فضل بر الوالدين
M
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهد الله ُفلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولُه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء:1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب:71،70)
أما بعد....
فإن أصدق الحديث كتاب الله ــ تعالى ــ، وخير الهدي، هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
نبض الرسالة
فضل بر الوالدين
أولًا: الأدلة القرآنية على فضل بر الوالدين.
ثانيًا: بر الوالدين من السنة النبوية المطهرة.
1- بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله- تعالى-.
2- بر الوالدين سبب في زيادة الرزق والبركة في العمر. (تفسير زيادة العمر)
3- بر الوالدين سبب في تفريج الكروب.
4- بر الوالدين نوع من أنواع الجهاد.
5- بر الوالدين سبب لإجابة الدعاء.
6- بر الوالدين سبب لقبول الأعمال والتجاوز عن السيئات.
7-بر الوالدين سبب لتكفير الكبائر.
8- بر الوالدين سبب لرضا الله -تعالى-.
9-بر الوالدين فرصة لدخول الجنة.
10- بر الوالدين سبب للجلوس تحت عرش الرحمن.
فضل بر الأم
1- بر الأم سبب لتكفير الذنوب والسيئات.
2- بر الأم يجعل الابن مستجاب الدعوة.
3- بر الأم سبب في الرزق.
4- من أراد الجنة فعليه بطاعة أمه وبرها.
5- البار بأمه ليس له جزاء إلا الجنة.
بر الأم من أقوال وأفعال السلف
احذر عقوق الأمهات
فضل بر الأب
1-رضا الرب في رضا الأب.
2- الوالد له حق التصرف في مال ابنه إن كان محتاجًا لهذا المال.
3- الوالد له حق أن يسترد العطية التي أعطاها لولده.
2- بر الوالد سبب في زيادة الرزق.
5- ومن فضل بر الآباء أن ترزق بر الأبناء.
6- بر الوالد سبب لدخول الجنة.
ولقد بلغ توقير الأب وبره عند السلف مبلغًا عظيمًا، لعلمهم بمكانة الأب وفضله.
عطف الأب وذكر بعض النماذج.
هدية للابن البار ولوالديه.
عقوق الوالدين والتحذير منه.
1- وبين النبي- صلى الله عليه وسلم- أن العقوق من أكبر الكبائر.
2- العقوق سبب نزول الهلاك.
3- عقوق الوالدين محبط للأعمال.
4- عقوق الوالدين سبب للطرد والإبعاد عن رحمة الله.
5-العاق لا ينظر الله إليه.
6- عقوق الوالدين سبب لدخول النار.
7-العاق يُحْرم من دخول الجنة.
من صور عقوق الولدين.
نداء إلى الابن العاق.
أعمال شرعها الإسلام لمن فاته بِرُّ والديه، أو لمن أراد أن يصل والديه بعد موتهما، ومنها:
1- الدعاء.
2- الاستغفار.
3- الصدقة.
4- قضــاء الـديـن عـنهما.
5- قضاء ما عليهما من نذر (نذر مالي أو صيام).
6- العتق والصدقة
7- والحج الــعـمــرة.
من أراد أن يصل والديه بعد موتهما فليصل وُدِّ أبيه أو أمه:
فضل بر الوالدين
والبر: اسم جامع للخير، وهو ضد العقوق، ومعناه الصلة وفعل الخير والتوسع فيه، واللطف، والطاعة في غير معصية.
وبر الوالدين له شروط ثلاثة:
الأول: أن يوثر الولد رضا والديه على رضا نفسه، وزوجته، وأولاده، والناس أجمعين.
الثاني: أن يطيعهما في كل ما يأمرانه به، وينهيانه عنه، سواء أوافق رغباته أم لم يوافقها، ما لم يأمراه بمعصيه الله تعالى.
الثالث: أن يقدم لهما كل ما يلحظ أنهما يرغبان فيه من غير أن يطلباه منه عن طيب نفس وسرور، مع شعوره بتقصيره في حقهما ولو بذل لهما دمه وماله.
وبَر الوالدين فرض لازم على الأبناء، ويظهر هذا جليًا في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والتي تحث وتأمر الأبناء ببر الآباء.
وبر الوالدين من أعظم القربات التي يتقرب بها العباد إلى رب الأرض والسماوات
أولًا: الأدلة القرآنية:
قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}(الإسراء:24،23)
فقوله تعالى: ﴿وقضى ربك﴾: أي حكم وأمر﴿لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾: فتجد هذه الآية أن الله U أمر بتوحيده وعبادته ثم أمر بالإحسان إلى الوالدين بعد ذلك، وهذا دليل على ما بينهما من تلازم وارتباط، وتجد هذا في كثير من الآيات القرآنية؛
كقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (النساء:36)
وكقوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾
(الأنعام:151)
وانظر إلى بلاغة القرآن، فقد حرم الله الشرك وأمر بعد ذلك بالإحسان إلى الوالدين، ومقتضى ذلك أن الله تعالى يأمر بالتوحيد ويحرم العقوق، فكأن الشرك ملازمًا للعقوق والتوحيد قرين الإحسان إلى الوالدين.
أيضًا تجد هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (سورة البقرة:83)
بل وقرن الله-عز وجل- شكرهما بشكره، فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (سورة لقمان:14)
يقول ابن عباس-رضي الله عنهما-:" ثلاث آيات مقرونة بثلاث، لا تُقبل واحدة منها بغير قرينتها، إحداها: قوله تعالى ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ (سورة محمد:33) فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه، الثانية: قوله تعالى ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ﴾ (البقرة:43) فمن صلى ولم يُزكِّ لم يقبل منه، والثالثة: قوله تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ (سورة لقمان:14) فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه([1]) لم يقبل منه ". (الذهبي في الكبائر ص54) (الهيتمي في الزواجر:2/147)
وهذه الآيات وغيرها تدل على الارتباط الشديد والتلازم بين عبادة الله والإحسان للوالدين إذ لا تكفي العبادة مع العقوق.
وإلى هذا يشير الرسول ﷺ في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني وهو عند البخاري في التاريخ الكبير بسند صحيح عن عمرو بن مُرة الجهني t قال:" جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله: شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليتُ الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت رمضان فقال النبي ﷺ:" من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا- ونصب أصبعيه-، وقال:" ما لم يعق والديه ". (صحيح الترغيب والترهيب:2515)
وهذا الحديث يؤكد صحة ما جاءت به الآيات على أنه لابد من حسن صلة بالله U وحسن معاملة الوالدين ليتم إيمان المرء ويتقبل عمله.
· وأما قوله تعالى ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ فالإحسان إليهما يجمع وجوه الإحسان القولي والفعلي وهو يتمثل في:
1- مصاحبه الوالدين بالمعروف وصلتهما حتى وإن كانا كافرين:
قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوف([2])}
(لقمان:15)
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنهما- قالت:" قدمت عليّ أمي([3]) وهي مشركة في عهد رسول الله ﷺ([4])، فاستفتيتُ رسول الله ﷺ قلتُ: قدمت عليّ أمي وهي راغبة([5])، أفأصل أمي؟ قال:" نعم صِلِي أمكِ ".
وفي رواية عند أبي داود ولفظه:" قالت: قدمت عليّ أمي راغبة في عهد قريب، وهي راغمة مشركة فقلت: يا رسول الله: إن أمي قدمت عليّ راغمة([6]) مشركة أفأصلها؟ قال" نعم، صِلي أمك ".
وأخرج البزار من حديث أبي هريرة t قال:" مر رسول الله ﷺ بعبد الله بن أبي بن سلول وهو في ظل أُطم، فقال: غبَّر علينا ابن أبي كبشة، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلولt : يا رسول الله! والذي أكرمك لئن شئت لأتيتك برأسه؟ فقال النبي ﷺ:" لا. ولكن بَرَّ أباك، وأحسن صحبته ".
(قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله ثقات)
2- ومن صور الإحسان إلى الوالدين الإنفاق عليهما:
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (البقرة:215)
فالإنفاق على الوالدين واجب، لذا فإن الزكاة لا تجوز على الآباء أو الأبناء.
والولد غراس الوالدين ونتاجهما وهما سبب وجوده وسعادته، فإذا أثمر هذا الغرس طاب لهما أن يقطفا من الغرس، وأطيب ما يأكل الإنسان من كسب يده.
- فقد أخرج ابن حبان في صحيحه والحاكم عن عائشة-رضي الله عنها- عن رسول الله ﷺ قال:
" إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم ".
- وعند الإمام أحمد بلفظ:" ولد الرجل من كسبه فكلوا من أموالهم هنيئًا ".
- وأخرج البزار والطبراني في الكبير بسند صحيح أن النبي ﷺ قال:" أما علمت أنت ومالك من كسب أبيك ". (الصحيحة:1548)
- وأخرج الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عمر-رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال:
" الولد من كسب الوالد ". (الصحيحه:2414)
- وأخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ قال:
" ولد الرجل من كسبه، بل هو من أطيب كسبه، فكلوا من أموالهم ".
- وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والبخاري في التاريخ من حديث ابن عمرو-رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال:" أنتَ ومالك لوالدِكَ، إنَّ أولادكم منْ أطيبِ كسبِكمْ، فكلوا منْ كسب أولادكمْ ".
(صحيح الجامع: 1487) (الصحيحة: 2414)
- وهذا ولد لم تسلك الحقيقة إلى قلبه سبيلا يأتي إلى رسول الله ﷺ فيقول: يا رسول الله إن لي مالًا وولدًا وأن أبي يريد أن يجتاح مالي. فيقول له النبي ﷺ كلمة تشق حجب الزمان لتقع في أذن كل ولد على مدى الدهر. فيقول له: " أنت ومالك لأبيك ".
(رواه الإمام أحمد وابن ماجه وابن حبان من حديث جابر) (tوصححه الألباني في إرواء الغليل:1625)
والإنفاق على الوالدين يُعد من الجهاد في سبيل الله:
فقد أخرج الطبراني في معاجمه الثلاثة عن كعب بن عُجرة t قال:" مر على النبي ﷺ رجلٌ فرأى أصحاب النبي ﷺ جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال رسول الله ﷺ:" إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبويه شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو سبيل الشيطان ".
3- من صور الإحسان إليهما: إدخال السرور عليهما:
فقد أخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- قال:" جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: جئتُ أبايعك على الهجرة وتركت أبوايَّ يبكيان، فقال رسول الله ﷺ:" فارجع إليهما، وأضحكهما كما أبكيتهما ".
وأخرج البخاري في الأدب المفرد وهناد في الزهد والطبري في التفسير عن هشام بن عروة عن أبيه قال: وقوله: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ (الإسراء:24) أي:" لا تمتنع من شيء أحبَّاه ".
-4 ومن صور الإحسان إليهما: طاعتهما في غير معصية:
فقد أخرج الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل t قال:" أوصاني رسول الله ﷺ بعشر كلماتٍ: لا تشرك بالله شيئًا، وأن قُتِلْتَ وحُرِّقْت، ولا تعص والديك وإن أمَرَاك وأن تخرج من أهلك ومالك، ولا تتركنَّ صلاة متعمدًا، فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربنَّ خمرًا، فإنه رأس كلِّ فاحشةٍ، وإياك والمعصية، فان المعصية حَلَّ سَخَط ُالله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإن أصاب الناسَ موتٌ فاثْبُتْ، وأنفق على أهلك من طَوْلك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبًا، وأخفهم في الله ". (صحيح الترغيب والترهيب:570)
- وأخرج ابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد عن أبي الدرداء t قال:" أوصاني رسول الله ﷺ بتسع: لا تشرك بالله شيئًا وإن قُطعت أو حُرقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدًا فمن تركها متعمدًا فقد برئت منه الذمة، ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر، وأطع والديك وإن أمراك أن تخرج من دنياك فاخرج لهما.... " الحديث. (صحيح الجامع: 7339)
- وسُئل الحسن البصري-رحمه الله-:" ما برُّ الوالدين؟ قال: أن تبذل لهما ما ملكت، وأن تطيعهما فيما أمراك به، إلا أن يكون معصية ". (الدر المنثور للسيوطي:5/270)
- وأخرج البخاري من حديث ابن عباس– رضي الله عنهما– عن النبي ﷺ قال:" وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ فَشَكَتْ إِلَيْهِ. قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتْ: اللَّحْمُ قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ....".
الحديث
- وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر– رضي الله عنهما– قال:" كانت تحتي امرأة وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها، فأبيت، فأتى عمرُ t النبيَّ ﷺ فذكر ذلك له، فقال النبيُّ ﷺ:" طلقها([7]) ".
وأخرج الترمذي وابن حبان عن أبي الدرداء t أن رجلا أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها؟ فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:" الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت، فأضِعْ ذلك الباب، أو احفظه ".
-5 ومن صور الإحسان إليهما كذلك:
مخاطبتها بلطف وأدب، النهوض لهما إذا دخلا عليه، تقبيل يديهما، إكرامهما، ومشاورتهما، الإكثار من الدعاء والاستغفار لهما، العمل على ما يسرهما، عدم رفع الصوت عاليًا أمامهما، وعدم مقاطعتهما أثناء الكلام، وعدم تفضيل الزوجة عليهما، وعدم مد اليد إلى الطعام قبلهما، وعدم النوم والاضطجاع وهما جالسان، وعدم مد الرجلين أمامهما، وعدم الدخول قبلهما أو المشي أمامهما، تلبية ندائهما، إكرام أصحابهما، الدعاء لهما ولاسيما بعد الموت، الاستئذان عليهما، وقضاء دينهما، وغير ذلك من ألوان الإحسان والبر إليهما.
وأما قوله تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾ خص الله حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بر الولد لتغير الحال عليهما بالضعف بعد القوة، والفقر بعد الغنى، ففي هذه الحالة أصبحا كلًّا عليه، وكذلك طول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة، ويحصل الملل، ويكثر الضجر، فيظهر غضبه على أبويه، وأقل المكروه ما يظهر بتنفسه المتردد من الضجر، فيحدث التأفف وقد نُهى حتى عن هذا، فقال تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ (الإسراء:23) قال العلماء: إنما صارت قوله "أفٍ" للأبوين أردأ شيء لأنها كلمة تقال لكل شيء مرفوض، كما قال إبراهيمu لقومه:﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (الأنبياء:67) فهي للأبوين كفر للنعمة، وجحد للتربية، ورد الوصية التي أوصى الله بها في التنزيل، ولا يخفى على المشتغلين باللغة العربية أن "أفٍ" منونة بالكسرة وهذا التنوين يسمى تنوين تنكير، وهو الذي يدخل على الكلمة فينكرها، فعندما يتكلم إنسان فتقول له: "صه" بدون تنوين، أي اسكت عن هذا الموضوع ولك أن تتكلم في غيره، أما إذا قلت له "صهٍ" منونة أي اسكت عن أي موضوع، وكذلك بالنسبة لكلمة ﴿أفٍّ﴾ إذا كانت من غير تنوين كان هناك بعض التأفف مسموح به، لكن جاءت في القرآن منونة فيكون المعنى: أي نوع من أنواع التأفف غير مسموح به، فهذا من إجلال وتعظيم الوالدين ﴿وأفٍّ﴾ هي أدنى مراتب الأذى، نبه به ربنا على ما سواه والمعنى: لا تؤذيهما أدنى أذية.
وأما قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾ والنهر هو: الزجر والغلظة، وقوله: ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ أي حسنًا جميلًا لطيفًا مثل: يا أبتاه، ويا أماه، من غير أن يسميهما ويكنيهما.
قال ابن الهَدَّاج التحبيبيّ: قلت لسعيد بن المسيب-رحمه الله-:" كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ.
وقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ أي تواضع لهما وكن في ذلة لهما كالطائر إذا أراد أن ينحط خفض جناحه. (انظر تفسير القرطبى:5/573)
وقوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (الإسراء:24) أمر اللهU الأبناء بالترحم على آبائهم والدعاء لهم فينبغي للابن أن يرحمهما كما رحماه، وإن يرفق بهما كما رفقا به، فقد كان صغيرًا جاهلًا فأثراه على أنفسهما، وأسهرا ليلهما وجاعا وأشبعاه، وتعريا وكسواه، فلا يجزيهما إلا كل خير.
ثانيًا: بر الوالدين من السنة النبوية المطهرة:
1- بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله- تعالى-:
ودليل ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود t قال: سألت رسول الله ﷺ: أي العمل أحب إلى الله؟ قال:" الصلاة على وقتها([8])"، قلت: ثم أي؟ قال:" بر الوالدين "، قلت: ثم أي؟ قال:" الجهاد في سبيل الله([9]) ".
2- بر الوالدين سبب في زيادة الرزق والبركة في العمر:
- فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة t قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:" من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره([10]) فليصل رحمه ".
- وفي رواية:" من سره أن يعظم الله رزقه، وأن يُمد في أجله فليصل رحمه ".
- وفي رواية عند الإمام أحمد والبيهقي عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله ﷺ:" من سره أن يمد له في عمره، ويزاد في رزقه، فليبر والديه وليصل رحمه ".
(صحيح الجامع: 6291، دون قوله: "فليبر والديه")
- وأخرج ابن ماجه من حديث ثوبان t أن رسول الله ﷺ قال:" لا يزيد في العمر إلا البِرُّ، ولا يردُّ القضاء إلا الدعاء، وإن الرجل ليُحرم الرزق بخطيئة يعملها ". (حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه:73)
- وأخرج الترمذي من حديث سلمان t أن رسول الله ﷺ قال:" لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر". (صحيح الجامع:7687)
قال وهب بن مُنبَّه -رحمه الله-:" إن البر بالوالدين يزيد في العمر ". (الدر المنثور للسيوطي:5/270)
ومما يدل على أن البر بالوالدين سبب في الزيادة والنماء والبركة: قوله تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ (لقمان:14) فمن كان بارًا بوالديه كان شاكرًا لهما، ومن كان شاكرًا لهما كان شاكرًا لله، ومن كان شاكرًا لله فهو من أهل الزيادة، وقد قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ (إبراهيم:7)
ولن يحرم العبد من المزيد حتى ينقطع عن شكره لله، ولن ينقطع شكره لله إلا إذا انقطع شكره للوالدين، وهذا عين الخسران والبوار والنقصان.
تفسير زيادة العمر:
وقد يُشْكل الأمرُ على بعض الناس فيقول: إذا كانت الأرزاق مكتوبة، والآجال مضروبة لا يزاد فيها ولا ينقص منها، كما في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (الأعراف:34) فكيف نوفق بين ذلك وبين الأحاديث السابقة والتي تفيد أن العمر يُزاد فيه؟
يجيب عن هذا الأشكال ابن التين-رحمه الله– فيقول: والجمع بينهما من وجهين:
أحدهما: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة ، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك، ومثل هذا ما جاء عن النبي ﷺ أنه تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر([11])، وحاصله أن صلة الرحم تكون سببًا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية، فيبقى بعده الذكر الجميل، كأنه لم يمت.
ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده، والصدقة الجارية عليه، والخلف الصالح.
ثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها، وتفسير ذلك أن يُعلم أن القدر قدران: أحدهما: مثبت، أو مبرم، وهو ما في أم الكتاب – أي في اللوح المحفوظ – فهذا لا يتبدل ولا يتغير.
والثاني: القدر المعلق، أو المقيد، وهو ما في صحف الملائكة، فهذا هو الذي يقع فيه المحو والإثبات.
وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَاب﴾ (الرعد:39)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:" والأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه الله، وأجل مقيد، وبهذا يتبين معنى قوله ﷺ قال:" مَنْ أحب أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ([12])، ويُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ([13]) فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ". (رواه البخاري ومسلم) فإن الله أمر المَلَك الموكل بالعُمْر أن يكتب له أجلًا، وقال: إن وصل فلان رحمه زدته كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر.
وقال في موطن آخر عندما سئل عن الرزق، هل يزيد أو ينقص؟ فأجاب -رحمه الله- فقال:
" الرزق نوعان: أحدهما: ما علمه الله أن يرزقه، فبهذا لا يتغير، والثاني: ما كتبه، وأعلم به الملائكة فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب. ثم إن:" الأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدره الله وكتبه، فإن كان قد تقدم بأن يرزق العبد بسعيه واكتسابه ألهمه السعي والاكتساب، وذلك الذي قدره له بالاكتساب لا يحصل بدون الاكتساب، وما قدره له بغير اكتساب – كموت مورثه – يأتيه من غير اكتساب، فلا مخالفة في ذلك لسبق العلم، بل فيه تقييد المسببات بأسبابها، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، فهل يقول عاقل بأن ربط المسببات بأسبابها يقتضي خلاف العلم السابق، أو ينافيه بوجه من الوجوه ". اهـ بتصرف.
وقال الإمام النووي-رحمه الله- في شرحه على مسلم:" 16 / 172 ":" وبسط الرزق: توسيعه وكثرته، وقيل: البركة فيه، وأما التأخير في الأجل ففيه سؤال مشهور وهو أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تزيد ولا تنقص ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ وأجاب العلماء بأجوبة، الصحيح منها: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره والتوفيق للطاعات وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة وصيانتها عن الضياع في غير ذلك، والثاني: أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة، وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة، إلا أن يصل رحمه فإن وصلها زيد له أربعون، وقد علم الله – سبحانه وتعالى – ما سيقع له من ذلك وهو من معنى قوله تعالى ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ فيه النسبة إلى علم الله تعالى وما سبق به قدره، ولا زيادة بل هي مستحيلة.. وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين تتصور الزيادة وهو مراد الحديث، والثالث: أن المراد بقاء ذكره الجميل بعده فكأنه لم يمت، حكاه القاضي، وهو ضعيف أو باطل والله أعلم ". اهـ.
وقد ورد في تفسير زيادة العمر وجْهٌ ثالث وهو: أن يُرزق العبد بالذرية الصالحة:
ودليل هذا الرأي ما أخرجه الطبراني في "الصغير "بسند ضعيف عن أبي الدرداء t قال: ذُكِرَ عند رسول الله ﷺ من وصل رحمه أنسئ له في أجله، فقال:" أنه ليس زيادة في عمره، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (الأعراف:34)، ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعد ".
وللطبراني في الكبير من حديث أبي مشجعة الجهنيt رفعه:" إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر ذرية صالحة ". الحديث
وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نَفْىُ الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله.
(انظر فتح الباري: 10/429 – 430)
والوجه الأول ألْيَقُ- وهي البركة في العمر- بلفظ حديث الباب، وكذا قال الطيبي– رحمه الله-.
3- بر الوالدين سبب في تفريج الكروب:
فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي عَبْد الرَّحْمَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخطَّابِ-رضيَ اللهُ عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يَقُولُ:" بينما ثلاثةُ نَفَرٍ يتماشَونَ أخذَهمُ المطرُ فمالوا إلى غارٍ في الجبلِ فانحطَّت على فمِ غارِهم صخرةٌ منَ الجبلِ فأطبَقتْ عليهِم فقالَ بعضُهم لبعضٍ: انظروا أعمالًا عمِلتُموها للَّهِ U صالحةً فادعوا اللَّهَ بها لعلَّهُ يفرِّجُها فقالَ أحدُهم: اللَّهمَّ إنَّهُ كانَ لي والدانِ شيخانِ كبيرانِ ولي صِبيةٌ صغارٌ وكنتُ أرعى عليهم فإذا رُحتُ عليهم([14]) فحلبتُ بدأتُ بوالديَّ أسقيهما قبلَ ولدي وإنَّهُ نأى بيَ([15]) الشَّجرُ يومًا فما أتيتُ حتَّى أمسيتُ فوجدتُهُما قد ناما فحلبتُ كما كنتُ أحلِبُ فجئتُ بالحلابِ([16]) فقمتُ عندَ رؤوسِهما أكرهُ أن أوقظَهما من نومِهما وأكرهُ أن أبدأَ بالصِّبيةِ قبلَهما والصِّبيةُ يتضاغونَ([17]) عندَ قدميَّ فلم يزل ذلكَ دأبي ودأبَهم حتَّى طلعَ الفجرُ فإن كنتَ تعلَمُ أنِّي فعلتُ ذلكَ ابتغاءَ وجهِكَ فافرُج لنا فُرْجةً نرى منها السَّماءَ ففرَّجَ اللَّهُ U لهم فُرجةً حتَّى يرونَ منها السَّماءَ، وقالَ الثَّاني: ...". الحديث
وفي الصحيحين أيضًا بلفظ: انطَلَق ثلاثةُ رهْطٍ ممن كان قبلَكم؛ حتى أووا المبيتَ إلى غارٍ، فدخلوه، فانْحدَرتْ عليهم صخرةٌ من الجبلِ، فسدَّتْ عليهم الغارَ، فقالوا: إنَّه لا يُنجيكم من هذه الصخرةِ إلا أن تدعوا اللهَ بصالحِ أعمالِكم، قال رجلٌ منهم: اللهمَّ كان لي أبوانِ شيخانِ كبيرانِ، وكنتُ لا أغْبِقُ قبلَهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي في طلبِ شيءٍ يومًا فلم أُرِحْ عليهما حتى ناما، فحلبتُ لهما غبوقَهُما فوجدتُهما نائمينِ، فكَرِهتُ أن أغْبِقَ قبلَهما أهلًا أو مالًا، فلبِثْتُ والقدحُ على يدَيَّ أنتظرُ اسْتيقاظَهما حتى برَق الفجرُ، فاستيقظا، فشرِبا غبوقَهُما، اللهمَّ إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجْهِك، ففرِّجْ عنَّا ما نحن فيه من هذه الصخرةِ ؟ فانفرجتْ شيئًا لا يستطيعونَ الخروجَ. وقال الآخرُ:....". الحديث
وبوب البخاري على هذا الحديث فقال: " باب إجابة دعاء من بر والديه ".
قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله- في شرح هذا الحديث:" وفي هذا الحديث يظهر فضل الإخلاص في العمل، وفضل بر الوالدين وخدمتهما، وإيثارهما على الولد والأهل وتحمل المشقة لأجلهما ". اهـ.
4- بر الوالدين نوع من أنواع الجهاد:
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمرو-رضي الله عنهما-قال: أقبل رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال:" فهل من والديك أحد حي؟" قال: نعم، بل كلاهما حيّ. قال:" فتبتغي الأجر من الله؟" قال: نعم، قال:" فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما".
قال النووي- رحمه الله- تعليقا على هذا الحديث:" وفي الحديث دليل تعظيم فضل بر الوالدين وأنه آكد من الجهاد، إذا كان فرض كفاية، فيحرم عليه أن يجاهد إلا بإذنهما([18])، أما إذا تعين فلا إذن([19])".
وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد t أن رجلا من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله ﷺ فقال:
" هل لك أحد باليمن؟" قال: أبواي، قال:" أذنا لك؟" قال: لا. قال:" فارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذناك فجاهد وإلا فبّرهما ". (صححه الألباني في صحيح أبي داود)
وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ يستأذنه في الجهاد فقال:" أحي والداك؟ " قال: نعم.. قال:" ففيهما فجاهد ".
والمراد بقول النبي ﷺ:" ففيهما فجاهد" هو جهاد النفس في وصول البر إليهما، والتلطف بهما، وحسن الصحبة، والطاعة وغير ذلك. (أفاده النووي-رحمه الله)
وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- قال:" جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، فقال:" ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ".
(صحيح أبي داود:2205) (صحيح ابن ماجه:2243)
5- بر الوالدين سبب لإجابة الدعاء:
فقد أخرج الضياء من حديث أنس t قال: قال رسول الله ﷺ:" ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، و دعوة الصائم، و دعوة المسافر ". (صحيح الجامع:3032) (الصحيحة:1797)
وفي رواية عند البيهقي من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ:" ثلاث دعوات يستجاب لهنَّ لا شك فيهنَّ:" دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده ".
(صحيح الجامع:3033) (الصحيحة:596)
6- بر الوالدين سبب لقبول الأعمال والتجاوز عن السيئات:
قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} ( الأحقاف: 16،15)
قال السعدي-رحمه الله- في" تفسيره:5/10،9": وقوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ هذا من لطفه تعالى بعباده، وشكره للوالدين، أن وصَّى الأولاد، وعهد إليهم أن يحسنوا إلى والديهم، بالقول اللطيف والكلام اللين، وبذل المال والنفقة، وغير ذلك، من وجوه الإحسان. ثم نبَّه على ذكر السبب الموجب لذلك، فذكر ما تحملته الأم من ولدها وما قاسته من المكاره وقت حملها ثم مشقة ولادتها، المشقة الكبيرة، ثم مشقة الرضاع وخدمة الحضانة. وليست المذكورات مدة يسيرة، ساعة، أو ساعتين. وإنما ذلك أي: ﴿حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ﴾ مدة طويلة قدرها: ﴿ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ الحمل، تسعة أشهر ونحوها، والباقي للرضاع، هذا هو الغالب. ويستدل بهذه الآية مع قوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ أن أقل مدة الحمل، ستة أشهر، لأن مدة الرضاع -وهي سنتان- إذا سقطت من الثلاثين شهرًا، بقي ستة أشهر مدة للحمل. ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ أي: نهاية قوته وشبابه، وكمال عقله. ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾ أي: ألهمني ووفقني ﴿أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾ أي: نعم الدين، ونعم الدنيا. وشكره، بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها، ومقابلته على مِنَّتِهِ، بالاعتراف والعجز عن الشكر، والاجتهاد في الثناء بها على الله. والنعم على الوالدين، نعم على أولادهم وذريتهم، أنهم لابد أن ينالهم منها، ومن أسبابها وآثارها. خصوصًا، نعم الدين، فإن صلاح الوالدين، بالعلم والعمل، من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم. ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾ بأن يكون جامعًا لما يصلحه، سالمًا مما يفسده. فهذا العمل الذي يرضاه الله تعالى ويقبله، ويثيب عليه. ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾ لما دعا لنفسه بالصلاح دعا لذريته أن يصلح الله أحوالهم. وذكر، أن صلاحهم، يعود نفعه على والديهم، لقوله ﴿وَأَصْلِحْ لِي﴾. ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ من الذنوب والمعاصي، ورجعت إلى طاعتك ﴿وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ﴾ الذين ذكرت أوصافهم ﴿الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ وهو الطاعات، لأنهم يعملون أيضًا غيرها. ﴿وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ جملة ﴿أَصْحَابِ الْجَنَّةِ﴾ فحصل لهم الخير والمحبوب وزال عنهم الشر والمكروه. ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ أي: هذا الوعد الذي وعدناهم هو وعد من أصدق القائلين، الذي لا يخلف الميعاد.
7-بر الوالدين سبب لتكفير الكبائر:
فقد أخرج الإمام أحمد من حديث مالك بن عمرو القشيري t قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
" من أعتق رقبة مسلمة فهي فداه من النار، ومن أدرك والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله ".
وأخرج الترمذي وابن حبان من حديث ابن عمر-رضي الله عنهما- قال:" أن رجلًا أتى النبي ﷺ فقال: إني أذنبت ذنبًا عظيما، فهل لي من توبة؟ فقال النبي ﷺ:" هل لك من أم"؟ قال: لا. قال:" فهل لك من خالة([20])؟" قال: نعم. قال:" فبّرها ". (صححه الألباني في صحيح النسائي:1554)
قال مكحول-رحمه الله-:" بر الوالدين كفارة للكبائر، ولا يزال الرجل قادرًا على البر مادام في فصيلته من هو أكبر منه ". (شرح السنة للبغوي:13/13)
وروي عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال:" برُّ الوالدين كفارة للكبائر ".
8- بر الوالدين سبب لرضا الله -تعالى-:
فأقصى ما يتمناه العبد هو رضا الله U عنه، فإذا بر الوالدين فإن الله- تعالى- يرضى عنه.
فقد أخرج الطبراني في الكبير والبزار عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ:" رضا الرب تبارك وتعالى في رضا الوالدين، وسخط الله تبارك وتعالى في سخط الوالدين ". (صحيح الترغيب والترهيب:2503)
- وفي رواية:" رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما ". (صحيح الجامع:3507)
فمن أراد أن يحوز هذه الجائزة العظمى- وهي رضا الله- فعليه أن يُرضي والديه.
9-بر الوالدين فرصة لدخول الجنة:
أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة t عن النبي ﷺ قال:" رغم أنفه([21]) ثم رغم أنفه،" قيل: من يا رسول الله؟ قال:" من أدرك والديه عند الكبر أحدهما ثم لم يدخل الجنة ".
-وأخرج الطبراني في الكبير بسند جيد عن جاهمة t قال:" أتيت النبي ﷺ أستشيره في الجهاد، فقال ﷺ:" ألك والدان"؟ قلت: نعم. قال:" الزمهما، فإن الجنة تحت أرجلهما ".
(صحيح الترغيب والترهيب:2485)
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي الدرداء t قال: رسول الله ﷺ:" الوالد ([22]) أوسط أبواب الجنة ". (الصحيحة: 7145) (صحيح الترغيب والترهيب: 2486)
10- بر الوالدين سبب للجلوس تحت عرش الرحمن:
فقد أخرج الإمام أحمد في الزهد والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: لما تعجل موسى إلى ربه، رأى رجلا تحت العرش، فغبطه بمكانه، فسأل ربه أن يخبره باسمه، فلم يخبره، وقال: لكني أحدثك عن عمله بثلاث خصال:" كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يعق والديه، ولا يمشى بالنميمة ".
قال الإمام أبو الليث السمرقندي- رحمه الله- في كتابه "تنبيه الغافلين ص89":
يقال: إن للوالدين على الولد عشرة حقوق:
إحداها: أنه إذا احتاج أحدهما إلى الطعام أطعمه.
والثاني: إذا احتاج إلى الكسوة كساه إن قدر عليه.
والثالث: إذا احتاج أحدهما إلى الخدمة خدمه.
والرابع: إذا دعاه أجابه وحضره.
والخامس: إذا أمره بأمر أطاعه، ما لم يأمر بالمعصية والغيبة.
والسادس: أن يتكلم معه باللين، ولا يتكلم معه بالكلام الغليظ.
والسابع: ألَّا يدعوه باسمه.
والثامن: أن يمشى خلفه.
والتاسع: أن يرضى له ما يرضى لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه.
والعاشر: أن يدعو له بالمغفرة كلما يدعو لنفسه.
قال الله تعالى حكاية عن نوح u:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا} (نوح:28)
وقال إبراهيمu:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم:41)
وهذا حال الأنبياء والمرسلين فقد كانوا أبر الناس بآبائهم.
قال تعالى عن يحيى u:{وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} (مريم:14)
وقال عن عيسىu:{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} (مريم:32)
وفي قصة إسماعيل مع أبيه إبراهيم- عليهما السلام- عندما أمر اللهُ إبراهيمَ بذبح ابنه إسماعيل بعدما بلغ معه السعي، فلما عرض إبراهيمُ على إسماعيل الأمر، فما كان من إسماعيل إلا الاستسلام لأمر الله، والسمع والطاعة لأبيه: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} (الصافات:102).
ولا تتعجب فالجزاء من جنس العمل، فإبراهيم كان برًا بوالده كما حكى القرآن الكريم، فقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}
(مريم:41-47)
فانظر إلى هذا الأسلوب العذب الرقيق الذي كان يبدأ إبراهيم به كلامه "يَا أَبَتِ" المشعرة بالتلطف والرقة والاحترام، فلا عجب أن يُرزق إبراهيم ابنًا بارًا به، فالجزاء من جنس العمل.
أولًا: برُّ الأم:
قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ([23])وَفِصَالُهُ([24]) فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان:14)
قال بعض أهل العلم: وقول رب العالمين ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ﴾ أي حملته أمه في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفًا على ضعف، وقيل: إن الأم ضعيفة الخِلّقة، وزادها هذا الحملُ ضعفًا على ضعفها، ومع هذا الحمل الذي يضعفها وتلكم الأوجاع والآلام التي نزلت بها، فهي مُطالبة بحقوق الزوج والقيام على خدمته، والاهتمام بالبيت والقيام على شؤونه، وإعداد الطعام ورعاية الصغار وغير ذلك من الأعمال.
وقال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (الأحقاف: 15)
لما خص الله تعالى الأم بالحمل والوضع والرضاع، خصها بمزيد من البر.
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة t قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "مك"، قال: ثم من؟ قال:" أمك"، قال: ثم من؟ قال:" أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أبوك". - وفي رواية: يا رسول الله! من أحق بحسن الصحبة؟ قال:" أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك([25])، ثم أدناك أدناك ".
- وأخرج ابن ماجه من حديث المقدام بن معد يكربt قال: قال رسول الله ﷺ:" إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بآبائكم، إن الله تعالى يوصيكم بالأقراب فالأقراب ". (الصحيحة: 1666) (صحيح ابن ماجه:3661)
- وعند ابن ماجه أيضًا من حديث أبي هريرة t قال: قالوا: يا رسول الله من أبرُّ؟ قال:" أمَّكَ ". قال ثم من؟ قال:" أمَّكَ ". قال: ثم من؟ قال:" أباكَ" قال: ثم من؟ قال:" الأدنى فالأدنى ".
(صحيح ابن ماجه: 3658) (صححه الألباني في الإرواء:2169)
وأخرج البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله! من أبرُّ؟ قال:" أمك"، قلت: من أبر؟ قال:" أمك"، قلت: من أبر؟ قال:" أمك "، قلت: من أبر؟ قال:" أباك" ثم الأقرب، فالأقرب ". (صحيح الجامع: 1399) (وحسنه الألباني في الإرواء: 2170)
وأخرج الطبراني عن أسامة بن شريك t قال:" شهدت رسول الله ﷺ في حجة الوداع وهو يقول:
" أمك؛ وأباك؛ وأختك؛ وأخاك؛ ثم أدناك أدناك ".
· واختلف أهل العلم في أيهما يُقدم في البر؟ الأم أم الأب؟
فذهب البعض إلى أنهما في البر سواء (نقله بعضهم عن الإمام مالك([26]) – رحمه الله-)
وذهب البعض إلى أن الأم لها ثلثا البر وهو قول الليث بن سعد–رحمه الله– ولعله استند إلى الأحاديث التي لم يتكرر فيها ذكر الأم إلا مرتين.
بينما ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأم تفضل في البر([27]) على الأب وذلك لأسباب منها: -
1- تخصيص النبي ﷺ الأم في الأحاديث السابقة بمزيد من البر.
قال القرطبي-رحمه الله-:" المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البَرِّ وتقدم على ذلك على حق الأب عند المزاحمة ". (فتح الباري:10/416)
وقال القرطبي أيضًا في تفسيره:10/156: وهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب، لأن النبي ﷺ ذكر الأمَّ ثلاث مرات وذكر الأب في الرابعة فقط. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: وجاء ما يدل على تقديم الأم في البر مطلقا وهو ما أخرجه الإمام أحمد والنسائي والبزار من حديث عائشة-رضي الله عنها- سألت النبي ﷺ:" أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال:" زوجها"، قلت: فعلى الرجل؟ قال:" أمه". (وهو في ضعيف الجامع لكن المعنى صحيح)
2- وخص الشرع الأم بمزيد من البر لانفرادها بالحمل، والوضع، والرضاع.
يقول ابن بطال-رحمه الله-:" ومقتضى الحديث السابق أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر وذلك لأن الأم تنفرد عن الأب بثلاثة أشياء: "صعوبة الحمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع ".
وقال القرطبي-رحمه الله- في تفسيره:10/156":" فهذه الأحاديث تدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب، وذلك أن صعوبة الحمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب، فهذه ثلاث مشقات يخلو منها الأب ". اهــ.
ولذلك خص الشرعُ الأم بحضانة الولد لهذه الأمور الثلاثة (الحمل والوضع والرضاع)
فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:" أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه منى، فقال النبي ﷺ:" أنت أحق به ما لم تنكحي".
فاختصت الأم بالابن وحضانته لاختصاصها بهذه الأمور الثلاثة.
3- الأم في حاجة شديدة لمن يعولها ويبرها؛ لأنها ضعيفة الجسم، عديمة الكسب.
4- أن الأم جبلت على الحب والعطف والحنان والعطاء، فربما يُغري هذا بعض الأولاد فيتجرؤون عليها ويتساهلون في حقها لما يرون من ظواهر عطفها ورحمتها وحنانها ولهذه جاءت الشرعية الغراء موجبة على الولد بأن يكون أكثر برًا بها، وطاعة لها، حتى لا يتساهل في حقها ولا يتغاضى عن برها واحترامها وإكرامها.
وقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة t قال: قال رسول الله ﷺ:" إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات ووَأد البنات، ومنعًا وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ".
فالنبي ﷺ خص الأمهات هنا بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء، ولينبه على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك. (فتح الباري:5/83)
وقد أحسن الحسن البصري-رحمه الله-حيث جمع شتات أقوال أهل العلم في هذه المسالة-أيهم يقدم في البر؟ - فقال-رحمه الله-:" حق الوالد أعظم، وبر الأم ألزم ".
إنها الأم وما أدراك ما الأم؟
خصها الشرع بمزيد من البر كيف لا؟ وهي التي حملتك في بطنها تسعة أشهر تزيدها بنموك ضعفًا وهي الضعيفة، فإذا ما خرجت إلى الدنيا انصرفت إلى خدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها، وتنميك بهزالها، وتقويك بضعفها، تخاف عليك رقة النسيم، وطنين الذباب، وتؤثرك على نفسها بالغذاء والراحة. وانظر أخي الحبيب إلى هذه الصورة التي تفيض بالحب والعطف والحنان والتي تحكى عنها عائشة -رضي الله عنها- وتقول كما عند مسلم:" جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فِيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرتُ الذي صنعت لرسول الله ﷺ، فقال:" إن الله قد أوجب لها به الجنة، أو أعتقها بها من النار ".
- وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم عن عائشة-رضي الله عنها- قالت:" دخلت عليّ امرأة ومعها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة فأعطيتُها إياها، فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي ﷺ علينا فأخبرته، فقال:" من ابتلي([28]) من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كُنِّ له سترًا من النار ".
هذه هي الأم عطاء بلا حدود، ينبوع من العطف والحب والحنان، ولذلك لما أراد النبي ﷺ أن يُقرب لنا مدى رحمة الله بنا لم يجد إلا أن يضرب مثالًا بعطف الأم ورحمتها بابنها.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب tقال:" قدم على رسول الله ﷺ بسبي فإذا امرأة
من السبي تسعى إذ وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله ﷺ:
" أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا، والله، فقال:" الله أرحم بعباده من هذه بولدها ".
أماه لو كان عمرك بيدي لزدته ولوكــــــان فيه فنائي
أماه لو كان الأمر بيدي لرفعتك إلى عنان السماء
والله لا يوافيك حقك إلا الله تعالى.
فضل بر الأم
1- بر الأم سبب لتكفير الذنوب والسيئات:
وقد مر بنا الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال:" إن رجلا أتى النبي ﷺ فقال: إني أذنبت ذنبًا عظيمًا فهل لي من توبة؟ فقال:" هل لك من أم؟" قال: لا. قال:" فهل لك من خالة([29])؟" قال: نعم. قال:" فبرها ".
(صحيح الترغيب والترهيب: 4054)
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان والبخاري في الأدب المفرد عن عطاء بن يسار: أن رجلًا أتى ابن عباس-رضي الله عنهما- فقال: إني خطبتُ امرأة فأبت أن تنكحني وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه فغرتُ عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال الرجل: لا. قال: تب إلى الله U وتقرب إليه ما استطعت، يقول عطاء: فذهبت فسألت ابن عباس: لِمَ سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملًا أقرب إلى الله U من برِّ الوالدة ". (صححه الألباني في الأدب المفرد) (الصحيحه:2799)
وذكر ابن الجوزي في كتابه "بر الوالدين ص 149وابن المبارك في البر والصلة ص 118عن الحسن البصري -رحمه الله- أنه قال:" النظر إلى وجه الأم عبادة، فكيف ببرها؟ ".
2- بر الأم يجعل الابن مستجاب الدعوة:
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أُسَيْرِ بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب t إذا أُتِيَ عليه أمداد أهل اليمن([30])سألهم: أفيكم أويسُ بنُ عامر؟ حتى أتى على أويس فقال له: أنتَ أُوَيس ابنُ عامر؟ قال: نعم، قال عمر: مِن مُراد ثم من قرَن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأتَ منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: " يأتي عليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن، مِن مُراد ثمَّ مِن قرن، كان به برص فبَرَأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بَرٌّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل"، فاستغفِرْ لي، فاستغفَرَ له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكونُ في غبراء الناس أحب إليَّ، قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فوافق عمر فسأله عن أويس؟ قال: تركتُه رثَّ البيت، قليل المَتاع، قال عمر: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول:" يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، مِن مراد ثم من قرن، كان به برص فبَرَأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل"، فأتى أويسًا، فقال: استغفِرْ لي، قال: أنتَ أحدثُ عهدًا بسفر صالح، فاستغفِرْ لي، قال: استغفِرْ لي، قال: أنت أحدث عهدًا بسفر صالح، فاستغفرْ لي، قال: لقيتَ عمر؟ قال: نعم، فاستغَفَرَ له، ففَطِن له الناس، فانطلق على وجهه...".
وكان أويس يتمني لقاء النبي ﷺ ليحوز شرف الصحبة ويدخل في جملة الصحابة لكن آثر بَرَّ أمه على الفوز بشرف الصحبة، فلازمها ولم يفارقها، حتى ماتت وفاته لقاء النبي ﷺ وشرف الصحبة لبرِّه بها، وبرِّه بأمه جعله لو أقسم على الله لأبَرّه، مما جعل عمرt يبحث عنه لسنوات طويلة يسأل عنه وينتظر مجيئه لكي يستغفر له، وهكذا يصنع البرُّ بأهله.
3- بر الأم سبب في الرزق:
رُوي أنه كان في بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه، فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحوله إلى قرية أخرى، فألقاه بفنائها ثم أصبح يطلب بثأره، وجاء ناس إلى موسىu فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ذلك، فدعا الله، فأوحى إليه أن يعلمهم أن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة قائلا لهم: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾ ﴿قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً﴾ أي تستهزئ بنا ونحن نسألك عن أمر قتيل فتأمرنا بذبح البقرة؟ فقال موسى: ﴿أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ أي من المستهزئين بالمؤمنين فلما علم الناس أن ذبح البقرة عزم من الله استوصفوه - أي طلبوا معرفة وصفها- وكان تحته حكمة عظيمة وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح، وله طفل له عجلة فأتى بها إلى غيضة، وقال: اللهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر، ومات الرجل. فصارت العجلة في الغيضة أعوامًا، وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن، وكان بارًا بأمه، وكان يُقَسم الليل ثلاثة أثلاث: يصلي ثلثًا، وينام ثلثًا، ويجلس عند رأس أمه ثلثًا، وكان إذا أصبح، انطلق فاحتطب على ظهره، وأتى به السوق فيبيعه بما شاء الله، ثم يتصدق بثلثه ويأكل بثلثه ويعطي أمه ثلثه. فقالت أمه له يومًا: إن أباك ورَّثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا وكذا، فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن يردها عليك. وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل لك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها، وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن تأتي، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها وأقبل يقودها، فتكلمت العجلة بإذن الله تعالى وقالت: أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإن ذلك أهون عليك، فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك، ولكن قالت خذ بعنقها. فقالت العجلة: بإله بني إسرائيل لو ركبتني لما قدرت عليّ أبدًا، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله، وينطلق معك لفعل، لبرك بأمك. فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له: إنك فقير لا مال لك، ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع هذه البقرة، قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير، ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة إذ ذاك ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السوق، فبعث الله إليه ملكًا ليري خلقه وقدرته، وليختبر الفتى كيف بره بوالدته، وكان الله عليمًا خبيرًا، فقال له المَلك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضا والدتي، فقال له الملك: فإني أعطيك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك! فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبًا لم آخذه إلا برضا والدتي! ثم إن الفتى رجع إلى أمه وأخبرها بالثمن، فقالت له: ارجع وبعها بستة دنانير، على رضا مني، فانطلق بها إلى السوق فأتاه المَلك فقال له: استأمرت أمك؟ فقال له الفتى: إنها أمرتني ألا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها، فقال له الملك: فإني أعطيك اثني عشر دينارًا، على أن لا تستأمرها، فأبى الفتى ورجع إلى أمه، فأخبرها بذلك، فقالت له: إن الذي يأتيك مَلك في صورة آدمي ليجربك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل، فقال له المَلك: اذهب إلى أمك وقل لها: أمسكي هذه البقرة فإن موسى u يشتريها منك لقتيل من بني إسرائيل، فلا تبيعيها إلا بملء مسكها ذهبًا، أي جلدها دنانير، فأمسكوها. وقدّر الله U، على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها، فمازالوا يستوصفون، حتى وصف لهم تلك البقرة مكافأة له على بِرّه بوالدته فضلًا ورحمة، فاشتروها بملء مسكها ذهبًا فذبحوها وضربوا القتيل ببعض منها كما أمر الله تعالى فقام القتيل حيًا بإذن الله تعالى وأوداجه تشخب دمًا، وقال: قتلني فلان ثم سقط ومات مكانه، فَحُرم قاتله الميراث. فتأمل كيف سخر الله تلك البقرة وساق تلك الثروة لهذا الفتى ببره لأمه.
4- من أراد الجنة فعليه بطاعة أمه وبرها:
والله ما عرف قدر الأم إلا الله U، لذا جعل الجنة تحت قدميها.
قد أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن معاوية بن جاهمة: أن جاهمة t جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله! أردت أن أغزو وجئتُ أستشيرك؟ فقال: "هل لك من أم؟" قال: نعم، قال:" فالْزَمْهَا فإن الجنة عند رجلها ". - وفي رواية: " فالْزمها فإنَّ عند رجْلَيْها الجنة ".
ورواه الطبراني أن جاهمة قال: أتيت النبي ﷺ استشيره في الجهاد، فقال النبي ﷺ:" ألك والدان؟" قلت: نعم. قال: الزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما ".
(صحيح ابن ماجه: 2241) (صحيح الجامع:1249) (صحيح الترغيب والترهيب: 2485)
وأخرج الطبراني عن طلحة بن معاوية السلمي t قال: أتيت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال:" أمك حية ؟" قلت: نعم. قال النبي ﷺ:" الزم رجلها فثم الجنة ".
(صحيح الجامع 1248) (صحيح الترغيب والترهيب 2484)
5- البار بأمه ليس له جزاء إلا الجنة:
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن عائشة-رضي الله عنها-عن النبي ﷺ قال: دخلت الجنة فسمعت قراءة، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا حارثة بن النعمان، فقال رسول الله ﷺ: كذلكم البر، كذلكم البر". زاد عبد الرزاق في روايته:" وكان أبر الناس بأمه ". (الصحيحة:913) (صحيح الجامع:3371)
قال الذهبي عن حارثة بن النعمانt:" شهد بدرًا والمشاهد، ولا نعلم له رواية، وكان دَيِّنًا خيِّرًا، وبارًّا بأمه ". (سير أعلام النبلاء: 1/378)
وذكر ابن الجوزي في كتابه "التبصرة:1/188": عن عائشة -رضي الله عنها- قالت:" كان رجلان من أصحاب رسول الله ﷺ أبر من كان في هذه الأمة بأمهما: عثمان بن عفان، وحارثة بن النعمان – رضي الله عنهما– أما عثمان: فإنه قال: ما قدرت أتأمل وجه أمي منذ أسلمت، وأما حارثة: فكان يطعمها بيده، ولم يستفهمها كلامًا قط تأمره به، حتى يسأل من عندها بعد أن يخرج:" ماذا قالت أمي ". اهـ.
والله لو أنصف الأبناء ما تركوا أمهاتهم يمشين على الأرض، ولغسلوا أقدامهن بدموع عيونهم
وقد مر بنا الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة t عن النبي ﷺ قال:" رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة ".
يقول رفاعة بن إياس: رأيت الحارث العلكي في جنازة أمه يبكي بكاءً شديدًا، فقلت لما كل هذا البكاء؟ قال: كيف لا أبكي وقد أغلق عني اليوم بابٌ من أبواب الجنة.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد والطبري في تفسيره وعبد الرزاق الخرائطي في مساوئ الأخلاق (67) عن طَيْسَلَة بن مَيَّاس قال: كنت مع النجدات([31]) فأصبت ذنوبًا لا أرها إلا من الكبائر، فذكرت ذلك لابن عمر-رضي الله عنهما-، قال: وما هي؟ قلت: كذا وكذا، قال: ليست هذه من الكبائر، هنَّ تسع (أي الكبائر):"الإشراك بالله، وقتل نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وإلحادٌ في المسجد، والذي يستسخر([32])، وبكاء الوالدين من العقوق ".
قال لي ابن عمر-رضي الله عنهما-:" أتَفْرَق([33]) من النار وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: إي والله، قال: أحَيّ والداك؟ قلت: عندي أمي. قال: فوالله لو ألنت([34]) لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة، ما اجتنبت الكبائر ". (الصحيحة:2898)
بر الأم من أقوال وأفعال السلف
1- برُّ أبي هريرة t بأمه:
كان أبو هريرة t يسعى لإنقاذ أمه من النار ومن غضب الجبار، فكان يدعوها للإسلام لأنه يعلم أنها لو ماتت على الكفر ستكون طعمة للنار، فكان هذا يؤرقه ويجعله لا يهنأ بطعام، ولا يكتحل بمنام، فكان يفرغ الوسع، ويبذل الجهد، ويحرص على هداية أمه للإسلام.
فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة t قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهى مشركة فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله ﷺ ما أكره، فأتيت رسول الله ﷺ وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادعُ الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله ﷺ:" اللهم اهد أم أبي هريرة"، فخرجتُ مستبشرًا بدعوة نبي الله ﷺ، فلما جئت قصدت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعتُ أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعتُ خضخضة الماء، فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت من خمارها ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله ﷺ فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قلت: يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرًا، قلت: يا رسول الله! ادعُ الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا، فقال رسول الله ﷺ:" اللهم حبب عبيدك هذا -يعني أبا هريرة- وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهما المؤمنين، فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني ".
وكان أبو هريرة t إذا دخل إلى أرضه بالعتيق صاح بأعلى صوته: عليكِ السلامُ ورحمةُ الله وبركاته يا أمتاه فتقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمكِ الله كما ربيتني صغيرًا، فتقول: يا بني وأنت فجزاك الله خيرًا ورضي الله عنك كما بررتني كبيرًا ". (أخرجه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني)
· ولازم أبو هريرة t أمه ولم يحج حتى ماتت لصحبتها.
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ:" للعبد المملوك الصالح أجران، والذى نفسى بيده لولا الجهاد في سبيل الله، والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك ".
وقوله: "والذي نفسي بيده" هو مدرج من كلام أبي هريرة t، لأن النبي ﷺ لم يكن له أم يبرها، ويمتنع أن يتمنى الرق ﷺ وهو أفضل الرسل.
يقول الراوي كما في رواية مسلم:" وبلغنا أن أبا هريرة t لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها ".
يقول محمد بن سيرين: كنا عند أبي هريرة t فقال: اللهم أغفر لأبي هريرة ولأمي ولمن أستغفر لهما، قال محمد بن سيرين: فنحن نستغفر لهما حتى ندخل في دعوة أبي هريرة t ".
2- وقال رجل لعمر بن الخطاب t: إن لي أما بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، فهل أديت حقها؟ قال عمرt له: لا. لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وتتمنى فراقها ".
فالأم تنظف ولدها وتزيل عنه الأقذار غير مشمئزة ولا متأففة، فإذا تقدم بها السن وحل بها الضعف واضطر هو إلى تنظيفها يومًا تغير وجهه واشمأزت نفسه، فأين حنانه من حنانها؟!!
3- وأخرج البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في" شعب الإيمان" عن ابن عمر-رضي الله عنهما- أنه شهد رجلًا يمانيًا يطوف بالبيت، وهو يحمل أمه وراء ظهره يقول:
إنِّي لها بَعِيُرهَا المُذَلَّلُ إنْ أُذْعَرِتْ([35]) رِكابُهَا لم أُذعَر
ثم قال: يا ابن عمر! أتراني جزيتها؟! قال:" لا. ولو بزفرةٍ([36]) واحدة ".
(صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد:11)
4- برُّ أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- بأمه:
يقول محمد بن سيرين-رحمه الله- : بلغت النخلة في عهد عثمان بن عفان t ألف درهم، قال: فعَمِد أسامة إلى نخلة فعقرها فأخرج جُمَّارها فأطعمه أمه، فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟ قال: إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها ".
5- برُّ حُجْر بن عدي-رحمه الله-:
كان حُجْر بن عدي بن الأدبر الكندي يلتمس فراش أمه بيده، فَيَتَّهِم غلظ يده، فينقلب عليه على ظهره، فإذا أمن أن يكون عليه شيء أضجعها ". (سير أعلام النبلاء: 5/356)
6- برُّ ابن المنكدر-رحمه الله-:
قال ابن المنكدر:" بات أخي عمر يصلي، وبتُّ أغمز([37]) قدم أمي، وما أحب أن ليلتي بليلته".
(المصدر السابق:5/359)
- وكان محمد بن المنكدر يضع خَدَّه على الأرض ثم يقول لأُمِّه: "ضعي قدمك على خدي ".
(المصدر السابق:5/356)
7- برُّ محمد ابن الحنفية -رحمه الله-:
وكان محمد ابن الحنفية يغسل رأس أمه بالخِطْمِي([38])، ويُمَشِّطها ويفليها ويخضبها.
8- برُّ ابن القاسم -رحمه الله-:
وكان ابن القاسم يُقرأ عليه الموطأ، إذا قام قيامًا طويلًا ثم جلس، فقيل له في ذلك! فقال: نزلت أمي فسألتني حاجة، فقامت، فقمت طويلًا، فلما صَعِدتْ، جلستُ ". (بر الوالدين للطرطوشي ص79)
9- برُّ مسعر بن كدام:
- قال محمد بن سعد: كانت لمسعر بن كدام أمٌّ عابدة، فكان يحمل لها لبدًا ويمشي معها حتى يُدخلها المسجد، فيبسط لها اللبد، فتقوم فتصلي، ويتقدم هو إلى مقدام المسجد فيصلي ثم يقعد ويجتمع إليه من يريد فيحدثهم ثم ينصرف إليها فيحمل لبدها وينصرف معها ". (صفة الصفوة:4/25)
- وذكر ابن الجوزي في كتابه بر الوالدين عن أنس بن النضر الأشجعي قال: استقت أم مسعر ماءً في بعض الليالي فذهب فجاءها بالماء فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت بالماء عند رأسها حتى أصبح.
10- وفي نفس المصدر يقول سفيان بن عيينة-رحمه الله-:" قدم رَجُلٌ من سفر فصادف أُمَّه قائمة تُصلي فكره أن يقعد وأمه قائمة فعلمت أمه ما أراد فطولت في الصلاة حتى يُؤجر.
11- برُّ طلق بن حبيب-رحمه الله-:
وكان طلق بن حبيب من العُباد والعلماء، وكان يُقبَّل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحته؛ إجلالًا لها. (بر الوالدين للطرطوشي ص78)
12- برُّ حيوة بن شريح -رحمه الله-:
وكان حيوة بن شريح وهو من أئمة وعلماء المسلمين الأفاضل: يقعد في حلقته يعلم الناس، فتقول له أمه: قم يا حيوة، فألق الشعير للدجاج، فيقوم ويترك التعليم. (بر الوالدين للطرطوشي ص 79)
13- برُّ أبي إسحاق البخاري -رحمه الله-:
ويروى أن رجلًا جاء إلى أبي إسحاق البخاري فقال له: رأيتك البارحة في المنام أن لحيتك مرصَّعة بالجواهر واليواقيت، قال: صدقت، فإني مسحت لحيتي تحت قدم أمي قبل أن أنام فهذا من ذاك.
14- قال كعب الأحبار-رحمه الله-: سُئل أحد عباد بني إسرائيل عن أعظم ذنب عملته؟ فقال: كان لي والدة فدعتني من قِبَلِ شمال الريح، فأجبتها فلم تسمع، فجاءتني مغضبة فجعلت ترميني بالحجارة فأخذت عصى وجئتُ لأقف بين يديها لتضربني بها حتى ترضى، ففزعتْ مني، فأصابت وجهها شجرةٌ فشجتها فهو أعظمُ ذنبٍ عملتُه قط ". (من فاته بر والديه لمجدي الشهاوي)
15- برُّ ظبيان بن عليّ -رحمه الله-:
كان ظبيان بن عليّ من أبر الناس بأمه، فباتت ليلة وفي صدرها عليه شيء، فقام على رجليه قائمًا يكره أن يوقظها، ويكره أن يقعد.
16- برُّ كهمس بن الحسن -رحمه الله-:
- يقول أبو عبد الرحمن الحنفي-رحمه الله-: رأى كهمس بن الحسن عقربًا في البيت، فأراد أن يقتلها، أو يأخذها، فسبقته، فدخلت في جحر، فأدخل يده في الجحر ليأخذها، فجعلت تضربه، فقيل له: ما أردتَ إلى هذا؟ (يعني لم أدخلت يدك في جحرها تخرجها؟) قال: خفت أن تخرج من الجحر فتجئ إلى أمي فتلدغها ". (سير أعلام النبلاء:6/317) (حلية الأولياء:6/211)
- ويقول الحسن بن نوح-رحمه الله-: كان كهمس يعمل في الجصّ كل يوم بدانقين فإذا أمسي اشترى به فاكهة فأتى بها إلى أمه ". (حلية الأولياء:6/212)
17- برُّ الهذيل بن حفصة -رحمه الله-:
ويقول هشام بن حسان:" كان الهذيل بن حفصة يجمع الحطب في الصيف، فيقشره، ويأخذ القصب فيفلقه. قالت حفصة: وكنتُ أجد قرة([39])، فكان إذا جاء الشتاء، جاء بالكانون فيضعه خلفي وأنا في مصلاي، ثم يقعد فيوقد بذلك الحطب المقشر، وذلك القصب المفلق وقودًا لا يؤذي دخانه، ويدفئني، نمكث بذلك ما شاء الله، قالت: وعنده من يكفيه لو أراد ذلك ". (صفة الصفوة: 4/25)
- وكان يحلب ناقته بالغداة([40])، فيأتيني به فيقول: اشربي يا أم الهذيل، فإن أطيب اللبن ما بات في الضرع.
18- وقال الأخنس: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: كنت مع منصور جالسًا في منزله، فتصيح به أمه – وكانت فَظَّة غليظة – فتقول: يا منصور! يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى!! وهو واضع لحيته على صدره ما يرفع طرفه إليها. (سير أعلام النبلاء:5/405)
19- برُّ أبي حنيفة-رحمه الله-:
- يقول يحيى بن عبد الحميد: كان الإمام أبو حنيفة يخرج كل يوم من السجن فيُضرب ليدخل القضاء، فيأبى، فلما ضُرب رأسه وأثر ذلك في وجهه بكى، فقيل له في ذلك، فقال: إذا رأته أمي بكت واغتَّمت، وما علىَّ شيء أشد من غم أمي.
- وعن يحيى الحماني عن أبيه قال: كان أبو حنيفة يُضرب على أن يلي القضاء فيأبى، ولقد سمعته يبكي ويقول: أبكي غمًّا على والدتي. (مناقب الإمام أبي حنيفة للذهبي ص 16)
- وقال أبو حنيفة-رحمه الله-: ربما ذهبت بها إلى مجلسه، وربما أمرتني أن أذهب إليه وأسأله عن مسألة، فآتيه وأذكرها له، وأقول له: إن أمي أمرتني أن أسألك عنها، فيقول: وأنت تسألني عن هذا؟ فأقول: هي أمرتني. فيقول: قل لي: كيف هو– يعني الجواب–؟ حتى أخبرك. فأخبره بالجواب، ثم يخبرني به، فآتيها وأخبرها عنه بما قال. ونظير ذلك: أنها أستفتت عن شيء، فأفتيتها فلم تقبله، وقالت: لا أقبل إلا بقول زُرعة القاص– أي الواعظ – فجاء بها إليه، وقال له: إن أمي تستفتيك في كذا، فقال: أنت أعلم وأفقه، فأفتها. قال: أفتيتُها بكذا، فقال: زُرعة: القول ما قال أبو حنيفة. فرضيت وانصرفت. (من أخلاق العلماء للشيخ محمد سليمان ص 89)
- قال أبو يوسف-رحمه الله-:" كان أبو حنيفة يحمل والدته على حماره إلى مجلس عمر بن ذر؛ كراهة أن يردّ قولها ".
20- برُّ ابن عون المزني -رحمه الله-:
نادته أمه ذات مرة فأجابها، فَعَلاَ صوتُه صوتها فأعتق رقبتين. (سير أعلام النبلاء:6/ 366)
21- برُّ بندار المحدث -رحمه الله-:
قال عبد الله بن جعفر بن خاقان المروزي: سمعت بُندارًا يقول: أردت الخروج – يعني الرحلة لطلب العلم – فمنعتني أمي، فأطعتها، فبُورك لي فيه ".
قال الذهبي-رحمه الله-: جمع حديث البصرة، ولم يرحل، بِرًا بأمه، ثم رحل بعدها ".
(سير أعلام النبلاء: 2/144) (تاريخ بغداد:2/102)
22- برُّ ابن عساكر-رحمه الله-:
قال ابن النجار-رحمه الله-: قرأت بخط معمر بن الفاخر في " معجمه ": أخبرني أبو القاسم الحافظ إملاءً بِمَنى، وكان من أحفظ ما رأيت، وكان شيخنا إسماعيل بن محمد الإمام يفضله على جميع من لاقيناهم، قدم أصبهان ونزل في داري، وما رأيت شابًّا أحفظ ولا أورع ولا أتقن منه، وكان فقيهًا أديبًا سُنيًا، سألته عن تأخره عن الرحلة إلى أصبهان، قال: استأذنت أمي في الرحلة إليها فما أذنت ".
(سير أعلام النبلاء: 20/567) (تذكرة الحفاظ: 4/1333)
23- برُّ الأبّار-رحمه الله-:
قال جعفر الخلدي: وكان الأبّار من أزهد الناس استأذن أمه في الرحلة إلى قتيبة فلم تأذن له، ثم ماتت فخرج إلى خراسان، ثم وصل إلى بلخ وقد مات قتيبة، فكان يُعَزُّونه على هذا، فيقول: إني اخترت رضا الوالدة ". (سير أعلام النبلاء:13/423)
24- برُّ محمد بن سيرين-رحمه الله-:
- جاء في حلية الأولياء أن رجلًا قال: ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع.
وكان محمد بن سيرين إذا تكلم مع أمه كأنه مريض.
- يقول ابن عون -رحمه الله -:" دخل رجلٌ على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد بن سيرين أيشتكي شيئًا؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه ".
- ويقول ابن عون: إن محمدًا كان إذا كان عند أمه لو رآه رجلٌ ظن أن به مرضًا من خفض كلامه عندها. (حلية الأولياء:2/273)
25- برُّ عليِّ بن الحسين بن عليّ (زين العابدين) -رحمه الله-:
وهذا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنهم – وهو المسمى زين العابدين كان من سادات التابعين وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟ فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها ".
(عيون الأخبار: 3/97)
26- وفي هذا الزمان هناك من النماذج فاق بره الخيال:
ففي أوائل التسعينيات بُنيت في محافظة قنا دارٌ للمسنين، فلم يتقدم لها أحد، فذهب المسئولون عنها لإخبار أهل قنا بالدار وما فيها من خدمات اجتماعية ورعاية صحية، فلم يستجب لهم أحد، فإذا بهم يروا شابًا ومعه أمه التي تجاوزت الثمانين عامًا، فعرضوا عليه أن يدخلها الدار، وقالوا له: أنت تعمل وغير متفرغ لها، والدار بها خدمات طبية ورعاية متميزة، فقال لهم: سأضعها في قُفْةٍ وأحملها معي أينما أذهب، والله لو أعطيتموني مال الدنيا لم يعدل عندي نظرةً إليها.
يا لها من كلمة هزت وجدان كل من سمعها وجعلت المسئولين عن دار المسنين لم يروا بعد ذلك إلا إغلاق الدار.
فمن منا يقبل يدي أمه؟ ومن منا يقبل رأس أمه؟ ومن منا يجلس عند قدميها؟
ومن منا يكلمها بأدب واحترام؟ فأين نحن من بر الأم؟
ورحم الله القائل:
الله أكـــــــــرم الأمَّ وعـــــــــظَّمَ شــــــأنهـــــا وكــــذا رســــولُ الله أعلى قــــدرَهـــــــــــا
وكتابـــــــهُ أوصى بحسن صحابــــــــةٍ فهي الأحقُ ومــــــــــن يكونُ نظيرُها
فعطـــــــــاؤُها يـــــــــــفيضُ سمــــــــاحــــــــــــةً هل قـــــــــد رأيتم من يفوقُ عطاءها
بــــــــالحـــــب تنبضُ والــــــوفاءُ أليفُهــــــا لـــــم تنسَ يومًـــــــا أن تقــــدمَ حبَّهــــــــا
وحنانُها بحرٌ يفيضُ علــــــى الورى نبــــعٌ يشيعُ الــــــــدفءَ فيمَن حولهـا
فالله قـــــــــــد أوصى بهــــــــــــا وبِبِرِّهـــــــا ولكي تــــبر فلا تقـــــــل أفٍّ لهـــــــــــــا
ولكي تنـــــــــال الخلـــــــــد فــي جناتـــــه لابــــــد حتمًــــا أن تنــالَ رضاءهـــــــا
فـــهي التي أفـــــــنت سنينَ شبابهـــــا مهمـــــا فــــــــعلتَ فلـــن تُوفِّى حقَّهــــا
فـــإذا اشتكـــت يومًـــا لفــرط عنائهــا فمـــــن العــــــدالةِ أن تكونَ مُعينُهـــا
وإذا تــــــــــأخــــر عمـــــــرها وتثاقـــــــــلت فـــأدعُ الإلــه بـأن يطيل بقاءهــــا
فالأم إن رضيت فــــــإن رضاءهــا نـــور مــــن الرحمن يمشي خلفهـــا
والخــــــــير معقــــــــــود كــــــأن خيوطـه ربطــت بكــــف لا يروم بــــــعادهــــــا
جُبلت على تــــقديم كــــل معونــــــــةٍ فهي العطاءُ ولــــــــن تغيرَ طبعَها
تــــــرعى الصغيرَ فإنْ أحسَّ بعلةٍ لا شيءَ يمكنُ أن يجَفَّفَ دمعَها
وتظلُّ تسهرُ حولَ مهدِ صغيرِها ترجو الشفاءَ لكي يُزِيلَ عذابهــــا
سبحان مَن جعلَ الأمومةَ نعمةً تُضْفِي على كلِّ الوجود حنانَها
ولله در القائل:
لأمـــــــك حــــــــــق لـــــــو علمــــــت كـــــــــثير كثــــــيرك يـــــا هـــــذا لـــــــديه يــــــسير
فـــــــــكم ليلـــــــــــة بـــــــــــاتت بثقلك تشتكي لهــــــا مــــــــن جــــــــواها أنّــــــــةً وزفير
وفي الوضـــع لو تدري عليها مشقـة فمـــن غصص منها الفؤاد يطير
وكـــــــــم غسلت عنـــــــك الأذى بيمينهــا وما حجــــــــرها إلا لـــــــــديك سريـــر
وتـــــفـديك ممــــــــــــا تشتكيـــــــــه بنفسهــــــا ومــــــــن ثديهـــــا شرب لـديك نمير
وكـــــــم مـــــرة جــــاعت وأعطتك قوتها حنانًـــــــا وإشفاقًـــــــا وأنـــــت صغــير
فآهًا لــــــــذي عقــــــل ويتبــــــــــع الهــــوى وآهًا لأعمى القلب وهو بصير
فــــــدونك فـــارغب في عميم دعائها فأنت لمـــــــا تــــــدعــــو إليـــه فقيـــر
(الزواجر للهيتمي:2/155)
احذر عقوق الأمهات
وقد مر الحديث الذى أخرجه البخاري من حديث المغيرة بن شعبة t قال: قال رسول الله ﷺ:
" إن الله حَرَّمَ عليكم عُقُوقَ الأمَّهَاتِ، ووَأدَ البنات، ومنعًا وهاتِ، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ".
وهناك من القصص الواقعية والتي تدل على مدى العقوق الذي وصل إليه بعض الشباب، الذين قست قلوبهم وتحجرت عيونهم، وتبلدت أحساسيهم.
1-جاء في جريدة أخبار اليوم في عددها الصادر بتاريخ 2/10/2001 بعنوان: " ماتت الأم ولا يعلم أبناؤها بوفاتها ". جاء في الخبر: توفيت هذه الأم التي كانت تقيم بمفردها بكرموز غرب الإسكندرية ولم يدر بوفاتها أحد من أبنائها أو جيرانها، فاعتقد سكان المنزل الذى تسكن فيه أنها سافرت إلى أبنائها في محافظة البحيرة بينما هي لفظت أنفاسها وظلت جثتها أربعة أشهر كاملة تنبعث منها رائحة نفاذة، ولم يلتفت الجيران لضرورة فتح باب الشقة للتحقق من سبب الرائحة إلا بعد الشهور الأربع من وفاتها، فقد أبلغوا مباحث كرموز وبعد استئذان النيابة اكتشف ضابط كرموز المفاجأة حيث عثروا على هيكل عظمى، وباستدعاء ابنها المقيم بالبحيرة انخرط في البكاء لأنه قاطع أمه ولم يسأل عنها من خمسة أشهر. يا الله أهكذا يكون الجزاء؟!
ألم يقرأ هؤلاء قول الحبيب النبي ﷺ الثابت في صحيح البخاري ومسلم: " لا يدخل الجنة قاطع ".
قال سفيان-رحمه الله-: " يعنى قاطع رحم ". فإذا كان الله يقطع من قطع أقارب والديه، ويحرمه من دخول الجنة، كيف بمن قطع والديه؟!
2- وها هو شاب من الشباب يذهب هو وزوجته إلى الصائغ وكانت أمه معه، أتدري لماذا؟ لأنها كانت تحمل له أولاده، فاشترى هذا الشاب لزوجته مصاغًا بمبلغ كبير إلا أنه وجد في الفاتورة مائتين ريالا زائدة، فسأل عنها، فقال له الصائغ: إن أمك أخذت خاتمًا قد أعجبها، فصاح الولد وعلا صوته، وأرغد وأزبد ونهر أمه، وقفت الأم مذهولة وعجز لسانها عن الكلام، ولكن فاضت عينها بالدموع، فقالت له الزوجة: دعها فإنها تتعب مع الأولاد، وهذه مكافأة بسيطة لها، وسكت الولد على مضض وتأفف، فما كان من الأم إلا أنها خلعت هذا الخاتم، وقالت بصوت حزين وهي تبكي: يا بنى خذ خاتمك، لمن سأتزين، وجزاك الله عنى خيرًا.
3- وهناك قصه أخرى يتفطر لها الفؤاد أسى، وتذوب النفس لسماعها حسرة وهي: أن شابًا من الشباب يضع أمه العجوز في إحدى دور العجزة ( المسنين) ولم يَزُرها سنين، بل لم يتصل بها إطلاقًا انشغل في أعماله وعاش لزوجته وأولاده، ومع هذا فالأم في قلقٍ، تخاف من طول غيابه عنها أن يكون قد أصابه مكروه، وتردت حالة الأم وساءت وأصبحت طريحة الفراش، عندها طلبت الأمُ من مسئول الدار أن يتصل على ابنها لتراه وتضمه إلى صدرها وتقبله قبل أن تموت، وسبقتها الدموع وهي تنادي باسمه فاتصل مسئول الدار على ولدها، وأخبره أن أمه تحتضر وتريد أن تراه وتقبله قبل أن تموت، لكن هذا الولد العاق رفض ذلك وادعى ضيق الوقت، وأن لديه أعمالًا كثيرة، -وماتت الأم- فاتصل عليه مسئول الدار وأخبره بوفاة أمه، فما كان من الابن إلا أنه قال: أكملوا الإجراءات وادفنوها.
أهذا جزاء الأم التي ربت وتعبت؟! أهذا جزاؤها بعد طول عنائها؟!
5- وقصة أخرى يرويها لنا أحدهم حيث يقول: ذهبتُ إلى جنارة امرأةٍ، فإذا شاب يبكي بكاءً شديدًا فسألت عنه فقُلت: من هذا؟ فقيل لي ابنها، قلتُ: إلى هذه الدرجة كان يحبها وبارًا بها!! فقيل لي: لا، بل هي دموع الندم، لقد ماتت ولم يرها منذ ثلاث سنوات، ولقد لبثت في المستشفى عشرين يومًا وكانت تطلب رؤيته ولم يأت لرؤيتها ماتت ولسانُ حالها:" قلبي على ولدى انفطر، وقلبُ ولدي عليّ حجر".
أيها الابن العاق! أنسيت يوم كنت جنينًا في بطن أمك، فكم تعبت عند الحمل بك وكم تألمت ولكنها لفرط اشتياقها إليك كانت تتحمل الأوجاع
وكانت إذا تحركت تألمت، وإذا جلست أنَّتْ، وإذا أضجعت صرخت، وإذا مشت تعبت، وإذا حاولت النوم قليلًا تعذبت، فهي لا تستطيع أن تتقلب في فراشها كما تريد، كما كانت قبل هذا الحمل الثقيل، تصرخ عندما تتلقى لكمةً منك فتعتدل ثم تبتسم، وتقلق من عدم الحركة تتألم ولكنها سعيدة، كل مفصل يأن لكنها تبتسم، تزداد بحملك ضعفًا على ضعفها([41]).
ومع هذا الضعف وتلكم الأوجاع والآلام فهي مطالبةٌ بحقوق الزوج والقيام على خدمته، والاهتمام بالبيت والقيام على شئونه، وإعداد الطعام ورعاية الصغار وما إلى ذلك مما هو وحده كفيل بهد جبل من الجبال. وعندما يحين وقتُ خروجك إلى الدنيا ينزل بها من الآلام والأوجاع ما الله به عليم، آلام وأوجاع لو نزلت على الجبال الرواسي لخرت وتصدعت فالجنين لا يخرج إلى دار الفناء فتنتهي الآلام، ولا هو يرغب في البقاء في الأحشاء ولا يخرج أحيانًا إلا قصرًا وإرغامًا فيمزق الأطباء اللحم ويبقروا البطن فيتسابقُ الجنينُ وروحُ أمه في الخروج، وغالبًا ما تسبق الروحُ فتموت الأم ويحيا الجنين.
فإذا كان لها فسحة في الأجل وكتب الله لها البقاء، أفاقت بعد هذه المعركة حتى إذا رأته بجانبها تبسمت وقالت: فداءك روحي.
يا سبحان الله الأم تقاسي ما تقاسي ثم تتمنى أن تموت وتحيا أنت، ما هذا الحنان؟ وما هذا الإيثار؟ إنها الأم صاحبة القلب الرحيم، والتي تعطي بلا حدود.
هذه هي الأم أيها الابن العاق
الأم التي تلقتك نُطفة لا تُرى، وتشكلتَ في أحشائها خلية خلية، وتَكَوَّن عظمُك من دمها، ونبت لحمُك من حلو لبنها.
هذه هي الأم أيها الابن العاق
أمك التي لا تأكل حتى تأكل أنت، وربما آثارتك على نفسها بالطعام، فكم جاعت لتشبع أنت، ولا تنام حتى تطمئن عليكَ، ولو غبتَ عن البيت ما اكتحلت عينها بنوم، تمرض لمرضك، كم سهرت لتنام أنت وكم شقيت لتسعد أنت.
فالأم نعيم لا يعرفه إلا من ذاق الحرمان
أحذر أيها العاق، فدعوة الأم مستجابة:
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ:" لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جُريج، وكان جُريج، رجلًا عابدًا، فاتخذ صومعة، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج! فقال: يا ربَّ أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته. فانصرفت. فلما كان من الغد أتته وهو يصلي. فقالت: يا جريج! فقال: أي رب أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي. فقالت: يا جريج! فقال: أي رب أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته فقالت: اللهم! لا تُمته حتى ينظر إلى وجوه المُومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جُريجًا وعبادته وكانت امرأة بغي يُتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم. قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها: فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت. قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي فجاؤوا به فقال: دعوني حتى أصلي، فصلَّى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام مَنْ أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يُقَّبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا. أعيدوها من طين كما كانت. ففعلوا ".
الشاهد هو دعوة أمه عليه حيث قالت:" اللهم لا تُمته حتى ينظر إلى وجوه المُومسات"
وقد استجاب الله دعاءها – وفي رواية:" ولو دعت عليه أن يُفتن لفُتن".
قال الإمام النووي- رحمه الله– تعليقًا على الحديث السابق: وجريج آثر الصلاة على إجابتها فدعت عليه فاستجاب الله لها، قال العلماء: هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه إجابتها، لأنه كان في صلاة نفل، والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب، وعقوقها حرام..... اهـ.
أيها الابن العاق! أما سمعت قول النبي ﷺ:" اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله جل ثناؤه: وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين ". (رواه الطبراني وصححه الألباني)
فكيف إذا كان المظلوم أمًّا أو أبًا؟!
حدَّث أحدُ الثقات قائلًا: جلست مع شيخ معروف فحدثني هذا الخبر، يقول الشيخ: جاءني رجلٌ وهو يلعن أمه فنهيته عن ذلك، ثم سألته عن ذلك وعن ذنبها وعن جُرمها.
فقال: عملت سحرًا لزوجتي، فقال الشيخ: وكيف عرفت أنها هي؟ فقال الرجل: زوجتي أخبرتني بذلك وأمي تنكر هذا. فقال الشيخ: عجبًا تصدق زوجتك وتكذب أمك؟! يقول الشيخ: فطلبت رؤية أمه، فجاء بها ابنها الأكبر وجمعت بينهم وكثر النقاش وطال الحوار، ونفسي تحدثني أن الزوجة كاذبة، سمعت من الأم بكاءً حارًا يدل على صدقها. وأصرت الزوجة ألا تقبل اليمين من الأم إلا في بيت الله الحرام، فقال الشيخ بعدما أصرت زوجة الابن: اذهبوا إلى بيت الله الحرام، وأخذ الشيخ رقم هاتف الابن الأكبر واتصل به بعد يومين.
فقال الابن الأكبر: ذهبنا إلى بيت الله الحرام، ودعت أمي على نفسها بألا تعود إلى بيتها إن كانت فعلت، وتضرعت إلى الله أن ينتصر لها من ابنها وزوجته إن كانت مظلومة.
يقول الابنُ للشيخ: ثم عدتُ بأمي ودموعها على خدودها فلما وصلنا إلى البيت وجدنا الخبر أمامنا أن أخي وزوجته ماتا على إثر حادث لهما في الطريق ".
{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}
نداء: يا أيتها الأم الحنون اعلمي أن الله حباكِ واستجاب لدُعائك، فلا تدعي على أولادك.
فقد أخرج الإمام مسلم عن جابرt قال: قال رسول الله ﷺ:" لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا علي أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم ".
جزاء عقوق:
روى الأصبهاني وغيره عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ t قَالَ: نَزَلْتُ مَرَّةً حَيًّا، وَإلَى جَانِبِ ذلكَ الْحي مقبرة، فلما كان بعد العصر انشق منها قبر فخرج رجل رأسه رأس الحمار وجسده جسد إنسان فنهق ثلاث نهقات، ثم انطبق عليه القبر، فإذا عجوز تغزل شعرًا أو صوفًا، فقالت امرأة: ترى تلك العجوز؟ قلت: ما لها؟ قالت: تلك أم هذا، قلت: وما كان قصته؟ قالت: كان يشرب الخمر فإذا راح تقول له أمه: يا بُني اتق الله إلى متى تشرب هذه الخمر؟ فيقول لها: إنما أنتِ تنهقين كما ينهق الحمار، قالت: فمات بعد العصر، قالت: فهو ينشق عنه القبر بعد العصر كل يوم، فينهق ثلاث نهقات، ثم ينطبق عليه القبر، قال الأصبهاني: حدث أبو العباس الأصم بهذا الأثر إملاء بنيسابور بمشهد من الحفاظ فلم ينكروه. (صحيح الترغيب والترهيب: 2517)
ورواه ابن أبي الدنيا في كتابه "مجابو الدعوة ص84" عن أبي قزعة- رجل من أهل البصرة – قال: مررنا ببعض المياه التي بيننا وبين البصرة، فسمعنا نهيق حمار، فقلنا لهم: ما هذا النهيق؟ قالوا: هذا رجل عندنا، فكانت أمه تكلمه بالشيء، فيقول: انهقي نهيقك. فكانت أمه تقول: جعلك الله حمارًا، فلما مات، نسمع هذا النهيق عند قبره كل ليلة.
أيها الابن العاق
أيهــــا المضيع لآكـــــــد الحقــــــــــــــــــــوق، الناسي لما يــــــــــــــجب عليــــــه، الغافــل عمـــــــــــا بين يديــــــه
بـــــــــــــــر الـــــــــــــــــــوالــــــــــــدين علـــــــيك ديــــــــــــــــــــــــــــــن وأنــــــــــــت تتعاطــــــــــــــــــــــــاه بــــــــاتبـــــــــــــــــــــــاع الشــــــــــــــــين
تطـــــــــــــــــــــــــلب الــــــــــــــــجنــــــــــــــــــــــة بزعــــــــــــمــــــــــــــــك وهـــــــــــــــــــــــــي تـــــــــــــحــــــــــــــــــــت أقــــــــــــــــــــدام أمـــــــــــــــــــــــــــك
حمـــــــلتك فـــــي بطــــــنهـــــــا تسعـــــة أشهـــــــــــــــــــر كــــــــــــــــــــــــأنـــــــــــــــــــــها تســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع حجــــــــــــــــــــــــــــــج([42])
وكابدت عند الوضع ما يذيب المهـــــــــــــــــج([43]) وأرضعتــــــــــك مـــــــــــــــــــــــــــــــن ثديهــــــــــــــــــــــــــــــــا لبنـــــــــــــــــــًا
وأطــــــــــــــــــــــــارت لأجــــــــــــــــــــلك وسنًـــــــــــــــــــــــــــــــــــا([44]) وغســـــــــــــــــــــــــــلت بيمـــــينهــــــــــــــــــا عـــــــــنـــــــــــــــــــك الأذى وآثـــــــــــــــــــــــــــــــــرتك علـــــــــى نفســــــــــــها بالغـــــــــــــــــذاء وصــــــــــــــــــــــــــــــــيرت حجــــــــــــــــــــــــــــــرها لــــك مــــــــــــــــــــهدًا وأنــــــــــــــــــــالتـــــــــــــــك إحســــــــــــــانًـــــــــا ورفــــــــــــــــــــــــــــــدا([45]) فــــــــــــــــإن أصــــــــابك مــــــــــــــــــــرض أو شـــــكايـــــــــــــــــــة أظـــهـــــــــرت مـــــــــــــــن الأسف فـــــــــوق النهايـــــة وأطالت الحزن والنحيب وبذلت مالها للطبيب
ولـــــــــــو خُيـــــــــــرت بــــــــين حيـــاتك ومـــــــــــوتهـــــــا لاختـــــــــــــــارت حياتــــــــــــــــــــــك بـــــــــــــــــأعلى صوتـــــــها
هــــــــذا وكم عاملتها بسوء الخلـــــق مـــــــــــــــرارًا فـــــــــــــــــــــــدعت لك بــــــــــــــــالتوفيـــــــــــق سرًا وجهــــــــارًا
فلمــــــــا احتاجــــــــــت عنـــــــد الكــــــــــــبر إليـــــــــــــك جعلتهـــــــــــــــا مــــــــــــــن أهــــــــــــــــــون الأشيـــــــاء عليــك
فشبعت وهي جائعة ورويت وهي قانـــــعة وقدمـــــــــت عليها أهــلك وأولادك بالإحســــــــــان
وقــــــــــــــــابلت أيـــــــــــــــــاديهـــــــــــــــــــا بـــــــــــــالنسيـــــــان وصعـــــــــــــب عليك أمـــــــــرها وهـــــــــــــــــو يســــــــــــير
وطـــــــــــال عليك عمــــــــــــرها وهــــــــــــــو قصـــير وهجرتهــــــــــــا ومـــــــــــــــا لهـــــــــــا ســـــــــــواك نصــــــــير
هــــــــــــذا ومــــــــــــولاك قد نهاك عــــن التأفـــــف وعـــــــــــــاتبك فــــــــــــــي حـــــــــقها بعتــــــــــاب لــــــطيف
ستعاقب فـــــــــــــــي دنياك بــــــــــــــعقــــوق البنين وفــــــــــــــــي أخراك بالبعـــــــد عــــــن رب العـــالمين
يُنادي عليك بلسان التوبيخ والتهديد ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَــدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبيد
وهذه قصة تدل على مدى حب وعطف وحنان الأم لابنها، ومدى عقوقه لها.
كان هناك شاب قد سئم من أمه وأراد أن يتخلص منها، فأخذها إلى صحراء موحشة، وتركها حتى تأكلها الوحوش ويتخلص منها، فأخذت تنادي عليه، لكن دون جدوى، فلم يرق القلب، ولم تتحرك المشاعر، وذهب وتركها وحيدة، حتى قيض الله لها رجلًا فأخذها وأنقذها من هذه الصحراء، فأخذت في البكاء، فقال لها هذا الرجل: يا أماه ما يبكيك وقد نجوت بفضل الله، فقالت الأم الحنون: يابُني! أنا لا أبكي على نفسي، ولكن أبكي على ابني، أخاف عليه أن يصيبه مكروه وهو راجع.
يا الله... يرميها لتأكلها الوحوش، وهي تخاف عليه أن يصيبه مكروه وهو راجع!!!
وقيل أيضًا في مثل هذا:
أغــــرى امرؤ يومــــــًا غلامًا جـاهــــلًا بنقـــــــــــــــوده حتى ينـــــــــال بـــــــه الوطـــــر
قــــــال ائتني بفـــــــؤاد أمـــــــك يــا فتى ولك الجـــــــــــواهــــــــــر والـــــــدراهم والــــدّرر
فمضى وأغرز خنجرًا في صدرها والقلب أخرجــــــــــــه وعــــــــاد على الأثـــر
لكنــــــــــــه مـــــــن فـــــــرط سرعته هــوى فتدحـــــــــــــرج القلب المُعفــــــــــر إذ عـــــــثر
نــــــــاده قـــــــــلب الأم وهــــــــــو مــعفـــــــر ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟
فكــــــأن هـــــــــذا الصوت رغم حنـــوه غضب السماء علي الولــــــد قد انهمر
ورأى فظيـــــــع جنايـــــــة لـــــــــم يأتــــها أحـــــــــــــــــد سواه منـــــــــــــــــذ تـــــــاريخ البــشر
وارتــــــــــد نحــــو القلب يـــــغسله بمــا فاضت بــــــــــــه عيناه مــــــن سيل العبر
ويقــــــــــــول: يــــــــــا قـــــلب انتقــــم مني ولا تغفــــــــــر فــــــــإن جــــــــريمتي لا تغتفر
وإذا رحمت فإنني أفضي انتحارًا مثلمــــــــــــــا(صاحب) مــــــــــن قبلي انتحر
واستل خنجـــــــــره ليطعــــــــن صـــدره طعنـــــــــــــــــــا سيبقى عـــــــــبرة لمــــــن اعتبر
نــــــــاده قـــــــــلب الأم: كـــــــــــف يـــــدًا ولا تــــــذبح فـــــــــــؤادي مرتين على الأثر
فيا من فقدت أمك، أبكِ على فقدها وأكثر من دعائك لها، والتصدق عليها.
ويا من لازالت أمك معك، احمد الله على هذه النعمة، وتفانى في خدمتها، والزم قدميها فثم الجنة.
ثانيا: فضل بر الأب
1-رضا الرب في رضا الأب:
بلغت مكانة الوالد في الإسلام مكانة عظيمة، فكرمه الله U حيث جعل رضاه في رضا الوالد، ويا لها من منقبة عظيمة.
فقد أخرج الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ:" رضا الله في رضا الوالد، وسَخَطُ اللهِ في سَخَطِ الوالد ". (صحيح الترغيب والترهيب:2501)
وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ:" طاعة اللهِ طاعة الوالد، ومعصية الله معصية الوالد ". (الصحيحه:516) (صحيح الترغيب والترهيب:2502)
2- الوالد له حق التصرف في مال ابنه إن كان محتاجًا لهذا المال:
فقد أخرج ابن ماجه من حديث جابرt أن رجلًا قال: يا رسول الله! إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي يريدُ أن يجتاح مالي، فقال رسول الله ﷺ: "أنت ومالُك لأبيك([46]) ".(صححه الألباني في الإرواء:838)
وعند الإمام أحمد وأبي داود من حديث ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ:
" أنت ومالُك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم ".
وفي رواية عند الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "أَتَى أعرابيٌ رسولَ الله ﷺ فقال: إنَّ أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال رسول الله ﷺ: أنت ومالك لوالدك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أموال أولادِكم من كسبكم فكلوه هنيئًا ". (انظر فتح الباري:5/211) (نصيب الراية:3/337)
3- الوالد له حق أن يسترد العطية التي أعطاها لولده:
فالأصل أن من يُعطى عطية -أي هدية– ليس له أن يرجع فيها.
كما ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ:
" إن مَثَلَ الذي يعود في عطيته كمثلِ الكلب أكل حتى إذا شَبع قاءَ ثم عاد في قيئه فأكله ".
وفي رواية في الصحيحين من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال:" العائد في هبتِهِ كالعائدُ في قيئه ".
- وفي الصحيحين أيضًا من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-عن النبي ﷺ قال:" ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه ".
لكن الشرع الحكيم استثنى الأب من الرجوع في العطية وهذا لمكانته وعظيم فضله، فهو الوحيد الذي له حق الرجوع – كما أخبر بهذا الحبيب النبي ﷺ.
- كما أخرج أبو داود بسند صحيح من حديث عبد الله بن عباس وابن عمر-رضي الله عنهم- عن النبي ﷺ قال:" لا يحلُّ لرجلٍ أن يُعطي عطيةً، أو يهبَ هبةً فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يُعطي ولدهُ، ومثَلُ الذي يُعطي العطية ثم يرجع فيها كمثلِ الكلبِ يأكل، فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه ".
- وعند النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ:" لا يرجع أحدٌ في هبته إلا والد من ولده، والعائد في هبته كالعائد في قيئه ".
2- بر الوالد سبب في زيادة الرزق:
فقد مر بنا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس t قال: قال رسول الله ﷺ:" من سَرَّه أن يُمدَّ له في عُمُرهِ ويُزَادَ في رِزْقِهِ، فَليبرَّ والديه، وليصل رحمه ". (صحيح الترغيب والترهيب:2488)
وجاء في كتاب" المحاسن والمساوئ" "وحلية الأولياء: 4/7-8" عن طاووس اليماني- رحمه الله- قال: " كان رجل له أربعة بنين فمرض فقال أحدهم لإخوته: إما أن تمرضوه وليس لكم من ميراثه شيء. وإما أن أمرضه وليس لي من ميراثه شيء، قالوا: مّرضه وليس لك من ميراثه شيء. قال: فمرّضه حتى مات ولم يأخذ من ميراثه شيئًا. قال: فأُتى في النوم فقيل له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه مائة دينار، فقال في نومه: أفيها بركة؟ قالوا: لا. قال: فأصبح فذكر ذلك لامرأته.
فقالت: خذها فإن من بركتها أن نكتسي منها ونعيش منها. فأبى، فلما أمسى أُتى في النوم فقيل له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه عشرة دنانير. فقال: أفيها بركة؟ قالوا: لا. فلما أصبح قال ذلك لامرأته فقالت له مثل مقالتها الأولى، فأبى أن يأخذها فأتى في الليلة الثالثة فقيل له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه دينارًا فقال: أفيه بركة؟ قالوا: نعم. قال: فذهب فأخذه ثم خرج به إلى السوق فإذا هو برجل يحمل حوتين. فقال: بكم هما؟ قال: بدينار، قال: فأخذهما منه بدينار ثم انطلق بهما، فلما دخل بيته شق بطنهما فوجد في بطن كل واحدة منهما دُرة لم ير الناس مثلهما. قال: فبعث الملك يطلب دُرة يشتريها فلم توجد إلا عنده فباعها بوقر ثلاثين بغلًا ذهبًا، فلما رآها الملك قال: ما تصلح هذه إلا بأخت، اطلبوا أختها وإن أضعفتم. قال: فجاؤوه فقالوا: أعندك أختها ونعطيك ضعف ما أعطيناك؟ قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم. قال: فأعطاهم إياها بضعف ما أخذوا الأولى.
5- ومن فضل بر الآباء أن ترزق بر الأبناء:
فقد أخرج الطبراني بسند فيه مقال من حديث ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: قال النبي ﷺ:
" بروا أباءكم يبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم ". (ضعيف الجامع:2329) (الضعيفة: 2039)
وإن كان الحديث فيه ضعف الإ أنه يشهد له الواقع والأدلة على ذلك كثيرة قديمًا وحديثًا نكتفي بذكر مثالٍ منها فقط:
إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مع أبيه آزر:
فأبوه كافر ومع ذلك كان إبراهيم u بارًا به، ويخاف عليه من النار ومن غضب الجبار، فكان يدعوه إلى الله بلطف وأدب دون عقوق، ويجهر له بالحق دون جفاء، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ (مريم: 41-47)
فانظر إلى إبراهيم الخليلu وهو يدعو أباه المشرك وهو يخاطبه بأجمل أسلوب وأرق الكلمات، وهو يناديه بقوله: ﴿يَا أَبَتِ﴾ تلك الكلمات التي تستميل قلب الوالد لولده، وتثير فيه حنين الأبوة، فلم يدعُه الجهر بالحق إلى العنف والشدة، ولم يمنعه برَّه من دعوة أبيه.
فلما كان إبراهيم u بارًا بأبيه، فلا غرو ولا عجب أن يرزقه اللهُ ابنًا بارًا به، وهو إسماعيلu .
قال تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾
(الصافات 102،101)
يقول:" يَا أَبَتِ" في مودة وقربى، وشبح السكين لا يزعجه ولا يفزعه، ولا يفقده رشده، بل لا يفقده أدبه ومودته. فما دام الولد بارًا بأبيه فلا عجب أن يرزقه اللهU ابنًا بارًا به، فيكافئه بمثل إحسانه ويجعله أطوع له من بنانه.
والجزاء من جنس العمل
6- بر الوالد سبب لدخول الجنة:
فقد أخرج الترمذي وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي الدرداء t: أن رجلًا أتاه فقال: إن لي امرأةً وإن أمي تأمرني بطلاقها، فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:" الوالد أوسط أبواب الجنة([47])"، قال أبو الدرداء: فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه ". (صحيح ابن ماجه: 3663)
ورواه ابن حبان بلفظ: إن رجلًا أتى أبا الدرداء t فقال: أبي لم يزل بي حتى زوجني وإنه الآن يأمرني بطلاقها، قال: ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك، ولا بالذي آمرك أن تطلق امرأتك، غير أنك إن شئت حدثتك ما سمعت من رسول الله ﷺ سمعته يقول:" الوالد أوسط أبواب الجنة". فحافظ على ذلك الباب إن شئت أو دع. قال: فاحسب عطاء قال: فطلقها. (صحيح الترغيب والترهيب: 2486)
- وفي رواية: " فان شئت فأمسك، وإن شئت فدع ".
ولقد بلغ توقير الأب وبره عند السلف مبلغًا عظيمًا، لعلمهم بمكانة الأب وفضله:
1- قال طاووس-رحمه الله-:" من السنة أن توقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد، ومن الجفاء، أن يدعو الرجل والده باسمه ". (الدر المنثور للسيوطي:5/267)
2- قيل لحكيم كان أبوك أجمل وأعقل وأفضل منك، فقال:" نعم، لأني كنت به، ولم يكن هو بي، فهو أولى بالكمال مني ".
3- وكان الزبير بن هشام-رحمه الله- بارًا بأبيه وكان يرقى إلى السطح في الحرِّ فَيُؤْتَى بالماء البارد، فإذا ذاقه فوجد برده لم يشرب وأرسله إلى أبيه.
4-وجاء عند البخاري في الأدب المفرد وعبد الرزاق في مصنفه والبيهقي أن أبا هريرة t أبصر رجلين فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ قال: أبي، قال: لا تسمه باسمه، ولا تمشي أمامه، ولا تجلس قبله". (صححه الألباني في الأدب المفرد:44)
5- وقيل لعمرو بن زيد: كيف كان بر ابنك بك؟ قال:" ما مشيت نهارًا قط إلا وهو خلفي، ولا ليلًا إلا مشى أمامي ولا رقى سطحًا وأنا تحته ". (عيون الأخبار)
6- يقول عمر بن ذرّ-رحمه الله-لما مات ابنه ذر-:" اللهم إني قد غفرت له ما قصّر فيه من واجب حقي، فاغفر له ما قصر منه من واجب حقك، فقيل له: كيف كان عشرته معك؟ قال: "ما مشي معي قط في ليلٍ إلا كان أمامي، ولا مشى معي في نهار إلا كان ورائي، ولا ارتقى قط سقفًا كنتُ تحته ".
(بر الوالدين للطرطوشي ص76)
وقال المأمون-رحمه الله-: لم أر أحدًا أبر من الفضل بن يحيى بأبيه، بلغ من بره أن يحيى كان لا يتوضأ إلا بماء ساخن، وهما في السجن، فمنعهما السَّجان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فقام الفضل-حيث أخذ أبوه يحيى مضجعه- إلى قمقم كان يسخن فيه الماء، فملأه، ثم أدناه من نار المصباح، فلم يزل قائمًا وهو في يده حتى أصبح. (فعل كل هذا بِرًّا بأبيه ليتوضأ بالماء الساخن)
(المصدر السابق ص78) (عيون الأخبار:3/98)
6- وقال عامر بن عبد الله بن الزبير-رحمه الله-:" مات أبي فما سألتُ الله حولًا كاملًا إلا العفو عنه"
أيها الابن! هل تعرف من هو الوالد؟
7- وكان عروة بن الزبير-رضي الله عنهما-يقول في صلاته وهو ساجد: اللهم اغفر للزبير بن العوام وأسماء بنت أبي بكر- يعني والديه رضي الله عنهما-. (عيون الأخبار:3/98)
الوالد هي الدار التي تجمع الشمل، وتحمى من بأس العدو، الوالد شجرة وارفة تأوي إلى ظلها، وحصن منيع تلوذ به، وسيف قاطع يذب عنك، وراع يحميك، ومجرب يسدي إليك الحكمة التي تبصرك بشؤون الحياة، الوالد يكدح ويكد في شبابه ليجمع المال لك، ويضرب في الأرض طلبًا للرزق، وربما كان يعمل في الحرث فيقاسى حر الصيف، وبرد الشتاء، وخشونة العيش، أو يعيش في ذل الوظيفة وقسرها يطبق من الأوامر ما يرضيه، ومالا يرضيه، ويطيع رئيسه ولو كان كارها، كل هذا من أجلك، فكم تعب كي ما ترتاح أنت، يحترمكم الناسُ إكرامًا لأبيك. فإذا فقدت أباك خسرت كل هذه النعم، وكم نعمة لا يعرف المرء قيمتها إلا بعد زوالها.
وهناك جملة من الأسئلة أرجو أجابتها من الأبناء:
س: هل ينفق الأب على نفسه بقدر ما ينفق على أولاده؟ ج: بالطبع لا.
س: هل ينفق عليه أولاده في كبره بقدر ما أنفق هو عليهم في صغرهم؟ ج: بالطبع لا.
س: لو أن أباك مرض يومًا فهل تهجر فراشك ليلًا وتعطل عملك نهارًا وتلزم سريره كما لو كنت أنت المريض؟ ج: بالطبع لا، إلا من رحم ربي.
س: ولو أن الأب تأخر ساعة عن موعد حضوره إلى المنزل مساء يوم، فهل تقلق عليه وتضطرب وتحسب لتأخره ألف حساب كما لو تأخرت أنت؟ ج: بالطبع لا.
الوالد كم تخطئ معه فيصفح عنك، وكم يرى منك ما يُسئ فيتغاضى عنك، ولو أنه اضطر إلى تأديبك يومًا لأشار إلى أمك أن تشفع فيك، ولو بكيتَ منه لبكى قلبه لبكائك، ولو نطق لسانه يومًا بالدعاء عليك، لانبسط قلبه بالرجاء إلى الله U ألا يقبل منه.
فاتقوا الله في آبائكم وأدوا إليهم حقوقهم واجتهدوا في كسب رضاهم فهم الذين بذلوا أموالهم وسعادتهم من أجلكم، وهم الذين أعطوكم من غير مَنّ ولا أذى راجين حياتكم، فلا تعطوهم مع المَنّ والأذى مترقبين مماتهم، ولا ترفعوا أصواتكم فوق أصواتهم، ولا تنظروا إليهم بعين الغضب والاشمئزاز، وليعلم الأنباء أنهم مهما فعلوا مع الآباء من بر وخير وإحسان فلم يستطيعوا أن يوفوهم حقوقهم إلا في حالة واحدة، وهي أن يجده مملوكًا فيشتريه ويعتقه.
فقد أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ:" لا يجزئ([48]) ولدٌ والدهُ إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه ".
قال النووي-رحمه الله-:" أي لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه إلا أن يعتقه ".
عطف الأب:
وعطف الأب وحبه لأولاده من البديهيات التي لا يختلف عليها اثنان والله U لم يوص الآباء بالأبناء كما أوصى الأبناء بالآباء، ويرجع ذلك إلى أن الولد جزء من الوالد والأصل دائما يحن إلى الفرع ويعطف عليه. وكذلك فإن الله Uأودع في قلوب الأبوين الرحمة والحب والعطف تجاه الأولاد، فهما لا يحتاجا إلى توصية على الأولاد. وعندما نتكلم عن الأب فإنما نتكلم عن الحب والعطف والدفء والحنان والعطاء. ولنضرب أمثلة لعطف الأب:
1- فها هو الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- يبكي على موت ابنه إبراهيم:
ففي الحديث الذى رواه البخاري ومسلم من حديث أنسt وفيه:" أن النبي ﷺ أخذ إبراهيم فقبله وشمه، وكان إبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله ﷺ تذرفان، فقال له عبد الرحمن ابن عوف: وأنت يا رسول الله ؟ فقال: يا ابن عوف إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى، فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ".
2- وأخرج البخاري عن عائشة-رضي الله عنها- قالت:" ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا ودلًا وهديًا برسول الله ﷺ في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله– رضي الله عنها– وكانت إذا دخلت على النبي ﷺ قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسهِ. [وكان النبي إذا دخل عليها قامت من مجلسها وقبلته وأجلسته في مجلسها].
3- وكتب إبراهيم بن داحة إلى أبيه فقال:" جعلني الله فداك ". فكتب إليه أبوه:" لا تكتب مثل هذا، فأنت على يومي أصبر مني على يومك ".
4- وهذا الذي قاله عبد الله بن بكرة عندما سأل عن موت الولد فقال:" صدعٌ في الفؤاد لا ينجبر".
(عيون الأخبار)
5- وها هو رجل يُطالب بمال كان عليه، فلا يؤديه ويضرب من أجله، فلا يسمح به، فلما أُخذ ابنه وضُرب، جزع، فقيل له في ذلك، فقال:" ضُرب جلدي فصبرت، وضرب كبدي فلم أصبر".
6- وما جرى ليعقوبu عندما فَقَدَّ بصره لفرط بكائه على يوسف u، وما جرى معه من شم رائحة يوسف عن بُعْد، جرى أيضًا لأمية بن الأسكر الكناني.
فقد كان أميه بن الأسكر الكناني من سادات قومه، وكان له ابن اسمه: كِلاب، هاجر إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب t فأقام بها مدة ثم لقي ذات يوم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام فسألهما أي الأعمال أفضل في الإسلام؟
فقالا: الجهاد. فسأل عمر t فأغزاه في الجند الغازي إلى الفرس، فقام أمية وقال لعمرt: يا أمير المؤمنين! هذا اليوم من أيامى لولا كبر سني، فقام إليه ابنه كلاب وكان عابدًا زاهدًا فقال: لكني يا أمير المؤمنين أبيع نفسي لله وأبيع دنياي بآخرتي.
فتعلق به أبوه كان في ظل نخل له، وقال: لا تدع أباك وأمك شيخين ضعيفين، ربياك صغيرًا حتى إذا احتاجا إليك تركتهما. فقال: نعم أتركهما لما هو خيرًا لي، فخرج غازيًا بعد أن أرضى أباه فأبطأ، وكان أبوه في ظل نخل له إذا حمامة تدعو فرخها، فرآها الشيخ فبكى، فرأته العجوز فبكت، وكان أمية قد أضرّ (أي عَمِيَ) فأخذ قائده بيده ودخل على عمرt وهو في المسجد، فأنشده أن يرد عليه ابنه، فكتب عمر t برد كِلاب إلى المدينة، فلما قدم ودخل عليه قال له عمرt: ما بلغ من برِّك بأبيك؟ قال: كنتُ أوثره وأكفيه أمره، وكنت إن أردت أن أحلب له لبنًا أجئ إلى أغزر ناقة في إبله فأريحها وأتركها حتي تستقر ثم أغسل أخلافها (ضرعها) حتي تبرد ثم أحلب له فأسقيه، فبعث عمرt إلى أمية فدخل عليه وهو يتهادى، وقد ضعف بصره، وانحنى ظهره، فقال له: كيف أنت يا أبا كلاب؟ فقال له: كما ترى يا أمير المؤمنين، فقال: يا أبا كلاب! ما أحب الأشياء إليك اليوم؟ قال: ما أحب اليوم شيئًا، ما أفرح بخير ولا يسوؤني شر، فقال عمرt: بل على ذلك(يعني مع ذلك أخبرني) قال: بلى كلاب أحبُ أنه عندي فأشمه شمة، وأضمه ضمة، قبل أن أموت، فبكى عمرt وقال: ستبلغ ما تحب إن شاء الله- تعالى- ثم أمر عمرُt كلابًا أن يحلب لأبيه ناقة كما كان يفعل ويبعث بلبنها إليه ففعل وناوله عمرt الإناء، وقال: اشرب يا أبا كلاب فأخذه، فلما أدناه من فِيه قال: والله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدي كلاب، فبكى عمرt وقال له: هذا كلاب عندك وقد جئتك به، فوثب إليه ابنه وضمه وجعل عمرt والحاضرون يبكون، وقالوا لكلاب الزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا، ثم شأنك بنفسك بعدهما، وأمر له عمرt بعطائه وصرفه مع أبيه.
هدية للابن البار ولوالديه:
أخرج الإمام أحمد عن بريدة t قال: كنت جالسًا عند النبي ﷺ فسمعته يقول:" تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة ". قال: ثم مكث ساعة، ثم قال:" تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول له: هل تعرفني، فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرتك ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى المُلك بيمينه والخُلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بما كسينا هذه؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود مادام يقرأ هذًّا كان أو ترتيلا ".
عقوق الوالدين والتحذير منه:
تتمة للفائدة، ولمزيد بيان فضل بر الوالدين نجد أن الشارع الحكيم نهى عن عقوق الوالدين.
والعقوق: مشتق من العق وهو القطع والمراد به صدور ما يتأذى به الوالدان من ولدهما من قول أو فعل
قال الله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (النساء:36) ومفهوم المخالفة هو الأمر بعبادته وتوحيده وعدم عقوق الوالدين. وهذه الآية تدل على ما بينهما من تلازم وارتباط، إذ لا تكفي العبادة مع العقوق ولا يغنى الإحسان مع الشرك، لأن من طبيعة العبادة الامتثال والطاعة ولا تتم إلا بهما.
وإلى هذا يشير الرسول ﷺ في الحديث الذي مر بنا ورواه الإمام أحمد والطبراني عن عمرو بن مُرة الجُهني أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت رمضان، فقال النبي ﷺ:" من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة [هكذا] – ونصب أصبعيه السبابة والوسطى- ما لم يعق والديه ".
وتجد هذا المعنى في قوله تعالى على لسان عيسىu : ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾
(مريم:32)
وقال بعض السلف:" لا تجد أحدًا عاقًا لوالديه إلا وجدته جبارًا شقيًا "، ثم تلا الآية السابقة.
1- وبين النبي- صلى الله عليه وسلم- أن العقوق من أكبر الكبائر:
فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي بكرة نفيع بن الحارث t قال: قال رسول الله ﷺ:" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" ثلاثا قلنا: بلى يا رسول الله: قال:" الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال:" ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
فانظر كيف قرن النبي ﷺ الإساءة إلى الوالدين وعدم البر بهما بالإشراك بالله ليتبين لك جليًا التلازم والترابط بينهما، فجاء العقوق بعد الشرك بالله، وكما أن بر الوالدين جاء بعد الأمر بالتوحيد، جاء في المقابل النهى عن العقوق بعد النهى عن الشرك، فسبحان من جعل العقوق قبل الزنا والقتل. وذلك لبيان خطورة العقوق، وهذه الأمور الثلاثة هي أعظم الذنوب عند الله U لا تعدلها معصية ولا تساويها فاحشة وجعلها النبي من أكبر الكبائر وتجتمع هذه الكبائر الثلاث حول نقطة واحدة هي نكران الحق، فالمشرك ينكر وحدانية الله U وهي حق، والعاق ينكر فضل والديه وهو حق، وشاهد الزور يعين الظالم على ظلمه، فيأكل أموال الناس بالباطل وينكر حق المظلوم وهو حق.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي عيسى المغيرة بن شعبة t عن النبي ﷺ قال:" إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا([49]) وهاتِ([50])، ووأد البنات([51])، وكره لكم قيل وقال([52])، وكثرة السؤال([53]) وإضاعة المال([54]) ".
وأخرج الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل t قال:" أوصاني رسول الله ﷺ بعشر كلمات قال:
" لا تشرك بالله شيئًا وإن قُتِلْتَ وَحُرِّقْتَ، ولا تَعُقَّنَّ والديكَ، وإن أمَرَاكَ أن تُخْرُج من أهلِكَ ومالِكَ.....".
(صحيح الترغيب والترهيب:2516)
- وأخرج الطبراني في الكبير من حديث جابر بن سمرة t - قال: صَعِدَ النبيُّ ﷺ المنبر فقال:
" آمين آمين آمين". قال:" أتاني جبريلُ u فقال: يا محمد! من أدرك أحد والديه فمات، فدخل النار، فأبعده الله، فقل: آمين، فقلت: آمين"...". الحديث (صحيح الجامع:75) (صحيح الترغيب والترهيب:2491)
فما حال هذا الرجل الذي دعا عليه سيدُ الملائكة، وأمَّن عليه سيدُ البشر ﷺ؟!
- وعند ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة t وفيه:" ومن أدرك أبَوَيْهِ أو أحَدَهُمَا، فلم يَبرَهما فمات، فدخل النار، فأبعده الله، قل آمين، فقلت: آمين ".
(صحيح ابن حبان:907) (صحيح الترغيب والترهيب:2492).
- وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ:" رَغِمَ أَنْفُ([55])، ثُم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الْكِبَرِ، أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة ". (رواه البخاري)
- وأخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة t عن النبي ﷺ:" رغم أنفه ثم رغم أنفه"، قيل: من يا رسول الله ؟ قال:" من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة".
- وأخرج الإمام أحمد من حديث مالك بن عمرو القشيري t قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
" من أعتق رقبةً مسلمةً فهي فداه من النار، ومن أدرك والديه ثم لم يُغفر له فأبعده الله "
- زاد في رواية: " وأسْحَقَهُ ". (صحيح الترغيب والترهيب:2496)
- وأخرج البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال:
" الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس([56]) ".
- وأخرج البخاري ومسلم من حديث أنس t قال: ذُكِرَ عند رسول الله ﷺ الكبائر- أو سُئل عن الكبائر- فقال:" الشركُ بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، فقال:ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور، أو شهاده الزور ".
- وفي صحيح ابن حبان أن النبي ﷺ كتب كتابًا إلى أهل اليمن، وبعث به مع عمرو بن حزم t وفيه: "وإن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير الحق، والفرار في سبيل الله يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم ".
يقول الفضيل بن عياض-رحمه الله-: "فوق كل فُجورٍ فجورٌ، حتى يعق والديه([57])، وفوق كل جودٍ جُودٍ حتى يبذل دمه لله تعالى ". (ذكره الخرائطي في مساوئ الأخلاق)
2- العقوق سبب نزول الهلاك:
قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} (الكهف:59)
فكيف بعقوق الوالدين وهو من أعظم الظلم؟!
وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
(آل عمران:165)
3- عقوق الوالدين محبط للأعمال:
مر بنا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد والطبراني بسند صحيح عن عمرو بن مرة الجهنيt قال: جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمتُ رمضان، فقال النبي ﷺ:" من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداءِ يوم القيامة هكذا" – ونصب أصبعيه السبابة والوسطى- ما لم يعق والديه " وأخرج الطبراني وابن أبي عاصم في السنة من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ:" ثلاثة لا يقبل الله U منهم صرفًا ولا عدلًا: عاقٌ، ولا منانٌ، ومكذب بالقدر ". (الصحيحة:1785)
4- عقوق الوالدين سبب للطرد والإبعاد عن رحمة الله:
- فقد أخرج الطبراني والحاكم من حديث أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ قال:" لعن الله سبعةً من فوق سبع سماواته"، وردَّدَ اللعنة على واحدٍ منهم ثلاثًا، ولعن كل واحد منهم لعنة تكفيه، قال: ملعونٌ من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط، ملعونٌ من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط، ملعونٌ من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط، ملعونٌ من ذبح لغير الله، ملعونٌ من عَقَّ والديه ". (صحيح الترغيب والترهيب: 2516)
- وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال:
" لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من غير تُخوم الأرض، ولعن الله من سب والديه ".
(صحيح الترغيب والترهيب: 2516)
- وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ:" ملعونٌ من سبَّ أباه، ملعونٌ من سبَّ أمَّهُ، ملعونٌ من ذبح لغير الله، ملعونٌ من غير تُخوم الأرض، ملعونٌ من كمَّه أعمى عن طريق، ملعونٌ من وقع على بهيمة، ملعونٌ من عَمِلَ بعملِ قومِ لوطٍ ".
(صحيح الجامع:5891)
والشاهد قول النبي ﷺ:" ملعونٌ من سب أباه، ملعونٌ من سب أمه" واللعن هو الطرد من رحمة الله.
- وأخرج الإمام مسلم عن عامر بن واثلة قال: كنت عند علي بن أبي طالب t فأتاه رجلٌ فقال: ما كان النبي ﷺ يسر إليك؟ قال: فغضب وقال ما كان النبي ﷺ يسر إليّ شيئًا يكتمه غير أنه قد حدثني بكلمات أربع قال: فقال: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال:" لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا([58]) ولعن الله من غَيّر منار الأرض([59]) ".
5-العاق لا ينظر الله إليه:
من نظر الله إليه فقد رحمه، فهل ترضى أن تُحرم من نظر الله U إليك؟
فقد أخرج البيهقي أن النبي ﷺ قال:" لا ينظر الله إلى مشرك، ولا إلى مشاحن، ولا إلى قاطع رحم، ولا إلى مسبل، ولا إلى عاق لوالديه، ولا إلى مدمن خمر". (الصحيحة:674)
وأخرج النسائي والبزار من حديث ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ:" ثلاثةٌ لا ينظر اللهُ إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، ومدمِنُ الخَمْرِ، والمنَّانُ عَطَاءَهُ، وثلاثةٌ لا يدخلون الجنة: العاق لوالديهَ، والدَّيُّوث([60])، والرَّجِلَةُ([61]) ". (صحيح الترغيب والترهيب: 2511) (صحيح الجامع: 3071)
6- عقوق الوالدين سبب لدخول النار:
فقد أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ:" رَغِمَ أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه "، قالوا: مَن يا رسول الله؟ قال:" من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما فدخل النار".
قال الإمام النووي-رحمه الله- في شرحه على هذا الحديث: "وفي الحديث الحث على بر الوالدين وعظم ثوابه، ومعناه: أن برهما عند كبرهما وضعفهما بالخدمة أو النفقة وغير ذلك سبب لدخول الجنة، فمن قَصَّر في ذلك، فاته دخول الجنة وأرغم الله أنفه ". اهــ. (شرح النووي على مسلم:16/108)
7-العاق يُحْرم من دخول الجنة:
مر بنا الحديث الذي أخرجه النسائي والبزار وفيه:" ثلاثةٌ لا يدخلون الجنة: العاقُّ لوالديه، والدَّيَّوث والرَّجِلَةُ ".
وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-أن رسول الله ﷺ قال:" ثلاثةٌ حرم الله- تبارك وتعالى- عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقرُّ الخبث في أهله".
(صحيح الجامع: 3052)
- وعند أحمد كذلك بلفظ:" لا يدخل الجنة عاق، ولا مكذب بالقدر".
- وقد مر بنا الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:" رَغِمَ أنفه، ثم رَغِمَ أنفه، ثم رَغِمَ أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكِبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة ".
قال النووي-رحمه الله- كما في شرح مسلم:" ومعناه أن برهما عند كبرهما وضعفهما بالخدمة أو النفقة وغير ذلك سبب لدخول الجنة، فمن قصر في ذلك فاته دخول الجنة وأرغم الله أنفه".
وأخرج الإمام أحمد والنسائي وابن حبان بسند صحيح عن ابن عمرو-رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال:" لا يدخل الجنة أربعة: مدمن الخمر، والعاق والديه، وولد الزنا([62]) والمنان ". (الصحيحة:673)
- وأخرج الطبراني في الكبير بسند ضعيف ويشهد له ما قبله عن ابن عباس- رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ:" لا يدخل الجنة: مدمن الخمر، ولا العاق، ولا المنان ".
قال ابن عباس- رضي الله عنهما- كما في كتاب مساوئ الأخلاق للخرائطي ص 101 ": شق ذلك عليَّ، لأن المؤمنين يصيبون ذنوبًا، قال: وقد وجدت في كتاب الله في العاق: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ (محمد: 22) وفي المنان قال: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ (البقرة: 264) وقال في الخمر: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ( المائدة:90)
- وأخرج البزار من حديث أنس tأن النبي ﷺ قال: " آمين آمين آمين " فقيل: يا رسول الله! علام أمنت؟ قال:" أتاني جبريل فقال: يا محمد! رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلِ عليك، قل: آمين، فقلت:" آمين" ثم قال: رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له، قل: آمين، فقلت "آمين" ثم قال: رغم أنف رجل أدرك ولديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت:" آمين".
من صور عقوق الولدين:
1- سئل كعب الأحبار عن عقوق الوالدين ما هو؟ قال:" هو إذا أقسم عليه أبوه أو أمه لم يُبرَّ قسمهما، وإذا أمراه بأمر لم يطع أمرهما، وإذا سألاه شيئًا لم يعطهما، وإذا ائتمناه خانهما ".
2- وسئل الحسن البصري-رحمه الله-عن البر؟ فقال:" الحب والبذل"، قيل: وما العقوق؟ قال:
" يهجرهما ويحرمهما ".
3- وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: " بكاء الوالدين([63]) من العقوق والكبائر"
وقد مربنا الحديث الذي أخرجه أبو دواد من حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- قال:" جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: جئتُ أبايعك على الهجرة وتركت أبوايَّ يبكيان فقال: ﷺ: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ". (صحيح أبي داود: 2205)
4- وقال عروة بن الزبير- رضي الله عنهما-: " ما بَرَّ والديه من أحَدَّ النظر إليهما ".
(مساوئ الأخلاق للخرائطى:253)
5- وقال مجاهد-رحمه الله-:" لا ينبغي للولد أن يدفع يد والديه إذا ضربه، ومن شَدَّ النظر إلى والديه فلم يبرهما، ومن أدخل عليهما حُزْنا فقد عقَّهما".
6- وقال فرقد السبخي-رحمه الله-:" قرأت في بعض الكتب ما بّرَّ ولدٌ مَدَّ بصره إلى والديه، وإن النظر إليهما عبادة، ولا ينبغي للولد أن يمشى بين يدي والديه، ولا يتكلم إذا شهدا، ولا يمشى عن يمينهما ولا عن يسارهما، إلا أن يدعوانه فيجيبهما، أو يأمرانه فيطعهما، ولكن يمشى خلفهما مثل عبد ذيل ".
7- وقال محمد بن محيريز-رحمه الله-:" من مشى بين يدي أبيه فقد عقَّه، إلا أن يمشى فيميط الأذى عن طريقه، ومن دعا أباه باسمه أو بكنيته، فقد عقه، إلا أن يقول: يا أبتِ".
(التبصرة لابن الجوزي: 1/188)
8- ومن صور العقوق أن يجلب الولد اللعن والسب للوالدين:
- فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال:" إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه!" قيل: يا رسول الله! كيف يلعن الرجلُ والديه ؟! قال:" يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه ".
- وفي رواية في الصحيحين:" من الكبائر شتم الرجل والديه!" قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟! قال " نعم؛ يسب أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه، فيسب أمه ".
فكثير من أبناء مجتمعنا هذا يتمازحون فيما بينهم بسب الأباء والأمهات، ولا سيما هؤلاء الشباب المخنثين المائعين ويتفكهون بكيل السباب والشتائم بعضهم لبعض، ويتضاحكون بهذا الكلام البذئ كأنه نوع من المرح والثناء، أهكذا يجازى الأبناء آباءهم؟ أهكذا يدللون على مدى حبهم لآبائهم وبِرهم بهم؟ فهل بعد هذا العقوق من عقوق؟ فالنبي ﷺ جعل التسبب في لعن الوالدين وشتمهما من أكبر الكبائر، فكيف بمن يلعن والديه ويشتمهما تصريحًا؟! وكيف بمن يتطاول على والديه فيضربهما؟!
قال النووي- رحمه الله- في شرحه للحديث السابق:" وفي هذا الحديث دليل على أن من تسبب في شيء جاز أن يُنسب إليه ذلك الشيء... وقد جعل ذلك عقوقًا للوالدين لكونه يحصل منه ما يتأذى به الوالد تأذيًا ليس بالهَيِّن ". اهــ. (شرح النووي على مسلم: 2/88)
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث علىٍّ t قال: قال رسول الله ﷺ:" لعن الله من لعن والديه، لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى مُحدِثا، ولعن الله من غَيّر منار الأرض ".
يقول أحد الآباء لأبنه العاق:
غـــذوتك مولــــــــــودًا وعِلتُك يافعًــــــــا تُعَل بما أجنى عليك وتنهــــــلُ
إذا ليلةٌ ضاقتك بالسّقمم لم أبت لسقمــــــــك إلا ســـــاهرًا أتمـــــلمــــلُ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طُرقت به دوني فعيناي تهمـــلُ
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن المــــوت وقت مؤجـــــــلُ
فلمــــا بــــــلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أُؤمــــلُ
جعلت جزائي غلظة وفظـــــاظـــة كأنك أنت المُنـــــــــــعمُ المتــــفضـــلُ
فليتك إذا لــــــم ترعَ حــــــق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعلُ
نداء إلى الابن العاق:
النداء الأول: عليك أيها الابن أن تلتمس رضا الأب ففيه رضا الرب، وإياك من عقوقه وسخطه، ففي سخطه سخط الله، وربما دعا عليك الأب فيستجاب دعاؤه، فتخسر الدنيا والآخرة.
- فقد أخرج الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي أن النبي ﷺ قال:" ثلاث دعوات مستجابات، لا شكَ فيهنَّ: دعوةُ الوالدِ على ولده، ودعوة المُسافرِ، ودعوة المظلوم ".
(صحيح الجامع: 3031)
- وأخرج البيهقي والضياء من حديث أنس t قال: قال رسول الله ﷺ:" ثلاث دعوات لا تُرد: دعوة الوالدِ لوَلده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر ". (صحيح الجامع:3032)
وها هو ولد عاق يضرب أباه فيذهب الوالد إلى بيت الله الحرام ويتعلق بأستار الكعبة ثم أنشد يقول:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عُرض المهامة من قُرب ومن بُعدٍ
إني أتيتكَ يــــــــا مـــــــــــــــن لا يـــــــخيب من يدعوه مبتهلًا بالواحد الصمــــد
هـــــــذا ابني لا يكف عــــــن ضربي فخـــــذ بحقي يا رحمن من ولــــــــدى
فما إنْ انتهى من دعائه حتى يبس شق ولدِه الأيمن.
- وأخرج ابن أبي الدنيا في كتابه "مجابو الدعوة" عن أبي عبد الرحمن الطائي قال: كان رجل من بنى نهد قد كَبُرَ وضعُف، يكنى أبا مُنازل، وله ابن يقال له: مُنازل، وكان له ولد صغار، فكان إذا أصاب شيئًا أعطاهم إياه، وكان يقبض عطاء أبيه، وكان شيخًا كبيرًا، فوُلد للشيخ بنون صغار، فكان مُنازل يستأثر عليهم، فلما خرج العطاء، خرج منازل يقود أباه، حتى أجلسه لقبض عطائه، فلما نودى باسمه، قام منازل فقال: أعطوني عطاءه، فقام الشيخ فقال: أعطوني عطائي في يدي، ففعلوا، فحمل عطاءه، ثم قام يتوكأ على مُنازل، فقال مُنازل: هلم أحمله عنك؟ قال: دعه، فلما خلا له الطريق، فك يد أبيه، ثم أخذ العطاء، فذهب به، فانصرف الشيخ، وليس معه في يده شيء، فقال له أهله وولده: ما صنعت؟ قال: أخذ مُنازل عطائي، ثم أنشأ يقول:
جَزَت رحِمٌ بيني وبين مُنـــــــازلٍ جزاءً كما يستجزُ الدَّين طالبـــــــــــهُ
وربيته حتى إذا ما هو استوى كبيرًا وسادى عامل الرمح غاربُه
تظلَّمني مالي كذا ولوى يدي لــــــوى يـــــده الله الذي هــــــــو غالبُه
فأصبح مُنازل ملويًّا يده. (وذكره ابن حجر في كتابه الإصابة:3/212)
وجاء في السير:" أن أعرابيًا دخل على الخليفة فشكا له عقوق ابنه، وكان ابنه يلوي يده ويضربه فقال: جعتُ ليشبع؛ وسهرتُ لينام، فلما أحدودب ظهري وكبر سني تغمط حقي ". ثم بكى، وهو يقول:
وربيتـــــــه حتى إذا ما تــــــركتــــه أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
تغمط حقي ظالمًا ولوى يدي لــــــوى يـــــده الله الـــــــذي هـــــــو غـــــــــــالب
فبكى كل من كان في مجلس الخليفة.
أحبتي في الله: نعلم جميعًا أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، فما بالكم إن كان المظلوم أمًّا أو أبًا؟
يقول الشيخ حسن أيوب-رحمه الله- في كتابه" السلوك الاجتماعي في الإسلام ص224 ":
ولم يعلم أهل العقول أن دمعة الأبوين بسبب ظلم الأولاد يجعلها الله عليهم نارًا، وأن أية دعوة منهما مستجابة ولو كانا كافرين، ومهما ظلم الأبناء آباءهم وأمهاتهم فإن غضب الله عليهم لا يفارقهم، وكنوز الدنيا كلها لن تنفعهم، ولابد من أن يلقى العاق لوالديه من أبنائه مثل ما فعل بأبويه، والله غالب على أمره، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ولو كان المظلوم كافرًا، فما بالك إن كان أمًا أو أبًا مسلمًا؟
النداء الثاني: أعلم أيها الابن العاق أن الجزاء من جنس العمل، وبالكيل الذي تكيل به سيُكال لك به، كما قال تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ (سوره النساء:123) فمن عق والديه عقه أبناؤه، فالجزاء من جنس العمل.
- وقد أخرج الحاكم الأصبهاني وأبو نعيم في الحلية بسند فيه مقال عن أبي بكرة t عن النبي ﷺ قال:" كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلَّا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات ". (ضعيف الجامع:4213)
وإن كان هذا الحديث ضعيفًا إلا أنه يشهد له الحديث الصحيح الذى أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد عن أبي بكرة t عن النبي ﷺ قال:" ما من ذنب أجدَرُ أن يُعَجٌلَ الله- تعالى- لصاحبه العقوبة في الدنيا - مع ما يدخر له في الآخرة - مثل البغي وقطيعة الرحم ".
(صحيح الجامع:5704) (الصحيحة:918)
وأخرج الحاكم بسند صحيح عن أنس t أن النبي ﷺ قال:" بابان مُعجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق ". (صحيح الجامع:2807) (الصحيحة:1120) (صححه الألباني في الأدب المفرد:894)
وأخرج البخاري في التاريخ والطبراني في الكبير من حديث أبي بكرة t قال: قال رسول الله ﷺ :
" اثنتان يعجلهما الله في الدنيا قبل الآخرة: البغي، وعقوق الوالدين ".
(صحيح الجامع:137) (الصحيحة:1120)
وفي رواية عند الحاكم في حديث أنس t قال: قال رسول الله ﷺ:" اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي، وعقوق الوالدين ". (صحيح الجامع:2807)
يقول وهب بن منبه:" أوحى الله إلى موسىu : يا موسى وقر والديك فإنه من وقر والديه مددت في عمره، ووهبت له ولدًا يبره، ومن يعق والديه قصرت عمره، ووهبتُ له ولدًا يعقه ".
وهذه نماذج من الواقع تشهد بصدق الله ورسوله ﷺ:
استعدى المُنَازل([64]) السعدى عمر بن الخطاب على ابنه جُلَيح وشكى عقوقه، فأنشأ يقول:
تَظَلَّمني مالي جُليح وعقني على حين صارت كَالْحَنِي([65]) عظامي
وجاء نعول من حرام كأنما يُسَعَّــــــــــرُ فـــــــــي أهلـــــــــــي حــــــريق ضُرَام
لــــعمري لقد رَبَّيْتُهُ فَرِحَــــــا به فــــــــــــلا يَفْرَحَـــــنّ بعــــــــدى أبٌ بغُــــــــــــــــــلامِ
فغضب عمر t ودعى بالدِّرة، فقال له جُليح: يا أمير المؤمنين إن أبي قد عق أباه ووثب عليه ولوى يده.....، ولِجَدي فيه شعر. قال عمر: أنْشِدِنِيه !.
فقال:
جــــــــزت رحــــــم بيني وبــــــين مُنـــــــازل جـــــــزاء مُسئ لا يُــــــفَتَّرُ طَالِبُـــــــــــــــه
تَرَبَّيْتُـــــــــــهُ حتى إذا تَــــــــــــــــمَّ واستـــــــــوى وكاد يوازى غَارِبَ الفَحْلِ غَــــارِبُه
وقـــــد كــــــان يأتيه إذا جَـــــاعَ أو بَكَى مـــــــــن الــزاد عندي حُلْـــــوه وأطَايِبُه
فلما رأني أبْصِرُ الشَّخْصَ أشْخُصَا بعيدا وذو القُرب القريب أُقَاربـــه
تَـــــــظَلَّمني مــــــــالي ولـــــــــوى يـــــــــــــــدي لــــــوى يَــــــدَهُ اللهُ الذي هــــــو غالبه
فنظر إليه عمر t وقال: ما أرى لكما مثلًا إلا قول الهُذَلي([66]):
تَعَاوَرْتُمــــا([67]) ثـــــــوب العقوق كلاكُمــا أبٌ غَيْرُ بَــــــــرٍّ وابنٌ غـــــــير وَاصِلِ
فقال مُنَازل: يا أمير المؤمنين خُذ لي بحقي منه.
فقال عمرt:
فلا تَجْزَعَنَّ من سُّنَّةٍ أنت سِرْتَهَا([68]) فــــــأَوَّلُ راضٍ سُنَّـــــــــةً مــــــــن يسِيرُهــا
(بر الوالدين لابن الجوزي ص 101) (الإصابة:6/182)
- يُذكر أن رجلًا كان عنده والد كبير، فتأفف من خدمته ومن القيام بأمره، فأخذه وخرج به إلى الصحراء ليذبحه، فلما وصل إلى الصخرة أنزله هناك، فقال: يا بني! ماذا تريد أن تفعل بى؟ قال: أريد أن أذبحك، فقال: يا بني! هل هذا جزاء الإحسان؟ قال الابن: لابد من ذبحك، فقد سئمت منك ومللت، فقال الأب: يا بني إن أبيت إلا ذبحي فاذبحني عند هذه الصخرة – وأشار إلى صخرة فتعجب الولد وقال: ماضرك أن أذبحك هنا أو هناك؟ قال: يا بني إن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند هذه الصخرة، فلقد ذبحت أبي هناك، ولك يا بني مثلها.
- وكان جرير بن عطية الشاعر أعقّ الناس بأبيه، وكان بلال ابنه كذلك، فراجع بلالًا في الكلام، فقال له بلال: الكاذب بيني وبينك فاعل بأمه، فأقبلت أمه عليه، وقالت: يا عدو الله! تقول هذا لأبيك، فقال جرير: فكأنه سمعها منى وأنا أقولها لأبي. (شرح مقامات الحريري للشربيني:4/229)
- ويُذكر أيضًا أن هناك ابن عاق لوالده، فجره ذات يوم من قدمه ليطرده خارج مسكنه حتى وصل به مجرورًا إلى الباب، فقال الوالد لولده: يا بنى! إلى الباب فقط، فوالله ما جررت أبي إلا إلى الباب فقط ".
فالعقوق دين لابد من وفائه، وأمر لا مفر من قضائه.
قال الأصمعي وحدثني رجل من الأعراب فقال:" خرجت أطلب أعق الناس وأبر الناس، فكنت أطوف بالأحياء حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبلٌ يستقى بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة والحر الشديد، وخلفه شاب في يده رشاءٌ – حبل- من قدٍّ ([69]) ملوي يضربه به، وقد شقَّ ظهره بذلك الحبل فقلت: أما تتقى الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه حتى تضربه؟
قال: إنه مع هذا أبي.
قلت: فلا جزاك الله خيرًا.
قال: اسكت فهكذا كان هو يصنع بأبيه، وكذا كان أبوه يصنع بجده.
فقلت: هذا أعق الناس.
ثم جُلتُ حتى انتهيت إلى شاب وفي عنقه زبيل فيه شيخ كأنه فرخ، فكان يضعه بين يديه في كل ساعة فيزقه كما يُزَقُّ الفرخ، فقلت: وما هذا؟
قال: أبي وقد خرف، وأنا أكفله.
قلت: هذا أبر العرب. (المحاسن والمساوئ لإبراهيم البيهقي)
فالبرُ لا يَبْلى، والذنب لا يُنسى، والدَّيان لا يموت، اعمل ما شئت كما تَدين تُدان،
وبالكيل الذي تَكِيلُ به سَتكتال.
يقول ابن الجوزي -رحمه الله- في كتابه" التبصرة:1/236":
الويلُ كُلُّ الويل لعاق والديه، والخِزي كُلُّ الخزي لمن ماتا غضبانين عليه، أُفٍّ له هل جزاء المحسن إلا الإحسان إليه. أتبع تفريطك في حقهما أنينًا وزفيرًا. ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾
كم آثراك بالشهوات على النفس، ولو غبت ساعة صارا في حبس، حياتهما عندك بقايا شمس، لقد راعياك طويلًا فارعهما قصيرًا. ﴿ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾
كم ليلة سهرا معك إلى الفجر، يداريانك مداراة العشق في الهجر، فإن مرضت أجريا دمعًا لم يجر، تاللَّه لم يرضيا لتربيتك غير الكف والحجر سريرًا. ﴿ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾
يعالجان أنجاسك، ويحبان بقاءك، ولو لقيت منهما أذى شكوت شقاءك، ما تشتاق إليهما إذا غابا ويشتاقان لقاءك. كم جرَّعاك حلوًا وجرعتهما مريرًا. ﴿ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾
أتحسن الإساءة في مقابلة الإحسان. كيف تعارض حسن فضلهما بقبح العصيان. ثم ترفع عليهما صوتًا جهيرًا. ﴿ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾
تحب أولادك طبعًا، فأحبب والديك شرعًا. وارع أصلًا أثمر لك فرعًا، واذكر لطفهما بك وطيب المرعى أولًا وأخيرًا. ﴿ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾
تصدَّق عنهما إن كانا ميتين، وصل لهما واقض عنهما الدين. واستغفر لهما واستدم هاتين الكلمتين، وما تكلف إلا أمرًا يسيرًا. ﴿ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾. اهـ.
ملحق: هناك من الأعمال شرعها الإسلام لمن فاته بِرُّ والديه، أو لمن أراد أن يصل والديه بعد موتهما، ومنها:
3،2،1- الدعاء، والاستغفار، والصدقة:
قال تعالى حكاية عن نوح u:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} (نوح:28)
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم u:{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم:41)
وأخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة t أن النبي ﷺ قال:" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له([70])".
يقول الشيخ الألباني -رحمه الله- في أحكام الجنائز ص 176: قيد بالصالح لأن الأجر لا يحصل من غيره، وأما الوزر فلا يلحق بالوالد من سيئة ولده إذا كان نيته في تحصيل الخير، وإنما ذكر الدعاء له تحريضًا على الدعاء لأبيه".
قال النووي -رحمه الله - في شرحه على مسلم :4/167": قال السادة العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة، لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف. اهـ.
- وأخرج ابن ماجه وابن حبان بسند صحيح عن أبي قتادة أن النبي ﷺ قال: " خير ما يخلف الإنسان من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له وصدقة تجرى يبلغه أجرها وعلم يٌنتفع به من بعده".
(صحيح الجامع:3326)
- فقد أخرج الطبراني بسند حسن عن سلمان t أن النبي ﷺ قال:" أربع من عمل الأحياء تجرى للأموات... وذكر منهم: "رجل ترك عقبًا صالحًا يدعو له ينفع دعاؤهم، ورجل علم علمًا فيعمل به من بعده، له مثل أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر من يعمل به شيء". (صحيح الجامع:888)
قال الشيخ الألباني-رحمه الله – في" أحكام الجنائز ص 171":" ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة، فإن لوالديه مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء؛ لأن الولد من سعيهما وكسبهما. وذلك لما ثبت في الحديث عن عائشة -رضي الله عنها-أن النبي ﷺ قال:" إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه". (أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين)
- وفي رواية:" إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم ".
وقال تعالى حاكيًا عن أبي لهب: { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ([71])} (المسد: 2)
وقال المناوي في فيض القدير :1/438":" وفائدة تقييده بالولد مع أن دعاء غيره ينفعه هو تحريض الولد على الدعاء للوالد ".
وكان عروة بن الزبير-رضي الله عنهما- يقول في صلاته وهو ساجد:" اللهم اغفر للزبير بن العوام، وأسماء بنت أبي بكر- يعني والديه -.
وكان أبو حنيفة يدعو لوالديه، ويستغفر لهما مع شيخه حمَّاد، وكان يتصدق كل شهر بعشرين دينارًا عنهما". (أبو حنيفة النعمان للشيخ وهبي غاوجي الألباني ص102)
فائدة: ومعنى كلام النبي ﷺ: "إذا مات الإنسان انقطع عمله" أي فائدة عمله وتجديد ثوابه.
قال الخطابي-رحمه الله- في المعالم: فيه دليل على أن الصوم والصلاة وما دخل في معناهما من عمل الأبدان لا تجرى فيها لنيابة، وقد يستدل به من يذهب إلى أن من حج عن ميت فإن الحج في الحقيقة للحاج دون المحجوج عنه وإنما يلحقه الدعاء ويكون له الأجر في المال الذي أعطى إن كان حج عنه بماله.
فعلى الولد ألا ينسى الوالدين بالدعاء فيقول: رب اغفر لوالدي وعافهما واعف عنهما وارحمهما كما ربياني صغيرًا، اللهم ارفع درجتهما في المهديين وأفسح لهما في قبرهما ونور لهما فيه، اللهم بدل سيئاتهم حسنات، اللهم اجمعني بهما مع حبيبنا وحبيبك النبي ﷺ في جنتك ومستقر رحمتك واغفر لي تقصيري نحوهما وغير ذلك من الدعاء فربما يكون والداك في قبرهما في أمس الحاجة إلى دعوة منك، واعلم أن حاجتهما إلى برك بهما بعد موتهما أشد من حاجتهما إلى برك بهما قبل موتك.
أما بالنسبة للاستغفار:
فقد أخرج الإمام مالك وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ :" ترفع للميت بعد موته درجته، فيقول: أي رب! أي شيء هذه؟ فيقال: ولدك استغفر لك ".
(الصحيحة:1598)
وأخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة t أن النبي ﷺ قال:" إن الرجل لترفع درجته يوم القيامة ".
- وفي رواية:" إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنَّة"، فيقول: يا رب! أنَّى لي هذا؟! فيقول
- وفي رواية: فيقال: باستغفار ولدك لك ".
قال الخطابي -رحمه الله- كما في" فيض القدير: 2/339":
" دل هذا الحديث على أن الاستغفار يحط الذنوب ويرفع الدرجات، وعلى أنه يرفع درجة أصل المستغفر له إلى درجة لم يبلغها بعمله، فما بالك بالعامل المستغفر؟ ولو لم يكن في النكاح فضل إلا هذا لكفى([72]).
- وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة السعدي t قال:" بينما نحن عند رسول الله ﷺ إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله. هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما، قال: نعم الصلاة عليهما([73]) والاستغفار لها، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما ".
إشكال والرد عليه:
هل الأعمال الصالحة والتي يقوم بها الولد وعلى رأسها الدعاء والتي ينتفع بها الوالدين بعد الموت تتنافي مع قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم:39)
قال الشوكاني -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}:
المعنى: ليس له إلا أجر سعي وجزاء عمله ولا ينفع أجرًا علم أحد، وهذا العموم مخصص بمثل قوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الطور:21) أهـ
أي: ألحقنا بهم عمل ذريتهم الصالحة فالولد الصالح في ميزان حسنات أبويه خاصة دعاءه لأبيه وصلاح الولد في ميزان أبيه سواء دعا أم لا. فأي عمل يقوم به الولد يكون في ميزان أبيه.
ولا أدل على ذلك من الأحاديث السابقة وكذلك ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة t أن النبي ﷺ قال: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" وقيد النبي ﷺ بالصالح؛ لأن الأجر لا يحصل من غيره. وإنما ذكر الدعاء له تحريضًا على الدعاء لأبيه لا لأنه قيد؛ لأن الأجر يحصل للوالد من ولده الصالح كلما عمل عملًا صالحًا، سواء أدعا لأبيه أم لا، كمن غرس شجرة يحصل له من أكل ثمرتها ثواب، سواء أدعا له من أكلها أم لم يدع، وكذلك الأم. فإن ما يفعله الولد من الأعمال الصالحة فإن لوالديه مثل الأجر دون أن ينقص من أجره شيء؛ لأن الولد من سعيهما وكسبهما.
(انظر أحكام الجنائز للألباني ص 176 وما بعده)
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- كما في مجموع الفتاوى (24/312) في قوله تعالى:
{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم:39) هذا حق فإنه إنما يستحق سعيه فهو الذي يملكه ويستحقه كما أنه إنما يملك من المكاسب ما اكتسبه هو وأما سعى غيره فهو حق وملك لذلك الغير لا له لكن هذا لا يمنع أن ينتفع بسعي غيره كما ينتفع الرجل بكسب غيره فمن صلى على جنازة فله قيراط، فيثاب المصلى على سعيه الذي هو صلاته، والميت أيضًا يرحم بصلاة الحي عليه، كما قال ﷺ:" ما من مسلم يموت فيصلِّي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة ".
- ويروى: "أربعون" - ويروي: "ثلاثة صفوف"، ويشفعون فيه إلا شفعوا فيه".
أو قال:" إلا غُفِر له".
فالله تعالى يثيب هذا الساعي على سعيه الذي هو له ويرحم ذلك الميت بسعي هذا الحي لدعائه له وصدقته عنه، وصيامه عنه، وحجه عنه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال:" ما من رجل يدعو لأخيه دعوة إلا وكَّل الله به ملكًا كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثله ".
فهذا من السعي الذي ينفع به المؤمن أخاه يثيب الله هذا ويرحم هذا.
وقفة:
في قول النبي ﷺ: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ..." ومن المعلوم أن الكافر من جملة بني آدم، فهل ينتفع بعمل ابنه المسلم؟
الجواب: لا. وعلى هذا ينسحب أيضًا الأب الفاسق العاصي الذي يكره الخير ولا يحب سُنَّة النبي ﷺ بل هو في هجوم شرس عليها، ودائمًا هو مِغْلاق للخير مفتاح للشر فهو أيضًا لا ينتفع بأعمال ابنه الصالح وبهذا القول قال ابن أبي جمرة وابن حجر والنووي وأحمد بن حنبل، ومع هذا يجزم بأن فضل الله كبير ورحمته وسعت كل شيء ونرجو أن يشملهم الله برحمته طالما أنه مات على التوحيد ويكفي أنه أقام ابنه على الإسلام حتى صار من الصالحين.
أما بالنسبة للــصَّــدقــة:
فالصدقة عن الميت يصل ثوابها إليه وينتفع بها ومما يدل على ذلك:
- ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت:" أن رجلًا قال للنبي ﷺ إن أمي افْتُلِتَتَ نفسها([74]) ولم توصِ، وأظُنُّها لو تكلمت تصدَّقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم، فَتَصَدَّقَ عنها ".
- وعند البخاري:" أن رجلًا قال لرسول الله ﷺ إن أمي ماتت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم ".
وأخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرةt أنه قال: إن رجلًا قال للنبيﷺ إن أبي مات وترك مالًا ولم يوصِ، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم ".
- وفي رواية: إن أبي مات ولم يُوصِ، أفينفعه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم".
ويتبين في هذه الأحاديث: جواز الصدقة عن الميت، وأن ذلك ينفعه بوصول ثواب الصدقة إليه، ولاسيما إن كان من الولد، واستحباب ذلك من الابن، وأن ثوابها يصل الميت وينفعه وينفع المتصدق أيضًا.
(انظر فتح الباري:5/458)
- وأخرج البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: إن سعد بن عبادة - أخا بنى ساعدة - توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال:" نعم". قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف([75]) صدقة عليها.
- وفي صحيح مسلم " في كتاب الوصية باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت" من حديث أبي هريرة t أنه قال:" إن رجلًا قال للنبي ﷺ إن أبي مات وترك مالًا ولم يُوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال:" نعم ".
قال الإمام النووي -رحمه الله- في شرح مسلم :4/167":" وفي هذا الحديث جواز الصدقة عن الميت واستحبابها وأن ثوابها يصله وينفعه وينفع المتصدق أيضًا وهذا كله أجمع عليه المسلمون وهذه الأحاديث مخصصة، لعموم قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم:39)
فقد أخرج الإمام أحمد والنسائي عن سعد بن عبادة -رضي الله عنه-: "أن أمه ماتت، فقال لرسول الله ﷺ: إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم. قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال ﷺ: سقى الماء".
وفي رواية أخرى عند أحمد والنسائي: "أن سعدًا قال للنبي ﷺ: يا رسول الله إني كنت أبر أمي وأنها ماتت، فإن تصدقت عنها وأعتقت عنها ينفعها ذلك؟ قال ﷺ: نعم. قال سعد: فمرني بصدقة، قال ﷺ: اسْقِ الماء، فنصب سعد سِقايتين بالمدينة".
4- قضــاء الـديـن عـنهما:
أخرج الترمذي أن النبي ﷺ قال:" نفس المؤمن معلَّقة([76]) بدينه حتى يقضى عنه ".
- وفي رواية مسلم: "القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين".
وأخرج ابن ماجة والبيهقي وأحمد بسند صحيح عن سعد بن الأطول t: أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالًا، قال: فأردت أن أنفقها على عياله. قال: فقال رسول الله ﷺ: إن أخاك محبوس بديّنه([77])، فاذهب فاقض عنه. قال: فذهبت فقضينا عنه ثم جئت وقلت: يا رسول الله، قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليست لها بَيِّنةٌ، فقال ﷺ: أعطها فإنها محقة".- وفي رواية: "أعطها فإنها صادقة ". (الحديث ضعفه البعض وصححه الألباني في صحيح الجامع:1550)
وأخرج أبو داود والنسائي من حديث سمرة بن جندبt:" أن النبي ﷺ صلى على جنازة، فلما انصرف قال: أهاهنا من آل فلان أحد فسكت القوم ـ وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا، فقال ذلك مرارًا ثلاث لا يجيبه أحد، فقال رجل: هو ذا، قال: فقام رجل يجر إزاره من مؤخر الناس الناس، فقال له النبي ﷺ:
" ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني أما إني لم أنوه باسمك إلا لخير، إن فلانًا - لرجل منهم - مأسور بدينه عن الجنَّة، فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله ".
قال الراوي:" فلو رأيت أهله ومن يتحرون أمره قاموا فقضوا عنه حتى ما أحد يطلبه بشيء ".
وأخرج الحاكم من حديث جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: "مات رجل فغسلناه وكفناه وحَنّطْناه([78]) ووضعناه لرسول الله ﷺ حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذَنَّا([79]) رسول الله ﷺ بالصلاة عليه، فجاء معنا فتخطى خطى، ثم قال: لعل على صاحبكم دينًا، قالوا: نعم. ديناران، فتخلف ثم قال: صلوا على صاحبكم، فقال له رجل منا- يقال له أبو قتادة-: يا رسول الله! هما عليَّ، فجعل رسول الله ﷺ يقول: هما عليك وفي مالك، والميت منهما برئ، فقال: نعم. فصلّى عليه، فجعل رسول الله ﷺ إذا لقي أبا قتادة يقول: - وفي رواية: ثم لقيه من الغد فقال:" ما صنعت الديناران، قال: يا رسول الله إنما مات أمس – حتى كان آخر ذلك.
- وفي رواية:" ثم لقيه من الغد، قال: قد قضيتُهما يا رسول الله، قال: الآن حين بَرَدَتْ عليه جلده ".
أي بسبب رفع العذاب عنه بعد وفاء دينه.
فقد ذهب البعض: إلى أن العذاب لا يرتفع عن المدين حتى يؤدى عنه دينه ليس بمجرد الحمالة عنه.
بينما ذهب البعض: إلى أن المقصود بقول النبي ﷺ:" الآن حين بردت جلده" أي: استراح
وهذا يدل على أنه مازال قلقًا حتى يقضى الدين عنه، وأن الميت لا يؤاخذ بالدين لتحمل غيره عنه ودليل ذلك قول النبي ﷺ: " والميت منهما برئ" فلا يلزم من قول النبي ﷺ: "الآن بردت عليه جلده" وقوع العذاب.
فالأحاديث السابقة أفادت أن الميت ينتفع بقضاء الدَّين عنه، ولو كان من غير ولده، فكيف لو كان من ولده؟ وأن قضاء الدَّين يرفع العذاب عن الميت.
فـائــدة: جاء في فتاوى اللجنة الدائمة ما يفيد أن من مات وعليه أقساط لم يحل وقت سدادها وتحملها عنه غيره، فإنه تبرأ بذلك ذمة الميت، ولا يلزم التعجيل في سدادها، بل تسدد في أوقاتها لأن المسلمين عند شروطهم.
5- قضاء ما عليهما من نذر (نذر مالي أو صيام):
أولًا: بالنسبة للنذر المالي:
فقد قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله- في فتح الباري شرح حديث (6699):
وقد ذهب الجمهور إلى أن من مات وعليه نذر مالي أنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوص.
فقد أخرج البخاري من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-:
" أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النبي ﷺ في نذر كان على أمه، فتوفيت أمه قبل أن تقضيه، فأفتاه أن يقضيه عنها، فكانت سنةً بعد ".
قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله- في شرح هذا الحديث كما في فتح الباري (10/585):
ومعنى: " فكانت سُنَّة بعد" أي صار قضاء الوارث ما على المورث طريقة شرعية أعم من أن يكون وجوبًا أو ندبًا، ولم أر هذه الزيادة في غير رواية شعيب عن الزهري وأظنها من كلام الزهري ويحتمل من شيخه. اهـ باختصار.
ثانيًا: بالنسبة لنذر الصيام:
فقد اتفق أهل العلم على أن مَن مات وعليه صيام صام عنه وليه.
وذلك للحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة-رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ قال:
" من مات وعليه صيام صام عنه وليه ".
لكن اختلف أهل العلم هل يصوم عنه وليه مطلق الصيام فرضًا كان أو نذرًا، أو يصوم عنه صيام النذر فقط. والراجح أنه يُصام عنه النذر فقط. وهو قول عائشة وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ والمالكية والحنابلة والحنفية والألباني- رحمة الله على الجميع - واستدلوا بما يلي: -
- ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-:" أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله- تبارك وتعالى- أنجاها أن تصوم شهرًا، فأنجاها الله U فلم تصم حتى ماتت فجاءت قرابة لها إما أختها أو ابنتها إلى النبي ﷺ فذكرت ذلك له، فقال:" أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضيه؟" قالت: نعم، قال:" فدين الله أحق أن يقضى فاقضِ عن أمك ".
- وأخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما- قال:" إن سعد بن عبادة t استفتى رسول الله ﷺ إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال النبي ﷺ:" اقضِهِ عنها ".
- وأخرج الإمام مسلم في كتاب الصيام - باب قضاء الصيام عن الميت-عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال:" أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدى ذلك عنها"، قالت: نعم، قال:
" فصومي عن أمك ".
فهذه الأحاديث صريحة الدلالة في مشروعية صيام الولي عن الميت صوم النذر.
قال الإمام أحمد-رحمه الله-: لا يصام عن الميت إلا في النذر.
6- العتق والصدقة والحج:
فهي من جملة الأمور التي تصل إلى الميت بل هي من أفضل الأمور كما قال ابن القيم-رحمه الله-: كما في كتاب الروح ص 190: وبالجملة: فأفضل ما يُهدى إلى الميت العتق والصدقة والاستغفار والدعاء له والحج عنه ". اهـ.
- فقد أخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال:" إن العاص بن وائل السهمي أوصى أن يُعْتق عنه مائة رقبة، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، وأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية، فقال: حتى أسأل رسول الله ﷺ، فأتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إن أبي أوصى أن يُعْتق عنه مائة رقبة، وإن هشامًا أعتق عنه خمسين وبقيت عليه خمسون، أفاعتق عنه؟، فقال رسول الله ﷺ:" إنه لو كان مُسلمًا فأعتقتم أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك ".
- وفي رواية:" فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك ".
وقد نقل النووي-رحمه الله- في مقدمة صحيح مسلم: الإجماع على وصول الدعاء والصدقة والحج.
وأخرج الإمام مسلم عن بريدة t:" أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت ولم تحج أفيجزئ - أو يقضي- أن أحج عنها؟ قال: نعم ".
وأخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-:" أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال النبي ﷺ: نعم. حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دَيْنٌ أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء ".
- وفي رواية البخاري:" إن أختي نذرت أن تحج ".
قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله- كما في فتح الباري :4/65": في قوله ﷺ:" أرأيت لو كان على أمك دَيْنٌ " الحديث فيه مشروعية القياس وضرب المثل لكي يكون أوضح وأوقع في نفس السامع، وأقرب إلى سرعة فهمه وفيه تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه، وفيه أن وفاء الدين المالي عن الميت كان معلومًا عندهم مقررًا ولهذا حسن الإلحاق به، وفيه إجزاء الحج عن الميت.
- وفي قوله: "أكنت قاضيته؟" فيه أن من مات وعليه حج وجب عليه وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله، كما أن عليه قضاء ديونه، فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال، فكذلك ما شبه به في القضاء، ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة... أو غير ذلك ".
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما- قال:" كان الفضل بن عباس رديف رسول الله ﷺ فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله ﷺ يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال:" نعم "، وذلك في حجة الوداع.
- وفي رواية مسلم:" إن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، فقال:" فحجى عنه ".
7- الــعـمــرة:
والعمرة يصل ثوابها لمن اعتمر عنه سواء كان ميتًا أو عاجزًا
فقد أخرج أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وأحمد وغيرهم بسند صحيح عن أبي رزين t أنه قال:" يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة والظعن، قال:" احجج عن أبيك واعتمر".
هذا وقد نقل المنذري -رحمه الله- عن الإمام أحمد أنه قال:" لا أعلم في إيجاب العمرة حديثًا أجود من هذا ولا أصح منه ".
وعند ابن ماجه أيضًا من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ:" إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علمًا علَّمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورَّثه([80])، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته". (صحيح الجامع:2231)
وعندما سأل النبي ﷺ السيدة عائشة عن الشاة فقال لها:" ما بقي منها؟"، قالت: "ما بقي منها إلا كتفها ". فيصحح لها النبي ﷺ هذا المفهوم ويقول لها: "بقي كلها غير كتفها".
يعني الذي خرج من الشاة صدقة هو الباقي عند الله U، وهو الذي نُؤجر عليه.
وأخرج البزار بسند حسن عن أنس t قال: قال رسول الله ﷺ:" سبع يُجرى للعبد أجرهن، وهو في قبره بعد موته: من علَّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بني مسجدًا، أو وَّرث مُصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفرُ له بعد موتِه ". (صحيح الجامع: 3602)
يقول الحافظ السيوطي:
إذا مات ابن آدم ليس يجري |
عـلـيـــــــــــه فِـعـــــــــــال غــــــــــــــــير عَـشْرِ |
عـلـــــــــومٌ بـثَّهـــــا ودعـــــــاءُ نجــلٍ |
وغرسُ النخل والصدقاتُ تجري |
وراثــــــةُ مُصْحفٍ وربـــــاطُ ثغرٍ |
وحفــــــــــرُ البـــــــــئر أو إِجْـراء نَــــهْـر |
وبيتٌ للــــــــغريب بنــــــــــاه يـأْوِي |
إليـــــــــه، أو بنـــــــــاءُ مـحـــــــــــــل ذِكْـر |
وتــــــــعليـمٌ لــــــــــــقـرآن كـــــــــــــــــريـم |
فـخذهــــــا مــــــــــن أحـاديث بحصْر |
(عون المعبود في شرح سنن أبي داود: 8/78)
فلا ينقطع بر الولدين بعد موتهما؟
فقد أخرج أبو داود عن أبي أسيد مالك بن ربيعةt أنه قال:" كنا عند النبي ﷺ فقال رجل: يا رسول الله؟ هل بقي على من بر أبَوَيَّ شيء بعد موتهما أبرهما به؟ قال: نعم خصال أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قِبَلهما ".
- وفي رواية: "وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ".
فمن أراد أن يصل والديه بعد موتهما فليصل وُدِّ أبيه أو أمه:
فقد أخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أن رجلًا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلَّم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامةً كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله! إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير، فقال عبد الله بن عمر: إن أّبَا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أبر صلة الرجل أهل وُدِّ أبيه([81]) ".
- وفي رواية:" إن من أبر البر أن يَصِلَ الرجلُ أهل وُدِّ أبيه بعد أن يُوَلِّيَ ([82])، وإن أباه كان صديقًا لعمرt ".
وأخرج ابن حبان عن ابن بُرْدَةَ -رضي الله عنهما- قال: قدمت المدينة، فأتاني عبد الله بن عمر، فقال: أتدرى لم أتيتك؟ قال: قلت: لا. قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من أحب أن يصل أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه من بعده" وإنه كان بين أبي وبين أبيك إخاء وَوُدٌّ فأحببت أن أصل ذلك ".
(صحيح الجامع: 5960) (صحيح الترغيب والترهيب: 2506)
وفي هذا فضل صلة أصدقاء الأب والإحسان إليهم وإكرامهم وهو متضمن لبر الأب وإكرامه لكونه بسببه وتلتحق به أصدقاء الأم والجد والمشايخ والزوج والزوجة.
وقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-:
" أن النبي ﷺ كان يذبح الشاة فيهدى إلى خلائل ([83]) خديجة -رضي الله عنها- ما يَسَعَهُنَّ ".
- وفي رواية: " ربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة ".
وهذا من حُسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب، والعشير في حياته ووفاته وإكرام أهل ذلك الصاحب.
فاللهم اجز عنا والدينا خير الجزاء يا سميع الدعاء، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، واشرح صدورهم، ويسر أمورهم، واغفر ذنبهم، واستر عيوبهم، وارحم شيبتهم، وبارك في أعمارهم، واختم بالصالحات أعمالهم، واجزهم بالإحسان إحسانا، وبالإساءة عفوًا وصفحًا وغفرانا، اللهم من كان منهم ميتًا فاغفر له، وارحمه، وعافه واعف عنه، وأبدله دارًا خيرًا من داره، اللهم اجمعنا ووالدينا في جنات النعيم، اللهم وفقنا لبر أمهاتنا وآبائنا يارب العالمين، اللهم ارحمهم كبارًا كما ربونا صغارًا، اللهم تجاوز عنهم يارب العالمين، اللهم اجز الآباء والأمهات عنا خير الجزاء يارب الأرض والسماء.....آمين يارب العالمين.
وبعد...
فهذا آخر ما تيسَّر جمعه في هذه الرسالة.
وأسأل الله– تعالى- أن يكتب لها القبول، وأن يتقبَّلها منّي بقبول حسن، كما أسأله سبحانه وتعالى أن ينفع بها مؤلفها وقارئها، ومَن أعان على إخراجها ونشرها......إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا شأن أي عمل بشري فإنه يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صوابًا فادعُ لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثم خطأ فاستغفر لي.
وإن وجدت العيب فسد الخللا |
جلّ من لا عيب فيه وعلا |
فاللهم اجعل عملي كله صالحًا ولوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه نصيبًا
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا والله – تعالى– أعلى وأعلم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك
[1]- قيل الشكر لله على نعمة الإيمان، والشكر للوالدين على نعمة التربية.
[2]- سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد عن مصعب بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص قال: نزلت فيّ أربع آيات من كتاب الله-تعالى- كانت أمي حلفت ألا تأكل ولا تشرب حتى أفارق محمدًا ﷺ فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾
[3]- قيل أمها من الرضاعة، وقيل: أُمَّها من النسبِ(خالتها) وهو الصحيح.
[4]- في عهد رسول الله ﷺ: في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله ﷺ ومُدّتهم. قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: وأراد بذلك ما بين الحديبية والفتح.
[5]- راغبة: قيل راغبة عن الإسلام، وقال ابن عطية: والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، أي طامعة فيما عندي تسألني الإحسان إليها.
[6]- راغمة: أي كارهة للإسلام.
[7]- قال أكثر أهل العلم: إذا أمره أبوه بطلاق امرأته لم يجب، وقد سأل رجلٌ الإمام أحمد فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي، قال: لا تطلقها، فقال الرجل: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر".
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن رجل متزوج وله أولاد ووالدته تكره الزوجة وتشير عليه بطلاقها هل يجوز له طلاقها فأجاب:" لا يحل له أن يطلقها لقول أمه، بل عليه أن يبر أمه وليس تطليق امرأته من برها والله أعلم ". (مجموع الفتاوى: 23/112)
[8]- وفي رواية: الصلاة لوقتها" واللام بمعنى" في"، أي الصلاة في وقتها المحدد لها شرعًا.
[9] -جاء في بعض الأحاديث تقديم الجهاد على بر الوالدين، كما ورد في رواية ابن حبان عن ابن عمرو– رضي الله عنهما– قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فسأله عن أفضل الأعمال، فقال:" الصلاة " قال: نعم مه؟، قال:" الجهاد "، قال: فإن لي والدين، فقال: آمُرك بوالديك خيرًا، فقال: والذي بعثك بالحق نبيًا لأجاهدن ولأتركهما، فقال النبي ﷺ:" فأنت أعلم ".
قال الحافظ ابن حجر– رحمه الله– في" الفتح:6/163" تعليقًا على هذا الحديث:" وهذا محمول على جهاد فرض العين، توفيقًا بين الحديثين ".
[10]- الأثر: المقصود به الأجل، وسمي الأجل أثرًا لأنه يتبع العمر، كما في قول زهير: والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أثر مشيه على الأرض، فان من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر.
[11]- فمثلًا ليلة القدر هي خير من ألف شهر، فهي تزيد في عمر الإنسان ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر إلا قليلًا، فماذا لو أدرك الإنسان منا خمسين ليلة قدر، وأحسن قيامها، فكم زِيد في عمره، وكذلك لو صلى الإنسان منا في الحرَّم المكي يومًا كاملًا، فهذا يعدل مائة ألف يوم، وإذا أردنا أن نترجم هذه الايام إلى سنين فإن هذا يساوى مائتين وسبعًا وسبعين سنة (277سنة).
فهذا هو المقصود ببركه العمر، وهو تعميره بالأعمال الصالحة وخصوصًا المضاعفة في الأجر والثواب.
[14]- رحت عليهم: يعني رددت الماشية من المرعى إليهم وإلى موضع مبيتهم.
[15]- نأى بي: ابتعد بي.
[16]- الحلاب: الإناء الذي يحلب فيه.
[17]- يتضاغون: أي يصيحون ويستغيثون من الجوع.
[18]- سُئل ابن عباس-رضي الله عنهما-عن أصحاب الاعراف من هم؟ وما الأعراف؟ فقال: أما الاعراف فهو جبل بين الجنة والنار، وإنما سُمي الأعراف لأنه مشرف على الجنة والنار، وعليه أشجار وثمار وأنهار وعيون وأما الرجال الذين يكونون عليه، فهم رجال خرجوا إلى الجهاد بغير رضا آباءهم وأمهاتهم فقتلوا في سبيل الجهاد، فمنعهم القتل في سبيل الله عن دخول النار، ومنعهم عقوق الوالدين من دخول الجنة، فهم على الاعراف حتى يقضي الله فيهم أمره"
(ذكره السيوطي في الدر المنثور: 3/136) (ذكره الذهبي في كتاب الكبائر).
[19] - ويشهد لهذا الحديث الذي أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر– رضي الله عنهما – أن رجلًا جاء إلى رسول الله ﷺ فسأله عن أفضل الأعمال؟ فقال النبي ﷺ:" الصلاة "، قال: نعم مه؟ قال:" الجهاد" قال: فإن لي والدين، فقال: " أمُرك بوالديك خيرًا ". فقال: والذي بعثك بالحق نبيًا لأجاهدهن ولأتركهما فقال ﷺ: " فأنت أعلم ".
[20] - لأن الخالة بمنزلة الأم كما جاء عند البخاري ومسند الإمام أحمد وسنن الترمذي من حديث البراء بن عازب t قال: قال رسول الله ﷺ:" الخالة بمنزلة الأم ".
- وقوله" الخالة بمنزلة الأم: أي في البر والإكرام والصلة والإحسان.
[21]- رغم أنفه: وهذا كناية عن الذل، وكأنه لصق أنفه بالرغام-وهو التراب-هوانًا وذلًا، وإرغام الأنف هو إذلال النفس وإهانتها، ومن أرغم الله أنفه فقد أذله وأخزاه، ولا ينفعه يومئذ مال ولابنون.
[22]- ذكر الوالد للتغليب وإلا فالأم داخلة في الحديث.
[23]- وهنًا على وهن: يعنى شدة على شدة.
[24]- وفصاله: أي فطامه.
[25]- وقوله:" ثم أباك" هكذا هو منصوب بفعل محذوف؛ أي ثم بر أباك، وفي رواية عند البخاري:" ثم أبوك".
[26]- المنقول عن الإمام مالك ليس صريحًا في ذلك فقط ذكره ابن بطال قال: إن رجلًا سأل الإمام مالك: إن أبي في بلد السودان وقد كتب إليّ أن أقدم عليه وأمي تمنعني من ذلك فقال له: أطع اباك ولا تعص أمك "قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى برهما سواء، كذا قال وليست الدلالة على ذلك بواضحة.
(انظر فتح الباري:10/416) (تفسير القرطبي: 10/156)
[27]- قال القاضي عياض - رحمه الله- قد ذهب الجمهور إلى أن الأم تُفَضّل على الأب في البر. اهـ.
[28]- ابتلي: اختبر.
[29]- لأن الخالة بمنزلة الأم كما جاء عند البخاري ومسند الإمام أحمد والترمذي من حديث البراء t قال: قال رسول الله ﷺ:" الخالة بمنزلة الأم ".
- وقوله" الخالة بمنزلة الأم: أي في البر والإكرام والصلة والإحسان.
[30] - أمداد أهل اليمن: هم الجماعة الغزاة الذين يمدُّون جيوش الإسلام في الغزو، ومفردها مدد.
[31]- النجدات: أصحاب نجدة بن عامر الخزاعي، وهم قوم من الحرورية.
[32]- يستسخر: الاستسخار من السخرية، وهو الإستهزاء من إنسان، والضحك والإضحاك منه.
[33]- أتفرق: والفرق هو الخوف والفزع.
[34]- ألنت: أي خفضت صوتك، وكلمتها بلطف ولين وعذوبة لسان.
[35]- أذعرت: والذعر هو الخوف والفزع والمراد لازم الفزع وهو الجزع والضجر.
[36] - الزفر: المرة من الزفير، وهو تردد النفس حتى تختلف الأضلاع، وهذا يعرض للمرأة عند الوضع.
[37]- أغمز: أي أدلّك.
[38]-الخِطْمِي: نوع من الشجر يستخدم ورقة في الغسيل للتنظيف، وهو كالصابون عندنا اليوم.
[39]- القِرَّة: ما أصابك من القُرِّ (أي البرد)
[40]- الغداة: أي الصُّبح
[41]- كما قال تعالى ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ (لقمان:14) أي حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفًا على ضعف، وقيل المرأة ضعيفة الخلقة ثم يضعفها الحمل.
[42]- حجج: سنين.
[43]- المهج: الروح.
[44]- وسنًا: نعاسًا.
[45]- رفدًا: عطاءً.
[46]- تنبيه: اللام في الحديث ليس للملك بل للإباحة.
يقول ابن القيم-رحمه الله-: في كتابه "إعلام الموقعين:1/116": واللام في الحديث ليست للملك قطعًا، ومن يقول هي للإباحة أسعد بالحديث، وإلا تعطلت فائدته ودلالته". اهـ
ومما يدل على أنها ليست للملك أن الابن يرثه أولاده وزوجته وأمه، فلو كان ماله ملكًا لوالده لم يأخذ المال غير الأب.
- ويقول ابن حبان-رحمه الله- في صحيحه:2/142: معنى الحديث أنه ﷺ زجر عن معاملته أباه بما يُعَامِلُ به الأجنبيين، وأمر ببِّرهِ والرفق به في القول والفعل معًا إلى أن يصل إليه ماله، فقال له:" أنت ومالك لأبيك". لا أن مال الابن يملكه الأب في حياته من غير طيب نفس من الابن به ". اهـ
- ومما يدل على هذا أيضًا الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي من حديث عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول ﷺ:" إن أولادكم هبة الله لكم ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ فهم وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها ". (الصحيحة:2564)
- قال الألباني في تعليقه على هذا الحديث: وفي الحديث فائدة فقهيَّة هامة وهي: أنه يبين أن الحديث المشهور "أنت ومالك لأبيك"، ليس على إطلاقه بحيث أن الأب يأخذ من مال ابنه ما يشاء، كلا، وإنما يأخذ ما هو بحاجة إليه ". والله أعلم.
[47]- الوالد أوسط أبواب الجنة: يعنى أن بر الوالدين يدخل الشخص من أوسط أبواب الجنة (أفاده الشيخ مصطفى العدوى- حفظه الله-)
[48]-لا يجزى: أي لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه
[49]- منعا: معناه منع ما وجب عليه.
[50]- وهات: أي طلب ما ليس له.
[51]- وأد البنات: أي دفنهن في الحياة.
[52]- قيل وقال: أي الحديث بكل ما يسمعه فيقول: قيل كذا وقال فلان كذا مما لا يعلم صحته، ولا يظنها وكفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع.
[53]- كثرة السؤال: أي الإلحاح فيما لا حاجة إليه.
[54] - وإضاعة المال: أي تبذيره وصرفه في غير الوجوه المأذون فيها من مقاصد الآخرة والدنيا وترك حفظه مع إمكان الحفظ
(أفاده النووي- رحمه الله- في رياض الصالحين ص185،184)
[55]- رغم أنف: كناية عن الذل، كأنه لصق أنفه بالرغام وهو التراب هوانًا
[56] - واليمين الغموس: التي يحلفها كاذباً عامداً سميت غموسًا، لأنها تغمس الحالف في الإثم.
[57]- أي أن عقوق الوالدين: هو نهاية الفجور وذروته وليس فوقه فجور.
[58]- المحدث: الجاني ومعنى الإيواء: التقرير عليه، والرضا به.
[59]- منار الأرض: علامات حدودها، وتغيرها إن يدخلها في أرضه فيكون في معنى الغاصب.
[60]- الديوث: بتشديد الياء، وهو الذي يقر أهله على الزنا مع علمه بهم.
[61]- الرَّجِلَةُ: بفتح الراء وكسر الجيم: وهي المرأة المترجلة المتشبهة بالرجال.
[62]- ولد الزنا: من يقع في الزنا دائمًا حتى صار غالبًا عليه، فاستحق بذلك أن يكون منسوبًا إليه، كما يقال ابن السبيل للمسافر، ونحو ذلك.
[63]- أي بكاء الوالدين بسبب عقوق الابن.
[64]- منازل بن فرعان بن الأعرف السعدي التميمي، الشاعر.
[65]- الحَنِىُّ: القوس.
[66]- خالد بن زهير الهذلي.
[67]- أعاره كل منهما للآخر.
[68]- وقوله: " أنت سرتها " يعنى: أنت جعلتها سائرة للناس.
[69]- القدّ: السوط، وهو في الأصل سير يُقَدُّ: أي يقطع من جلد مدبوغ.
-[70] وفي قول النبي r : " وولد صالح يدعو له" قال الألباني-رحمه الله-: قيَّد النبي r الحكم بصفة، أي: أن وصول الأجر من ولد صفته أنه صالح، وإذا انتفت الصفة انتفى الحكم.
[71]- وما كسب: قال أهل التفسير: يعني ولده.
[73]- الصلاة عليهما: يعنى الدعاء لهما.
[74]- افتلتت نفسها: أي ماتت فجأة.
[75]- المِخراف: أي المثمر، سمي بذلك لما يخرف منه أي: يجنى من الثمر. والمقصود من المِخراف في الحديث: أي بستان من نخل.
[76]- معلقة: أي محبوسة عن مقامها الكريم.
[77] - محبوس بديّنه: أي محبوس عن الجنَّة.
[79]- أي أعلمناه وأخبرناه.
[80]- مصحفًا ورَّثه: أي خلفه لوارثه ويظهر أن مثله كتب الحديث كالصحيح. (فيض القدير 2/540)
[81]- وُدّ أبيه-بضم الواو وتشديد الدال المهملة-: أي: صديقه.
[82]- بعد أن يولي: أي بعد أن يموت.
[83]- خلائل: أي صديقاتها، وكان ذلك بعد وفاة خديجة - رضي الله عنها -.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق