو لا يبرح ويسير وهو ثاو لا ينزح ويبرح وينزح بمعنى واحد ويسافر ويسير كذلك
ومن فوائد الإنشاء التي يطول بها باع المنشىء أن السجع مبني على الوقف وكلمات الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفا عليها لأن الغرض أن يجانس المنشىء بين القرائن ويزاوج ولا يتم له ذلك إلا بالوقف إذ لو ظهر الإعراب لفات ذلك الغرض وضاق ذلك المجال على قاصده ألا ترى أنهم لو بينوا الإعراب مثل قولك ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت للزم أن تكون التاء الأولى مفتوحة والثانية مكسورة منونة فيفوت غرض الاتفاق ومن ذلك أن السجع مبني على التغيير فيجوز أن تغير لفظة الفاصلة لتوافق أختها فيجوز فيها حالة الازدواج ما لا يجوز فيها حالة الانفراد فمن ذلك الإمالة فقد يكون في الفواصل ما هو من ذوات الياء وما هو من ذوات الواو فتمال التي هي من ذوات الواو وتكتب بالياء حملا على ماهو من ذوات الياء لأجل الموافقة نحو قوله تعالى ( والضحى واليل إذا سجى ) أميلت والضحى وكتبت بالياء حملا على ما هي من ذوات الياء لأجل الموافقة وكذلك ( والشمس وضحاها ) أميلت فيها ذوات الواو وكتبت بالياء حملا على ما هي من ذوات الياء ومن ذلك حذف المفعول نحو قوله تعالى ( ما ودعك ربك وما قلى ) الأصل وما قلاك حذفت الكاف لتوافق الفواصل ومن ذلك صرف ما لا ينصرف كقوله تعالى ( قواريرا قواريرا ) صرفه بعض القراء السبعة ليوافق فواصل السورة الكريمة ولو تتبع المتأمل ذلك في الكتاب العزيز لوجده كثيرا
ومما جاء من الحديث قوله أعيذه من الهامة والسامة ومن كل عين لامة والأصل عين ملمة لأنه من ألم ولكنه لأجل الموافقة قيل لامه ومنه قوله ارجعن مأزورات غير مأجورات الأصل موزروات بالواو لأنه من الوزر ولكن ليوافق مأجورات ومنه قوله دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم الأصل ما وادعوكم ولكن حذف الألف ليحصل الاتفاق مع تركوكم
(2/413)
________________________________________
وسمعت أن بعض علماء الإنشاء صنع مؤلفا في أحكام الفواصل ومن ذلك أن المراد من علم الإنشاء البلاغة في المقاصد والبلاغة هي أن يبلغ المتكلم بعبارته كنه مراده مع إيجاز بلا إخلال وإطالة من غير إملال والفصاحة خلوص الكلام من التعقيد وقيل البلاغة في المعاني والفصاحة في الألفاظ فيقال لفظ فصيح ومعنى بليغ والفصاحة خاصة تقع في المفرد يقال كلمة فصيحة ولا يقال كلمة بليغة وأنت تريد المفرد فإنه يقال للقصيدة كلمة كما قالوا كلمة لبيد ففصاحة المفرد خلوصه من تنافر الحروف والفصاحة أعم من البلاغة لأن الفصاحة تكون صفة للكلمة والكلام يقال كلمة فصيحة وكلام فصيح والبلاغة لا يوصف بها إلا الكلام فيقال كلام بليغ ولا يقال كلمة بليغة واشتركا في وصف المتكلم بهما فيقال متكلم فصيح بليغ
فمن الإنشاء الفصيح البليغ قول ابن عباد وقد قيل له ما أحسن السجع فقال ما خف على السمع فقيل مثل ماذا مثل هذا ومنه ما كتب به عبد الحميد عند ظهور الخراسانية بشعار السواد فاثبتوا ريثما تنجلي به هذه الغمرة وتصحو هذه السكرة فينصب السيل وتمحى آية الليل ومنه قول أبي نصر العتبي دب الفشل في تضاعيف أحشائهم وسرى الوشل في تفاريق أعضائهم فجيوب الأقطار عنهم مزروره وذيول الخذلان عليهم مجروره ومنه قول الصابي نزغ به شيطانه وامتدت في الغي أشطانه ومنه قول بديع الزمان كتابي إلى البحر وإن لم أره فقد سمعت خبره والليث وإن لم ألفه فقد تصورت خلقه ومن رأى من السيف أثره فقد رأى أكثره ومنه قول القاضي الفاضل رحمه الله ووافينا قلعة نجم وهي نجم في سحاب وعقاب في عقاب وهامة لها الغمامة عمامه وأنملة إذا خضبتها أيدي الأصيل كان الهلال لها قلامه
ويعجبني في هذا الباب من إنشاء الشهاب محمود قوله في وصف مقدم سرية لا زال في مقاصده أخف من وطأة ضيف وفي مطالبه أخفى من زورة طيف وفي تنقله أسرع من سحابة صيف وأروع للعدا من سلة سيف ومثله في الحسن قوله في صدر مثال شريف سلطاني أصدرناها والسيوف قد أنفت من الغمود ونفرت من قربها والأسنة قد ظمئت إلى موارد القلوب وتشوقت إلى الارتواء من قلبها والسيوف قد أضرمت الحمية
(2/414)
________________________________________
للدين نار غضبها وعداها حر الإشفاق على ثغور المسلمين فأعرضت عن برد الثغور وطيب شنبها والحماة ما منهم إلا من استظهر بإمكان قوته وقوة إمكانه والأبطال ما فيهم من يسأل عن عدد العدو بل عن مكانه
قلت ما أوردت كثيرا من الإنشاء ههنا إلا لأن يطيب للتأمل تنقله من شطوط البحور إلى التنزه في رياض المنثور فمن ذلك ما أنشأته في تقليد مولانا المقر الأشرف المرحومي القاضوي الناصري محمد بن البارزي الشافعي بصحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة وهو قولي وقد أوصلناه إلى رتبة استحقاقه من رتب المعالي ورقيناه إلى درجات الكمال علما أن الكمال ما خرج عن بيته العالي فإنه المنشىء الذي ما للصاحب دخول إلى ديوانه ولا لابن عبد الظاهر بلاغته وقوة سلطانه ولا للشهاب محمود أن يباهي كماله في طارفه وتليده ولا للقاضي الفاضل شرف البارزي وتمييزه ولو بالغ في كثرة شهوده ما نثر في كمام طرسه زهره إلا وأرانا ذيول زهر المنثور ولا قرع أبواب المصطلح إلا فتحت ودخل بيتها بغير دستور ولا تسنم منبرا إلا أجاد بألفاظ كان مزاجها من تسنيم وقالت البلغاء للفصاحة المحمدية ما ثم إلا الرضا والتسليم
ومنه ما أنشأته في تقليد ولده وهو مولانا المقر الأشرف الكمالي عظم الله شأنه بصحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة وهو قولي فإنه من البيت الذي وهبه الله شرف العلم ورحم منه كل ميت فقل لكل من مشايخ الإسلام ناشدتك الله هل تنكر هبة الله لهذا البيت وما خفي أن إمامكم الأعظم أول من راعى حقوقه وبادر إلى رفع مثاله وشرع في رفع قواعده وتشييد كماله ولهم هذا الفرع الذي زكت أصوله وسقيناه ماء القرب فأتمر وقد أنبته الله نباتا حسنا والنبات الحموي حسنه لا ينكر غاب نيره الأكبر فأبدر بعده وهذا البدر في كماله ما أبهاه ولجأ إلى الله ثم إلينا فزاده الله كمالا وعلمنا أن الكمال لله وسلكناه في حياة والده فكان لمشيختنا الشريفة نعم المريد وأخذ عنا الأدب فجاد نظمه وها هو في البيوت البارزية بيت القصيد والكتابة دون كماله ومحاسنه تجل أن تقابل بمثال وإن كان الكمال زها بحاشيته فحاشيتنا زهت بهذا الكمال وكان والده عقدا فرط فيه الزمان ولكن استدرك فارطه وقد نظمناه في عقد سلكنا الشريف إلى أن صار به نعم الواسطه وامتدت ألسن الأقلام إلى ثغور المحابر فقبلتها وانشرحت صدور الأوراق وعلق فيها عنابر سطور فحملتها وقالت لحمر أقلامه أهلا بالعربيات التي ليس لها إلا الأيدي الجهينية غرر ومرحبا بعد النوبة بقهوة الإنشاء
(2/415)
________________________________________
فإن شباب الزمان قد عاد وزهر المنثور قد زهر وجاء الإمام الذي إن كتب تقليدا قالت البلغاء هذا الإمام الذي يجب تقليده وهذا هو الخليفة على السر الشريف وأمينه ومأمونه ورشيده إن تحمس في إنشائه قال الجبان لا أقعد الجبن عن الهيجا أو استطرد إلى وصف روض ممرج زاد هرجا ومرجا أو ترسل غراميا فما حديقة زهير عند زهر منثوره أو كتب عنا تهديدا سال جامد الصخر ولو سمعت الجوزاء حديثه لسقطت مع الحصى عند خريره فإنه المنشىء الذي ما اعتقل رمح فمه بيمينه وهزه هزه إلا قال كل منشىء دخلت أصبع قلمي من دواتي تحت رزه ولا حرك من دوح أقلامه فرعا إلا تساقط بين الأوراق ثمرات شهيه فلو أدركها الصاحب لقدمها وأخر الفواكه البدرية ولو ناسبه الفتح لقابله المؤمنون بالقتال وكان والده قد اعترف بكماله وهذا التقليد لثبوت ذلك الاعتراف أسجال فإنه الأمين الذي إن تصرف في مزررتنا الشريفة فقد ثبت أن توثيق العرا لبيته العالي أو أملى في ديواننا الشريف كانت أماليه أمالي المحب لا أمالي القالي ولولا خشية الإطالة لأوردت هذا التقليد الشريف بكماله لأنه في صناعة الإنشاء لنسيج وحده
ومنه ما أنشأته عن مولانا السلطان الملك المؤيد سقى الله ثراه من غيث الرحمة جوابا عن مكاتبة الملك الناصر صاحب اليمن وهو لا زال جناس مجده سعيد الحركة بين اليمن واليمن وسيفه اليماني لم يرض بمجانسة سيف بن ذي يزن والأمة بأحمدها تهنأ بجنات عدن في عدن ولا برحت صنائعه بصنعاء محبرة حتى في سطور الطروس وأقلام الثناء سود اللمم بمدحه ولو تركت لاعتراها شيب الرؤوس وتحياته المكرمة مخصوصة منا بشرف التسليم وبدور مودته سافرة في ليالي سطورها بين بديعي التكميل والتتميم أصدرناها وشاهد المودة قد وضع رسم شهادته وكتب وأثبت مقدمات الإخلاص فحكم له قاضي المحبة بالموجب وأودعناها من السلام ما تعمه رحمة الله وبركاته ومن طيب الثناء ما يتأرج بين ادراك ذلك المندل الرطب نفحاته ومن خالص المودة ما يضم به بعد حسن المخلص من طيب أعرافه حسن الختام ومن سجعات
(2/416)
________________________________________
الأشواق كل مصونة ليس لها غير سواد النقس لثام وتبدى لعلمه ورود المثال العالي بطيب تلك المعادن التي ود النسيم أن يقيدها ويحتبس ولقد رافقها الاكتساب اللطيف ولكن سرق من طيب عرفها وتكلم بنفس فأكرم به مثالا أرانا خفر الملك على كل قرينة لها من حجب البلاغة ستور وخدامها من سود سطورها وبيض طروسها عنبر وكافور ورد صحف الصفاء صقيلة فتمثل فيها وأظهر من أوراقه ثمرات المودة ونحن بيد القبول نجنيها وقدم من ذلك الحرم الأحمدي فكان أكرم وافد قوبل منا بالإكرام وفتح أبواب الدخول إلى السلام فسلمنا وقلنا لخواصنا ادخلوها بسلام ولقد ثملنا بكأس إنشائه وهو بحضرتنا الشريفة دائر وعلمنا أن هذا الإنشاء لا يصدر إلا من فاضل والفاضل لا ينسب إلا إلى الناصر وتغزلنا في محاسنه بحيرة اليمن بعد تغزلنا بحيرة العلم وراعنا تحمس بلاغته فقلنا هذا لا يصدر إلا من رب سيف وقلم وود كل دوح أن يملأ طروس أوراقه بريحان سطوره وتطفل كل روض أريض عند وروده على زهر منثوره وقالت فصاحته وتلك البلاغة التي جاءت بسحر البيان هل يفتى لنا بصدق المحبة فقال لهما القلب قضي الأمر الذي فيه تستفتيان فهذا نفس طيب عرفنا معدن طيبه فلم نقل من أين وهذه سلافة إنشاء دارت سلطانياتها فأنشأت أهل الخافقين وهذا سحر صدقت عزائمه في العطف والقبول بين الملكين وأبطل هذا السحر الحلال ما حرم ببابل من سحر الملكين واشتمل على نظم ونثر رأينا شعار السلطنة عليهما عيانا كأن البلاغة قالت لهما قديما سنجعل لكما سلطانا فيا له من مثال تدرع زرد ميماته فقلنا لا طعن فيك لطاعن وتشرع طباق بديعه فكانت على أكناف النيل من أثره مساكن وأطرب بأنفاس علمنا أنها من يراع ما برح بالسعادة موصولا وطاف في حضرتنا الشريفة بكاس يمانية كان مزاجها زنجبيلا ولقد أكثر هذا المقال في كتابه المبين من إيناس الخطاب وقضت به الوحشة أجلها فقلنا لكل أجل كتاب
وهذا الجواب أيضا لولا خشية الإطالة لاستوعبته بكماله فإن اليمن ما دخل إليها من الديار المصرية نظيره والله أعلم
(2/417)
________________________________________
ومنه ما أنشأته عن مولانا السلطان الملك المؤيد سقى الله ثراه جوابا عن مكاتبة وردت من صاحب تونس وهو المتوكل على الله أبو فارس عبد العزيز رحمه الله وهو لا زالت سيوف عزائمه في الجهاد ماضية الضرب ولا برح جوده وإقدامه متطابقين في السلم والحرب نخصه بسلام هو لنا والشوق برد وسلام وسقاية وداد ماء رمرم تسنيم قبولها إلا تعالى ذلك المقام وتحيات تنطق بها عند مواظبة الخمس ألسنة الأقلام وثناء يقلد بخالص عقوده جيد الزمان وينسى قلائد العقيان ومحبة يقمر صدقها في ذلك الأفق الغربي ويشمس وتزيل وحشة من سلا عن غيرها في المغرب وتونس واستطردت مفاوضتكم إلى الوصية بحاج المغرب فبادرنا إلى قبول ذلك فإن هذا قد يتبرك من النجب السائرة به بالمبارك وقد أعدناه مصحوبا بالسلامة وحداته تطرب بنغمتها الحجازية وتهيم اشتياقا عند تشبيبها بذكر الطلعة المتوكلية وأعدنا جواب ذلك على يد رسولكم الذي لم يقابل منا بغير القبول ليكون خالص ودنا متمسكا بالكتاب والرسول
ومنه ما كتبته جوابا عن مكاتبة وردت من الجناب العالي الناصري محمد بن أبي يزيد بن عثمان وهو لا زالت تحياته مخصوصة منا بشرف التسليم وسيره العثماني محفوظا في بيعة المودة بالتقديم وشعراء الإخلاص في كل بيت من معاني محبته تهيم وفروض الجهاد بسيوفه المسنونة في كل وقت تقام وبلاده الإسلامية محروسة بالجناب المحمدي عليه السلام وهمزات عوامله بصدور الكفار موصوله وألسن سيوفه بثغور بلادهم من رشف أرياق دمائهم مبلولة ولا برح يجاهد في سبيل الله برا ويتخذ في البحر سبيله فإنه من الذي علا بمحمد مقامه وانسجم بالخلف العثماني نظامه واقتدى بمشيختنا المؤيدية والنجح في هذا الاقتداء له شريك وساعدته تورية السعادة لما تمسك بقول من قال ولا بد من شيخ يريك ولم يبق بعد الاقتداء بهذه المشيخة إلا الفتوحات المقبولة والمشاركة في القبول على ما يرضي الله ورسوله صدرت هذه المفاوضة إلى الجناب المحمدي تأرج بطيب السلام عليه وتنسم نسيمات القبول من أخبارها الطيبة ما تنقله إليه وحملناها ثناء أطلقنا عنان كميت القلم وهو غرة في جبهته وتوجهت رؤوس الأقلام قبل ركوعها إلى قبلته ومن الإنشاء الملوكي ما أطلق به فصيح القلم لسانه وخضر الشباب على عوارض نفسه ومحاسن سجعاته وقال الفاضل الناصر هذا الإنشاء الذي ما خرس لسان قلمه ولا شابت لمة دواته وتبدى لعلمه الكريم ورود ما أهداه من
(2/418)
________________________________________
ثمرات المودة يانعا في أوراقه مختالا في شعار الإخلاص فعلمنا أنه عنوان لعهده وميثاقه وقد أتحف من نبات الإيناس ما غرس بأكناف النيل فحلا نباته ودنت قطوف أنسه وظهر في فروع المحبة ثمراته فاقتطفنا زهر المنثور من رياضه عند الورود وتغزلنا في رقم سطوره على بياض طروسه بين العوارض والخدود وطالعنا مجموع محاسنه الذي لم ينس فعلمنا أنه للملوك تذكرة وتبصرنا فيما أدهش من حكمه فرأينا المدهش في التبصرة وقلنا هذه لمعة لو أدركها السراج لقصر لسانه وقال سراج الملوك حرمته قوية أو القاضي السعيد لقال ما لسناء الملك بهجة عند هذه الأنوار المحمدية وقد تيقظت عيون عزمنا الشريف للجهاد وعن قريب تهجر مقل السيوف أجفانها وتتجرد لقتال المشركين وقد تكنى لها النصر بأبيه فأيد سلطانها وإذا قدحت سيوف الدولتين في عباب البحر على الكفار نارا تلا لسان النصر ( لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ومن إنشاء الفاضل عن الناصر هنا ما يحسن أن يشنف به سمعه الكريم فإنه عن أبي الفتوحات الذي مشى على هذا الصراط المستقيم وهو إذا كان الله قد أعطانا البلاد وهي الة المقيم الراتب وأعطاهم المراكب وهي الة الظاعن الهارب فقد علمنا لمن عقبى الدار ومن ينقله الله تعالى انتقال قوم نوح من الماء إلى النار فالجناب يوطن نفسه على حسن المآل في الحالين ويعلم أنه من المكرمين في الدارين وقد تلمظت ألسن سيوفنا شوقا لحلاوة نصره وتحركت عيدان رماحنا طربا عند سماع ذكره ونفضت جوارح سهامنا ريش أجنتها لاقتناص تلك الغربان وهامت فرساننا المؤيدية إلى منازل الأحباب لتريه من أعدائه مقاتل الفرسان فإنه المجاهد الذي حظ بني الأصفر في البحر الأزرق من بيض سيوفه أسود وكم أذاقهم الموت الأحمر وكمال التدبيج يقول أهلا بعيش أخضر يتجدد وتتولد نصرتنا عنده برفع راية الفرح في كل وقت عليه مبارك ويتأيد بعز نصرنا المؤيدي حتى يقول له لسان الحال أعز الله أنصارك فتقديمه العثماني من جهة الاستحقاق قد ثبت عندنا وتقرر وهو اليوم إمام المجاهدين الذي ما صلت سيوفه في محراب القتال إلا قال مرقي النصر الله أكبر والله
(2/419)
________________________________________
يجريه على أجمل العوائد من هذا النصر ليصير الكافرون في زلزلة من قارعة سيوفه بهذا العصر
ومنه ما كتبته جوابا عن مولانا السلطان الملك المؤيد سقى الله عهده عن مثال كريم ورد من قرى يوسف صاحب العراقين وهو أعز الله أنصار المقر الكريم العالي الجمالي اليوسفي لا زالت زوراء العراق في أيامه القويمة مستقيمة الجانبين وحلتها الفيحاء عالية المنار وشمل الدين بها مجتمعا في الجامعين وعراق العرب والعجم بارزين من محاسنه اليوسفية في حلتين فلامية العرب تقول
( ولولا اجتناب الذم لم يلف مشرب ... يعاش به إلا لدي ومأكل ) ولامية العجم تقول
( حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت ... بشدة البأس منه رقة الغزل )
فأكرم بهما لامين دارا على وجنات الطروس لكمال المحاسن اليوسفية وفتحت لها الميمات أفواه الشكر لأنها من الأحرف المؤيدية أصدرناها إلى المقر وسواجعها تغرد بالثناء بين أوراقها وألسن الأقلام قد أودعت صدور طروسها سر أشواقنا عند انطلاقها فإنها الصدور التي تعرب من نفثاتها عن ضمائر الأشواق وإذا أطلقت من فض الختم خففت أجنحتها بذلك الثناء على الإطلاق ونبدي لكريم علمه ورود البشير بالقرب اليوسفي وقد حل بالأسماع قبل رؤيته تشنف وهبت نسمات قبوله فأطفأت ما في القلوب من التلهف وضاع نشرها اليوسفي فقال شوقنا اليعقوبي إني لأجد ريح يوسف وتأملنا كريم مثاله فوجدناه قد مد أطناب المحبة وخيم على معاني المودة وحام عليه صادي الأشواق فوجده منها قد أعذب الله في مناهل الصفاء ورده وأومض البرق في الظلمات من رقم سطوره فما شككنا أنه نظم برده فهو مثال يوسفي ولكن ظهر السر الداودي من فصل خطابه وصدقنا رسوله لما جاءنا بكريم كتابه والتفتت من كناس سطوره ارام الإيناس فاقتنصنا منها ما هو عن العين شارد وألفت القلوب على الولاء فضربت الأعداء من جماد الجسد في حديد بارد وأمست الدجلة والنيل لامتزاجهما بسلاف المحبة كالماء الراكد وهذه ألفة خولتنا في نعم الله وزمام الأخوة منقاد إلينا وقد تعين على المقر أن يقول أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا وسرتنا الإشارة الكريمة بالتمكين من أرض الأعداء ومطابقة الطول بالعرض وعلمنا أن هذا الاسم الكريم قد
(2/420)
________________________________________
شملته العناية قديما بقوله تعالى ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ) وأما قرا عثمان فمقل سيوفنا ما غمضت عنه في أجفانها وأنامل أسنتنا ما ذكرت نوبته إلا شرعت في جس عيدانها وجوارح سهامنا ما برحت تنفض ريش أجنحتها للطيران إليه وإن كان معنى سافلا فلا بد لأجل الغرض اليوسفي أن نخيم عليه وننزل سلطان قهرنا بأرضه ونغرس فيها عوامل المران وإن كانت من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان ولم يهمل إلا لاشتغال الدولتين بالدخول في تطهير الأرض من الخوارج وإيقاع الضرب الداخل بعد جس العيدان في كل خارج وقد ان سله لئلا يكون بين المحب والمحبوب رقيبا ولا بد أن يجانسه العكس ويرى ذلك قريبا ويدهمه من أبي النصر أبناء حرب شرف في أنساب الوقائع جدهم ورد الجموع الصحيحة إلى التكسير فردهم وإذا كثرت الخدود وتوردت بالدماء غردت بورق الحديد الأخضر مردهم وذا امتدوا إلى أمد تلالهم حصنهم سورة الفتح قبل القتال فإنهم مريدون ولهم شيخ منحه الله بكثرة الفتوح والإقبال وإذا صرفوا الهمم المؤيدية لم تكن لهم حصونهم عند ذلك الصرف مانعة ولم يسمع لساكنها مجادلة إذا صدموا بالحديد وتلت تلك الحصون الواقعة وإن كانت المنايا غابت عنه مدة كلمته ألسنة سيوفهم وقالت حصرت وإذا طرق بروجه منهم طارق رأى سماء تلك البروج قد انفطرت وما خفي عن كريم علمه ما جمعه الناصر من الجموع التي مزقها الله أيدي سبأ وكم سائل سأل وقد رآهم في النازعات عن ذلك النبأ
وقد أشار بعض شعراء دولتنا الشريفة إلى ذلك بقصيدة كامل بحرها مديد ولكن القصد هنا من أبيات تلك القصيدة
( يا حامي الحرمين والأقصى ومن ... لولاه لم يسمر بمكة سامر )
( والله إن الله نحوك ناظر ... هذا وما في العالمين مناظر )
( فرج على اللجون نظم عسكرا ... وأطاعه في النظم بحر وافر )
( فانبت منه زحافه في وقعة ... يا من بأحوال الوقائع شاعر )
( وجميع هاتيك البغاة بأسرهم ... دارت عليهم من سطاك دوائر )
( وعى ظهور الخيل ماتوا خيفة ... فكأن هاتيك السروج مقابر )
(2/421)
________________________________________
وما خفي عن علمه الكريم أمر الذين نقضوا بيعتنا بعد الناصر فاشتروا الضلالة بالهدى ودعوا سيوفهم الصقيلة لما حاق بهم المكر السيء فأجابهم الصدا ولم يكن لحرارة عزمنا الشريف عند عصيانهم البارد فتره حتى أظهرنا تلون الشام من دمائهم على تدبيج الدروع ألوان النصرة وأخذوا سريعا شبان حرب ما شابت عوارضهم إلا بغبار الوقائع وحكم برشدهم ولم يخرجوا من تحت حجر المقامع وقد أسبغ الله ظلال الملك وخيم به على الدولتين ولم يظهر لمحراب بهجة إلا بهاتين القبيلتين ولوصلت السيوف لغيرهما ما قبلت أو صرفت العوامل للإعراب عن سواهما ما عملت وقد فهمنا كريم الالتفات إلى أن تدار كؤوس الإنشاء بيننا ممزوجة بصافي المودة وعلمنا أنها أحكام صحيحة في شرع الأخوة وهذه الأحكام عندنا عمدة وتالله لقد سابق القصد اليوسفي بسهام مراده إلى الغرض وقضى حاجة في نفس يعقوب لي عنها عوض ولم يبق إلا اتصال شمل الأوصال بكل رسالة سطور الأخوة في رقاعها محققة وتصديق ما يقصه في الجواب فإن القصة اليوسفية ما برحت مصدقة والله تعالى يمتع الأسماع والأبصار بمشاهدة مثلته وطيب أخباره ويفكهنا من بين أوراقها بشهي ثماره
ومما أنشأته بالديار المصرية وحصل إجماع الأمة على أنه من الأفراد تقليد مولانا قاضي القضاة جلال الدين شيخ الإسلام البلقيني نور الله ضريحه بعد عزل الهروي ويوم قراءته بالجامع المؤيدي أرخه المؤرخون وذكروا أنه لم يتفق بملك مصر يوم نظيره وهو الحمد لله الذي أبان فضل العرب على العجم في الكتاب والسنة وأظهر جلال سراجهم المنير فأوضح بحسن تدريبه طريق الجنة وأزال ظلم الجهل بنور هذا الجلال فله الحمد على هذه المنة ونكرر حمده على نصرة أصحاب الشافعي وعود جيرته إلى منازلها العالية ونشكره على نيل الغرض بسهام ابن إدريس فمن جهل أحكام القضاء أمست عليه قاضية ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نستعين بحسن أدائها عى القضاء والقدر ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي من قابل شريعته المطهرة بدنس الجهل فقد كفر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أزالوا بفصاحتهم
(2/422)
________________________________________
العربية كل عجمه وتميزوا على العجم بقوله تعالى ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) وهذا التمييز نصبه مرفوع على كل أمة صلاة نسن بها سيوف السنة من تسربل بدروع ضلاله ونقيم حدودها على من بدل حديث النبي وجهل أسماء رجاله وسلم تسليما كثيرا أما بعد فالهناء بنصرة هذا الدين القيم بين هذه الأمة مشترك وكيف لا وقد ظهر جلاله مقمرا وأنشدوا
( يا ليل طل أو لا تطل ... فليس نرعى قمرك )
وقد حلا مكرر الحمد بنشر الأعلام المؤيدية على أئمتنا الأعلام وحلت أيضا مواقع التورية بنصرة شيخ الإسلام فهو الليث الذي كان لظما العلماء إلى إمامهم نعم الغوث والغيث حتى تأيدوا بمؤيدهم وأعز الله أنصارهم بالشافعي والليث حجبناه عن غيوم العزل وقلنا وقد ساعدنا رأينا الشريف في إظهاره
( أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل ) وولى غيره فأنشد كل عالم أظلم ضوء نهاره
( ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأنذال والسفل ) واعتلت كتب العلم فقالت وعيون سطورها باكية
( لعل إلمامة بالجذع ثانية ... يدب منها نسيم البرء في عللي ) وأنشد لسان حال شيخ الإسلام وقطوف قربه دانية
( تقدمتني رجال كان شوطهم ... وراء خطوي لو أمشي على مهل ) وأشار إلينا وقال وخواطرنا الشريفة باشارته راضية
( لعله إن بدا فضلي ونقصهم ... لعينه نام عنهم أو تنبه لي ) فتنبهنا له وقلنا لضده وقد أهبطناه من تلك الرتبة العالية
( فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا ... في الأرض أو سلما في الجو فاعتزل )
وكيف يطلب من نار خامدة هدى أو يجعل السراب ماء وإذا دعونا الري جاوبنا الصدى ويأبى الله أن يطابق سحبان بباقل أو يجاري فارس العلم براجل
( ومن يقل للمسك أين الشذى ... كذبه في الحال من شما )
(2/423)
________________________________________
وتالله لقد زادنا بحجبه في غيوم العزل علما بعلو مقداره وكان عزلا أظلمت بسببه الدنيا إلى أن من الله على المسلمين بإبداره وقالت الأمة ذلك ما كنا نبغي واستوفى كل عالم شروط المحبة واستوعب وعلمنا أن الحكم العدل حكم بتقديم هذا الإمام بالموجب أنلنا وظيفته غيره فزلزلت الأرض زلزالها وقلنا يخف على قلبنا فأخرجت الأرض أثقالها وأظهرنا جلال العرب فأطلقوا أعنة بلاغتهم في ميادين الفصاحة وما أحقهم هنا بقول الفاضل وتناجدت أهل نجد فكل صاح يا صباحه وعلمنا أن هذا فضل رفل به أبناء العرب في حلل التقديم وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وامتلأ صحن جامع القلعة بحلاوة هذه البشرى وهلل مؤذنوه وذكروا طلعته الجلالية فكبروا وأنشدوا
( لو أن مشتاقا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر )
وأزهرت هذه البشرى في ربيع ولكنه ربيع الأبرار الذي نزه الله روحه وريحانه عن كل نمام وصان فيه المسلمين ممن يأكل أموال الناس بالباطل ويدلي بها إلى الحكام ونشر الله أعلام كتب العلم وزاد الله بالسيف المؤيدي إسعافها وكانت ستور الجهل قد أسبلت على التفاسير فأظهر السر للآي كشافها أما القراءات فهي في قرى شيخ الإسلام وفضله فيها عاصم من الجهل ونافع وأما الحديث فهو مجلي مبهماته بنور جلاله الساطع وأما العربية فقد ظهر بعد وعر العجم تسهيلها وشرعت بيوت العرب لشواهدها وأكرم نزيلها وأما المعاني فقد أظهر الله بيانها وجليت بها عروس الأفراح واهتدينا بنور جلالها ففتحت لنا أبوابها بغير مفتاح وأما المنطق فمقدمات منطقه العذب أرتنا نتائجه يقينا وأما العقليات فما رأينا لمن ناظره فيها في هذه المدة عقلا ولولا الحياء لقلنا ولا دينا وها هو قد نبه الفقه من سنة الغفلة بعدما أمرض الجهل عيونه وأرمد والحاوي أظهر ما حواه من العلم بعدما كان هلك أسى وتجلد والروضة أزهرت في حدائق هذه المسرة بين أوراقها فأينعت ومدت الشافعية أصول دوحتها فتفرعت وظهرت رفعة الرافعي في أفق كماله ونور الله ضريح الشافعي بنور سراجه وبهجة جلاله
ولما كان الجناب الكريم الجلالي هو الذي ناظرناه بالغير فقال نور الشريعة وهو أشهر من نار على علم
(2/424)
________________________________________
( وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم )
فعلمنا أنه حجة للشافعي الذي منه الاستقصاء وإليه منتهى السؤال وما أبدر في أفق درس إلا أزال ظلم الشك بأنواره وأسفر أبداره عن التتمة والإكمال وهو أبو العلماء الذي ولد من الأم أفراحهم وأبو المهمات الذي شهر من العدة الكاملة في ميدان الفرسان سلاحهم وإليه انتهت الغاية فإنه ما برح يأتينا في وجيز تقريبه بالعجاب ويغنينا عن موضح القشيري فإنه يغذينا في إبانته باللباب
اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعيده إلى منال شرفه بعد التحجب وها هو قد ظهر ويتسلسل في أيامنا الشريفة عند الرواة حديث ابن عمر فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي المؤيدي السيفي لا زالت الشافعية في أيامه الشريفة بجلالهم في ترشيح بهجة وابتهاج وثبت الله القواعد وأقامها في ملكه عن التحرير ومشى الرعية فيها على أوضح منهاج أن تفوض إلى الجناب المشار إليه وظيفة كذا وكذا وقد وقع التمويه في الفروق بينه وبين الغير عن أهل التبصرة والهداية وهو نهاية المطلب وعيون المسائل وتاج رؤوسها والمذهب الذي تهذيبه في أدب القاضي كفاية وهو البحر الذي ما دخلنا بسيطه المبسوط إلا قالت التورية إنه في البسيط كامل ولا نظرنا إلى حليته الجلالية إلا غنينا عن المصباح بنوره الشامل وقد ميزناه على مناظريه لما أقروا له بالتعجيز وقرت عيون ابن البارزي نور الله ضريحه بهذا التمييز وألغينا ذكر علوم يجل قدره عن نسبتها إليه ولكن ثغور سيناتها تبسم عند ذكره وأفواه ميماتها تكثر الثناء عليه فليتلق ذلك فإنه العزيز عندنا والمنتقى لهذا التشريف الذي هو ديباجة رقمه وإذا ذكرنا الأصول فأصوله محفوظة وهو المعتمد عليه في التمهيد والمستصفى ببديع علمه ولو عاش ابن الحاجب ما تغزل في رفع حاجبه وخفض له جانبه وعلم أن جلالنا عين الإسلام فلم نرفع على العين حاجبه والوصايا كثيرة ولكن جواهر ذخائرنا تلتقط من إملائه وأماليه وهو جامع مختصراتها ومظهر زوائدها ببيانه ومعانيه لا زال حديث فضله يتسلسل مع الرواة ويسند ولا برح أجل من أوضح الرسالة في مسند محمد وأحمد
ورسم لي في الأيام الشريفة المؤيدية سنة تسع عشرة وثمانمائة أن أنشىء رسالة بوفاء النيل المبارك لم أسبق إليها ولا حام طائر فكر عليها وأحضر مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصر محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية تغمده الله بالرحمة والرضوان قطعة من إنشاء القاضي الفاضل بوفاء النيل وقرئت على المسامع الشريفة المؤيدية وحذرت من التعرض إلى شيء من ألفاظها ومعانيها فأنشأت رسالة حكم لأبي بكر بها على كل فاضل بالتقديم وإن
(2/425)
________________________________________
كان لسان القلم قد طال فأنا أقطه ههنا تأدبا مع عبد الرحيم وقد وصلنا ههنا شمل القطعتين ليتفكه المتأمل في جنى الجنتين ويتنزه نظره في حدائق الروضتين ويطرب لسجع حمام الدوحتين
قال القاضي الفاضل نعم الله سبحانه وتعالى من أصوبها بزوغا وأضفاها سبوغا وأصفاها ينبوعا وأسناها منفوعا وأمدها بحر مواهب وأضمنها حسن عواقب النعمة بالنيل المصري الذي يبسط الامال ويقبضها مده وجزره ويربي النبات حجره ويجري على سواد الأرض بفضته البيضا ويهنأ بيده الخضبية نقب الجرب من الحربى ويحيى مطلعه أنواع الحيوان ويجني ثمرات الأرض صنوان وغير صنوان وينشر مطوي حريرها وينشر مواتها ويوضح معنى قوله تعالى ( وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ) وكان وفاء النيل المبارك في تاريخ كذا وكذا فأسفر وجه الأرض وإن كان قد تنقب وأمن يوم بشراه من كان خائفا يترقب فرأينا الإبانة عن لطائف الله سبحانه وتعالى وقد حققت الظنون ووفت بالرزق المضمون إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقد أعلمناك لتوفي حقه من الإذاعة وتبعده من الإضاعه وتتصرف فيه على ما يصرفك من الطاعه وتشهر ما أورده البشير من البشرى بإبانته وتمده بإيصال رسمه إليه على عادته
فقلت بعد الفاضل ونبدي لعلمه ظهور اية النيل المبارك الذي عاملنا الله فيه بالحسنى وزياده وأجراه لنا في طرق الوفاء على أجمل عاده وحلق أصابعه ليزيل الإبهام فأعلن المسلمون بالشهاده كسر بمسرى فأصبح كل قلب بهذا الكسر مجبورا وأتبعناه بنوروز ما برح هذا الاسم بالسعد المؤيدي مكسوا دق قفا السودان فالراية البيضاء من كل قلع عليه وقبل ثغور الإسلام وأرشفها ريقه الحلو فمالت بأعطاف غصونها إليه وشبب خريره في الصعيد بالقصب ومد سبائكه الذهبية إلى جزيرة الذهب فضرب الناصرية واتصل بأم دينار وقلنا إنه صبغ بقوة لما جاء وعليه الاحمرار وأطال الله عمر زيادته فتردد الناس على الآثار وعمته البركة فأجرى سواقي مكة إلى أن غدت جنة تجري من تحتها الأنهار وحصن مشتهى الروضة في صدره وحنى عليه حنو المرضعات على الفطيم
( وأرشفه على ظمإ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم )
(2/426)
________________________________________
وراق مديد بحره لما انتظمت عليه تلك الأبيات وسقى الأرض سلافته الخمرية فخدمته بحلو النبات وأدخله إلى جنات النخيل والأعناب فالق النوى والحب فأرضع جنين النبت وأحيى لها أمهات العصف والأب وصافحته كفوف الموز فختمها بخواتيمه العقيقية ولبس الورد تشريفه وقال أرجو أن تكون شوكتي في أيامه قوية ونسي الزهري بحلاوة لقائه مرارة النوى وهامت به الشقراء فأرخت ضفائر فروعها عليه من شدة الهوا واستوفت الأشجار ما كان لها في ذمة الري من الديون ومازج الحوامض بحلاوته فهام الناس بالسكر والليمون وانجذب إليه الكباد وامتد
ولكن قوي قوسه لما حظي منه بنصيب سهم لا يرد ولبس شربوش الأترج وترفع إلى أن لبس بعده التاج وفتح منشور الأرض لعلامته بسعة الرزق وقد نفذ أمره وراج فتناول معالم الشنبر وعلم بأقلامها ورسم لمحبوس كل سد بالإفراج وسرح بطائق السفن فخفقت بمخلق بشائره وأشار بأصابعه إلى قتل المحل فبادر الخصب إلى امتثال أوامره وحظي بالمعشوق وبلغ من كل أمنية مناه فلا سكن على البحر إلا تحرك ساكنه للمطالعة بعدما تفقه وأتقن باب المياه ومد شفاه أمواجه إلى تقبيل فم الحور وزاد بسرعته فاستحلى المصريون زائده على الفور ونزل بركة الحبش فدخل التكرور تحت طاعته وحمل على الجهات البحرية فكسر المنصورة وعلا على الطويلة بشهامته وأظهر في مسجد الخضر عين الحياة فأقر الله عينه وصار أهل دمياط في برزخ بين المالح وبينه وطلب المالح رده بالصدر وطعن في حلاوة شمائله فما شعر إلا وقد ركب عليه ونزل في ساحله وأمست واوات دوائره على وجنات الأرض عاطفه وثقلت أردافه على خصور الجواري فاضطربت كالخائفة ومال إليه باسق النخل فلثم طلعه وقبل سوالفه وأمست سود السفن كالحسنات في حمرة وجناته وكلما زاد زاد الله في حسناته فلا فقير سد إلا وحصل له من فيض نعمائه الفتوح ولا ميت خليج إلا عاش به ودبت فيه الروح
ولكنه احمرت عيونه على الناس بزيادة وترفع فقال له المقياس عندي قبالة كل عين أصبع فنشر النيل أعلام قلوعه وحمل وله من ذلك الخرير زمجره ورام أن يهجم
(2/427)
________________________________________
على عير بلاده فبادر إليه عزمنا المؤيدي وكسره وقد اثرنا المقر بهذه البشرى التي عم فضلها برا وبحرا وحدثناه عن البحر ولا حرج وشرحنا له حالا وصدرا ليأخذ حظه من هذه البشرى البحرية بالزيادة الوافره وينشق من طيها نشرا فقد حملت له من طيبات ذلك النسيم أنفاسا عاطره والله تعالى يوصل بشائرنا الشريفة لسمعه الكريم لصير بها في كل وقت مشنفا ولا برح من نيلنا المبارك وانعامنا الشريف على كلا الحالين في وفا
ومما انفردت بإنشائه رسالة السكين فإن الشيخ جمال الدين بن نباتة سبق إلى رسالة السيف والقلم وتقدمه أبو طاهر إسمعيل بن عبد الرزاق الأصفهاني إلى رسالة القوس وكتاب الإنشاء لا بد لهم من سكين فقلت وينهى وصول السكين التي قطع المملوك بها أوصال الجفاء وأضافها إلى الأدوية فحصل بها البرء والشفاء وتالله ما غابت إلا وصلت الألام من تعثرها إلى الجفاء زرقاء كم ظهر للبيض منها ألوان خرساء ومن العجائب أنها لسان كل عنوان ما شاهدها موسى إلا سجد في محراب النصاب وذل بعد أن خضعت له الرؤوس والرقاب كم أيقظت طرف القلم بعدما خط وعلى الحقيقة ما رؤي مثلها قط وكم وجد بها الصاحب في المضائق نفعا وحكم بحسن صحبتها قطعا ماضية العزم قاطعة السن فيها حدة الشباب من وجهين لأنها بالناب والنصاب معلمة الطرفين وأنملة صبح تقمعت بسواد الدجى فعوذتها بالضحى والليل إذا سجى ولسان برق امتد في ظلمات الليل فتنكرت أشعة الأنجم وما عرف منها سهيل هذا وتقطيعها موزون إذ لم يتجاوز في عروض ضربها الحد وملوم أن السيف والرمح لم يعرفا غير الجزر والمد
من أجل ذا تدخل في مضائق ليس للسيف فيها قط مدخل وكلما تفعله ترجزه والرمح في تعقيده مطول إن هجعت بجفنها كانت أمضى من الطيف وكم لها من خاصة جازت بها الحد على السيف تنسى حلاوة العسال فلا يظهر لطوله طائل ويغني عن الة الحرب بإيقاع ضربها الداخل إن مرت بكلها المحلى تركت المعادن عاطله ولم يسمع للحديد في هذه الواقعة مجادله شهد الرمح بعدالته أنها أقرب منه إلى الصواب وحكم لها بصحة ذلك قبل أن تستكمل النصاب ما طال في رأس القلم شعرة إلا سرحتها بإحسان ولا طالعت كتابا إلا أزالت غلطه بالكشط من رأس اللسان
(2/428)
________________________________________
تعقد عليها الخناصر لأنها عدة وعدة وتالله ما وقعت في قبضة إلا أطالت لسانها وتكلمت بحده إن أدخلت إلى القراب كانت قد سبكت على الدخول أو أبرزت من غيمة كان على طلعتها قبول تطرف بأشعتها الباهرة عين الشمس وبإقامتها الحد حافظت الأقلام على مواظبة الخمس وكم لها من عجائب صار بها جدول السيف في بحر غمده كالغريق ولو سمع بها قبل ضربه ما حمل التطريق فلو عارضها أبو طاهر لعرك من قوسه الأذنين وقال له جحدت رسالتك يا ذا القرنين فإن جذبت إلى مقاومتها وكان لك يد تمتد وصلت السكين إلى العظم وصار عليك قطع وانتهى أمرك إلى هذا الحد وهل تعاند السكين صورة ليس لها من تركيب النظم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ولو لمحها الفاضل لحقق قوله إن خاطر سكينه كل أو أدركها ابن نباتة ما أقر برسالة السيف وفل وقال لقلم رسالته أطلق لسانك بشكر مواليك وأخلص الطاعة لباريك وما قصد المملوك الإيجاز في رسالة السكين ونظمها إلا لتكون مختصرة كحجمها لا زالت صدقات مهديها تنحف بما يذبح نحو فقري وتأتي بما يشفي وإيهام التورية يقول ويبري
قلت الذي أوردته ههنا من إنشائي وإنشاء الغير كان من الواجب لأن الباب الذي تحتم علي شرحه وبيانه وإيضاحه باب التسجيع وهو عبارة عن علم الإنشاء وقد تقدم تقرير السجع وأقسامه وعلم أنها أربعة أقسام وهي المطرف والموازي والمشطر والمرصع وذكرت فيه الفوائد التي منها أحكام الفواصل وأوردت المباحث في الإنشاء الذي فيه نظر بالنسبة إلى الحالة التي هي المطلوب وأوردت من بديع الإنشاء وغريبه هذه النبذة التي هي من إنشائي وإنشاء الغير ولولا خشية الإطالة لأوردت من ذلك ما يذبل عنده زهر المنثور ويقرط في قلائد النحور ومن أراد البحث عن صحة ذلك فعليه بمصنفي المسمى بقهوة الإنشاء فإنه خمسة مجلدات منها مجلد أنشأته بالبلاد الشامية قبل أن أستقر منشىء دواوين الإنشاء الشريف بالديار المصرية والممالك الإسلامية وثلاثة مجلدات أنشأتها عن مولانا السلطان الملك المؤيد سقى الله ثراه ومجلد أنشأته عن الملك المظفر والملك الظاهر والملك الصالح وعن مولانا السلطان الملك الأشرف وعن مولانا أمير المؤمنين المعتضد بالله زاده الله شرفا وتعظيما انتهى
(2/429)
________________________________________
والفرق بين التسجيع والتجزئة اختلاف زنة أجزأئه ومجيئه على قافية واحدة من غير عدد معين محصور وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التسجيع قوله
( فعال منتظم الأحوال مقتحم ... الأهوال ملتزم بالله معتصم ) وبت العميان
( من لي بمستلم لليد معتصم ... بالعيش لا مسئم يوما ولا سئم ) وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله
( كم قاتل بصحيح الجمع مقتحم ... وقائل لنظيم السجع ملتزم )
قلت الذي يظهر لي أن الشيخ عز الدين لم يمش في نظم بديعيته مشي محقق لأنه تقرر عنده وعند الجماعة في شروحهم أن التسجيع هو أن يأتي المتكلم في أجزاء بيته أو كلامه أو في بعضها بأسجاع غير متزنة والشيخ أتى في شطر بيته الأول بأسجاع قابل كلا منها في الشطر الثاني بوزنه مثل قاتل وقائل وصميم ونظيم وجمع وسجع ومقتحم وملتزم وهذا هو الترصيع بعينه فإن الترصيع من شرطه أن تقابل كل لفظة من البيت بوزنها ورويها وليته نقل هذا البت إلى الترصيع فإن بيته في الترصيع ناقص بالذي أظهره مع قصر باعه فيه من الحشو وهو
( كم رصعوا كلما من در لفظهم ... كم أبدعوا حكما في سر علمهم ) مع أنه نظر في بيت الشيخ صفي الدين الحلي وهو
( فعال منتظم الأحوال مقتحم ... الأهوال ملتزم بالله معتصم ) ورأى اختلاف الوزن بين ملتزم ومعتصم
وبيت بديعيتي أقول فيه
( سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي ... وصرت كالعلم في العرب والعجم )
(2/430)
________________________________________
ذكر التسميط
( تسميط جوهره يلقى بأبحره ... ورشف كوثره يروي لكل ظمي )
هذا النوع أعني التسميط هو أن يجعل الشاعر كل بيت بسمطه أربعة أقسام ثلاثة منها على سجع واحد بخلاف قافية البيت كقول مروان بن أبي حفصة
( هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا )
والفرق بين التسميط والتسجيع كون أجزاء التسميط غير ملتزم أن تكون على روي البيت وكون أجزائه متزنة فيكون عددها محصورا والفرق بين التفويف وبينه تسجيع بيت التسميط قال ابن أبي الأصبع ما خالفوا بين قافية البيت وأسجاع التسميط إلا لتكون القافية كالسمط والأجزاء المسجعة بمنزلة حب العقد لأن السمط يجمع حب العقد والمراد بأجزاء التسميط بعض أجزاء التقطيع ويسمى تسميط التبعيض ومن التسميط نوع آخر يسمى تسميط التقطيع وهو أن تسجع جميع أجزاء التفعيل على روي يخالف القافية كقول ابن أبي الأصبع
( وأسمر مثمر من مزهر نضر ... من مقمر مسفر عن منظر حسن )
فجاءت جميع أجزاء التفعيل من هذا البيت من سباعيها وخماسيها مسجعة على خلاف سجعة الجزء الذي هو قافية البيت
(2/431)
________________________________________
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التسميط
( فالحق في أفق والشرك في نفق ... والكفر في فرق والدين في حرم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( تسميط ذي أدب تنظيم ذي أرب ... تحقيق ذي غلب بالنصر ملتزم )
وبيت بديعيتي أشرت فيه إلى نظمي ونثري ترفعا بمدح النبي وصحابته رضي الله عنهم بقولي
( سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي ... وصرت كالعلم في العرب والعجم ) وقلت بعده مشيرا إلى النظم
( تسميط جوهره يلفى بأبحره ... ورشف كوثره يروي لكل ظمي )
التورية في التسميط هنا منتظمة في سلك الجواهر وقد تقرر أن السمط هو الذي يجمع حب العقد ولهذا قلت تسميط جوهره والمناسبة البديعية حاصلة بقولي يلفى بأبحره فمحاسنه غير خافية بعد ذكر الجوهر ومثل ذلك الرشف للكوثر والري للظامىء وتمكين القافية ظاهر والله أعلم
(2/432)
________________________________________
ذكر الالتزام
( لأن مدح رسول الله ملتزمي ... فيه ومدح سواه ليس من لزمي )
هذا النوع الذي سماه قوم الالتزام ولزوم ما لا يلزم ومنهم من سماه الاعنات والتضييق وهو في الاصطلاح أن يلتزم الناثر في نثره أو الناظم في نظمه بحرف قبل حرف الروي أو بأكثر من حرف بالنسبة إلى قدرته مع عدم التكلف وقد جاء في الكتاب العزيز في مواضع تجل عن الوصف كقوله تعالى ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) وكقوله تعالى ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون ) ومثله قوله تعالى ( والليل وما وسق والقمر إذا اتسق ) وأما الشعراء فأبو العلاء كان أكثرهم في هذا النوع التزاما حتى إنه صنع كتابا وسماه اللزوميات جاء فيه بأشياء بديعة إلا أن فيه من عثرات لسانه كثيرا كقوله
( ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا )
( يحطمنا صرف الزمان كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك ) ومنه قوله
( لا تطلبن بالة لك رفعة ... قلم البليغ بغير حظ مغزل )
( سكن السماكان السماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل )
(2/433)
________________________________________
ومنه قوله
( يقولون في البستان للعين لذة ... وفي الراح والماء الذي غير اسن )
( إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ... ففي وجه من تهوى جميع المحاسن ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على لزوم ما لا يلزم قوله
( من كل مبتدر للموت مقتحم ... في مارق بغبار الحرب ملتحم ) وبيت العميان
( وميل سمعي لنيل القرب من شيمي ... وسيل دمعي بذيل الترب كالديم ) وبيت الشيخ عز الدين قوله
( لي التزام بمدحي خير معتصم ... بربه وارتباط غير منفصم ) وبيت بديعيتي أقول فيه
( لأن مدح رسول الله ملتزمي ... فيه ومدح سواه ليس من لزمي )
(2/434)
________________________________________
ذكر المزاوجة
( إذا تزاوج ذنبي وانفردت له ... بالمدح من ونجاني من النقم )
هذا النوع سموه المزاوجة والازدواج وهو في اللغة مصدر زاوج بين الشيئين إذا قارب بينهما وفي الاصطلاح قال السكاكي ومن تبعه هو أن يزاوج المتكلم بين معنيين في الشرط والجزاء كقول البحتري
( إذا ما نهى الناهي فلج لي الهوى ... أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر ) ومنه قوله
( إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( ومن إذا خفت في حشري فكان له ... مدحي نجوت وكان المدح معتصمي ) وبيت العميان
( إذا تبسم في حرب وصاح بهم ... يبكي الأسود ويرمي اللسن بالبكم )
(2/435)
________________________________________
وبت الشيخ عز الدين
( إذا تزاوج خوف الذنب في خلدي ... ذكرت أن نجاتي في مديحهم ) وبيت بديعيتي أقول فيه
( إذا تزاوج ذنبي وانفردت له ... بالمدح من ونجاني من النقم )
(2/436)
________________________________________
ذكر التجزئة
( وريت في كلمي جزيت من قسمي ... أبديت من حكمي جليت كل عمي )
التجزئة هي أن يأتي المتكلم ببيت ويجزئه جميعه أجزاء عروضية ويسجعها كلها على وزنين مختلفين جزءا بجزء أحدهما على روي يخالف روي البيت والثاني على روي البيت كقول الشاعر
( هندية لحظاتها خطية ... خطراتها دارية نفحاتها ) وبيت الشيخ صفي الدين
( ببارق خذم في مارق أمم ... أو سابق عرم في شاهق علم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين قوله
( ذي فضل أندية ذي عدل تجزئة ... فالذئب في ظلم يمشي مع الغنم )
الشيخ عز الدين سها في هذا البيت عن رتبة التجزئة في الشطر الثاني بالنسبة إلى التقرير في شرط الرتبة
وبيت بديعيتي أشير فيه إلى ما أبديته من المحاسن في المديح النبوي بقولي
( وريت في كلمي جزيت من قسمي ... أبديت من حكمي جليت كل عمي )
(2/437)
________________________________________
ذكر التجريد
( لي المعاني جنود في البديع وقد ... جردت منها لمدحي فيه كل كمي )
التجريد عرفه صاحب التلخيص بأن قال هو أن ينتزع من أمر ذي صفة اخر مثله وفائدته المبالغة في تلك الصفة كقولك مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة فجردت من الرجل نسمة متصفة بالبركة وعطفتها عليه كأنها غيره وهي هو
ومن أمثلته الشعرية قول الشاعر
( أعانق غصن البان من لين قدها ... وأجني جني الورد من وجناتها ) فإنه جرد من قدها غصنا ومن وجنتيها وردا وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته قوله
( شوس ترى منهم في كل معترك ... أسد العرين إذا حر الوطيس حمي ) والشيخ صفي الدين جرد في بيته أسد العرين من الشوس وبيت العميان في بديعيتهم
( من وجه أحمد لي بدر ومن يده ... بحر ومن لفظه در لمنتظم )
(2/438)
________________________________________
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله
( من لفظه واعظ بالنصح جرد لي ... يا نفس توبي وللتجريد فالتزمي ) وبيت بديعيتي في المديح النبوي قولي
( لي في المعاني جنود في البديع وقد ... جردت منها لمدحي فيه كل كمي )
(2/439)
________________________________________
ذكر المجاز
( وهو المجاز إلى الجنات إن عمرت ... أبياته بقبول سابغ النعم )
المجاز هو عبارة عن تجوز الحقيقة فإن المراد منه أن يأتي المتكلم بكلمة يستعملها في غير ما ضعت له في الحقيقة في أصل اللغة هذا رأي السكاكي وأصحاب المعاني والبيان وقال البديعيون المجاز عبارة عن تجوز الحقيقة بحيث يأتي المتكلم إلى اسم موضوع لمعنى فيخصه إما أن يجعله مفردا بعد أن كان مركبا أو غير ذلك من وجوه الاختصاص
والمجاز جنس يشتمل على أنواع كثيرة كالاستعارة والمبالغة والإرداف والتمثيل والتشبيه وغير ذلك مما عدل فيه عن الحقيقة الموضوعة للمعنى المراد وهذه الأنواع وإن كانت من المجاز فكونها متعددة لخلوها عن معنى زائد عن تجوز الحقيقة كالاستعارة والتشبيه وبقية ما ذكره من الأنواع فلما لم يكن له غير تجوز الحقيقة اختصارا أفرد باسم المجاز إذ لا يليق به غيره
وعمل الشريف الرضي كتابا سماه مجاز القرآن ومات قبل استيفائه ومن أمثلته الشعرية قول العتابي
( يا ليلة لي بحوارين ساهرة ... حتى تكلم في الصبح العصافير ) قوله ساهرة مجاز وبيت الشيخ صفي الدين قوله
( صالوا فنالوا الأماني من مرادهم ... ببارق في سوى الهيجاء لم يشم )
(2/440)
________________________________________
المجاز في بيت الشيخ صفي الدين في لفظة بارق والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين قوله
( أحيى فؤادي مجازي نحو حجرته ... وقد دهشت لجمع فيه مزدحم ) وبيت بديعيتي تقدمه قولي إني تجردت لمدح النبي وقلت بعده في المجاز
( وهو المجاز إلى الجنات إن عمرت ... أبياته بقبول سابغ النعم )
(2/441)
________________________________________
ذكر الائتلاف
وهو أربعة أنواع هي
1 - ائتلاف اللفظ مع المعنى
( تألف اللفظ والمعنى بمدحته ... والجسم عندي بغير الروح لم يقم )
هذا النوع ذكره قدامة أعني ائتلاف اللفظ مع المعنى وترجمه منفردا ولم يبين معناه وشرحه الآمدي وأطال ولم توف عبارته بإيضاحه وأوضحه ابن أبي الأصبع وقال مختصر عبارة هذه التسمية أن تكون ألفاظ المعاني المطلوبة ليس فيها لفظة غير لائقة بذلك المعنى إن كان اللفظ جزلا كان المعنى فخما أو رشيقا رقيقا كان المعنى غريبا كقول زهير بن أبي سلمى
( أثافي سفعا في معرس مرجل ... ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم )
( فلما عرفت الدار قلت لربعها ... ألا انعم صباحا أيها الربع واسلم )
فإن زهيرا قصد تركيب البيت الأول من ألفاظ تدل على معنى غريب لكن المعنى غير غريب فركبه من ألفاظ متوسطة بين الغرابة والاستعمال ولما جنح في البيت الثاني إلى معنى أبين من الأول وأغرب ركبه من ألفاظ مستعملة معروفة وبيت الحلي في بديعيته قوله
( كأنما حلق السعدي منتثرا ... على الثرى بين منقض ومنقصم )
(2/442)
________________________________________
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله
( تؤلف اللفظ والمعنى فصاحته ... تبارك الله منشي الدر في الكلم )
بيت الشيخ عز الدين في هذا النوع عامر وبيت الشيخ صفي الدين خراب لأنه غير صالح للتجريد ولم يظهر له معنى حتى يأتي بالمشبه به في البيت وعلى هذا التقدير لم يحصل في بيته ائتلاف بين اللفظ والمعنى وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( تآلف اللفظ والمعنى بمدحته ... والجسم عندي بغير الروح لم يقم )
2 - ائتلاف اللفظ مع الوزن
( واللفظ والوزن في أوصافه ائتلفا ... فما يكون مديحي غير منسجم )
هذا النوع أعني ائتلاف اللفظ مع الوزن قال قدامة هو أن تكون الأسماء والأفعال تامة لم يضطر الشاعر في الوزن إلى نقصها في البنية ولا إلى الزيادة ولا إلى التقديم والتأخير ومنهم من قال هذا النوع لا مثال له بصورة معينة لأنه عبارة عن أنه لا يضطر إلى ما لا يلزمه منه فساد صورة المعنى وذهاب رونق اللفظ كقول الفرزدق
( وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه )
وفي رواية أخو أمه فإن اضطرار الوزن حمله على رداءة السبك فحصل في الكلام تعقيد يمنع من فهم معناه بسرعة ولو قال وما مثله إلا مملك أبوه يقارب خاله لسهل مأخذه وقرب تناوله
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته قوله
( في ظل أبلج منصور اللواء له ... عدل يؤلف بين الذئب والغنم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله
( أؤلف اللفظ مع وزن بمدحة مو ... لانا وذم عدو بين الثلم )
قلت ثقل الهمزة في لفظة أؤلف والوقوف لتحرير الوزن عند قوله بمدحة مولانا كان سببا في عدم ائتلاف اللفظ مع الوزن في بيت الشيخ عز الدين
(2/443)
________________________________________
وبيت بديعيتي قلت فيه عن النبي بعد قولي فيه في ائتلاف اللفظ مع المعنى
( تألف اللفظ والمعنى بمدحته ... والجسم عندي بغير الروح لم يقم ) وقلت بعده
( واللفظ والوزن في أوصافه ائتلفا ... فما يكون مديحي غير منسجم )
3 - ائتلاف المعنى مع الوزن
( والوزن صح مع المعنى تألفه ... في مدحه فأتى بالدر في الكلم )
هذا النوع أعني ائتلاف المعنى مع الوزن هو أن تأتي المعاني في الشعر صحيحة لا يضطر الشاعر في الوزن إلى قلبها عن وجهها ولا إلى خروجها عن صحتها كقول عروة بن الورد
( فإني لو شهدت أبا سعاد ... غداة غد بمهجته يفوق )
( فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوه إلا ما يطيق )
فإنه أراد أن يقول فديت نفسه بنفسي ومالي فألجأته ضرورة الوزن إلى قلب المعنى ومهما كان الشعر سليما من مثل هذا كان الشعر الذي ائتلف معناه مع وزنه
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( من مثله وذراع الشاة حذره ... عن سمه بلسان صادق الرتم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( تؤلف اللفظ والمعنى مدائحه ... فللمعاني ترى الألفاظ كالخدم )
قلت بيت الشيخ صفي الدين في هذا النوع قاصر عن بيت الشيخ عز الدين فإن الشيخ عز الدين أتى أولا بالانسجام والسهولة مع التورية بتسمية النوع وتمكين القافية فإن لفظة رتم في بيت الشيخ صفي الدين غير ممكنة وأيضا فإن الوزن والمعنى في بيت الموصلي في غاية الائتلاف
وبيت بديعيتي قلت فيه
( واللفظ والوزن في أوصافه ائتلفا ... فما يكون مديحي غير منجسم )
(2/444)
________________________________________
وقلت بعده في ائتلاف المعنى مع الوزن
( والوزن صح مع المعنى تألفه ... في مدحه فأتى بالدر في الكلم )
4 - ائتلاف اللفظ مع اللفظ
( واللفظ باللفظ في التأسيس مؤتلف ... في كل بيت بسكان البديع حمي )
هذا النوع أعني ائتلاف اللفظ مع اللفظ هو أن يكون في الكلام معنى يصح معه هذا النوع ويأخذ عدة معان فيختار منها لفظة بينها وبين الكلام ائتلاف كقول البحتري في الإبل النحيلة
( كالقسي المعطفات بل الأسهم ... مبرية بل الأوتار )
فإن تشبيه الإبل بالقسي كناية عن هزالها فلو شبهها بغير ذلك كالعرجون والدال جاز ولكن المناسبة والائتلاف بين الأسهم والأوتار والقسي حسنت التشبيه
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( خاضوا عباب الوغى والخيل سابحة ... في بحر حرب بموج الموت ملتطم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الموصلي في بديعيته
( ساروا وجدوا النوى واللفظ مؤتلف ... من لسن دمعي بلفظ جد منسجم )
الذي فهمته من هذا النوع معنى الشطر الأول وأما الشطر الثاني فما حصل بينه وبين هذا النوع ائتلاف وبيت بديعيتي قلت قبله
( والوزن صح مع المعنى تألفه ... في مدحه فأتى بالدر في الكلم ) وقلت بعده في ائتلاف اللفظ مع اللفظ
( واللفظ باللفظ في التأسيس مؤتلف ... في كل بيت بسكان البديع حمي )
(2/445)
________________________________________
ذكر التمكين
( تمكين سقمي بدا من خيفة حصلت ... لكن مدائحه قد أبرأت سقمي )
هذا النوع أعنى التمكين وهو ائتلاف القافية منهم من سماه بالتمكين ومنهم من سماه بائتلاف القافية وهو أن يمهد الناثر لسجعه فقرة أو الناظم لقافية بيته تمهيدا تأتي به القافية ممكنة في مكانها مستقرة في قرارها غير نافرة ولا قلقة ولا مستدعاة بما ليس له تعلق بلفظ البيت ومعناه بحيث أن منشد البيت إذا سكت دون القافية كملها السامع بطباعه بدلالة من اللفظ عليها وأكثر فواصل القران على هذه الصورة والذي عقد البديعيون عليه الخناصر في هذا الباب قول أبي الطيب
( يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم )
وقال ابن أبي الأصبع لم نسمع لمتقدم شعرا متمكنا في قافية أشد من تمكين النابغة الذيباني حيث قال
( كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي )
( زعم الغمام ولم أذقه بأنه ... يروي بريقته من العطش الصدي )
قلت ويعجبني هنا قول صدر الدين بن عبد الحق ولعمري إنه أمكن وألطف وأظرف وهو
( ورب ظبي انس ... حشاشتي ملكته )
( أسقيته أسكرته ... حركته نبهته )
( نادمته أعجبته ... حدثته أطربته )
( مددته كشفته ... بلا طويل نكته )
(2/446)
________________________________________
وبيت الحلي على تمكين القافية قوله
( به استغاث خليل الله حين دعا ... رب العباد فنال البرد في الضرم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( تمكين حبك في قلبي نسخت به ... محبة الكل من عرب ومن عجم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( تمكين سقمي بدا من خيفة حصلت ... لكن مدائحه قد أبرأت سقمي )
(2/447)
________________________________________
ذكر الحذف
( وقد أمنت وزال الخوف منحذفا ... نحو العدو ولم أحقر ولم أضم )
هذا النوع أعني الحذف عبارة عن أن يحذف المتكلم من كلامه حرفا من حروف الهجاء أو جميع الحروف المهملة بشرط عدم التكلف والتعسف وهذا هو الغاية كما فعل الحريري في المقامة السمرقندية بالخطبة المهملة التي أجمع الناس على أنها نسيج وحدها وواسطة عقدها وقد عن لي أن أوردها ههنا بكمالها وأورد معها ما نسج المتأخرون على منوالها وهي قوله
الحمد لله الممدوح الأسماء المحمود الآلاء الواسع العطاء المدعو لحسم اللأواء مالك الأمم ومصور الرمم وأهل السماح والكرم ومهلك عاد وإرم أدرك كل سر علمه ووسع كل مصر حلمه وعم كل عالم طوله وهد كل مارد حوله أحمده حمد موحد مسلم وأدعوه دعاء مؤمل مسلم وهو الله لا إله إلا هو الواحد الصمد لا والد له ولا ولد أرسل محمدا للإسلام ممهدا وللملة موطدا ولأدلة الرسل مؤكدا وللأسود والأحمر مسددا وصل الأرحام وعلم الأحكام ووسم الحلال والحرام ورسم الإحلال والإحرام كرم الله محله وكمل الصلاة والسلام له ورحم اله الكرماء وأهله الرحماء ما همر ركام وهدر حمام وسرح سوام وسطا حسام
(2/448)
________________________________________
اعملوا رحمكم الله عمل الصلحاء واكدحوا لمعادكم كدح الأصحاء واردعوا أهواءكم ردع الأعداء وأعدوا للرحلة إعداد السعداء وادرعوا حلل الورع وداووا علل الطمع وسووا أود العمل وعاصوا وساوس الأمل وصوروا لأوهامكم حؤول الأحوال وحلول الأهوال ومساورة الأعمال ومصارمة المال والآل وادكروا الحمام وسرعة مصرعه والرمس وهول مطلعه واللحد ووحدة مودعه والملك وروعة سؤاله ومطلعه والمحوا الدهر ولؤم كره وسوء محاله ومكره كم طمس معلما وأمر مطعما وطحطح عرمرما ودمر ملكا مكرما همه سك المسامع وسح المدامع وإكداء المطامع وإرداء المسمع والسامع عم حكمه الملوك والرعاع والمسود والمطاع والمحسود والحساد والأساود والآساد ما مول الآمال وعكس الآمال ولا وصل الأوصال وكلم الأوصال ولا سر إلا وسا ولؤم وأسا ولا أصح إلا ولد الداء وروع الأوداء
الله الله رعاكم الله إلام مداومة اللهو ومواصلة السهو وطول الإصرار وحمل الإصار واطراح كلام الحكماء ومعاصاة إله السماء أما الهرم حصادكم والمدر مهادكم أما الحمام مدرككم والصراط مسلككم أما الساعة موعدكم والساهرة موردكم أما أهوال الطامة لكم مرصده أما دار العصاة الحطمة المؤصدة حارسهم مالك ورواؤهم حالك وطعامهم السموم وهواؤهم السموم لا مال أسعدهم ولا ولد ولا عدد حماهم ولا عدد ألا رحمه الله امرأ ملك هواه وأكم مسالك هداه وأحكم طاعة مولاه وكدح لروح مأواه وعمل ما دام العمل مطاوعا والعمر موادعا والصحة كاملة والسلامة حاصله ولا دهمه عدم المرام وحصر الكلام وإلمام الالام وحموم الحمام وهدوء الحواس ومراس الأرماس اها لها حسرة ألمها مؤكد وأمدها سرمد وممارسها مكمد ما لولهه حاسم ولا لسدمه راحم ولا له
(2/449)
________________________________________
مما عراه عاصم ألهمكم الله أحمد الإلهام وردأكم رداء الإكرام وأحلكم دار السلام وأسأله الرحمة لكم ولأهل ملة الإسلام وهو أسمح الكرام والمسلم والسلام
قلت رحم الله أبا القاسم الحريري أتى في عاطل هذه الخطبة بالسهل الممتنع ولكن ألجأته ضرورة العاطل في مواضع إلى الإتيان بألفاظ تفتقر إلى الحل وقد تعين هنا تفسيرها لئلا يتعذر علىالطالب مرام ولا يحصل هذا الإشكال في مرآة الأفهام
فاللأواء الشدة والأحمر والأسود العرب والعجم ووسم بمعنى علم وهمر بمعنى صب والركام السحاب المتراكم والكدح عمل الإنسان من الخير والشر والأود المعوج والمساورة المواثبة وطحطح بمعنى هد وأهلك والسكك ضيق الصماخ والرعاع السفلة والأساود الحيات والاصار جمع إصر وهو الثقل والساهرة قيل إنها عرصات القيامة وقيل إنها وجه الأرض انتهى
وأوقفني رجل من طلبة العلم بحلب المحروسة يقال له الشيخ بدر الدين بن محمد بن الضعيف سنة أربع عشرة وثمانمائة على رسالة مشتملة على حكم ومواعظ على طريق الفقهاء لا على طريق الأدباء وسألني الكتابة عليها فامتنعت من ذلك فتوصل إلى أن رسم لي مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية روح الله روحه وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه أن أكتب له على رسالته العاطلة تقريظا عاطلا فقلت هذا النوع من المستحيلات فإن الخطب والوعظيات ثمرات ألفاظها دانية القطوف وأما التقريظ فالتوصل إلى تحصيل ألفاظه العاطلة غير ممكن لأن كف المتناول من ذلك صفر والطريق مخوف فلم يحصل عن المرسوم رجوع وعلمت أن الصرف إلى غير الامتثال ممنوع فكتبت هذا التقريظ الذي ما سبقني ناثر إليه ولا حام طائر فكره عليه وهو طالع المملوك رسالة محمد وسلم وأحكم السمع والطاعة لكلامها المحكم والله ما سمعها عالم إلا وهام ولا ردع سحرها الحلال مسلما إلا كره الحرام وعاد عاملا وأعد للصلاح حواصله وصار له مع الله معامله ما أحلى ما كرر عاطلها المحلى وأهلا لسهولة مسلكها وسهلا ما لولد ساعة سعد أحكامها ولا أهل العصر سكر إلا ما أدار كأس مدامها ولا لعمارة عامر صرحها ورهطه ولا للصر در كلؤلؤها وسمطه ولا لولد مطروح مع طرحها المحرر مطارحه ولا صار لولادة رسالة مسموعة ولا لسرحها آرام
(2/450)
________________________________________
سارحه ولا مسارح الماء الحلو لملحها إلا كالآل وما عامر ما أسه المعمار إلا أطلال وما المطاعم الحلوة معها إلا مالحه وما صوادح الكلام الصادح إلا حول دوحها صادحه وما لطعم الراح مع حلاوة وردها راحه ولا لسلسل الورد معها طلاوة ولو كلل الطل أدواحه ولا لسلوك الدر در سلوكها ولا للمسوك العاطرة عطر مسوكها
ولم لا ومحكمها حرسه الله صار ملكا ولحكمه أحكام وكلام الملوك ملوك الكلام لا إله إلا الله ما أسرار ولد آدم إلا حكمه وما كلام الحكماء وما أحكموه إلا حرمه وما أمة رسول الملك العلام إلا سادة الأمم وما سماه صدورهم إلا مطالع أهل الحكم أطال الله عمره وما ملها سامع وأطلع هلال دالها وسعد السعود لها طالع وحصل للعالم لما هل هلالها سرور وأكرموا محلها وأحلوها الصدور أحكامها عمدة لأمة محمد وما أعادها السامع إلا صار العود أحمد
( سلسلوا دورها لسمع كساه ... درها وهو عاطل كل حله )
( لا سماع إلا لها لا كلام ... لسواها كرره كرره الله )
وع ما حكاه ولد همام أو رواه واسمع مسامرة همام صعد طور الحكم وساعده الله وحسم كل كلامه مادة العواطل وسلسل لطروسه وسطوره سلاسل الدور ودور السلاسل ولو سمعها ملك العواطل أمال رؤوس رماحه وكل حد سلاحه وسع معالم العلم ومعاهده صدره وأدر لأهل الموارد الحلوة ولله دره ما للكمال أصول سطوره الكاملة ولا ورد مع رسول كرسالة محمد مراسله رحم الله امرأ أطاع أوامر حكمها وسمع مرسوم رسمها ودارس ما أحكمه ممهدها وأملاه أمد الله عمره والحمد لله
والحلي بني بيت بديعيته في باب الحذف على العاطل وهو
( آل الرسول محل العلم ما حكموا ... لله إلا وعدوا أعدل الأمم )
والعميان ما نظموا نوع الحذف في بديعيتهم وأنا والشيخ عز الدين تعذر علينا نظم الحذف عاطلا لأجل تسمية النوع في البيت إذ فيه الذال والفاء ولا بد من التورية بتسمية النوع كما شرط أولا فكل منا جنح في باب الحذف إلى جهة أما الشيخ عز الدين فإنه ذكر أنه نظم بيته من الحروف النورانية المقطعة وسمى الحذف في بيته إسقاطا فقال
(2/451)
________________________________________
( أروم إسقاط ذنبي بالصلاة على ... محمد وعلى صديقه العلم ) وبيت بديعيتي حذفت منه الأحرف التي تنقط من تحت وهو الذي نظمته بعد قولي
( تمكين سقمي بدا من خيفة حصلت ... لكن مدائحه قد أبرأت سقمي ) فقلت
( وقد أمنت وزال الخوف منحذفا ... نحو العدو ولم أحقر ولم أضم )
(2/452)
________________________________________
ذكر التدبيج
( واخضر أسود عيشي حين دبجه ... بياض خطي ومن زرق العداة حمي )
نوع التدبيج من مستخرجات ابن أبي الأصبع وهو عبارة عن أن يذكر الناظم أو الناثر ألوانا يقصد بها التورية والكناية بذكرها عن أشياء من تشبيب أو مدح أو وصف أو غير ذلك من الأغراض فمن التدبيج على طريق التورية قول الحريري في المقامة الزورائية فمذ اغبر العيش الأخضر وازور المحبوب الأصفر اسود يومي الأبيض وابيض فودي الأسود حتى رثا لي العدو الأزرق فحبذا الموت الأحمر
ومنه ما كتبت به جوابا عن مولانا السلطان الملك المؤيد رحمه الله إلى الجناب العالي الناصري محمد بن أبي يزيد بن عثمان فإنه المجاهد الذي جعل حظ بني الأصفر في البحر الأزرق من بيض سيوفه أسود فأذاقهم الله به الموت الأحمر وكمال التدبيج يقول أهلا بعيش أخضر يتجدد
ومن الأمثلة الشعرية في باب التدبيج قول ابن حيوس
( إن ترد خبر حالهم عن يقين ... فالقهم في منازل أو نزال )
( تلق بيض الوجوه سود مثار النقع ... خضر الأكناف حمر النصال ) ومثله قوله
( ببياض عزم واحمرار صوارم ... وسواد نقع واخضرار رحاب )
(2/453)
________________________________________
وظريف هنا قول الشيخ زين الدين بن الوردي من أبيات
( ولي صاحب بالمدح والهجو كسبه ... يقول أتدري كيف أصنع بالخلق )
( إذا حمروا وجهي وما بيضوا يدي ... ازرق لهم رجلي ولو خضروا عنقي ) ويعجبني قول الشيخ عز الدين في هذا الباب
( خضرة الصدغ والسواد من العين ... بياض المشيب قد أورثاني )
( واحمرار الدموع صفر خدي ... كل ذا من تلونات الزمان )
قلت تلونات الزمان في باب التدبيج غاية في الحسن
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في التدبيج قوله
( خضر المرابع حمر السمر يوم وغى ... سود الوقائع بيض الفعل والشيم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( خضر المرابع حمر البيض سود ردى ... بيض الثنا فاستمع تدبيج وصفهم )
قلت ما يليق بالشيخ عز الدين ما اعتمده في بيت الشيخ صفي الدين من أخذ لفظه ومعناه والحق أنه تلون في باب التدبيج على الصفي وتحرم على الحلي وبيت بديعيتي قولي
( واخضر أسود عيشي حين دبجه ... بياض حظي ومن زرق العداة حمي )
(2/454)
________________________________________
ذكر الاقتباس
( وقلت يا ليت قومي يعلمون بما ... قد نلت كي يلحظوني باقتباسهم )
الاقتباس هو أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من آية أو آية من ايات كتاب الله خاصة هذا هو الإجماع والاقتباس من القرآن على ثلاثة أقسام مقبول ومباح ومردود فالأول ما كان في الخطب والمواعظ والعهود ومدح النبي ونحو ذلك والثاني ما كان في الغزل والرسائل والقصص والثالث على ضربين أحدهما ما نسبه الله تعالى إلى نفسه ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقع على مطالعة فيها شكاية من عماله ( إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ) والآخر تضمين آية كريمة في معنى هزل ونعوذ بالله من ذلك كقول القائل
( أوحى إلى عشاقه طرفه ... ) ( هيهات هيهات لما توعدون )
( وردفه ينطق من خلفه ... ) ( لمثل ذا فليعمل العاملون ) ومن الاقتباسات التي هي غير مقبولة قول ابن النبيه في مدح الفاضل
( قمت ليل الصدود إلا قليلا ... ثم رتلت ذكركم ترتيلا )
( ووصلت السهاد أقبح وصل ... وهجرت الرقاد هجرا جميلا )
( مسمعي كل عن سماع عذول ... حين ألقى عليه قولا ثقيلا )
( وفؤادي قد كان بين ضلوعي ... أخذته الأحباب أخذا وبيلا )
(2/455)
________________________________________
( قل لراقي الجفون إن لعيني ... في بحار الدموع سبحا طويلا )
( ماس عجبا كأنه ما رأى غصنا ... طليحا ولا كثيبا مهيلا )
( وحمى عن محبه كاس ثغر ... كان منه مزاجها زنجبيلا )
( بان عني فصحت في أثر العيس ... ارحموني ومهلوهم قليلا )
( أنا عبد للفاضل بن علي ... قد تبتلت بالثنا تبتيلا )
( لا تسميه وعد بغير نوال ... ) ( إنه كان وعده مفعولا ) ونعوذ بالله من قوله بعد ذلك
( جل عن سائر الخلائق فضلا ... فاخترعنا في مدحه التنزيلا )
واعلم أن الاقتباس على نوعين نوع لا يخرج به المقتبس عن معناه كقول الحريري فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب حتى أنشد فأغرب فإن الحريري كنى به عن شدة القرب وكذلك هو في الآية الشريفة ونوع يخرج به المقتبس عن معناه كقول ابن الرومي
( لئن أخطأت في مدحيك ... ما أخطأت في منعي )
( لقد أنزلت حاجاتي ... ) ( بواد غير ذي زرع )
فإن الشاعر كنى به عن الرجل الذي لا يرجى نفعه والمراد به في الآية الكريمة أرض مكة شرفها الله وعظمها
ثم اعلم أنه يجوز أن يغير لفظ المقتبس منه بزيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير أو إبدال الظاهر من المضمر أو غير ذلك فالزيادة وإبدال الظاهر من المضمر كقول الشاعر
( كان الذي خفت أن يكونا ... إنا إلى الله راجعونا )
فزاد الألف في راجعون على جهة الإشباع وأتى بالظاهر مكان المضمر في قوله إنا إلى الله ومراده اية التعزية في المصيبة وهي قوله تعالى ( إنا لله وإنا إليه
(2/456)
________________________________________
راجعون ) والنقصان ما تقدم من قول الحريري فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب فإنه أسقط لفظة هو إذ الاية الكريمة لفظها ( كلمح البصر أو هو أقرب ) والتقديم والتأخير كقول الشاعر
( قال لي إن رقيبي ... سيء الخلق فداره )
( قلت دعني وجهك ... الجنة حفت بالمكاره )
هذا الاقتباس من الحديث فإنه تقدم أن الإجماع على جواز الاقتباس من القرآن ومنهم من عد المضمن في الكلام من الحديث النبوي اقتباسا وزاد هنا الطيبي في الاقتباس من مسائل الفقه والشاعر قدم في لفظ الحديث وأخر لأن لفظ الحديث حفت الجنة بالمكاره ومن هنا يتبين لك قطع نظرهم في الاقتباس عن كونه نفس المقتبس منه ولولا ذلك للزمهم الكفر في لفظ القرآن والنقص منه ولكنهم يأتون به على أنه لفظ القرآن ومن أمثلته الشعرية قول الحماسي
( إذا رمت عنها سلوة قال شافع ... من الحب ميعاد السلو المقابر )
( سيبقى لها في مضمر الحب والحشا ... سرائر تبقى يوم تبلى السرائر ) ومنه
( أهدى إليكم على بعد تحيته ... حيوا بأحسن منها أو فردوها ) ويعجبني هنا قول ابن سنا الملك في بعض مطالعه
( رحلوا فلست مسائلا عن دارهم ... أنا باخع نفسي على آثارهم ) ومن لطائف هذا الباب قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في معشوقه المسمى بالنسيم
( إن كانت العشاق من أشواقهم ... جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا )
( فأنا الذي أتلو لهم ( يا ليتني ... كنت ( اتخذت مع الرسولا سبيلا ) ومثله في الحسن قول شيخ شيوخ حماة المحروسة رحمه الله تعالى
(2/457)
________________________________________
( يا نظرة ما جلت لي حسن طلعته ... حتى انقضت وأدامتني على وجل )
( عاتبت إنسان عيني في تسرعه ... فقال لي ( خلق الإنسان من عجل ) ومثله
( إن دمعت عيني فمن أجلها ... بكى على حالي من لا بكى )
( أوقعني إنسانها في الهوى ... يا أيها الإنسان ما غركا ) ومثله
( قسما بشمس جبينه وضحاها ... ونهار مبسمه إذا جلاها )
( وبنار خديه المشعشع نورها ... وبليل صدغيه إذا يغشاها )
( لقد ادعيت دعاويا في حبه ... صدقت وأفلح من بذا زكاها )
( فنفوس عذالي عليه وعذري ... قد ألهمت بفجورها تقواها )
( فالعذر أسعدها مقيم دليله ... والعذل منبعث له أشقاها ) ومنه قول القاضي محيي الدين بن قرناص
( إن الذين ترحلوا ... نزلوا بعين باصره )
( أنزلتهم في مقلتي ... فإذا هم بالساهره ) ومنه قول الشيخ جمال الدين بن نباته رحمه الله تعالى
( وأغيد جارت في القلوب لحاظه ... وأسهرت الإجفان أجفانه الوسنى )
( أجل نظرا في حاجبيه وطرفه ... ترى السحر منه قاب قوسين أو أدنى ) ومنه قول الشيخ زين الدين بن الوردي رحمه الله تعالى
( رب فلاح مليح ... قال يا أهل الفتوه )
( كفلي أضعف خصري ... فأعينوني بقوة ) ومنه قول المعمار
( ابن الجمالي مات حقا ... برح بي موته واذى )
( ورحت أقرأ عليه جهرا ... ) ( يا ليتني مت قبل هذا )
(2/458)
________________________________________
ويعجبني في هذا الباب قول سيدنا الإمام القدوة الحافظ الشيخ شهاب الدين بن حجر العسقلاني الشافعي تغمده الله برحمته وهو
( خاض العواذل في حديث مدامعي ... لما جرى كالبحر سرعة سيره )
( فحسبته لأصون سر هواكم ... ( حتى يخوضوا في حديث غيره ) وقلت
( ناحت مطوقة الرياض وقد رأت ... تلوين دمعي بعد فرقة حبه )
( لكن به لما سمحت تباخلت ... فغدت مطوقة بما بخلت به )
وهنا فائدة يتعين ذكرها في هذا الباب وهي أن العلماء في هذا الباب قالوا إن الشاعر لا يقتبس بل يعقد ويضمن أما الناثر فهو الذي يقتبس كالمنشىء والخطيب فمن ذلك قول الحريري فطوبى لمن سمع ووعى وحقق ما ادعى ( ونهى النفس عن الهوى ) وعلم أن الفائز من ارعوى ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ) وقوله ( أنا أنبئكم بتأويله ) وأميز صحيح القول من عليله وكقول ابن نباتة الخطيب في الخطب التي في ديوانه أما أنتم بهذا الحديث تصدقون ما لكم لا تشفقون ( فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون )
قلت وأما عبد المؤمن الأصفهاني صاحب أطباق الذهب فإنه عنوان هذا الكتاب وإمام هذا المحراب فمن قوله في الأطباق فمن عاين تلوين الليل والنهار لا يغتر بدهره ومن علم أن بطن الثرى مضجعه لا يمرح على ظهره فيا قوم لا تركضوا خيل الخيلاء في ميدان العرض ( أمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) وقوله ولو علم الجذل صولة النجار وعضة المنشار لما تطاول شبرا ولا تخايل كبرا وسيقول البلبل المعتقل ليتني كنت غرابا ( ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ) وقوله
( لله تحت قباب العز طائفة ... أخفاهم في رداء الفقر إجلالا )
(2/459)
________________________________________
( هم السلاطين في أطمار مسكنة ... استعبدوا من ملوك الأرض أقيالا )
( هذي المكارم لا ثوبان من عدن ... خيطا قميصا فعادا بعد أسمالا )
( هذي المناقب لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا )
هم الذين جبلوا براء من التكلف ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) وقوله أهل التسبيح والتقديس لا يؤمنون بالتربيع والتسديس والإنسان بعد علو النفس يجل عن ملاحظة السعد والنحس وإن في الدين القويم لشغلا عن الزيج والتقويم الإيمان بالكهانة باب من أبواب المهانة فأعرض عن الفلاسفة وغض بصرك عن تلك الوجوه الكاسفه فأكثرهم عبدة الطبع وحرسة الكواكب السبع فما للمنجم الغبي وما للكاهن الأجنبي وسر حجب عن غير النبي وهل ينخدع بالفال إلا قلوب الأطفال وإن أمرأ جهل حال قومه وما الذي يجري عليه في يومه كيف يعرف حال الغد وبعده ونحس الفلك وسعده وإن قوما يأكلون من قرصة الشمس لمهزولون وإنهم عن السمع لمعزولون ما السموات إلا مجاهل والكواكب ضواها وما النجوم إلا هياكل سبعة ومن الله قواها كل يسري لأمر معمى ( وكل يجري لأجل مسمى )
وقوله الحرص يسبل على وجوه الظلمة براقعا والظلم يدع الديار بلاقعا يرضون طيب الحياة وينسون يوم النشور ويفتكون فتك البزاة ويؤملون عمر النسور فلا تغرنك من الظلمة كثرة الجيوش والأنصار ( إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) وقوله اغتنم فودك الفاحم قبل أن يبيض فإنما الدنيا جدار يريد أن ينقض فلا يغرنك قطفها النضيج هو ( غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج ) وقوله في آخر مقالة من الأطباق تلك أمة قد خلت ذكروا الله في الخلوات ( فخلف من بعدهم خلف
(2/460)
________________________________________
( أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ) وقوله أصدق الأرواح روحان ممتزجان وأخلص القلوب قلبان يزدوجان يتصاحبون ( قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) واخرون ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) وقوله لله دره فيا هذا لا تحسد المتنعم على ترفه ولا تغبط المتكبر على شرفه وقل له إذا برزت الجحيم وقدم له الحميم ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) وقوله أليس من الخسران جزار يأكل الميت ومكي لا يزور البيت فلا تكن كالجمل الطليح يحمل لغيره أسفارا ولأنك ( كالحمار يحمل أسفارا )
قلت هذا القدر الذي أوردته هنا كاف في الاقتباسات التي تليق بمواعظ الخطب فيتعلم بليغ الخطباء منها سلوك الأدب ولم يبق إلا إظهار نور الاقتباس من مشكاة نور المترسلين فإنهم ملوك هذا الشأن ومن استضاء بسحر اقتباسهم قال إن هذا إلا سحر مبين ومن ذلك قول مالك أزمة هذا الفن القاضي الفاضل من تقريظ ورأيت كل معتاض غيره لصناعة البديع لاهجا بالبدعه خارجا عن الشرعه دارجا في غير عشه مخرجا ميت القول من طرسه على نعشه فهي المدام وما دون فهم عنها قدام ووفود بلاغة لو وجهت إلى الجنة لقال رضوانها ( ادخلوها بسلام ) وكل ابنة فكر ما طالعت فكره إلا صاح لسان طربه ( يا بشرى هذا غلام ) وكل غصن ألف وكل همزة حمام وفيها وفيها وأخاف أن أقول ولا أوفيها وليت هذه المحاسن وليت الأسماع وألقت القناع وفي العمر مستمتع وفي قوس الشبيبة منزع ولكن ضاق فتر عن مسير وجاء فضلها الأول في الزمن الأخير وقد حان أن تخيب في البلاغة القدحان وأنى وإنه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان )
وقوله لا زالت الملوك تنزل لركوبه والسيوف تضحك لقطوبه وأسبغ عليه نعمه باطنة وظاهره وكتب له في الدنيا حسنة وفي الآخرة وغض عيون أعدائه فإذا هم
(2/461)
________________________________________
بالساهرة
وقوله وقف الخادم على الكتاب فارتقى إلى سماء المكرمات وكانت سطوره درجا وأضاءت في خاطره فما استمدت مدادا ولكن أذكت سرجا ونهجت له طريق السعادة فلله من كتاب لولا الغلو لقلنا من كتاب ( لم يجعل له عوجا ) وقوله ورد على الخادم الكتاب الكريم فشكره وقربه نجيا ورفعه مكانا عليا وأعاد عليه عصر الشباب وقد بلغ من الكبر عتيا وقوله كتبها الخادم وقد أخرجت السماء أثقالها وفتحت من العز إلي أقفالها وركضت الرعود لابسة من الغيم جلالها وثوب الليل بالغمام غسيل وسبج الظلام بسيف البروق قتيل وقد زادت السيول إلى أن صارت الخيام عليها فواقع وهمهم الرعد قارئا فاستقبلت قبابها بين ساجد وراكع وكأن الصباح قد ذاب في الليل قطرا وكأن البرق لما ساوى الغمام بين صدفي الليل والنهار قال آتوني أفرغ عليه قطرا وقوله ونفذت بلاغته بسلطانها ونفثت بسحر بيانها وصلى القلم من يده في محراب ومن طرسه على سجادة وجاء منه كتاب لو كان البحر مدادا لما زاده وكم كتاب لا يساوي مداده ( وأخذت الأرض زخرفها ) وحملت من الأسلحة أحرفها وشنت الغارة على السمع والبصر فسلم لها من سلم وبهت الذي كفر وقوله النوبة البغدادية الحديث فيها زائد وناقص والخبر عنها مشوب وخالص وابن أبي عصرون قوم يقولون قد وزر وقوم يقولون كلا لا وزر وقوله وقفت على تلك الألفاظ المجنسة التي هي ذرية بعضها من بعض وثمرات الجنة فكلما رزقت منها رزقا قلت كقول أهلها الحمد لله الذي أورثنا الأرض
وقوله ومما يجب أن يعانيه تربية الحمام التي سكنت في البروج فهي أنجم وأعدت كنانتها للحاجات فهي أسهم وقد كادت أن تكون من الملائكة فإذا نيطت بها الرقاع صارت أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع وقوله وعملوا الأبرجة الخشبية وزحفوا بها إلى الأبراج الحجرية وخصوصا إلى برج يعرف بالذباب ولكن حماه ذباب السيف الإسلامي من الذباب فلم يقدروا أن يستنقذوه وضعفوا عنه فسلبهم أرواحهم ( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه ) وقوله والإسلام مد إلى ترابه باعا طويلا وألقى عليه الشرك من ألسنة السيوف قولا ثقيلا وحصون العدو قامت قيامتها فحالها اليوم كيوم
(2/462)
________________________________________
تكون الجبال كثيبا مهيلا وقوله مما كتب به عن السلطان الملك الناصر إلى أمير المؤمنين المستضيء بالله وهو سلام قولا من رب رحيم ( وروح وريحان وجنة نعيم ) مملوك العتبان الشريفة وعبدها ومن اشتمل على خاطره ولاؤها وودها ينهى أن الله سبحانه شرف ملة الإسلام على الملل ودولة أمير المؤمنين على الدول وقد أقام سيفه حساب الكفرة فأظهر تحريف حسابها ونقلها من ظهور أسرتها إلى بطون ترابها فهل ترى لهم من باقيه أو تسمع لهم من لاغيه وظلت أقحاف بني حام تحت غربان الفلاة غربانا وشوهدت ظلمات بعضها فوق بعض أفعالا وألوانا وعزت سيوف الإسلام فظلت أعناقهم لها خاضعين وعوتبت منهم الأنفس والرؤوس فقالتا أتينا طائعين
ومن اقتباسات القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر البديعة قوله من رسالته التي كتبها عن السلطان الملك الظاهر إلى شمس الدين آق سنقر الفارقاني جوابا عن كتابه الذي أرسله بفتوح النوبة لما توجه إليها من الديار المصرية وهو أدام الله نعمة المجلس ولا زالت عزائمه مرهوبه وغنائمه مجلوبة ومحبوبه وسطاه وخطاه هذي تكفي النوب وهذه تفتح أرض النوبه ولا برحت وطأته على الكفار مشتده وآمالها لهلاك الأعداء كرماحه ممتده ولا عدمت الدولة بيض سيوفه التي يرى بها الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس تثني على عزائمه التي دلت على كل أمر رشيد وأتت على كل جبار عنيد وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء ( وما ربك بظلام للعبيد ) والله يشكر تفاصيل همم المجلس وجملها واخر غزواته وأولها وإذا انسلخ نهار سيفه من ليل هذا العدو سالما إلى مستقره ( والشمس تجري لمستقر لها )
وقوله في وصية العهد الشريف الذي أنشأه للسلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل عن والده الملك المنصور قلاوون الصالحي رحمه الله وهو والشرع الشريف هو قانون الحق المتبع ومأمون الأمر المستمع به يتمسك من يمتار ويمتاز وهو جنة والباطل نار فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز
ومن ذلك اقتباس العلامة أبي طاهر إسماعيل بن عبد الرزاق الأصفهاني في
(2/463)
________________________________________
رسالة القوس وهو صورة مركبة ليس لها من تركيب النظم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم
ومن ذلك ما أورده الشيخ جمال الدين بن نباتة من الاقتباسات البديعية في رسالة السيف والقلم فرقى الأنامل على أعواده وقام خطيبا بمحاسنه في خلعة سواده والتفت إلى السيف فقال ( بسم الله الرحمن الرحيم ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) الحمد لله الذي علم بالقلم وشرفه بالقسم وخط به ما قدر وقسم وصلى الله على سيدنا محمد القائل جف القلم بما هو كائن وعلى آله وصحبه ذوي المجد البين وكل مجد بائن صلاة واضحة السطور فاتحة أدراج الصدور ما نقلت عن صحائف البحار غواديها وكتبت أقلام النور على مهارق الرياض حكمه باريها
أما بعد فإن القلم منار الدين والدنيا وقصبة سباق ذوي الدرجة العليا ومفتاح باب اليمن المجرب إذا أعيى وسفير الملك المحجب وعذيق الملك المرجب وزمام أموره السائره وقادمة أجنحته الطائرة وأنملة الهدى المشيرة إلى ذخائر الدنيا والاخرة به رقم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل وسنة نبيه التي تهذب الخواطر الخواطل فبينه وبين من يفاخره الكتاب والسنة وحسبه ما جرى على يده الشريفة من منه إن نظمت فرائد العلوم فالقلم سلكها وإن علت أسرة الكتب فإنما هو ملكها هذا وهو الجاري بما أمر الله به من العدل والإحسان والمسود الناظر فكأنما هو لعين الرأي إنسان طالما قاتل على البعد والصوارم في القرب وأوتي من المعجزات نوعا من النصر والرعب لا يعاديه إلا من سفه نفسه ولبس لبسه وطبع على قلبه وفل الجدال من غربه وكيف يعادى من إذا كرع من نفسه فقل ( إنا أعطيناك الكوثر ) وإذا ذكر شانئه فقل ( إن شانئك هو الأبتر ) فعند ذلك نهض السيف عجلا وتلمظ لسانه للقول مرتجلا وقال ( بسم الله الرحمن الرحيم وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز )
(2/464)
________________________________________
الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف وشيد بها مراتب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وعقد مرصوف وصلى الله على سيدنا محمد هازم الألوف وعلى اله وأصحابه الذين طالما محوا بريق الصوارم من سطور الصفوف وسلم
أما بعد فإن السيف زند الحق القوي وزنده الوري به أظهر الله الإسلام وقد جنح خفاء وجلا شخص الدين الحنيفي وقد جمح جفاء وأجرى سيوله بالأباطح فأما الحق فمكث وأما الباطل فذهب جفاء وحملته اليد الشريفة النبوية وخصته على الأقلام بهذه المزيه وأطلعته في ليالي النقع والشك سراجا وهاجا وفتح باب الدين إلى أن دخلت فيه الناس أفواجا فهو ذو العزم الثاقب وسماء المجد الذي زينت آثاره بزينة الكواكب والحد الذي كأنه ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب تحسم به أدواء الفتن المضلة وتحذف هممه الجازمة حروف العلة ويحيى من سماء القتام بالضرب فقل يسألونك عن الأهله يجلس على رؤوس الأعداء قهرا ويصرع أبناء الشجاعة قائلا للقلم ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا وهل يفاخر من وقف الموت على بابه وعضت الحرب الضروس بنابه وقذف شياطين القراع بشهبه ومنح آيات شريفة منها طلوع الشمس من غربه ومنها أن الله أنشأ برقه وكان للمارد مصرعا وللرائد مرتعا ( ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا ) فقام القلم في دواته وقعد واضطرب على وجه القرطاس وارتعد وانحرف إلى السيف وقال أيها المضر بطبعه المغر بلمعه الناقض حبل الأنس بقطعه الناسخ بهجره من ظلال العيش فيأ السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا الحبيس الذي طالما عادت عليه عوائد شره الكمين الإبليس الذي لو أمر لي بالسجود لقال ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) فاقطع عنك أسباب المفاخرة واستر من نابك في هذه المكاشره فما يحسن بالصامت محاورة المفصح والله يعلم المفسد من المصلح أولست الذي قيل فيه
( شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم )
فدع عنك هذا الفخر المديد وتأمل قدري إذا كشف عنك الغطاء ( فبصرك اليوم حديد )
(2/465)
________________________________________
قلت ولولا خشية الإطالة لأوزدت هنا رسالة السيف والقلم بكمالها ولكن في هذا القدر من نور اقتباسه ما يهتدي به الأعشى ويستغني بإنشائه عن سلافة الإنشا
ومن غريب اقتباسات الشيخ جمال الدين أيضا ما كتب به مع منقد نحاس وهو قوله فيه طالما حمدت معاشرته ولذت في الليالي مسامرته وأطلع من أفقه نجوما سعيدة القران وتلا على الريح والثلج ( يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ) ومن ذلك بديع الاقتباس للشيخ زين الدين بن الوردي في خطبته في الكلام على المائة غلام وهو لعمري ما أنصفني من أساء بي الظن وقال إني رضيت مع درجة العلم بهذا الفن والصحابة كانوا ينظمون وينثرون ونعوذ بالله من قوم لا يشعرون ومن ذلك قوله في توقيع عدالة بعض الشهود بحلب المحروسة وهو الحمد لله الذي شاد رتبة العدالة وحماها وجعلها همة من شرفت نفسه فزكت ( وقد أفلح من زكاها ) وعصمة من فرقة في قلوب الحكام من نار تدليسهم وقود ( وهم على مايفعلون بالمؤمنين شهود ) ومن ذلك ما كتب به عنه وعن أخيه يوسف وإذا عني الصاحب بالأخ رفقا وإحسانا تلونا ( هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ) والله يعلينا بعلوك ويبلغنا مرجونا ببلوغ مرجوك حتى يقول أولاد الصاحب عنا ( ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ) ومن ذلك ما كتب به بقية السلف الشيخ زين الدين أبو بكر العجمي على قصيدتي الكافية البرهانية تقريظا أشرفت أقطار الأدب بنور اقتباسه والاقتباس في التقريظ فيا له من قصيد رد عيون أعيان هذه الصناعة من الحياء مطرقه تالية على من قاسها بامرىء القيس ( فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقه ) ومن ذلك ما كتب به الشيخ برهان الدين القيراطي إلى الشيخ جمال الدين بن نباتة يقبل الأرض التي سقت السماء نباتها وعمر الله بمعاني الحسن أبياتها
منها فلا غرو أن فصح بديع الزمان بلفظه البديع وأزهرت الأوراق بمنثور رسائله التي كل فصل منها ربيع وخجلت صفحة الخد المنمنمة بطراز العذار المرقوم وقالت الكؤوس حين شبهت في إمالة الأعطاف بألفاظه وما منا إلا له مقام معلوم ومنها
(2/466)
________________________________________
فسبحان من أسرى بها في ليل نقسها إلى المحل الأقصى وحباها بالفضل الذي لا يحصى وأنبت دوحتها في رياض الفصاحه ونمق حدائقها التي لو فتح النرجس عينه في عينها لنسب إلى الوقاحة فتبارك الذي جعل في سماء دوحته لشمس بلاغته بروجا واعلى هممه التي لا ترضى الشهب جيادا والأهلة سروجا حتى أقام يراع قلمه لسوق الأدب قصبه وشاد من قصائده كل بيت إذا مر الحاسد ببابه قبل العتبه وسارت كالسبعة السيارة مصنفاته وعلت من قصره المشيد بسينات سطوره شرفاته وفديت بالمباسم والقدود ميماته وألفاته وزهت أمداحه المؤيدية فأصبت بيوته المرفوعة ذت العماد وراقت محاسنها التي لم يخلق مثلها في البلاد وفضحت لسهلها الممتنع أدباء العصر الذين جابوا الصخر بالواد ومنها طالما سرح الناظر في بستانها منظره ورام ابن سكرة فتح الأبواب لمعارضة قطرها النباتي فوجدها مسكره وعلم المتنبي أن هذا خاتم الأدباء لا محاله والمترسل الذي نهض دونه بأعباء كل رساله وأقام بتقديمها على غيرها براهين الاحتجاج وقال الملحي عندما قابل بحرها الحلو ببحره ( هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج )
ومن ذلك ما نقلته من خط الصاحب فخر الدين بن مكانس تغمده الله برحمته وهو ورد علينا شخص من أهل القيروان ضرير يسمى عبد الله الزغبي يتعاطى نظم الشعر المقفى الموزون الخالي عن المعاني فتردد إلي في مجالس متفرقة ثم بلغني أنه وشى إلى صاحبنا الشيخ زين الدين بن أبي بكر العجمي عين كتاب الإنشاء الشريف أني اهتضمت جانبه وانتقصته وغضيت منه بالنسبة إلى الأدب وأنه يستعين بكلام الغير كثيرا فتأذى من ذلك وتأذيت من كذب الناقل فكتبت ( ليس على الأعمى حرج ) بلغني بلغ الله سيدنا ومولانا الإمام العالم العلامة الأديب الشاعر الناظم الناثر المحقق الأمة الكاتب الحجة زين الدنيا والدين قرة عين الكرام الكاتبين أقصى ما ينتهي إليه تنافس المتنافس وتبتهج به صدور الأولياء والرؤساء والمجالس ولا زال زينة يحلى به العاطل ويظل تحت جناح أدبه القائل من غيبة ذلك الضرير ما لا خشي الله فيه بظهر الغيب ونقل إلى المسامع الكريمة ما لا يحتاج للاعتذار عنه لما فيه من الريب ولكن لا غناء لسيف ذهن المملوك الكليل من التنصل ولا بد من نهلة اعتذار على سبيل التعلل وكان المملوك يترقب سببا للمطارحة فهذا المغتاب الآن صار عنده محمودا إذ كان السبب لحسن التوسل إلى صناعة الترسل ومنها فلو اختلف الأدباء على إمام لأهل هذه
(2/467)
________________________________________
الصناعة مطهر من الأرجاس لقال لهم لسان البلاغة مروا أبا بكر فليصل بالناس فكيف يسوغ للمملوك أن يدعي غير هذا وكيف ولم ولماذا أحسدا على الأدب فما أهجرني له من عصر الصبا بحمد الله وما أغناني أو تفاخرا بالنظم فما أشغلني عنه بتدبير الممالك بما عناني نعم وإن كان جوهر الألفاظ مما يحسد عليه فما أزهدني والله في هذا العرض الفاني ومنها والمسؤول من احسانه أمران الجواب فإنه يقوم عند المملوك مقام الفرج من هذه الشدة والآخر رد كل فاسق عن الباب العالي فإن أبا بكر أول من تصلب في الرده وبلغ المملوك أن هذا الضرير قصد بعض الأصحاب برمية كهذه فأصمى وتردد إليه مرة أخرى ( فعبس وتولى أن جاءه الأعمى )
ومن ذلك ما كتبت به إلى المقر الصاحبي الفخر المشار إليه بعد توجهي من خدمته إلى دمشق المحروسة ومشاهدتي ما قدر الله عليها من الحريق والحصار من قبل الملك الظاهر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وهذه الرسالة التي سارت بها الركبان وجاء لبديع الاقتباس في معانيها بيان وهي يقبل الأرض التي من يممها أو تيمم ترابها حصل له الفخر والمجد فلا برح هيام الوفود إلى أبوابها أكثر من هيمان العرب إلى ربا نجد ولا زالت فحول الشعراء تطلق أعنة ألفاظها وتركض في ذلك المضمار وتهيم بواديها الذي يجب أن ترفع فيه على أعمدة المدائح بيوت الأشعار وينهى بعد أشواق أمست العين بها في مجاري العين معثره ولو لم يقر إنسانها بمرسلات الدمع لقلت في حقه ( قتل الإنسان ما أكفره ) وصول المملوك إلى دمشق المحروسة فيا ليته قبض قبل أن يكتب عليه ذلك الوصول ودخوله إليها والله لقد تمنى خروج الروح عند ذلك الدخول ومنها وتطرقت بعد ذلك إلى الحدادين ولقد نادتهم النار بلسانها من مكان بعيد ( اتوني زبر الحديد ) ولقد كان يوم حريقها يوما عبوسا قمطريرا ضج المسلمون فيه من الخيفة وقد رأوا سلاسلا وأغلالا وسعيرا يا مولاي لقد لبست دمشق في هذه المآتم السواد وطبخت قلوب أهلها وسلقوا من الأسنة بألسنة حداد ولقد نشفت عيونهم من الحريق واستنشقوا فلم ينشقوا رائحة الغادية وكم رؤي في ذلك اليوم وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حاميه وكم رجل تلا عند لهيب بيته ( تبت يدا أبي لهب ) وخرج هاربا وامرأته حمالة الحطب
(2/468)
________________________________________
ومنها ونظرت بعد ذلك إلى القلعة المحروسة وقد قامت قيامة حربها حتى قلنا ( أزفت الازفة ) وستروا بروجها من الطارق بتلك الستائر وهم يقولون ( ليس لها من دون الله كاشفه ) ومنها وتطاول إلى السور المشرف وقد فضل في علم الحرب وحفظ أبوابه المقفلات فما وقفنا على باب إلا وجدناه لم يترك خلفه لصاحب المفتاح تلخيصا لما أبداه من المشكلات فلا وابيك لو نظرته يوم الحرب وقد تصاعدت فيه أنفاس الرجال لقلت ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وإلى المحاصرين وقد جاؤوا فارسا وراجلا ليشهدوا القتال لقلت ( وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) وإلى كواكب الأسنة وقد انتثرت وإلى قبور الشهداء وهي من تحت أرجل الخيل قد بعثرت وإلى كر الفوارس وفرها لقلت ( علمت نفس ما قدمت وأخرت ) ومنها وتصفحت بعد ذلك فاتحة باب النصر فعوذته بالإخلاص وزدت لله شكرا وحمدا وتأملت أهل الباب وهم يتلون لأهل البلد سورة الفتح وللمحاصرين ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ) وكم طلبوا فتحه ولم يجدوا لهم طاقة وضرب بينهم بسور له باب ( باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) ومنها هذا وكم من مؤمن قوم خرج من دياره حذر الموت وهو يقول النجاة وطلب الفرار وكلما دعاه قوم لمساعدتهم على الحريق ناداهم وقد عدم الاصطبار ( يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ) ومنها فأعيذ ما بقي من السبعة بالسبع المثاني والقرآن العظيم فكم رأينا بها يعقوب حزن رأى سواد بيته فاصفر لونه ( وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ) ومنها وتوصلت إلى ظاهر كيسان فأنفقت كيس الصبر لما افتقرت من دنانير تلك الأزهار والدراهم رباها وكابرت إلى أطراف الباب الصغير فوجدت فاضل النار لم يغادر منها ( صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) ومنها هذا وكم خائف قبل اليوم آويناه بها إلى ربوة ذات قرار وكم كان بها مطرب طير خرج بعدما كان يطرب على عود وطار
(2/469)
________________________________________
وأضحت أوقات الربوة بعد ذلك العيش الخضل واليسر عسيرة ولقد كان أهلها ( في ظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة )
ومن ذلك ما أنشأته قديما في توقيع لمولانا قاضي القضاة علاء الدين عالم المسلمين أبي الحسن علي الحنبلي جمل الله الوجود بوجوده بنظر البيمارستان النوري بحماة المحروسة والذي أوردته في التوقيع من الاقتباسات البديعة قولي وصفت مشارب الصفاء بعد الكدر ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا )
وتلا من سعى لهم في ذلك وجزى بالخيرات إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ودار شراب العافية على أهل تلك الحضرة بالطاس والكاس وحصل لهم البرء من تلك البراني التي يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس وتمشت الصحة في مفاصل ضعفائه وقيل لهم جوزيتم بما صبرتم وامتدت مقاصيرهم ( وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم )
ومن ذلك ما اقتبسته في ديباجة عهد مولانا أمير المؤمنين المعتضد بالله زاده الله شرفا وتعظيما وهو الحمد لله الذي شد عضد هذه الأمة بمن أمسى به معتضدا وأسعفنا من البيت النبوي بخليفة ما برح شيخ الملوك في تقديم بيته الشريف مجتهدا وأقام العلم العباسي بعد أبي مسلم بأبي النصر فأكرم بحسن الختام وحسن الابتدا وتكرر حمده على سلطان مؤيد أتحف به العلماء الأعلام وظهر لجلالهم في أيامه الزاهرة بهجة فقال هذا زمان مشايخ الإسلام نحمده على حكمته التي اقتضت أن تكون الخلافة عمدة الأحكام يزول بها الالتباس وهو القائل تعالى ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس )
ومن ذلك ما اقتبسته في عهد مولانا السلطان الملك الظاهر ططر بقولي منه فإن البغاة لاحتجاب السلطنة عنه سدا أسسته على الطغيان فقيل لأهل البيعة قد فتح الله لأبي الفتح ( فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان )
(2/470)
________________________________________
ومن ذلك ما اقتبسته في مثال شريف مؤيدي كان جوابا لقرا يوسف وتبدى لعلمه الشريف ورود البشير بالقرب اليوسفي وقل حل بالأسماع قبل رؤيته تشنف وهبت نسمات قبوله فأطفأت ما في القلوب من التلهف وضاع نشرها اليوسفي فقال شوقنا اليعقوبي ( إني لأجد ريح يوسف ) وهذه ألفة خولتنا في نعم الله وزمام الأخوة منقاد إلينا وقد تعين على المقر أن يقول ( أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا )
واتفق لي في تقليد قاضي القضاة ولي الدين العراقي اقتباسات بديعية منها وكم قال هذا المنصب رب قد أضعفني اليتم وصار الباطل قويا فهب لي من لدنك وليا ومنها وأعاذنا الله من ولاية قوم يسمعون بينة الحق وإذا اجتمعوا على الرشوات تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات
ومن ذلك ما كتبته على ديوان المقر البارعي الكاملي الأديبي العمادي إسماعيل ابن الصائغ الحلبي أحد أعيان كتاب الإنشاء الشريف الذي عارض به ديوان الصبابة للشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة رحمه الله وهو وقفت على هذا الكتاب الذي رفع عماد الأدب في هذا الجيل وشرعت في ذكر محاسنه فقال لسان القلم واذكر في الكتاب إسماعيل ومنه وأما ابن حجة فقد ندب إلى الوقفة على عرفات هذا الفضل المعروف والامتثال هنا واجب ولكن الكف صفر والطريق مخوف هذا وقد ذوت من حدائق فكري زهرة الشباب واختفى لساني كما قال ابن نباتة وأغلق عليه من شفتيه مصراعي باب وخمد جمر القريحة وجمد ذلك الذهن السيال ونأى عن خدمتي كافور الطروس وعنبر المداد وصواب المقال ولكن هبت علي نسمات الشبيبة من دوحة هذا المصنف الجليل فقلت وقد شبت نار القريحة وأملت علي هذا الوصف الجميل الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل
وهذا القدر الذي أوردته كاف هنا في الاقتباس من القران فإني أخشى باب الملالة ولكن عن لي أن أفرد كتابا وأسميه رفع الالتباس عن بديع الاقتباس وقد تقدم وتقرر أيضا أنه إن جاء في المنظوم فهو عقد وتضمين وإن كان في المنثور فهو اقتباس وقد أوسع بعض علماء هذا الفن المجال في ذلك فذكر أن الاقتباس يكون في مسائل الفقه وقال بعضهم إذا قلنا بذلك فلا معنى للاقتصار على مسائل الفقه بل يكون في غيره من العلوم وعلى هذا التقدير تعين أن نورد هنا ما وقع من الاقتباس في الحديث
(2/471)
________________________________________
النبوي وبقية العلوم بحيث لا يخلو هذا الشرح الغريب من الغرائب فإن الظاهر من كلامهم أن الاقتباس مقصور على القرآن والحديث فمما وقع من الحديث النبوي قول الصاحب بن عباد
( أقول وقد رأيت له سحابا ... من الهجران مقبلة إلينا )
( وقد سحت غواديها بهطل ... حوالينا الصدود ولا علينا )
الصاحب اقتبس من قوله عليه الصلاة و السلام حين استسقى وحصل نزول مطر عظيم اللهم حوالينا ولا علينا
ومنه قول أبي الحسن علي بن المفرج المنجم لما احترقت دار الوجية بن صورة بمصر
( أقول وقد عاينت دار ابن صورة ... وللنار فيها مارج يتضرم )
( كذا كل مال أصله من نهاوش ... فعما قليل في نهابر يعدم )
( وما هو إلا كافر طال عمره ... فجاءته لما استبطأته جهنم )
اقتبس من قوله من أصاب مالا من نهاوش أهلكه الله في نهابر النهاوش بالنون المظالم والنهابر المهالك الواحد نهبور
ومنه قول شمس الدين محمد بن عبد الكريم الموصلي
( ومنكر قتل شهيد الهوى ... ووجهه ينبىء عن حاله )
( اللون لون الدم من خده ... والريح ريح المسك من خاله )
اقتبس من قوله في وصف دم الشهيد اللون لون الدم والريح ريح المسك
ومن اقتباسات الحديث في النثر قول الحريري في المقامات إنما الأعمال بالنيات وبها انعقاد العقود الدينيات ومنه قوله شاهت الوجوه وقبح اللكع ومن يرجوه اقتبس من قوله يوم حنين وقد رمى الكفار بكف من الحصى شاهت الوجوه
(2/472)
________________________________________
ويعجبني من المنظوم هنا قول الشيخ شهاب الدين أبي جعفر بن مالك الأندلسي الغرناطي
( لا تعاد الناس في أوطانهم ... قلما يرعى غريب في الوطن )
( وإذا ما شئت عيشا بينهم ... خالق الناس بخلق ذي حسن )
اقتبس من قوله لأبي ذر اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن وهذا الحديث صحيح
ومن الاقتباس في مسائل الفقه في المنظوم قول بعضهم
( أقول لشادن في الحسن أضحى ... يصيد بلحظه قلب الكمي )
( ملكت الحسن أجمع في نصاب ... فأدر زكاة منظرك البهي )
( فقال أبو حنيفة لي إمام ... يرى أن لا زكاة على الصبي )
( وإن تك مالكي الرأي أو من ... يرى رأي الإمام الشافعي )
( فلأنك طالبا مني زكاة ... فإخراج الزكاة على الولي ) ومثله قول أبي العلاء أحمد بن سليمان المعري
( أيا جارة البيت الممنع جاره ... غدوت ومن لي عندكم بمقيل )
( لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل ) ومما ينسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله
( خذوا بدمي هذا الغزال فإنه ... رماني بسهمي مقلتيه على عمد )
( ولا تقتلوه إنني أنا عبده ... وفي مذهبي لا يقتل الحر بالعبد ) ومنه قول القاضي عبد الوهاب المالكي
( يزرع وردا ناضرا ناظري ... في وجنة كالقمر الطالع )
( فلم حرمتم شفتي قطفها ... والحكم أن الزرع للزارع ) وله أيضا
( ونائمة قبلتها قتنبهت ... وقالت تعالوا فاطلبوا اللص بالحد )
( فقلت لها إني فديتك غاصب ... وما حكموا في غاصب بسوى الرد )
(2/473)
________________________________________
ومنه قول أبي الطيب المتنبي
( بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه )
( قفي تغرمي الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانية والمتلف الشيء غارمه )
المعنى أن النظرة الأولى أتلفت مهجتي فلزم غرمها بنظرة ثانية لأنه من أتلف شيئفا حكم عليه بغرمه ولكن في التركيب قلق وعقادة
ومنه قول شمس الدين محمد بن جابر الأندلسي رحمه الله تعالى
( طلبت زكاة الحسن منها فجاوبت ... إليك فهذا ليس تدركه مني )
( علي ديون للعيون فلا ترم ... زكاة فإن الدين يسقطها عني ) ومنه قول الشيخ صدر الدين بن الوكيل
( يا سيدي إن جرى من مدمعي ودمي ... للعين والقلب مسفوح ومسفوك )
( لا تخش من قود يقتص منك به ... فالعين جارية والقلب مملوك ) ومن الاقتباسات في علم المنطق قول شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني
( للمنطقيين أشتكي أبدا ... عين رقيب فليته هجعا )
( صادرها من أحبه فأبى ... أن نختلي ساعة ونجتمعا )
( كيف غدت دائما وما انفصلت ... مانعة الجمع والخلو معا )
وهذه الأبيات في غاية الحسن ولكن أورد بعضهم إيرادا وقال ظاهر كلامه التعجب من هذه القضية والمراد في مثل هذا أن يتعجب مما خرج عن القواعد وهذه القضية موجودة مستعملة وذلك قولهم العدد إما زوج وإما فرد فهذه القضية مانعة الجمع فإن الزوجية والفردية لا يجتمعان ومانعة الخلو فإن العدد لا يخلو من أحدهما فلا معنى للتعجب ومنه قول بعضهم
( مقدمات الرقيب كيف غدت ... عند لقاء الحبيب متصله )
( تمنعنا الجمع والخلو معا ... وإنما ذاك حكم منفصله )
(2/474)
________________________________________
هذا تعجب مما يسوغ التعجب منه لأن منع الجمع لا يكون في المتصلة وإنما هو في حكم المنفصلة
وأما الاقتباس في علم الجدل فمنه قول شمس الدين بن العفيف
( وما بال برهان العذار مسلما ... ويلزمه دور وفيه تسلسل )
( وعندي أن الشمس بالصحو آذنت ... وسكري أراه من محياك يقبل )
وأما الاقتباس من علم النحو فقد اتسع مجالهم فيه حتى غلب على غالبهم التوجيه فمنه قول أبي الطيب
( حولي بكل مكان منهم حلق ... تخطي إذا جئت في استفهامها بمن )
أبو الطيب يقول إذا استفهمت عن مثل هؤلاء الأقوام لا تستفهم بمن لأن من لمن يعقل وهؤلاء عندي بمنزلة ما لا يعقل فحقهم أن يستفهم عنهم بما ومنه قوله
( إذا كان ما ينويه فعلا مضارعا ... مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم )
يقول إذا هم بفعل أوقعه قبل أن يمنع وينهى عنه ويقال له لا تفعل أو ينفى فيقال لم يفعل ومنه قول ابن عنين في معزول
( فلا تغضبن إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفه ) ومنه قول ابن أبي الأصبع في ذلك
( أيا قمرا من حسن وجنته لنا ... وظل عذاريه الضحى والأصائل )
( جعلتك للتمييز نصبا لناظري ... فهلا رفعت الهجر فالهجر فاعل )
قلت ومن أغرب ما وقع في هذا الباب أن شرف الدين محمد بن عنين مرض فكتب إلى الملك المعظم هذين البيتين
( أنظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي )
( أنا كالذي أحتاج ما يحتاجه ... فاغنم ثنائي والدعاء الوافي )
فجاءه الملك المعظم يعوده ومعه ألف دينار وقال له أنت الذي وأنا العائد وهذه الصلة
(2/475)
________________________________________
ومنه قول البهاء زهير
( يا ألفا من قده أقبلت ... بالله كوني ألف الوصل ) ومنه قول الأمير أمين الدين علي السليماني
( أضيف الدجا معنى إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر )
( وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر ) ومنه قول شمس الدين بن العفيف
( يا ساكنا قلبي المعنى ... وليس فيه سواه ثاني )
( لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان )
أما البيتان فإنهما في غاية اللطف ولكن أوردوا عليهما أيضا إيرادا حسنا وهو أن الساكنين إذا اجتمعا كسر أحدهما وهو الأول وكلامه في البيتين أن المكسور غير الاثنين ومنه قول ابن الوردي
( شاعر أخرج نصفا زغلا ... عند خباز فلما أن عرف )
( قال لم تصرف هذا قال مه ... يصرف الشاعر ما لا ينصرف )
قلت قد أتيت في معنى هذه النكتة بما هو أبدع من بيت زين الدين بن الوردي وما ذاك إلا أن مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب دواوين الإنشاء الشريف رحمه الله أحالني على شهاب الدين الذهبي بخمسين دينارا ومطل بها مدة فكتبت إليه
( قد منعتم صرف الدنانير عني ... ولكم في الورى هبات كثيره )
( وأنا شاعر وفي شرع نظمي ... صرفها جائز لأجل الضروره ) ويعجبني في هذا الباب إلى الغاية قول الشيخ زين الدين بن الوردي رحمه الله تعالى
( وأغيد يسألني ... ما المبتدا والخبر )
( مثلهما لي مسرعا ... فقلت أنت القمر )
وحكي أنه كان بالعراق غلامان أحدهما اسمه عمر والآخر أحمد فعزل عمر عن عمله وولي أحمد مكانه بسبب ما وزنه فقال بعض الشعراء في ذلك
(2/476)
________________________________________
( أيا عمر استعد لغير هذا ... فأحمد في الولاية مطمئن )
( وكل منكما كفوء كريم ... ومنع الصرف فيه كما يظن )
( فيصدق فيك معرفة وعدل ... وأحمد فيه معرفة ووزن ) ومنه قول الفاضل
( لي عندكم دين ولكن هل له ... من طالب وفؤادي المرهون )
( فكأنني ألف ولام في الهوى ... وكأن موعد وصلك التنوين ) ويعجبني في الاقتباس من علم العروض قول القائل
( وبقلبي من الجفاء مديد ... وبسيط ووافر وطويل )
( لم أكن عالما بذاك إلى أن ... قطع القلب بالفراق الخليل )
وهذا القدر كاف في الاقتباس من القرآن والحديث النبوي ومسائل الفقه والمنطق وعلم العربية والعروض وغيره وقد تقدم أن الاقتباس مقصور على القرآن والحديث في النثر وأما في النظم فهو عبارة عن عقد وتضمين
ونظام البديعيات لم يقتبسوا من غير القرآن وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( هذي عصاي التي فيها مآرب لي ... وقد أهش بها طورا على غنمي ) وبيت العميان
( ذو مرة فاستوى حتى دنا فرأى ... وقيل سل تعط قد خيرت فاحتكم ) وبيت الشيخ عز الدين
( فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ... ولا اقتباس يرى من هذه الأطم ) وبيت بديعيتي قولي
( وقلت يا ليت قومي يعلمون بما ... قد نلت كي يلحظوني باقتباسهم )
(2/477)
________________________________________
ذكر السهولة
( يا رب سهل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم )
السهولة ذكرها التيفاشي مضافة إلى باب الظرافة وشركها قوم بالانسجام وذكرها ابن سنان الخفاجي في كتاب سر الفصاحة فقال في مجمل كلامه هو خلوص اللفظ من التكلف والتعقيد والتعسف في السبك
وقال التيفاشي السهولة أن يأتي الشاعر بألفاظ سهلة تتميز على ما سواها عند من له أدنى ذوق من أهل الأدب وهى تدل على رقة الحاشية وحسن الطبع وسلامة الروية ومن ألطف الأمثلة عليها قول الشاعر
( أليس وعدتني يا قلب أني ... إذا ما تبت عن ليلى تتوب )
( فها أنا تائب عن حب ليلى ... فما لك كلما ذكرت تذوب ) ومنه قول أبي العتاهية
( الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها )
( فلم تكن تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها ) ومذهبي أن البهاء زهير قائد عنان هذا النوع وفارس ميدانه فمن ذلك قوله
( ومدام من رضاب ... بحباب من ثنايا )
( كان ما كان ومنه ... بعد في النفس بقايا ) مثله قوله
( إن أمري لعجيب ... ما يرى أعجب منه )
( كل أرض لي فيها ... غائب أسأل عنه )
(2/478)
________________________________________
ومثله قوله
( شوقي إليك شديد ... كما علمت وأزيد )
( وكيف تنكر شيئا ... به ضميرك يشهد ) ومثله قوله
( أوحشتني والله يا مالكي ... قطعت يومي كله لم أرك )
( هذا جفاء منك ما اعتدته ... فليتني أعرف من غيرك ) ومثله قوله
( سيدي قلبي عندك ... سيدي أوحشت عبدك )
( أترى تذكر عهدي ... مثل ما أذكر عهدك )
( أترى تحفظ ودي ... مثل ما أحفظ ودك )
( قم بنا إن شئت عندي ... مسرعا أو شئت عندك )
( أنا في داري وحدي ... فتفضل أنت وحدك ) ومنه قوله
( هذا كتاب محب ... قد زاد فيك غرامه )
( أضناه فرط اشتياق ... فرق حتى كلامه )
( أما ترى كيف أضحى ... مثل النسيم سلامه ) ومنه قوله
( كلمني والمدام في فمه ... قد نفحت من حباب مبسمه )
( وماس كالغصن في تمايله ... سكران يشتط في تحكمه )
( بالله يا برق هل تحدثه ... عن نار وجدي وعن تضرمه )
( وهل نسيم سرى يبلغه ... رسالة من فمي إلى فمه )
( عجبت من بخله علي وما ... يذكره الناس من تكرمه )
( هم علموه فصار يهجرني ... رب خذ الحق من معلمه ) وقال ويكاد يسيل رقة وسهولة
( كتبت إليك أشكو في كتابي ... أمورا من فراقك أشتكيها )
( وفي سوق الهوان عرضت نفسي ... رخيصا لم أجد من يشتريها )
( فهل وعد إلى سنة فإن لم ... يكن فيها يكن فيما يليها )
( وقد أنهيت من شوقي فصولا ... لمولانا علو الرأي فيها ) ومثله في الرقة والسهولة قوله
( ملكتموني رخيصا ... فانحط قدري لديكم )
(2/479)
________________________________________
( فاغلق الله بابا ... دخلت منه إليكم )
( حتى ولا كيف أنتم ... ولا السلام عليكم ) وألطف منه قوله
( أنا أدري بأنني ... قل قسمي لديكم )
( فإلى كم تطلعي ... والتفاتي إليكم )
( كان ما كان بيننا ... وسلام عليكم ) وألطف منه قوله
( أما تقرر انا ... فلم تأخرت عنا )
( وما الذي كان حتى ... حللت ما قد عقدنا )
( ولم يكن لك عذر ... ولو يكون علمنا )
( فلا تلمنا فإنا ... قلنا وقلنا وقلنا ) ومنه قوله
( قال ما ترجع عني قلت لا ... قال ما تطلب مني قلت شي )
( فانثنى يحمر مني خجلا ... وثناه التيه عني لا إلي )
( كدت بين الناس أن ألثمه ... اه لو أفعل ما كان علي ) ومنه قوله
( قالوا كبرت عن الصبا ... وقطعت تلك الناحيه )
( فدع الصبا لرجاله ... واخلع ثياب العاريه )
( ونعم كبرت وإنما ... تلك الشمائل باقيه )
( ويميلني نحو الصبا ... قلب رقيق الحاشيه )
( فيه من الطرب القديم ... بقية في الزاويه ) وقال وزنا وقافية وسال برقته
( من لي بقلب أشتريه ... من القلوب القاسيه )
( وإليك يا ملك الملاح ... وقفت أشكو حاليه )
( إني لأطلب حاجة ... ليست عليك بخافيه )
( أنعم علي بقبلة ... هبة وإلا عاريه )
(2/480)
________________________________________
( وأعيدها لك لا عدمت ... بعينها وكما هيه )
( وإذا أردت زيادة ... خذها ونفسي راضيه ) ومنه قوله
( إن شكا القلب هجركم ... مهد الحب عذركم )
( لو أمرتم بما عسى ... ما تعديت أمركم )
( قصروا عمر ذا الجفا ... طول الله عمركم )
( شرفوني بزورة ... شرف الله قدركم )
( كنت أرجو بأنكم ... شهركم لي ودهركم )
( قد نسيتم وإنما ... أنا لم أنس ذكركم )
( لو رأيتم محلكم ... من فؤادي لسركم )
( لو وصلتم محبكم ... ما الذي كان ضركم ) ومن المرقص في هذا الباب قوله
( تعيش أنت وتبقى ... أنا الذي مت عشقا )
( حاشاك يا نور عيني ... تلقى الذي أنا ألقى )
( ولم أجد بين موتي ... وبين هجرك فرقا )
( يا أنعم الناس بالا ... إلى متى فيك أشقى ) ( سمعت عنك حديثا ... يا رب لا كان صدقا )
( وما عهدتك إلا ... من أكرم الناس خلقا ) ( لك الحياة فإني ... أموت لا شك حقا )
( يا ألف مولاي مهلا ... يا ألف مولاي رفقا )
( قد كان ما كان مني ... والله خير وأبقى ) وبيت الشيخ صفي الدين في السهولة قوله
( وقلت هذا قبول جاءني سلفا ... ما ناله أحد قبلي من الأمم )
والعميان ما نظموا هذ النوع في بديعيتهم ولا وجدته في بديعية الشيخ عز الدين الموصلي إلا أن يكون في نسخة غير التي نقلت منها وعلى كل تقدير فالشيخ عز الدين قدم العقادة في بيته على السهولة وبيت بديعيتي
( يا رب سهل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم )
(2/481)
________________________________________
ذكر حسن البيان
( حتى يبث بديعي في محاسنه ... حسن البيان وأشدو في حجازهم )
حسن البيان قالوا هو عبارة عن الإبانة عما في النفس بعبارة بليغة بعيدة عن اللبس إذ المراد منه إخراج المعنى إلى الصورة الواضحة وإيصاله إلى فهم المخاطب بأسهل الطرق وقد تكون العبارة عنه تارة من طريق الإيجاز وطورا من طريق الإطناب بحسب ما يقتضيه الحال وهذا بعينه هو البلاغة وحقيقتها وفي البيان الأقبح والأوسط والأحسن فالأقبح كبيان باقل وقد سئل عن ثمن ظبي في يده فأراد أن يقول أحد عشر فأدركه العي حتى فرق أصابعه وأدلع لسانه فأفلت الظبي ومن هنا يعلم أنه ليس كل ايجاز بلاغة ولا كل إطالة عيا فإنه لا إيجاز في الأفهام أوجز من بيان باقل لأن المخاطب فهم عنه بمجرد نظرة واحدة وقد ضرب به المثل بالعي في بيانه وكان الأحسن أن يقول أحد عشر والأوسط أن يقول ستة وخمسة أو عشرة وواحد
والنور المبين في هذا الباب بيان القرآن الكريم كقوله تعالى وقد أراد أن يحذر من الاغترار بالنعم ( كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين ) وكقوله سبحانه وتعالى وقد أراد أن يبين عن الوعد ( إن المتقين في مقام أمين ) وكقوله سبحانه وقد أراد أن يبين عن الوعيد ( إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين ) وكقوله تعالى في الاحتجاج القاطع للخصم ( وضرب لنا مثلا ونسي
(2/482)
________________________________________
خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ) وكقوله تعالى وقد أراد أن يبين عن العدل ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) وأمثال هذا الباب كثيرة لمن يتتبعها في القرآن
ومما جاء من ذلك في الشعر قول أبي العتاهية
( يضطرب الخوف والرجاء إذا ... حرك موسى القضيب أو فكرا ) وكقول الآخر
( له لحظات في خفايا سريرة ... إذا كرها فيها عتاب ونائل )
فإن هذين الشاعرين أرادا مدح هذين الممدوحين بالخلافة ووصفهما بالقدرة المطلقة وعظم المهابة بعد الله سبحانه وتعالى فإذا نظر أحدهما نظرة أو حرك القضيب مرة أو أطرق مفكرا اضطرب الخوف والرجاء في قلوب الناس فأبانا عن هذه المعاني بأحسن إبانة
وبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله تعالى
( وعدتني في منامي ما وثقت به ... مع التقاضي بمدح فيك منتظم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين قوله
( حسن البيان بحمد الله بين لي ... هدي النبي الرضي الواضح اللقم ) وبيت بديعيتي قلت قبله في السهولة
( يا رب سهل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم ) وقلت بعده في حسن البيان
( حتى يبث بديعي في محاسنه ... حسن البيان وأشدو في حجازهم )
(2/483)
________________________________________
ذكر الإدماج
( قد عز إدماج شوقي والدموع لها ... على بهار خدودي صبغة العنم )
هذا النوع أعني الإدماج هو أن يدمج المتكلم غرضا له في ضمن معنى قد نحاه من جملة المعاني ليوهم السامع أنه لم يقصده وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصده كقول عبد الله بن عبيد الله لعبد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتمد وكان ابن عبيد الله قد اختلت حاله فكتب لابن سليمان
( أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا في من نحب ونكرم )
( فقلت له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم )
فأدمج شكوى الزمان وشرح ما هو عليه من الاختلال في ضمن التهنئة وتلطف في التلويح ورقق التخيل لبلوغ الغرض مع صيانة نفسه عن التصريح بالسؤال لا جرم أن ابن سليمان فطن لذلك ووصله واستعمله
ومن لطيف الإدماج قول ابن نباتة السعدي
( ولا بد لي من جهلة في وصاله ... فهل من حليم أودع الحلم عنده )
ابن نباتة أدمج الفخر في الغزل فإنه جعل حلمه لا يفارقه البتة ولا يرغب عنه بنفسه جملة وإنما عزم على أن يودعه إذ كان لا بد له من وصل هذا المحبوب لأن الودائع تستعاد ثم استفهم عن الخل الصالح الذي يصلح لهذه الوداعة استفهاما إنكاريا
(2/484)
________________________________________
فيكون مفهوم الخطاب بقيا حلمه لعدم من يصلح للوداعة ثم ادمج في ضمن الفخر الذي أدمجه في الغزل شكوى الزمان لقلة الأخوان بحيث أنه لم يبق منهم من يصلح لهذا الشان ومنه قول ابن المعتز في وصف الخيري
( قد نقض العاشقون ما صنع الدهر ... بألوانهم على ورقه )
قصد وصف الخيري بالصفرة وأدمج فيه وصف ألوان العشاق
وبيت الحلي في الإدماج قوله
( لصدق قولك لو حب امرؤ حجرا ... لكان في الحشر عن مثواه لم يرم )
هذا البيت فيه إدماج سؤاله حسن المحشر في زمرة النبي في طي تصديقه الحديث المأثور عنه وبيت العميان
( لهم أحاديث مجد كالرياض إذا ... أهدت نواسم أحيت دارس السلم )
قال الشيخ أبو جعفر الشارح إن الناظم جعل لهم أولا أحاديث مجد طيبة وأدمج في ذلك وصف الرياض وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( أدمجت شكواي من ذنبي بمدحته ... عساك تشفع لي يا شافع الأمم )
الشيخ عز الدين ذكر أنه أدمج الشكوى من ذنبه لكل نوع الإدماج البديعي لا أعلم أين أدمجه والله أعلم وبيت بديعيتي
( قد عز إدماج شوقي والدموع لها ... على بهار خدودي صبغة العنم )
هذا البيت أبدع من بيت ابن المعتز وفيه زيادة وإدماج اخر فإن ابن المعتز غاية قصده وصف الخيري بالصفرة وأدمج فيه ألوان العشاق وأنا قصدت شرح الحال في غرة إدماج الشوق بواسطة جريان الدمع وأدمجت في ذلك صفرة اللون وحمرة الدموع هذا ومحاسن التورية بتسمية النوع غير خافية على أهل الإنصاف من حذاق الأدب والله أعلم
(2/485)
________________________________________
ذكر الإحتراس
( فإن أقف غير مطرود بحجرته ... لم أحترس بعدها من كيد مختصم )
الاحتراس هو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل فيفطن له فيأتي بما يخلصه من ذلك ومثاله في كتاب الله عز و جل ( أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ) فاحترس بقوله سبحانه وتعالى من غير سوء عن إمكان أن تدخل في البرص والبهق وغير ذلك ومثال ذلك في الشعر قول طرفة
( فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمة تهمي )
فقوله غير مفسدها احتراس من مقابله وهو محو معالمها والفرق بين الاحتراس والتتميم والتكميل أن المعنى قبل التكميل صحيح تام ثم يأتي التكميل بزيادة تكمل حسنه إما بفن زائد أو معنى والتتميم يأتي لتتميم نقص المعنى ونقص الوزن معا والاحتراس إنما هو لدخل يتطرق إلى المعنى وإن كان تاما كاملا ووزن الشعر صحيحا وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( فوفني غير مأمور وعودك لي ... فليس رؤياك أضغاثا من الحلم )
احتراس الشيخ صفي الدين في قوله غير مأمور فإن لفظة وفني في البيت فعل أمر ومرتبة الآمر فوق مرتبة المأمور فاحترس بقوله غير مأمور
(2/486)
________________________________________
والعميان ما نظموا هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين
( حبي له يتمشى في المفاصل قل ... بالاحتراس تمشى البرء في السقم )
قلت الشيخ صفي الدين احترس في بيته بقوله غير مأمور واحتراس الشيخ عز الدين عجزت عن تحقيقه بل عن تحقيق معناه فإن هذا البيت مأخوذ من قول أبي نواس في وصف الخمرة
( فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم ) وبيت بديعيتي
( فإن أقف غير مطرود بحجرته ... لم أحترس بعدها من كيد مختصم )
فقولي غير مطرود هو الاحتراس الذي يليق بمقام المادح بالنسبة إلى مقام النبي والتورية باسم النوع في قولي لم أحترس بعدها محاسنها توري والتكميل بقولي من كيد مختصم هو الذي زاد محاسنها بهجة وكمالا
(2/487)
________________________________________
ذكر براعة الطلب
( وفي براعة ما أرجوه من طلب ... إن لم أصرح فلم أحتج إلى الكلم )
هذا النوع من مستخرجات الشيخ عز الدين الزنجاني في كتاب المعيار وهو أن يلوح الطالب بالطلب بألفاظ عذبة مهذبة منقحة مقترنة بتعظيم الممدوح خالية من الإلحاف والتصريح بل يشعر بما في النفس دون كشفه كقول أبي الطيب المتنبي
( وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب )
والفرق بين براعة الطلب وبين الإدماج أن الإدماج أن يقدر معنى من المعاني ثم يدمج غرضه ضمنه ويوهم أنه لم يقصده وهذا مقصور على الطلب فقط وهو أيضا فرق بينه وبين الكناية وبيت الشيخ صفي الدين قوله
( وقد علمت بما في النفس من أرب ... وأنت أكرم من ذكري له بفمي ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله قوله
( براعة بان فيها منتهى طلبي ... وأنت أكرم من نطق بلا ولم ) وبيت بديعيتي
( وفي براعة ما أرجوه من طلب ... إن لم أصرح فلم أحتج إلى الكلم )
(2/488)
________________________________________
ذكر العقد
( قد صح عقد بياني في مناقبه ... وإن منه لسحرا غير سحرهم )
العقد ضد الحل لأن العقد نظم المنثور والحل نثر المنظوم ومن شرائط العقد أن يؤخذ المنثور بجملة لفظه أو بمعظمه فيزيد الناظم فيه وينقص ليدخل في وزن الشعر ومتى أخذ بعض معنى المنثور دون لفظه كان ذلك نوعا من أنواع السرقات ولا يسمى عقدا إلا إذا أخذ الناظم المنثور برمته وإن غير منه طريقا من الطرق التي قدمناها كان المتبقي منه أكثر من المغير بحيث يعرف من البقية صورة الجميع كما فعل أبو تمام في كلام عزى به الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الأشعث بن قيس في ولده وهو إن صبرت صبر الأحرار وإلا سلوت سلو البهائم فعقده أبو تمام شعرا فقال
( وقال علي في التعازي لأشعث ... وخاف عليه بعض تلك المآثم )
( أتصبر للبلوى عزاء وحسبة ... فتؤجر أم تسلو سلو البهائم ) وبيت الشيخ صفي الدين قوله
( ما شب من خصلتي حرصي ومن أملي ... سوى مديحك في شيبي وفي هرمي )
المقصود في هذا البيت من العقد قول النبي يشيب ابن آدم ويشب فيه خصلتان الحرص وطول الأمل
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله
(2/489)
________________________________________
( عقد اليقين صلاتي والسلام على ... محمد دائما مني بلا سأم )
قلت أما الشيخ صفي الدين فإني لم أصادف في بيته من عقد الحديث النبوي محلا ولكن ذكر فيه حكاية حاله وأما الشيخ عز الدين غفر الله له فإنه ذكر في شرحه أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك فقال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وفي حديث آخر قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم وفي الحديث أكثروا من الصلاة علي
ومنه قوله تعالى ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) وذكر أنه عقد الآية والحديث ولم يظهر لي حل هذا العقد في أي موضع هو من البيت وبيت بديعيتي
( قد صح عقد بباني في مناقبه ... وإن منه لسحرا غير سحرهم ) العقد هنا قوله إن من البيان لسحرا والله أعلم
(2/490)
________________________________________
ذكر المساواة
( تمت مساواة أنواع البديع به ... لكن يزيد على ما في بديعهم )
هذا النوع أعني المساواة مما فرعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى وشرحه بأن قال هو أن يكون اللفظ مساويا للمعنى بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه وهذا من البلاغة التي وصف بها بعض الوصاف بعض البلغاء فقال كأن ألفاظه قوالب لمعانيه ومعظم آيات الكتاب العزيز كذلك
واعلم أن البلاغة قسمان إيجاز وإطناب والمساواة معتبرة في القسمين معا فأما الإيجاز فكقوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) والإطناب في هذا المعنى كقوله تعالى ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل ) وقال سبحانه وتعالى في قسم الإيجاز من غير هذا المعنى ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وقال عز من قائل في الإطناب ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) الاية
ولا بد من الإتيان بهذا الفصل لئلا يتوهم المتأمل أن الإطناب لا يوصف بالمساواة ومن الشواهد على المساواة قول امرىء القيس
( فإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد )
( وإن تقتلونا نقتلكم ... وإن تقصدوا الذم لا نقصد )
(2/491)
________________________________________
وقول زهير
( ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم ) وقول طرفة
( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( وقد مدحت بما تم البديع به ... مع حسن مفتتح منه ومختتم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( خطت مساواة معناه وصورته ... في الحسن شاهده في نون والقلم ) وبيت بديعيتي في المساواة قولي
( تمت مساواة أنواع البديع به ... لكن يزيد على ما في بديعهم )
(2/492)
________________________________________
ذكر حسن الختام
( حسن ابتدائي به أرجو التخلص من ... نار الجحيم وهذا حسن مختتمي )
هذا النوع ذكر ابن أبي الأصبع أنه من مستخرجاته وهو موجود في كتب غيره بغير هذا الاسم فإن التيفاشي سماه حسن المقطع وسماه ابن أبي الأصبع حسن الخاتمة وهذا النوع الذي يجب على الناظم والناثر أن يجعلاه خاتمة لكلامهما مع أنهما لا بد أن يحسنا فيه غاية الإحسان فإنه آخر ما يبقى في الأسماع وربما حفظ من دون سائر الكلام في غالب الأحوال فلا يحسن السكوت على غيره
وغاية الغايات في ذلك مقاطع الكتاب العزيز في خواتم السور الكريمة فمن المعجز في ذلك قوله تعالى ( إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) أنظر أيها المتدبر هذه البلاغة المعجزة فإن السورة الكريمة بدئت بأهوال يوم القيامة وختمت بقوله تعالى ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ومثله قوله تعالى في سورة عبس ( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة ) ومن ذلك قوله تعالى ( وترى
(2/493)
________________________________________
الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين )
ومن كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو المقدم في فنون البلاغة على بلغاء البدو والحضر في ختام جواب كتاب كتب به إلى معاوية ثم ذكرت أن ليس لي ولأصحابي عندك إلا السيف فلقد أضحكت بعد استعبار وإني مرقل إليك بجحفل من المهاجرين والأنصار وقد صحبتهم ذرية بدرية وسيوف هاشمية عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وما هي من الظالمين ببعيد
وأجمعوا بعد ذلك على أن فواصل المقامات يقوم غالبها مقام المثل السائر وحسن خواتمها تعقد عليه الخناصر وقد عن لي أن أورد هنا مقامة كاملة فإذا نظر المتأمل إلى براعة استهلالها وفهم القصد الذي جنح إليه الحريري عرف مقدار حسن الختام الذي تمت به الفائدة وحسن السكوت عليه وقد اخترت المقامة الثالثة عشرة وهي الزورائية لأنه ثبت عن القاضي الفاضل أنه شرع في معارضة المقامات وعارض منها كل فصل بفصل أحسن به إلى أن وصل إلى فصل هذه المقامة الذي سيأتي وأنبه عليه في موضعه
والمقامة الموعود بإيرادها هو قوله حكى الحرث بن همام قال ندوت بضواحي الزوراء مع مشيخة من الشعراء لا يعلق لهم مبار بغبار ولا يجري معهم ممار في مضمار فأفضنا في حديث يفضح الأزهار إلى أن نصفنا النهار فلما غاض در الأفكار وصبت النفوس إلى الأوكار لمحنا عجوزا تقبل من البعد وتحضر إحضار الجرد وقد استتلت صبية أنحف من المغازل وأضعف من الجوازل فما كذبت إذ رأتنا أن عرتنا حتى إذا ما حضرتنا قالت حيا الله المعارف وإن لم يكن معارف اعلموا يا مال الامل وثمال الأرامل أني من سروات القبائل وسريات العقائل
والفصل الذي عجز الفاضل عنه هو لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر ويسيرون القلب ويمطون الظهر ويولون اليد فلما أردى الدهر الأعضاد وفجع
(2/494)
________________________________________
بالجوارح الأكباد وانقلب ظهرا لبطن نبا الناظر وجفا الحاجب وذهبت العين ونفدت الراحة وصلد الزند ووهت اليمين وبانت المرافق ولم يبق لنا ثنية ولا ناب
قلت وهذا الفصل الذي أحجم القاضي عن معارضته قلت في معناه وكتبت إلى سيدنا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي نور الله ضريحه رسالة مجسده مشتملة على ذلك جيده راعيت فيها النظير لأجل الصدر من الرأس إلى القدم ولم أخرج فيها عن حسن الختام الذي ما ختمت رسالة بنظيره والتزمت فيها السجع الذي فر الحريري منه في فصله وقد عن لي أن أثبت الرسالة هنا بكمالها وأرجع إلى ما كنا فيه من حسن الختام في المقامة الحريرية والرسالة هي
( يقبل أرضا بالعلا قد تجسدت ... بأرواح أهل العلم روضة مشتهى )
( وهبت بأنفاس العلوم قبولها ... ولا زال صدر الدين منشرحا بها )
وينهى أن الصدر رأس العلوم وكم له من فرق دق على الأفهام وهو كالغرة في جباه الأيام لا زال المجد له حاجيا مقرونا بسعده الشامل ولا برح بعلمه عينا لوجوه المسائل فلله أهداب معانيه التي هي أسحر من عيون الغزلان وأمضى من السيوف إذا برزت من الأجفان وأصداغ فضائله التي هي عاطفة على وجنات الوجود لأنها كالعوارض الماطرة وكم أنست عند ذكره من سالفة وكم لها في قلوب الأعداء من خدود وندى جوده الذي إذا جاءه الشارب وجد عنده شفاه وحلاوة نظمه الذي أنسانا ذكر العذيب وثناياه وعنق مكارمه التي ألفت من البديع الالتفات وأوصافه التي غدت على خد الدهر شامات حتى تبدلت سيئاته حسنات كف عنا تعب الفقر بكرم راحته المتزايد من غير أن يقال له ساعد وشهدنا بأن أياديه بحر يفيض بصنائعه فأشار النيل إلى قبول هذه الشهادة بأصابعه فلله ندى يمينه الذي لم يزل المملوك به في بلاد الشام مكفى وكم فاض منه قلب النيل وجهد أن يوفيه بالباع والذراع فما وفي جبلت على محبته القلوب فصار حبه ظاهرا في كل باطن وحنت إليه الجوارح لما سارت مناقبه إلى كل جانب فحركت كل ساكن ورفع المملوك أدعيته التي هي إن شاء الله تعالى نعيم للبدن الكريم واعتدال اللطيف ذلك المزاج وأثنيته التي هي كالمناطق على خصور الحسان وبها لكل قلب ابتهاج ولكن تثاقلت عليه أرداف النوى وأسكنت في وسط لبه الجوى وقده الانقطاع بسيفه الذي زاد في حده ولكن جار في قده ولو حصر المملوك
(2/495)
________________________________________
ما ساق إليه البعد من الاشتياق إلى تقبيل الأقدام لم تسعه قائمه وهو يعد القلب بالصبر ولكن كما ذكر كعب عن مواعيد عرقوب فنسأل الله حسن الخاتمة
رجع إلى ما كنا فيه من تكملة المقامة الحريرية والتنبيه على حسن ختامها قال بعد الفصل المجسد الذي اخره ولم يبق لنا ثنية ولا ناب فمذ اغبر العيش الأخضر وازور المحبوب الأصفر اسود يومي الأبيض وابيض فودي الأسود حتى رثى لي العدو الأزرق فحبذا الموت الأحمر وتلوى من ترون عينه فراره وترجمانه اصفراره قصوى بغية أحدهم ثرده وقصارى أمنيته برده وكنت آليت أن لا أبذل الحر إلا للحر ولو أني مت من الضر وقد ناجتني القرونه بأن توجد عندكم المعونه وآذنتني فراسة الحوباء بأنكم ينابيع الحباء فنضر الله امرأ أبر قسمي وصدق توسمي ونظر إلي بعين يقذيها الجمود ويقذيها الجود قال الحرث بن همام فهمنا لبراعة عبارتها وملح استعارتها وقلنا لها قد فتن كلامك فكيف إلحامك فقالت يفجر الصخر ولا فخر فقلنا لها إن جعلتنا من رواتك لم نبخل بمواساتك فقالت لأرينكم أولا شعاري ثم لأورينكم أشعاري فأبرزت ردن درع دريس وبرزت برزة عجوز دردبيس وأنشأت تقول
( أشكو إلى الله اشتكاء المريض ... جور الزمان المعتدي البغيض )
( يا قوم إني من أناس غنوا ... دهرا وجفن الدهر عنهم غضيض )
( فخارهم ليس له دافع ... وصيتهم بين الورى مستفيض )
( كانوا إذا ما نجعة أعوزت ... في السنة الشهباء روضا أريض )
( تشب للسارين نيرانهم ... ويطعمون الضيف لحما غريض )
( ما بات جار لهم ساغبا ... ولا لروع قال حال الجريض )
( فغيضت منهم صروف الردى ... بحار جود لم أخلها تغيض )
( وأودعت منهم بطون الثرى ... أسد التحامي وأساة المريض )
( فمحملي بعد المطايا المطا ... وموطني بعد اليفاع الحضيض )
( وافرخي ما تأتلي تشتكي ... بؤسا له في كل يوم وميض )
( إذا دعا القانت في ليله ... مولاه نادوه بدمع يفيض )
( يا رازق النعاب في عشه ... وجابر العظم الكسير المهيض )
(2/496)
________________________________________
( أتح لنا اللهم من عرضه ... من دنس اللؤم نقي رحيض )
( يطفىء نار الجوع عنا ولو ... بمذقة من جازر أو مخيض )
( فهل فتى يكشف ما نابهم ... ويغنم الشكر الطويل العريض )
( فوالذي تعنو النواصي له ... يوم وجوه الجمع سود وبيض )
( لولاهم لم تبد لي صفحة ... ولا تصديت لنظم القريض )
قال الراوي فوالله لقد صدعت بأبياتها أعشار القلوب واستخرجت خبايا الجيوب حتى ماحها من دينه الامتياح وارتاح لرفدها من لم تخله يرتاح فلما افعوعم جيبها تبرا وأولاها كل منا برا تولت يتلوها الأصاغر وفوها بالشكر فاغر فاشرأبت الجماعة بعد ممرها إلى سبرها لتبلو مواقع برها فكفلت لهم باستنباط السر المرموز ونهضت أقفو أثر العجوز حتى انتهت إلى سوق مغتصة بالأنام مختصة بالرخام فانغمست في الغمار وأملست من الصبية الأغمار ثم عاجت بخلو بال إلى مسجد خال فأماطت الجلباب ونضت النقاب وأنا ألمحها من خصاص الباب وأرقب ما ستبدي من العجاب فلما انسرت أهبة الخفر رأيت محيا أبي زيد قد سفر فهممت بأن أهجم عليه لأعنفه على ما أجرى إليه فاستلقى استلقاء المتمردين ثم رفع عقيرة المغردين واندفع ينشد
( يا ليت شعري أدهري ... أحاط علما بقدري )
( وهل درى كنه غوري ... في الخدع أم ليس يدري )
( كم قد قمرت بنيه ... بحيلتي وبمكري )
( وكم برزت بعرف ... عليهم وبنكر )
( أصطاد قوما بوعظ ... واخرين بشعر )
( واستفز بخل ... عقلا وعقلا بخمر )
( وتارة أنا صخر ... وتارة أخت صخر )
( ولو سلكت سبيلا ... مألوفة طول عمري )
( لخاب قدحي وقدحي ... ودام عسري وخسري )
( فقل لمن لام هذا ... عذري فدونك عذري )
قال الحرث بن همام فلما ظهرت على جلية أمره وبديعة أمره وما زخرف في
(2/497)
________________________________________
شعره من عذره علمت أن شيطانه المريد لا يسمع التفنيد ولا يفعل إلا ما يريد فثنيت إلى أصحابي عناني وأبثثتهم ما أثبته عياني فوجموا لضيعة الجوائز وتعاهدوا على محرمة العجائز
قلت قد علمت أيها المتأمل أن هذه المقامة البديعة بنيت على ترهات هذه العجوز وما زخرفته من الباطل في نظمها ونثرها الذي خلب كل منهما القلوب وسلب عقول السامعين إلى أن بالغوا في إكرامها فلما كشف لهم الغطاء عن جميع ما نمقته وتحققوا أنه بني على الباطل كانت الخاتمة فوجموا لضيعة الجوائز وتعاهدوا على محرمة العجائز
والألفاظ المحتاجة إلى الحل في هذه المقامة هي قوله ندوت أي حضرت النادي والجوازل فراخ الحمام واحدها جوزل وعرتنا قصدتنا يقال عراه واعتراه والمعارف الوجوه والمعارف الثانية من المعرفة وثمال القوم من يقول بأمرهم وسروات القبائل السرو وهو السخاء والمروأة واحد السروات سراة لا يجوز أن يكون سراة بالضم وسريات جمع سرية وهي العقيلة السخية والقلب هنا قلب العسكر ويمطون الظهر أي يحملون المنقطع ويولون اليد أي النعمة وأردى أهلك والأعضاد جمع عضد وهو ما يمسك الشيء ويقويه والجوارح هنا الأعضاء التي تجرح وقوله وانقلب ظهرا لبطن المراد به عكس الحال ونبا ارتفع والحاجب صاحب الأمير وصلد الزند أي لم يور ووهت أي ضعفت واليمين القوة والثنية الناقة التي لها ستة أعوام والناب المسنة واغبر العيش أي تكدر وازور مال والمحبوب الأصفر هو الدينار وفودي صدغي والموت الأحمر كناية عن الفقر والعدو الأزرق الشديد العداوة والأصل فيه العطش وبه فسر قوله تعالى ( ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ) أي عطاشا وتلوى تابعي وعينه فراره أي عيانه يغنيك عن اختباره وفي المثل إن الجواد عينه فرارة أي عيانه وقصارى أمره أي آخر أمره وآليت أي حلفت وأبذل الحر أي الوجه والقرونة النفس والحوباء النفس أيضا ونضر بمعنى حسن ويقذيها يلقي فيها القذى والجمود الإمساك ويقذيها الجود يخرج عنها القذى والحامك بمعنى نظمك الشعر والشعار الثوب الذي يلي الجسد والدثار ما فوقه والردن الكم ودردبيس من أسماء الداهية والسنة الشهباء
(2/498)
________________________________________
المجدبة وتشب توقد وغريض طري وساغب جائع والجريض الغصص والأساة الأطباء والمطايا الإبل والمطا الظهر واليفاع التل المشرف والحضيض القرار من الأرض تأتلي تترك والنعاب فرخ الغراب والمهيض الذي كسر بعد جبر وأتح وفق ورحيض مغسول وبمذقة أي بجرعة وأعشار القلوب أي قطع القلوب وحتى ماحها من دينه الامتياح أي أعطاها من عادته يعطي وافعوعم امتلأ وفاغر مفتوح فاشرأبت تطلعت وسبرها اختبارها واستنباط استخراج والمرموز المبهم والغمار الزحام والأغمار البله وعاجت عطفت وأماطت الجلباب باعدته وهو الرداء ونضت جردت وخصاص جمع خصاصة وهو الثقب في الباب وكذلك الصير وفي الحديث من نظر إلى قوم من صير باب فقئت عينه وانسرت انكشفت والخفر الحياء وسفر انكشف وأسفر أضاء وأجرى قصد واستلقى رقد على ظهره ورفع رجلا على رجل والمغردين المطربين والعقيرة الصوت وكنه غوري حقيقة أمري والخل والخمر هنا كنايتان عن الخير والشر وقدحي سهمي وقدحي استخراجي أمره العجيب والمريد العاتي والمرادة العتو وجموا أي سكتوا آه تفسير الألفاظ المحتاجة إلى البيان من هذه المقامة
ومن صناعات القاضي الفاضل في حسن الخواتم قوله في حسن خاتمة رسالة كتب بها إلى الديوان العزيز الخليفي وهو لا برحت راياته السود سويدات قلوب العساكر وأجنحة الدعاء المحلق إلى السماء من أفق المنابر
ومثله قوله لا برحت الأقدار له جنودا والجديدان يسوقان إليه في أيامهما ولياليهما إماء وعبيدا
ومثله قوله والله تعالى يرده رد السحب الهاطلة إلى الأمكنة الجدوب والمغفرة الشاملة إلى مواقع الذنوب والمسرة إلى مستقرها من مطالع القلوب
ومن ذلك قوله في ختام جواب كتاب ناصري ولا زال كالئا للإسلام بسيفه الذي جفنه كجفنه ساهر ولا أخلى الله منه الدين بقوة منه ولا ناصر
(2/499)
________________________________________
ومنه قوله والله تعالى يغني عن المكاتبات بلقائه كما أغنى عن بقية الخلق ببقائه
ومن ذلك قول العلامة الشهاب محمود في ختام رسالة والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل ويجعله كهفا للأولياء وقد جعل
وصرع ابن الصاحب أمين الدين مرزما وهو من أصناف الطير الجليل ومن طيور الواجب وسأل الشيخ جمال الدين في إنشاء مطالعة إلى الحضرة الشريفة المقدسة الخليفية يسأل فيها القبول فيما صرعه من الواجب فأنشأ الشيخ جمال الدين ابن نباتة رسالة بديعة في هذا المعنى وحسن ختامها أبدع وهو والله المسؤول سبحانه أن يمتع المملوك في ولاء المواقف المقدسة باتباع طرقه وأن ينفعه بالانتماء إذا ألزمته الدنيا طائره في يديه وألزمته الآخرة طائره في عنقه
ومن ذلك حسن ختام العهد الذي أنشأة القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون لولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل وهو والله تعالى يجعل استخلافه هذا للمتقين إماما وللمعتدين انفصاما ويطفىء بماء سيوفه نار كل حطب حتى تصبح كما أصبحت نار سميه بردا وسلاما
ومن ذلك حسن ختام رسالتي التي تقدم ذكرها في باب الاقتباس المشتملة على الكائنة التي قدرها الله تعالى على دمشق المحروسة من الحريق وغيره وهو فوصل المملوك إلى البلاد وقد ود يومه لو تبدل بالأمس ولم يسلم له في وقعة الحرب غير الفرس والنفس فأعاذ الله مولانا وبلاده من هذه القيامة القائمة وبدأه في الدنيا ببراعة الأمن وفي الآخرة بحسن الخاتمة
ومن أبدع الأمثلة التي ليس لها مثال في حسن الختام قولي في تقليد بالإشارة الشريفة والوصايا كثيرة ولكن لا يهدى تمر إلى هجر فإننا إلى مشورته أحوج من المبتدا إلى الخبر والله تعالى يديمه ركنا لهذا البيت الشريف الذي تطوف الناس حوله ويسعى إليه ولا برح كلامه في المشورة لفظا ومعنى تتم الفائدة به ويحسن السكوت عليه
وقلت في خاتمة تقليد بنظر الكسوة فليباشر ذلك علماؤنا أنه من تقرب إلى الله بخدمة بيوته فقد فاز ولا بد أن يصير لديباجة هذا البيت بحسن توشيحه دار الطراز فقط
(2/500)
________________________________________
أسعده الله وظهر له في توشيح هذا البيت نظم مفيد ولا ينكر حسن هذا التوشيح للقاضي السعيد والله تعالى يكرم مثواه في الآخرة بتشييد هذا البيت وقيام شعاره ولا زالت أنامل بره تتختم بخواتيم الخير وتنقل أحاديث المحاسن بفصها في أخباره
ومثله قولي في تقريظ كتبته لأقضى القضاة ولي الدين القرشي على كتابه المسمى بعمدة المناسك وهو والله تعالى يزيد صناعة هذا النسك بهجة على كل ناظم ويجعله لأعماله الصالحة المقبولة من أحسن الخواتم
وتقدم لي بالديار المصرية بشارة بوضع المقر الأشرف سيدي موسى ولد المقام الشريف المؤيدي سقى الله من غيث الرحمة ثراه من رأس القلم بالحضرة الشريفة جاءت نسيج وحدها وواسطة عقدها منها حملت به أمه وأبرزته كشمس الحمل بهجة ونورا وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ولكن ملأ الدنيا سرورا
وتوجهت بعد ذلك التاريخ إلى ثغر الاسكندرية المحروسة في مهم شريف فورد على نائب الثغر المحروس بشارة شريفة بمولد سيدي المقر الأشرف الناصري محمد ولد المقام الشريف المؤيدي نور الله ضريحه فركب نائب السلطنة الشريفة بالثغر المحروس إلى أن جاء عندي وسألني الجواب فكتبت تهنئة بديعة وحسن ختامها أبدع منها وهو أكرم بها صحيفة محمدية أمسى بها كل قلب مأنوسا وتلت مسرتها من تقدم قبلها من الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى فالحمد لله على تواتر هذه التهاني التي أتهم بها كل حاد وأنجد وعمت بركتها بإبراهيم وموسى ومحمد والله تعالى يوصل أحاديث التهاني المؤيدية ليتسلسل كل حديث بمسنده ولا برحت الخواطر الشريفة مسرورة بمحمد وحديثه ومولده
ومن ذلك قولي في ختام تقليد قاضي القضاة ولي الدين العوافي بقضاء قضاة الشافعية بالديار المصرية والممالك الإسلامية وهو والله تعالى يطلق له أعنة الاقبال وينيله من نعمه ما لا يخطر قبل وقوعه ببال ويحلي به جيد الدهر وقد تحلى بعدما ذهب رونقه وزال وكما أحسن له في البداية أن يحسن إليه في النهاية حتى يقول الحمد لله على كل حال
ومثله في الحسن ختام تقليد قاضي القضاة أبي البقاء علم الدين صالح البلقيني وهو والله يرفع علم علمه على كل غاد ورائح ويجعل كلا من عمله وحكمه واسمه الكريم صالحا في صالح في صالح
(2/501)
________________________________________
وقد عن لي أن أختم ما تقدم لي من الأمثلة في حسن الخواتم بختام كتاب المسك من أقل عبيده ويود منثور الدر أن ينتظم في سلك عقوده وذلك أني كتبت للمقر المرحومي الفتحي فتح الله صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الاسلامية كان على لسان قاضي القضاة شرف الدين مسعود الشافعي وأعيان طرابلس المحروسة وقد وصلوا إلى الديار المصرية في البحر قسرا مما عاينوه من أهوال تلك المحنة المشهورة التي قدرها الله تعالى على طرابلس المحروسة وحسن الختام في القصة المذكورة قولي والقوم يا نظام الملك قد دهمهم من لم يفرق بين التحليل والتحريم إلى أن صرحوا بالطلاق ووقعوا في التغابن وشمت المنافقون ومنعوا في الجمعة الصف ومست فرقتهم الممتحنة في الحشر ولم يسمع لهم مجادلة لما فزعوا بالحديد في هذه الواقعة ولكن من الرحمن وطلع قمر الأمن ولاحظهم نجم السعد وصعدوا طور النجاة وكفكفوا ذاريات الدموع وطردت عنهم العداة إلى قاف لما دخلوا حجرات مصر وحظوا من مولانا السلطان بعد سد المذاهب بالفتح
قلت هذا الختام جعلته خاتمة للأمثلة المنثورة في هذا الباب وأما الأمثلة الشعرية فمن المجيدين فيها أبو نواس حيث قال في خاتمة قصيدة مدح بها الخصيب
( وإني جدير إذ بلغتك بالمنى ... وأنت بما أملت منك جدير )
( فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور ) ومنه قول أبي تمام معتذرا في اخر قصيدة
( فإن يك ذنب عن أو تك هفوة ... على خطأ مني فعذري على عمد ) ومنه قول أبي الطيب في ختام قصيدة
( فلا حطت لك الهيجاء سرجا ... ولا ذاقت لك الدنيا فراقا ) وقال أبو العلاء من ختام قصيدة
( ولا تزال بك الدنيا ممتعة ... بالآل والحال والعلياء والعمر )
(2/502)
________________________________________
وقول الأرجاني في ختام قصيدة
( بقيت ولا أبقى لك الدهر كاشحا ... فإنك في هذا الزمان فريد )
( علاك سوار والممالك معصم ... وجودك طوق والبرية جيد ) وقول ابن نبيه في ختام قصيدة أشرفية
( دمتم بني أيوب في نعمة ... تجوز في التخليد حد الزمان )
( والله لا زلتم ملوك الورى ... شرقا وغربا وعلى الضمان ) وقال شيخ شيوخ حماة في ختام مديح مظفري
( فلا زلت ذا ملك جديد مؤيد ... تدين لك الدنيا وتصفو لك الأخرى )
( ولا زال للأيام طول على الورى ... وما الطول إلا أن يطيل لك العمرا ) وقال ابن سنا الملك في ختام مديح عادلي
( بقيت حتى يقول الناس قاطبة ... هذا أبو إلياس أو هذا أبو الخضر ) وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله في ختام مديح مؤيدي
( فابق عالي المقام داني العطايا ... قاهر الباس ظاهر الأنباء )
( يتمنى عدوك العيش حتى ... أتمنى له امتداد البقاء ) وقال الشيخ برهان الدين القيراطي رحمه الله تعالى في ختام مديح نبوي
( يا إمام الهدى عليك صلاة ... وسلام في الصبح ثم العشاء )
( ما صبا في أصائل قلب صب ... ذكر الملتقى على الصفراء ) ومثله قول الشيخ زين الدين عمر بن الوردي في ختام قصيد نبوي
( صلى عليك الله يا خير الورى ... ما نار نور من ضريحك في الدجى ) ومثلهما قولي في ختام مديح نبوي ولكن مسك هذا الختام أضوع من ختامهما في المديح النبوي وهو
(2/503)
________________________________________
( عسى وقفة أو قعدة لابن حجة ... على بابكم يسعى بها وهو محرم )
( فقد جاء يشكو من ذنوب تعاظمت ... وقدرك في يوم الشفاعة أعظم )
( وقد ناله في عنفوان شبابه ... هموم وسيف الهم للظهر يقصم )
( وعارضه قد شاب في زمن الصبا ... عسى بك من ذا العارض الصعب يسلم )
( فيا وردنا الصافي طيور قلوبنا ... عليك إذا ما نابها الضيم حوم ) وقلت بعده في حسن الختام
( عليك سلام نشره كلما بدا ... به يتغالى الطيب والمسك يختم ) وبيت الشيخ صفي الدين في حسن الختام هو
( فإن سعدت فمدحي فيك موجبه ... وإن شقيت فذنبي موجب النقم ) وبيت العميان فيه هو
( لكن وإن طال مدحي لا أفي أبدا ... فاجعل العذر والإقرار مختتمي ) وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله
( فاجعل له مخلصا من قبح زلته ... في حسن مفتتح منه ومختتم )
وبيت العميان في حسن الختام أبدع من بيت الشيخ صفي الدين الحلي في حسن ختامه وموجب ذلك التورية بتسمية النوع وتمكين القافية في آخر البيت وبيت الشيخ عز الدين أبدع من بيت العميان إذ فيه الترشيح بذكر التخلص والافتتاح والمختتم وللكن فاته الترتيب فإنه قدم ذكر التخلص على الافتتاح وبيت بديعيتي
( حسن ابتدائي به أرجو التخلص من ... نار الجحيم وهذا حسن مختتمي )
هذا البيت العامر بمدح النبي ختامه مسك لكونه جاء خاتمة لما وصلت إليه القدرة من الأوصاف النبوية واجتمع فيه حسن الابتداء مورى به مع حسن التخلص وحسن الختام على الترتيب ولو قال الشيخ عز الدين في بيته بحسن مبتدأ ساعدته التورية بتسمية النوع الذي هو حسن الابتداء
(2/504)
________________________________________
قال المؤلف رحمه الله تعالى هذا المصنف المبارك أعني البديعية وشرحها إذا ملكه متأدب شرفت نفسه عن النظر في غيره من تذاكرالآداب فإني ما تركت نوعا من أنواع البديع إلا أطلقت عنان القلم في ميادين الطروس مستطردا إلى استيعاب ما وقع من جيده ورديئه ونصبت فيه البحث بين المقصرين والمجيدين بيد أني أقول وبالله المستعان إن العميان اختصروا جانبا كبيرا من البديع وما أجادوا النظم فيما وقع اختيارهم عليه والشيخ صفي الدين الحلي أجاد في الغالب لخلاصه من التورية في تسمية النوع ولكنه قصر في مواضع نبهت عليها في مظانها والشيخ عز الدين رحمه الله قصر في غالب بديعيته لالتزامه بتسمية النوع البديعي ومراعاة التورية والبحث مقرر مع كل منهم في إجادته وتقصيره عند إيراد بيته على ذلك النوع الوارد
وقد تقدم الإطناب في تقرير حسن الابتداء وبراعة الاستهلال وفي الفرق بينهما وأوردت في حسن التخلص ما وقع من غريبه وبديعه وما تقرر من البحث مع المقصر في نظمه وما يتفرق به شمل مجاميع الأدب وينسى تذاكره وقد انتهت الغاية بحمد الله إلى حسن الختام وأوردت فيه ما لا خفيت محاسنه على المتأمل ولا ضمه صدر كتاب وأنا أسأل الله سبحانه وتعالى حسن الخاتمة ببركة الممدوح عليه أفضل الصلاة وأتم السلام وقد فرغت من تأليف هذا الكتاب في شهر ذي الحجة الحرام سنة ست وعشرين وثمانمائة وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق